ولد بالقاهرة عام 727هـ عند جمهور المؤرخين، وهناك من العلماء من قال أنه ولد سنة 728هـ. ونسبته إلى سبك العبيد التي هي الآن سبك الأحد، وهي من قرى محافظة المنوفيةبمصر، وانتقل إلى دمشق مع والده شيخ الإسلام تقي الدين السبكي فسكنها، وهناك تلقى العلم عن كبار علماء دمشق. ومن شيوخه والده، والحافظ المزي، والحافظ الذهبي. وأجازه شمس الدين بن النقيب بالإفتاء، وقد أفتى ولم يتجاوز عمره ثماني عشرة سنة.
تُعدُّ الفترة التي عاش فيها التاج السبكي من أهم مراحل الدولة المملوكية الأولى المسماة (بالبحرية)، ذلك أنّ التاج قد عاش في الفترة الواقعة ما بين عامي 727هـ و 771هـ، وهذه نبذة مختصرة توضح ماهية الوضع السياسي والعلمي والاجتماعي في مصروالشام في تلك الفترة، والتي تمثّل في مجملها القرن الثامن الهجري.
الحياة السياسية
تمكّن المماليك - بعد سلسلة من المؤامرات التي كانوا يُحِيكُونها ويُدبِّرونها للسلاطين - من استلام السلطنة في مصر، وذلك بعد مقتل السلطان تورانشاه[ملحوظة 1] آخر ملوك بني أيوب سنة 648هـ،[1] وكانت بذلك بداية العهد المملوكي الذي استمر نحو قرنين من الزمان.[2]
ولم يكن عهد المماليك بأفضلَ حال من سابقه؛ ذلك أنّ هذا العهد كان يواجهه عدداً من المخاطر على الساحة الخارجية، فالخطر الصليبي ما زال يتهدد العالم الإسلامي، وذلك لوجود بعض القلاع والإمارات الصليبية على سواحل بلاد الشام؛ مما استدعى المماليك أن يأخذوا على عاتقهم عبء استرجاع وتحرير ما تبقى من هذه الإمارات استمراراً لجهود السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي المتوفى سنة 589هـ إثر هزيمته للصليبيين في موقعة حطين سنة 583هـ.
بالإضافة إلى الخطر الصليبي المتجذر، كان قد ظهر على الساحة خطر لا يقل خطورة - بل هو أشد خطراً - من الخطر الصليبي، ألا وهو غزو المغول لبلاد الإسلام، إذ بعد سقوط بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية على يد هولاكو عام 656هـ،[3] وزَحْف المغول باتجاه بلاد الشام واحتلوا دمشق عام 658هـ،[4] ومن ثَمَّ محاولة الزحف باتجاه مصر، حيث كان المماليك قد تنبّهوا لذلك، وخرجوا بجيوشهم لملاقاة المغول في موقعة عين جالوت سنة 658هـ،[5] بقيادة السلطان المملوكي سيف الدين قطز، حيث حقق الله تعالى النصر على يديه، وبذلك استطاع المماليك من وقف الزحف المغولي، ومن ثَمَّ بدأوا باسترجاع المدن والإمارات الإسلامية من بين أيديهم حتى تمَّ تحرير سائر بلاد الشام من أيدي المغول في عهد السلطان الظاهر بيبرس.[6]
وبعد ذلك التاريخ دانت بلاد الشام كلها لحكم المماليك، ومنذ ذلك الوقت ارتبط تاريخ الشام بتاريخ مصر، بحيث لا يمكن دراسة تاريخ الشام بمعزل عن تاريخ مصر؛ وذلك لقوّة الالتحام بين مصرَ والشام في هذا العصر في مختلف مظاهر الحياة العسكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وإنَّ ما يحدث في مصرَ من حالات ضعف وقوَّة كانت بدورها تَنْعكِس على الشام إيجاباً أو سلباً.
يمكن تلخيص الملامح العامّة للوضع السياسي في مصر والشام في القرن الثامن الهجري بما يأتي:[7]
صغر سن السلاطين الذين تعاقبوا على الحكم.
ازدياد نفوذ الأمراء واشتداد سطوتهم وتَحَكُّمهم في مصالح البلاد وتلاعبهم بالسلاطين، بالتعيين والعزل والقتل وفقاً لأهوائهم.
ازدياد نفوذ طائفة المماليك الجراكسة البرجية ازدياداً مضطرداً، فاستطاع أفرادها كسب الجولة الأخيرة من الصراع، وأسسوا دولة مملوكية ثانية على أنقاض الدولة المملوكية الأولى.
اشتداد الانحلال الخلقي بشكل واضح، وكان السلاطين والأمراء هم مصدر هذا البلاء، فاشتهروا بالإدمان على الخمور ومعاشرة الجواري والخاصكية والمغنيات.
موقف التاج السبكي من الوضع السياسي
لم يكن التاج السبكي رجلاً منعزلاً عن أمّته، بل كان قريباً جداً منها، يلتمس همومها ويتأثر بما تتأثر به الأمّة، ولم يكن تأخذه في الله لومة لائم؛ لذا فقد كان كثير الانتقاد لأحوال الدولة السياسية العامّة، وكانت له مواقف كثيرة في هذا المجال، ومن هنا جاء انتقاد التاج السبكي للسياسة التي اتبعها المماليك في ذلك العصر، واعتبر أنّ سياستهم لا تنفع أحداً، بل مَضرّتها أكثر من نَفْعِها، وأنّه لابد من رفع الأمور إلى الشرع، فهو يقول في ذلك مُبيّناً ما على الحاجب من أمور: «عليه رفع الأمور إلى الشرع، وأن يعتقد أنّ السياسة لا تنفع شيئاً (قصده السياسة الظالمة)، بل تَضرّ البلاد والرعايا، وتُوجبُ الهَرَج (أي الفتنة والقتل) والمَرَج (أي الفساد والقلق)، ومصلحةُ الخلق فيما شرعه الخالق الذي هو أعلم بمصالحهم ومفاسدهم، وشريعةُ نبيّنا محمدصلى الله عليه وسلم متكفّلةٌ بجميع مصالح الخلق في معاشهم ومعادهم، ولا يأتي الفسادُ إلا من الخروج عنها، ومن لَزِمَها صَلُحَتْ أيامه واطمأنت».
ثم بيّن أنّه ما من سلطان ولا حاجب ولا صاحبُ شرطة يُعْمِلُ حُكمَ الله تعالى، ويُلقِي الأمور إلى الشرع إلا اطمأنت نفسه ونجا من المصائب والمحن، وكانت أيامه أصلح وأقل مفاسد... وقال: «وكذلك اعتبرت فلم أرَ ولم أجد من يظن أنّه يُصْلح الدنيا بعقله، ويُدَبّر البلاد برأيه وسياسته، ... ويَتعدّى حدود الله تعالى وزواجره، إلا وكانت عاقبتُهُ وخيمةً وأيامُه منغصةً منكدة، وعيشُه قلقاً، ... وتُفتح عليه أبواب الشرور، ويتسع الخرق على الراقع، فلا يَسدُّ ثُلمة (أي فرجة المكسور والمهدوم) إلا وتُفتَح ثُلمات، ولا تُرفَع فتنة إلا وينشأ بعدها فتن كثيرة».[8]
الحياة الاجتماعية
كان الوضع السياسي في القرن الثامن الهجري في مصروالشام وضعاً كثير الاضطراب والانقلاب؛ مما يعني ضعف المجتمع وضعف الحياة الاجتماعية في مصر والشام في تلك الفترة.
لقد كان المجتمع المملوكي في تلك الفترة مجتمعاً طبقياً تَميَّز بكَثْرَة طبقاته، إذ أنّ طبيعةَ حكم المماليك الأغراب عن تلك البلاد، وانعزالهم عن أهل البلاد وعن انخراطهم في سلكهم، أدى إلى ظهور طبقة مُتمَيّزة في المجتمع، تمتلكُ زِمامَ الحكم فيه وهي طبقة المماليك أصحاب السيادة والنفوذ.[9]
بناءً على ذلك يمكن تقسيم المجتمع المملوكي في تلك الفترة إلى الطبقات الآتية:[10]
الطبقة الأولى: أهلُ الدولة من السلاطين والمماليك، وهؤلاء كانوا يعيشون حياة الترف واللهو، وكَثُرت الأموال في أيديهم، مما جعلهم طبقة مُتَميّزة منعزلة عن بقية الشعب.[11]
الطبقة الثانية: أهلُ اليَسار من التجار وأولي النِّعمة من ذوي الرفاهة، وكان هؤلاء من المقرّبين إلى السلاطين، ذلك أنّ السلاطين كانوا قد أحسّوا أنّ هذه الطبقة هي المصدر الأساسي الذي يَمُدُّ الدولة بالمال لا سيّما في ساعات الحرج والشدة.[12]
الطبقة الثالثة: المُعَمّمون، وهم أَرباب الوظائف الديوانية والفقهاء والعلماء والأدباء والكُتّاب، وهؤلاء كانوا موضعَ احترامٍ وتقدير من السلاطين؛ ذلك أنّ المماليك كانوا يَرغبون بالعلماء والفقهاء لأنّهم قوّةٌ لها وزنُها في اكتساب الرأي العام في البلاد، وبذلك يكون لهم دِعامة قوية يستندون إليها في حكمهم، ويستعينون بها على إرضاء عامّة الشعب.[13]
الطبقة الرابعة: طبقة الصناع والعمال وأصحاب المهن والأُجَراء، وهم ما يطلق عليهم بالاصطلاح المعاصر بطبقة (العامّة)، وهؤلاء كالعادة كانوا يعيشون حياة البؤس والفقر بالنسبة لطبقة المماليك وغيرهم من المُنَعّمين؛ لذا كانوا كثيراً ما يلجئون إلى السلب والنهب والتسول للحصول على ما يسد رَمَقَهُم في أوقات الفتن والاضطرابات.[14]
الطبقة الخامسة: الفلاحين وهم أهل الزراعات والحرث سكان القرى والريف الذين يمثّلون السَّواد الأعظم من السكان،[15] وهؤلاء لم يكن لهم نصيب في هذا العصر سوى الإهمال والاحتقار حتى أصبح لفظ فلاح في ذلك العصر مرادفاً للشخص المُستضعف المغلوب على أمره، وزاد من سوء حالهم كَثْرَة المغارم والمظالم التي حلّت بهم من الولاة والحكام.[16]
الطبقة السادسة: ذوي الحاجة والمسكنة، وهم الذين يتكفَّفون الناس ويعيشون منهم، وهؤلاء كما يقول المقريزي: «فَنِي معظمهم جوعاً وبرداً ولم يَبقَ منهم إلا أقلَّ من القليل».[17]
هذه هي تركيبة المجتمع في ذلك العصر، والملاحظ عليها أنّ أكثَرَ هذه الطبقات كانت تعيش حياة البؤس والظلم والفقر، ولم يقف الحد عند ذلك فحسب، بل أنّ هذه الفترة التاريخية قد ابْتُلِيَت بالعديد من الأمراض والأوبئة الفتاكة، فيَذْكُر المُؤَرّخون أنّ الأَوبئة كانت تجتاح أكثَرَ المدن والإمارات المملوكية، ولكنّ أخطر هذه الأوبئة والأمراض والتي أودت بحياة الآلاف من الناس والحيوانات، ثلاثة أوبئة اجتاحت الأمّة في تلك الفترة وهي:
وباء سنة 748هـ: اجتاح هذا الوباء والذي ابتدأ في أواخر سنة 748هـ بلاد المسلمين قاطبة بما فيها مصر والشام، بل إنّ المؤرخين يَذْكُرون أنّ هذا الوباء قد عم الأرض كلها، وكان يَحصُدُ الآلاف من النفوس، واستمر هذا الوباء نحو سنتين حتى عام 750هـ، وفَنِيَ فيه من الناس نحو ثلثيهم تقريباً.[18] وجميع كتب التاريخ التي أرخت لتلك الفترة تذكر هذا الوباء ويسميه المؤرخون "الفناء العظيم"؛ وذلك لكثرة ما أفنى من البشر والحيوانات والأسماك.[19]
وباء سنة 761هـ: وقع هذا الوباء سنة 761هـ، واستمر إلى أوائل سنة 762هـ، ومات فيه جماعة كثيرة من الأعيان، وقد سماه المؤرخون (الوباء الوَسَطيّ)، لكونه وقع بين وباءين.[20]
وباء سنة 769هـ: وقع هذا الوباء في القاهرة والديار المصرية واستمر أربعة شهور، انحصر بعدها بعد أن خلف عددا كبيرا من الموتى.[21]
ولم يقف الأمر عند الأمراض والأوبئة الفتاكة فحسب، بل فشت في أهل ذلك العصر العديد من الأمراض الاجتماعية والمتمثلة باشتداد الانحلال الخلقي الذي عم الكثير من طبقات ذلك المجتمع، وخاصة طبقة السلاطين، وأهل الدولة، فانتشر فيهم الزنا والبغاء وشرب الخمور والمخدرات التي كانت تفتك بالمجتمع ذلك العصر.[22] وكان السلاطين كلما دَاهم البلاد وَباء لجؤوا إلى الله تعالى، وحاربوا تلك المنكرات، وأغلقوا بيوت الخواطيء وحانات الخمر، حتى يفرج الله تعالى عنهم؛ فإذا رفع الله تعالى البلاء عادوا إلى ما كانوا عليه سابقاً.[23]
إلا أنّه وفي ظل هذا الوضع السيء كان هناك بعض الإيجابيات القليلة وهي:[24]
الاهتمام بالعلم والعلماء، وانتشار العلم الذي أنتج العديد من العلماء الذين كان لهم دور بارز في ذلك العصر.
انتشار التصوف بشكل كبير ملحوظ في ذلك العصر، حتى غدا التصوف سِمة بارزة للحياة في مصر والشام في ذلك الوقت.
موقف التاج السبكي من الوضع الاجتماعي
كان الإمام تاج الدين السبكي صاحبُ دعوةٍ إصلاحيةٍ للمجتمع، فهو لم يرضَ أبداً عن حال الأمّة في ذك الوقت، ذلك أنّ التاج السبكي وكما وصفه الأستاذ محمد صادق حسين: «من أولئكم الرجال ذوي الشخصيات الضخمة والنفوس القوية والأخلاق المتينة، أولئكم الذين يَسمُون بأنفسهم فوق منافعهم الخاصة، ويأبون - وإن تهيأت لهم كل أسباب الراحة - أن يصبروا على فساد بيئة أو طغيان قوّة أو موت حق وقيام باطل، فلم يكن من أولئكم الأنذال أشباه الرجال الذين يرحّبون بالفساد يستغلّونه لمآربهم... ويُسَخّرونه لمنافعهم».[25]
هكذا كان تاج الدين السبكي، ومن هنا جاء تأليفه لكتابٍ يُعدّ من أعظم ما أُلِّف في بابه ألا وهو كتابه (معيد النعم ومبيد النقم)،[26] هذا الكتاب الذي حاول فيه التاج السبكي الدعوة إلى إصلاح المجتمع الإسلامي من أعلى طبقة فيه ألا وهو السلطان إلى أدنى طبقاته المتمثّلة بالشحاذين، فقد بيّن التاج في هذا الكتاب ما يجب على كل أحد من أفراد الأمّة - حكاماً كانوا أو محكومين - أن يفعله، وما يجب عليه أن يَجتَنبه، وبيّن الكثير من نواحي الضعف في هذه الأمّة مبيّناً سببها، وواصفاً لها علاجاً ناجعاً يقوم على أساس شكر النعمة، وقيام كُلٍّ بما يجب عليه.
وبهذه التوجيهات التي ضمنها التاج السبكي كتابه (معيد النعم) يعدّ التاج مصلحاً اجتماعياً ومربياً فاضلاً قلّما تجد له نظيراً، وبذلك عدّه الأستاذ محمد الصادق مصلحاً لم تعرف مصر من أبنائها آخر من طرازه.[27]
الحياة العلمية
يعد القرن الثامن الهجري أو بالأحرى عصر المماليك، كان من أزهى العصور علمياً وثقافياً بعد القرن الثالث الهجري؛ ذلك أنّ هذا العصر قد امتاز بكَثرة العلماء الذين أنتجتهم الأمّة في ذلك الوقت، تاركين للأجيال القادمة تراثاً ضخماً في شتى فنون المعرفة. ولم يكن سلاطين المماليك بمعزل عن هذا النشاط العلمي، فما كان لهذا النشاط الثقافي أن يزدهر لولا تشجيع المماليك للعلم وترحيبهم بالعلماء، لذا فقد أَكثَرَ المماليك من بناء المدارس والجوامع والرُّبَط [ملحوظة 2]والخانقاوات[ملحوظة 3] لتكون قبلة للعلماء وطلاب العلم ينهلون منها العلم في شتى ميادين المعرفة.
ولعلَّ من أهم المدارس التي أنشئت في زمن المماليك وكان لها دور بارز في هذا التقدم العلمي المشهود:
المدرسة الحجازية: أنشأتها الست الجليلة خوندتتر الحجازية، بنت السلطان محمد بن قلاوون وزوجة الأمير بكتمر الحجازي وإليه تُنسب، وقد رَتَّبتْ فيها درساً للفقهاء المالكية وآخر للشافعية، وجعلت فيها خزانة لأمهات الكتب.[30]
هذه أهم المدارس في ذلك الوقت، غير أنّه كانت هناك العديد من المدارس قد انتشرت في طول البلاد وعرضها، مثل: الخانقاه البيبرسية،[ملحوظة 6] وخانقاه قوصون،[ملحوظة 7] وخانقاه شيخو،[ملحوظة 8] ومدرسة صرغتمش،[ملحوظة 9] والمدرسة الظاهرية الجوانية بدمشق،[ملحوظة 10] والمدرسة القيمرية،[ملحوظة 11] والمدرسة الناصرية الجوانية،[ملحوظة 12] وغيرها الكثير.
هذا بالإضافة إلى المدارس التي كانت منتشرة من قبل إبان عهد الدولة الأيوبية، والتي اهتمت اهتماماً بالغاً بإنشاء المدارس.[32] ومن هذه المدارس: المدرسة الصلاحيةوالمدرسة الكامليةوالمدرسة الصالحية وغيرها.
وكان من نتاج هذه النهضة العلمية أن ظهر العديد من العلماء في مختلف العلوم والفنون، حيث كان لهم أثر بارز في مسيرة العلم ونشر الثقافة العربية والإسلامية، ومن هؤلاء العلماء على سبيل المثال:
ابن الرفعة: الإمام شيخ الإسلام، نجم الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن علي بن الرفعة المتوفى سنة 710هـ إمام الشافعية في زمانه، قال عنه التاج السبكي: (أُقسم بالله يميناً بَرَّةً لو رآه الشافعي لَتَبَجّح بمكانه، وترجَّح عنده على أَقرانه، وترشّح لأن يكون في طبقة مَن عاصَرَه وكان في زمانه).[33] من مصنفاته: (المطلب العالي في شرح وسيط الغزالي)، (كفاية النبيه في شرح التنبيه)، وغيرها.[34]
ابن الزملكاني: الإمام العلامة المناظر محمد بن علي بن عبد الواحد كمال الدين بن الزملكاني، شيخ الشافعية في زمانه، انتهت إليه رياسة المذهب تدريساً وإفتاء، ذَكَره الذهبي في المعجم المختص وقال: (شيخنا قاضي القضاة عَلَمُ العصر ... كان من بقايا المجتهدين ومن أذكياء أهل زمانه، دَرَّس ... وأفتى وتَخَرّج به الأصحاب).[35] له تصانيف كثيرة، منها: (شرح منهاج النووي)، وكتاب في (الرد على ابن تيمية في مسألتي الطلاق والزيارة)، وغيرها، توفي سنة 727هـ.[36]
ابن كثير: الإمام الحافظ عماد الدين أبو الفداء اسماعيل بن كثير بن ضَوء بن كثير القرشي الدمشقي، المؤرخ والمفسر، ذَكَره الذهبي في معجمه فقال: (يدري الفقه، ويفهم العربية والأصول، ويحفظ جملة صالحة من المتون والتفسير والرجال وأحوالهم).[37] من مصنفاته المشهورة: (البداية والنهاية) وهو في التاريخ، (تفسير القرآن العظيم)، (طبقات الشافعية)، (تخريج أحاديث مختصر ابن الحاجب)، توفي بدمشق سنة 774هـ.[38]
جمال الدين الإسنوي: الإمام الأصولي جمال الدين عبد الرحيم بن الحسن بن علي بن عمر الإسنوي، شيخ الشافعية في زمانه وفقيههم، وأَكثَرُ أهل زمانه اطلاعاً على كتب المذهب، قال عنه ابن قاضي شهبة: (أَكثَرُ علماء الديار المصرية طَلَبتُه، وكان حَسَن الشكل، حَسَن التصنيف، ليِّنَ الجانب، كثيرَ الإحسان إلى طلبته، ملازماً للإفادة والتصنيف).[39] من مصنفاته: (شرح منهاج الوصول للبيضاوي)، وغيرها، توفي سنة 772هـ.[40]
هو الإمام قاضي القضاةشيخ الإسلامتاج الدين أبو نصر عبد الوهاب بن تقي الدين أبي الحسن علي بن زين الدين عبد الكافي بن ضياء الدين علي بن تمام بن يوسف بن يحيى بن عمر بن عثمان بن علي بن سوار بن سليم السبكي الشافعي الأنصاري الخزرجي، ونسبته إلى سبك الأحد قرية من أعمال المنوفية بمصر وكانت تسمى بـ «سبك العبيد وبسبك العويضات».[43]
مولده
اختلف المؤرخون والمترجمون للتاج السبكي في سنة مولده على ثلاثة أقوال:[44]
والذي يترجّح من هذه الأقوال هو الثاني أنّ مولده سنة 728هـ وذلك للأسباب الآتية:[44]
أنّ الذهبي وهو شيخ التاج السبكي، وصديق والده، قد نص على أنّ مولده سنة 728هـ، وكونه شيخه وصديق والده يقوي إمكانية سماع هذا التاريخ من التاج نفسه أو من والده، أضف إلى ذلك أنّ التاج السبكي قد ذَكَر (المعجم المختص) في مصنفات الذهبي مما يقوي احتمالية اطلاعه عليه، ولو كان الذهبي أخطأ في تاريخ مولده لتعقبه وبيّن أنّه أخطأ فيه.
أنّ ابن رافع وهو من معاصري التاج ومن تلامذة والده قد ذَكَر هذا التاريخ أيضاً، وقوله أقرب إلى الصحة لاحتمالية سماعه من شيخه أو من التاج نفسه.
إنّ الصلاح الصفدي وهو من أعز أصدقاء التاج السبكي قد ذَكَر هذا التاريخ أيضاً، ومن الصعب أن يكون الصفدي قد أخطأ في تاريخ مولد صديقه وحميمه رغم ما بينهما من صداقة ومراسلات ومساجلات مشهورة.
إنّ الذين ذَكَروا سنة 728هـ هم من المعاصرين للتاج السبكي ومنهم شيوخه وأقرانه، في حين الذين ذَكَروا سنة 727هـ أو سنة 729هـ كلهم متأخِّرون عن عصره وعهده ولم يُدرِك أيّ منهم التاج السبكي، مما يَعني تقديمَ قول المعاصرين عليهم؛ لأنّهم أعلمُ بحاله من غيرهم، كلُّ ذلك يؤكّدُ أنّ مولدَه سنة 728هـ.
أسرته
تعدّ الأسرة التي منها التاج السبكي أسرة عريقة فريدة من نوعها، إذ أنّ معظم أفراد هذه الأسرة علماء أو قضاة أو خطباء أو مدرسون للعلم، منهم:[45]
الإمام قاضي القضاةشيخ الإسلام أبو الحسن تقي الدين علي بن عبد الكافي بن علي بن تمّام بن يوسف السبكي الخزرجي الأنصاري، الفقيه المجتهد، المحدثالحافظ، المفسر المقريء، الأصولي النحوي اللغوي الأديب المتكلم النظار. شهد له الموافق والمخالف بأنه وصل إلى رتبة الاجتهاد في سائر علوم الدين. ذَكَره الذهبي في المعجم المختص وقال عنه: (القاضي الإمام العلامة الفقيه المحدث الحافظ فخر العلماء... كان صادقاً متثبتاً خيراً ديناً متواضعاً حَسَنَ السَّمتِ من أوعية العلم يدري الفقهَ ويقرّره، وعلم الحديث ويحرّره، والأصولَ ويُقْرِئها، والعربيةَ ويحقّقها... ، وصنّف التصانيف المتقنة، وقد بقي في زمانه الملحوظَ إليه بالتحقيق والفضل، سمعت منه وسمع مني، وحكم بالشام وحُمِدَت أحكامه والله يُؤيّده ويُسدّده).[46]
بهاء الدين السبكي: الإمام العلامة قاضي القضاة أبو حامد أحمد بن علي السبكي، فقيه أصولي، لغوي نحوي، صاحب فضائل جمة ومناقب كثيرة، قال عنه الذهبي: (الإمام العلامة المدرس ... له فضائل وعلم جيد، وفيه أدب وتقوى، ساد وهو ابن عشرين سنة، ودرّس في مناصب أبيه وأثنى على دروسه).[49] (5) وقال عنه ابن قاضي شهبة: (كان كثير الحج والمجاورة والتعبد والأوراد، كثير المروءة والإحسان).[50] من مصنفاته: (شرح التلخيص)، (المناقضات) في الفقه، وشرح (قطعة من الحاوي)، (وقطعة أخرى من مختصر ابن الحاجب)، توفي بمكة مجاوراً سنة 773هـ.[51]
جمال الدين السبكي: الإمام العلامة القاضي أبو الطيب الحسين بن علي بن عبد الكافي السبكي، النحوي الأديب الشاعر الفقيه الأصولي،[52] قال عنه ابن كثير عند ذِكْر وفاته: (تأسف الناس عليه لسماحة أخلاقه وانجماعه على نفسه، ولا يتعدّى شره غيره، وكان يحكم جيداً، نظيف العرض في ذلك، ... أفتى وتصدر، وكانت لديه فضيلة جيدة بالنحووالفقهوالفرائض).[53]
وقال عنه أخوه التاج السبكي: (كان من أذكياء العالم، وكان عجباً في استحضار (التسهيل) في النحو، ودرس بالآخرة على (الحاوي الصغير)، وكان عجباً في استحضاره).[54] من مصنفاته: جمع كتاباً في من اسمه الحسين بن علي. توفي سنة 755هـ في حياة والده، ودفن بتربة السبكية بسفح قاسيون.[55]
أبو بكر محمد بن علي السبكي: أكبر أولاد الشيخ تقي الدين السبكي، ولا يوجد شيء من أخباره إلا ما ورد في طبقات أخيه التاج السبكي، حيث ذَكَره عرضاً في ترجمة والده، مبيّناً أنّ والده قد وجه إليه قصيدة يخاطبه بها ناصحاً له الاهتمام بالعلم ودروسه من القرآن الكريموالسنة النبوية وفقه الشافعي، واتباع طريقة الجنيد في التصوف. وقد توفي قبل أن يُشتَهر ويُعرَف عن حاله شيء.[56]
شقيقاته
أم محمد: خديجة بنت علي بن عبد الكافي، الشيخة الصالحة، توفيت في ذي القعدة من سنة 770هـ، ودفنت بقاسيون في مقبرة السبكية.[57]
ست الخطباء: الشيخة الصالحة بنت القاضي علي بن عبد الكافي، حدَّثت بمصر وبحمصوغزة وغيرها، وأُضِرَّتْ في آخر عمرها، وثَقُلَ سمعها، وقد كانت خيِّرة ديِّنة، توفيت رحمها الله تعالى في جمادى الآخرة من سنة 773هـ بالقاهرة، ودفنت بمقابر باب النصر.[58]
سارة: بنت علي بن عبد الكافي، سمعت من أبيها ومن زينب بنت الكمال، وتزوجها أبو البقاء السبكي،[ملحوظة 13] ولما مات رجعت إلى القاهرة، ثم عادت إلى دمشقفالقدس فالقاهرة، وحدَّثت وسمع منها الكثير منهم ابن حجر العسقلاني، توفيت في القاهرة سنة 805هـ، وقد جاوزت التسعين.[60]
نشأ الإمام تاج الدين في أسرة عرفت بالعلم والمعرفة، فأبوه هو الشيخ الإمام شيخ الإسلام تقي الدين علي بن عبد الكافي (ت: 756هـ) الفقيه الأصولي صاحب التصانيف المفيدة في فنون عديدة، وجده زين الدين عبد الكافي (ت: 735هـ)، وأخوه الأكبر بهاء الدين أحمد بن علي (ت: 773هـ)، وأخوه الآخر جمال الدين الحسين بن علي (ت: 755هـ) وكلهم من العلماء الأكابر، فنشأ تاج الدين في بيئة علمية، سمع بمصر من جماعة ثم قدم دمشق مع والده وقرأ على الحافظ المزي ولازم الحافظ الذهبي وتخرج به وطلب بنفسه وأجازه ابن النقيب بالإفتاء والتدريس وهو ابن ثمان عشرة سنة واشتغل بالقضاء وولي الخطابة ثم عزل وحَصَل له فتنة شديدة وسجن بالقلعة نحو ثمانين يوماً، وجرى عليه من المحن والشدائد ما لم يجر على قاض قبله وحصل له من المناصب ما لم يحصل لأحد قبله، وحصَّل فنوناً من العلم في الفقه والأصول وكان ماهراً فيه والحديث وبرع فيه، وشارك في العربية وكان له يد في النظم والنثر، جيد البديهة، انتهت إليه رئاسة القضاء والمناصب بالشام. ونزل له الذهبي عن مشيخة دار الحديث الظاهرية قبل وفاته.
وقد اشتغل الإمام تاج الدين بالتدريس في كثير من مدارس دمشق وغيرها، فقد درس في العزيزية، والعادلية الكبرى، والغزالية، والعذراوية، والناصرية، والأمينية، ومشيخة دار الحديث الأشرفية، والشيخونية والتقوية وغيرها. وتولى القضاء عدة مرات، وتولى الخطابة في الجامع الأموي بدمشق.
ثناء العلماء عليه
كتب الطبقات والتراجم مليئةً بالثناء عليه والإشادة بعلمه بنصوص كثيرة من أقوال رفاقه ومعاصريه وكبار أهل العلم في شتى العصور والأزمنة.
فالسيوطي يعدّه من الأئمة المجتهدين، ويقول: «كتب مرة إلى نائب الشام ورقة يقول فيها: وأنا اليوم مجتهد الدنيا على الإطلاق لا يَقدِرُ أحدٌ يردٌ هذه الكلمة» وعقّب السيوطي على ذلك بقوله: ... «وهو مقبول فيما قال عن نفسه».[61]
وقال عنه رفيقه صلاح الدين الصفدي في كتابه الوافي بالوفيات: «الإمام العالم الفقيه، المحدث النحوي الناظم ... أفتى ودرّس ونَظَمَ الشعر، وراسلني وراسلته وبالجملة فعلمه كثير على صغر سنّه».[63]
وقال أيضاً: «وحصل بهذا الولد النجيب اليأس من القاضي إياس وكونه تقّدم في شبابه على كهول أصحابه، فهذا أصغرُ سنّاً وأكبُر منّا، وقد شهد له العقل والنّقل بأنّه فَتيُّ السنّ كَهْلُ العلم والحلم والعقل، والله يمتّعُ الزّمانَ بفوائده، ويرقّيه في الدين والدنيا إلى درجات والده بمنّه وكرمه».[64]
ويصفه ولي الدين العراقي بقوله: «وكان ذكياً عالماً مستحضراً فصيحاً، طَلْقَ العِبارةِ كثيرَ الإحسان إلى الطلبة».[65]
والحافظ ابن حجّي يقول فيه: «حصّل فنوناً من العلم، من الفقه والأصول وكان ماهراً فيه والحديث والأدب، وبرعَ وشاركَ في العربية، وكان له يد في النظم والنثر، جيّدَ البديهةِ، ذا بلاغة وطلاقة لسان، وجرأة جنان، وذكاء مُفرِط، وذهن وقّاد، وكان له قدرةً على المناظرة، وصنف تصانيف عديدة في فنون على صغر سنه وكَثرَة أشغاله، قُرِئت عليه، وانتشرت في حياته وبعد موته».[66]
وقال عنه شيخ حفاظ الإسلام ابن حجر العسقلاني: «أمعن في طلب الحديث، وكتب الأجزاء والطباق مع ملازمة الاشتغال في الفقه والأصول والعربية حتى مَهَرَ وهو شاب، وكان ذا بلاغة وطلاوة لسان، عارفاً بالأمور، وانتشرت تصانيفه في حياته، ورزق فيها السعد».[67]
وقال عنه ابن تغري بردي: «قاضي قضاة دمشق وعالمها».[68] وقال أيضاً: «كان إماماً عالماً بارعاً فقيهاً نحوياً أصولياً... وكان ذكياً صحيح الذهن، وبرع في الفقه وغيره، وأفتى ودرّس»،[69] وقال في موضع آخر: «كان إماماً بارعاً متفنناً في سائر العلوم».[70]
ووصفه ابن هداية الله بقوله: «كان فاضل أهل زمانه وناطح أقرانه، شديد الرأي قوي البحث يجادل المخالف في تقرير المذهب ويمتحن الموافق في تحريره، وبرع حتى عُدِم مثله في عصره، يرتحل إليه الطلبة من الآفاق».[71]
وقد مدحه ابن حبيب الحلبي بقصيدة بعثها إليه عند قدومه إلى دمشق قاضياً عليها سنة 760هـ، بعد أن أقام مدة في القاهرة معزولاً عن القضاء فقال:[72]
ومع أن الإمام الذهبي شيخه إلا أنه في ترجمته له في العبر في خبر من غبر يقول: «وسئل سيدنا قاضي القضاةشيخ الإسلام تاج الدين السبكي -فسح الله في مدته- في العود إلى قضاء الشام على عادته فلم يجب، حتى روجع في ذلك مرات، فعاد بحمد الله تعالى إلى دمشق قاضيًا على عادته، ودخلها بكرة يوم الثلاثاء رابع عشر ربيع الآخر فقرت برؤية وجهه العيون، وسُرَّ بقدومه الناس أجمعون. وكان يوم دخوله إلى دمشق كالعيد لأهلها، وقد كان أيده الله تعالى في مدة إقامته بمصر على حال شهيرةٍ من التعظيم والتبجيل، يعتقده الخاص والعام، ويتبرك بمجالسته ذوو السيوف والأقلام، ويزدحم طلبة فنون العلم على أبوابه، وتمسح العامة وجوهها بأهداب أثوابه، ويقتدي المتنسكون بما يرونه من آدابه. فالله يمتع ببقائه أهل المصرين، ويجمع له ولمواليه خير الدارين بمحمد وآله».[43]
وبالإضافة إلى سعة علم التاج الذي قد أثنى عليه وأشاد به علماء عصره ومن بعدهم، كان التاج متصفاً بالأخلاق الحميدة، فقد كان حسن السّمت، جواداً كريماً مهيباً تخضع له رقاب القضاة ومن غيرهم ويخشون جانبه.[73]
المناصب التي تولاها
المناصب التعليمية
تولى التاج السبكي مشيخة العديد من المدارس الكبار، التي كانت مشهورة ويؤمها كبار العلماء والطلبة في عصره، فمن هذه المدارس التي تولاها:[74]
مدرسة الحديث الأشرفية، والمدرسة الأمينية، ومدرسة التقوية، والدماغية، والشامية البرانية، والعادلية الكبرى، والعذراوية، والعزيزية، والغزالية، والمسرورية، والناصرية الجوانية.
كما تولى التدريس في عدد من مدارس مصر في الشيخونية وجامع ابن طولون وجامع الشافعي، وقد كانت دروس التاج السبكي دروساً حافلة بالتحقيقات الرائعة والمسائل الفائقة التي تبهر جل الحاضرين، ويصف ابن كثير في البداية والنهاية صورة درس التاج السبكي الأول في الأمينية فيقول: «كان درساً حافلاً أخذ في تفسير قوله تعالى: (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله) فاستنبط أشياء حسنة وذكر ضرباً من العلوم بعبارة طلقة جارية معسولة، أخذ ذلك من غير تلعثم ولا تلجلج (أي من غير تردد في الكلام) ولا تنحنح ولا تكلف، فأجاد وأفاد، وشكره الخاصة والعامة من الحاضرين وغيرهم؛ حتى قال بعض الأكابر إنه لم يسمع درساً مثله قط».[75]
لم يقتصر عمل الإمام تاج الدين السبكي على التدريس وحسب، بل تولى بعض المناصب الإدارية الهامّة ومنها:
تولية وظيفة موقع الدست في دار العدل عن نائب الشام أمير علي المارديني سنة 754هـ.
ناب في الحكم عن أبيه عدّة مرات.
تولى مشيخة قاضي قضاة الشام لأكثَر من مرة.
محنته التي واجهها في القضاء
لا شك أنّ المكانة الاجتماعية والعلمية المرموقة التي حازها تاج الدين السبكي، وما تولاه من وظائف إدارية، ومناصب تدريسية عجز كثير من معاصريه عن نيلها أو تحقيق بعضها، كل ذلك أثار حفيظة الحساد والمناوئين له الذين ناصبوه العداوة والبغضاء، ولقد تجلّت هذه العداوة بوضوح عندما تولى التاج السبكي وظيفة القضاء في الشام سنة 756هـ، فبدأ الحاقدون يدسون الدسائس، ويثيرون الشبهات حول الإمام، ويطعنون في تقواه وعدالته، بل تعدّى ذلك إلى الطعن في إسلامه ورميه بالكفر، وكان من نتيجة هذه المحاولات أن صرف التاج السبكي عن القضاء مراراً.
الأولى: كانت سنة 759هـ حيث عزل وتوجه إلى مصر ومكث فيها فترة قصيرة ثم أعيد إلى القضاء في نفس هذا العام.[76]
الثانية: كانت سنة 763هـ حيث عزل مرة أخرى بأخيه بهاء الدين، وتوجه التاج إلى مصر وتولى وظائف أخيه البهاء، واستمر في ذلك حتى عام 764هـ،[77] حيث روجع التاج في عودته إلى القضاء بالشام إلا أنّه رفض، فروجع في ذلك مراراً حتى وافق وهو كاره لذلك،[78] وطوال مدة إقامته في مصر تلك الفترة حظي من الإكرام والتعظيم والتبجيل الشيء الكثير، وفي ذلك يقول الحسيني: (وقد كان أيده الله تعالى في مدة إقامته بمصر على حالة شهيرة من التعظيم والتبجيل، يعتقده الخاص والعامّ ويتبرك بمجالسته ذوو السيوف والأقلام، ويزدحم طلبة فنون العلم على أبوابه، وتمسح العامّة وجوهها بأهداب أثوابه، ويقتدي المتنسكون بما يرونه من آدابه، فالله يمتع ببقائه أهل المصرين، ويجمع له ولمواليه خير الدارين بمحمد وآله). وقد كان يوم دخوله دمشق كالعيد لأهلها حيث استقبلته دمشق بالسرور والبشر والفرح العظيم.[79]
الثالثة: وهي الأخيرة وأشدها على التاج السبكي، فقد كانت سنة 769هـ، حيث عزل التاج عن القضاء وعن التدريس وأمر بالقبض عليه، ومصادرة أمواله والختم على بيوته، وقد عقدت له عدّة مجالس بدار النائب في دمشق للكشف عليه بحجة ما رمي به من تهم باطلة، وقد دافع التاج عن نفسه، فأفحم خصومه، وظهر قوله عليهم،[80] غير أنّ الحساد الذين تولوا هذه التهم، وعلى رأسهم ابن الرهاوي ما فتأ يُلحّ في ملاحقة التاج والتنقير عنه، حتى أمر القاضي ابن قاضي الجبل بحبسه مدة سنة، وبالفعل سجن التاج في قلعة دمشق، واستمر فيها مدة ثمانين يوماً، ثم طُلِبَ إلى القاهرة وهناك عقد له مجلس حضره كبار العلماء، وبيّنوا أنّ ما اتهم به التاج لا يقتضي عزله ولا الحكم بسجنه، وبالفعل أبطل حكم ابن الجبل وأعيد التاج إلى وظائفه مكرماً مبجلاً معظماً وكان ذلك سنة 770هـ.[81]
هذا ولم يَذْكُر التاج السبكي تفاصيل محنته هذه، غير أن شمس الدين السخاوي ذكر في وجيز الكلام أنه قرأ محنة التاج السبكي بخطه في مجلد، ولا نعرف أي شيء عن هذا المجلد الآن ولو وجد لربما أزال الكثير من الغموض حول هذه المحنة العجيبة.[82] ولكن وجدت له إشارات تدلّ على ذلك فمنها: ما أشار إليه في مقدمة كتابه (الترشيح)، من أنّه قد نظم أرجوزة في اختيارات والده وهو في السجن حيث قال: (إنّي كنت قد نظمت وأنا في السجن أرجوزة، ثم قال: ولما كانت تلك الأرجوزة حيث أنا مسجون مهموم، قليل الكتب أو عديمها إنّما تُملى على حافظتي).[83]
وقد ذكر ابن طولون في القلائد الجوهرية بعض أبيات هذه الأرجوزة فمنها:[84]
الحَمْدُ لله وقَدْ تَنَجَّزا
نَظْمي هَذا واضِحاً مُرَجَّزا
في السِّجْنِ والتَّضْييقِ والتَّرْسيمِ
أَتْمَمْتُ ما حَرَّرْتُ مِن مَنْظومي
ورُبْما أَهْمَلتُ أو غَفِلْتُ
فالحَبْسُ قد يُنْسي الّذي عَلِمْتُه
وليَس عِنْدي كُتُبُ أُطالِعُ
والحِفْظُ يَألَمُ جُهْدَ ما يُراجِعُ
أَسْأَلُ رَبَّ العالمَينَ فَرَجا
مُعَجَّلاً فَهُو الكَريمُ المُرْتَجى
ولَم أَزَل في حَبْسِ قَبْرٍ عُذْرا
خَمْسينَ يَوماً لا عُدِمْتُ أَجْرا
ثم قال:
حَتّى نُقِلْتُ بَعْدَهُ لِلْقَلْعَه
وحَبْسُها مُرُّ ولكن ذُو سَعَه
ومَكَرَ الأَعْداءُ مَكْراً ومَكَر
رَبِّيَ لي مَكْراً عَزِيزاً ونَصَر
أسباب هذه المحنة
إنّ المصادر التاريخية التي ترجمت للتاج السبكي، لم تبيّن بوضوح أسباب هذه المحنة، لذا فلا زال الكثير من الغموض يكتنف هذه الواقعة، وبعض ما قيل من هذه الأسباب:
ما ذكره ابن حجر العسقلانيوابن قاضي شهبة: أنّ سبب هذه المحنة هو وجود وصولات لدى الأوصياء صرفت بها أموال ولم يُعيَّن فيها اسم القابض، فحاول ابن الرهاوي إقناع ناظر الأيتام أن يعترف أنّها وصلت للقاضي تاج الدين فرفض ذلك، فآل الأمر إلى اتهام القاضي بها بسعي ابن الرهاوي.[85]
أنّ القاضي تاج الدين لما عقدت له المجالس في دار السعادة، تعلق بحكم لنائبه شمس الدين الغزي في شيء ذكره، فَرُدّ عليه بإبطال حكم الغزي، فقال: إن كان حكم الغزي باطلاً فما بقي إسلام أو فبطل دين الإسلام، فتعلقوا بهذه الكلمة، وحكموا بكفره وفسقه.[86]
يرى بعض المحققين أنّ سبب هذه المحنة هو إصرار تاج الدين على أحكام صدرت منه مخالفاً فيها لنائب الشام أمير علي المارديني.[87]
ويرى بعضهم أنّ السبب إنّما هو: تأليف تاج الدين لكتاب (معيد النعم ومبيد النقم) الذي انتقد فيه السياسة العامّة والأحوال الاجتماعية في دولة المماليك، مما أثار عليه حفيظة أولي السلطة والمناصب.[88]
أنّ سبب هذه المحنة هو مخالفة التاج السبكي لابن تيمية ونقده له في كثير من آرائه وأفكاره، وقد كان في دمشق الكثير من المحبين لابن تيمية والمتعصبين له، مما أثار حفيظة هؤلاء المتعصبين ضده، فحاولوا الإيقاع به بحجة تلك الوصولات، ومما يؤكد ذلك أنّ الذي حكم بسجنه هو ابن قاضي الجبل وهو من تلاميذ ابن تيمية ومن أشهر المتعصبين له.[89]
الحسد الذي أعمى الكثير من القلوب وأوغرها ضد التاج السبكي، يؤيد ذلك ما ورد في رسالة التاج إلى رفيقه صلاح الدين الصفدي سنة 763هـ إبّان عزله الثاني، حيث ذكر فيها مبلغ الحسد والمكائد التي كانت تُحاكُ ضده، وبيّن أنّ الله تعالى قد أبطل مكرهم ورفع بين الناس ذِكْره وأعلى منزلته وقدره.[90]
ويؤيده أيضاً: ما جاء في رد الصفدي على رسالة التاج حيث قال: «ولو لم يكن مولانا في هذا الكمال ما حُسِدَ على ما حازه من غنائم المعالي، ولا ودّتْ النفوس الظالمة أن تَسلُبه ما وهبه الله، وهو أبهى وأبهر من عقود اللآلي، ولا تمالئوا على اهتضام قدره، وكم هذا التمادي في التمالي ... فالحمد لله على النُّصرة ... وما يُغلَق باب إلا ويُفتَح دونه من الخيرات أبواب، وعلى كل حال: أبو نَصْرٍ أبو نَصْر، وعبدُ الوهاب عبدُ الوهاب».[91]
وعقيدة الشيخ أبي الحسن هي العقيدة التي تلقتها الأمّة سلفاً وخلفاً بالقبول وارتضوها لهم معتقداً، وفي ذلك يقول التاج السبكي في معيد النعم ومبيد النقم: «وهؤلاء الحنفيةوالشافعيةوالمالكية وفضلاء الحنابلة، ولله الحمد في العقائد يد واحدة، كلهم على رأي أهل السنة والجماعة، يدينون الله تعالى بطريق الشيخ أبي الحسن الأشعري رحمه الله، لا يَحيد عنها إلا رِعاع من الحنفية والشافعية لحقوا بأهل الاعتزال، ورِعاع من الحنابلة لحقوا بأهل التجسيم، وبَرّأ الله المالكية فلم نَرَ مالكياً إلا أشعرياً عقيدة، وبالجملة عقيدة الأشعري هي ما تضمنته عقيدة أبي جعفر الطحاوي، التي تلقاها علماء المذاهب بالقبول ورضوها عقيدة».[93][ملحوظة 15]
ويرى الإمام تاج الدين السبكي: أنّ أبا الحسن الأشعري لم يُنْشئ مذهباً ولم يبتدع رأياً، وإنّما هو مقرر لمذاهب السلف مناضل عما كانت عليه الصحابة، وأنّ الانتساب إلى الأشعري إنّما هو باعتبار أنّه عقد على طريق السلف نطاقاً وتمسك به، وأقام الحجج والبراهين عليه؛ فصار المقتدى به في ذلك السالك سبيله في الدلائل يسمى أشعرياً.[94]
وعلى ذلك فلا يمكن أن يعد الأشاعرة ضمن المبتدعة، ولا يجوز ذمهم ولا الطعن عليهم، بل الابتداع كل الابتداع في مخالفة نهجهم وطريقتهم، يقول التاج السبكي مؤكداً على ذلك: «وهذه المذاهب الأربعة ولله الحمد في العقائد يد واحدة إلا من لحق منها بأهل الاعتزال أو التجسيم، وإلا فجمهورها على الحق، يُقِرّون عقيدة أبي جعفر الطحاوي التي تلقاها العلماء سلفاً وخلفاً بالقبول، ويدينون الله برأي شيخ السنة أبي الحسن الأشعري، الذي لم يعارضه إلا مبتدع».[95]
والإمام تاج الدين السبكي، يصرّح في أكثر من موضع في كتاباته بانتسابه إلى الأشعري عقيدة، وهو كثير الإجلال والتعظيم له، فمن الأدلة على ذلك قوله في حق الشيخ أبي الحسن في ترجمة حافلة له خَرّجَها التاج في طبقات الشافعية الكبرى: «شيخنا وقدوتنا إلى الله تعالى، ... شيخ طريقة أهل السنة والجماعة، إمام المتكلمين، وناصر سنة سيد المرسلين والذاب عن الدين، والساعي في حفظ عقائد المسلمين، سعياً يَبْقى أَثَرهُ إلى يوم يقوم الناس لرب العالمين».[96]
كما أنّه عقد فصلاً خاصاً في بداية كتابه الطبقات، بيّن فيه مسائل الإيمان والإسلام، وهل يزيد الإيمان وينقص أم لا، مقرراً في ذلك كله معتقد الأشاعرة.[97] وكذلك ختم مختصره (جمع الجوامع) بخاتمة ذَكَر فيها معتقده مبيّناً فيها عقيدة الأشاعرة. وافتتح كتابه (ترشيح التوشيح) بمقدمة ذَكَر فيها جملة معتقده، حيث قال: «فالحمد لله عوداً على بدء، رب العالمين، قيوم السماوات والأرضين، الأول فليس قبله شيء، الباطن فليس دونه شيء، ... الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي ليس بجسم مصور، ولا جوهر محدد، من زعم أنّ إلهنا محدود فقد جهل الخالق المعبود، ومن زعم أنّ الأماكن تحيط به فقد لزمته الحيرة والتخليط، بل هو المحيط بكل مكان مُقدَّس عن الجهات مُنزَّه عن المماسات، رفيع الدرجات ذو العرش، يُلقي الروحَ من أمره على من يشاء من عباده، استوى على العرش الذي قاله بالمعنى الذي قاله لا تُنقِص منه ولا تَزيدَه، لا يحمله العرش، بل العرش وحملته محمولون بعظيم قدرته، ولطيف صنعته. القرآن كلامه غير مخلوق، كَلَّم موسى تكليماً بلا جوارح ولا أدوات ولا شفه ولا لَهَوات، سبحانه عن تكييف الصفات» إلى آخر تلك المقدمة الحافلة التي جمع فيها أهم مسائل الاعتقاد.[98]
يعدّ الإمام تاج الدين السبكي، حامل لواء الدفاع عن أهل السنة، وبخاصة الأشاعرة، فتراه يتحيّن الفرص للدفاع عنهم والذب عن أعراضهم فهو في كتابه (طبقات الشافعية الكبرى) ـ والذي يعدّ بحق طبقات للأشاعرة أيضاً ـ بيّن حقيقة ما عليه هؤلاء العلماء، ورد كثيراً مما رُمِي به هؤلاء الأئمة الجِلّة الذين حملوا راية الإسلام، والدفاع عن عقائده تُجاه الملاحدة، وأتباع الفرق الضالة، وجماعة المبتدعة.
وكثيراً ما كان التاج يَتعقّب شيخَه الذهبي، الذي يعدّه التاج السبكي كثيرَ الغضِّ من أئمة الأشاعرة، وكثير الوقيعة فيهم،[99] وقد تتبعه التاج في كثير من المواضع، وكان يردُّ دَعاويه وأقاويله التي فيها غضٌّ من هؤلاء الأعلام، ترى ذلك واضحاً في ترجمة التاج السبكي للإمام أبي الحسن الأشعري، وإمام الحرمين الجويني، والإمام فخر الدين الرازي، حيث وجه في هذه التراجم نقداً لاذعاً قوياً لشيخه الذهبي، الذي اعتبره التاج لم يُوفِّ هؤلاء الجهابذة حقهم في تراجمه لهم.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد فحسب، بل أنّ التاج السبكي يقرّر أنّه لا يحلّ لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يعتمدَ على أقوال الذهبي في الغضّ عن الأشاعرة فيقول: «والذهبي أستاذنا، والحق أحق أن يُتّبعَ، لا يحلّ لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يعتمدَ عليه في الضَّعة من الأشاعرة...» أي: الحط من أقدارهم.[100]
قال التاج السبكي في طبقات الشافعية الكبرى: «تفحصت كتب الحنفية (ويقصد بهم الماتريدية لتمذهبهم بالمذهب الحنفي) فوجدت جميع المسائل التي بيننا وبين الحنفية خلاف فيها ثلاث عشرة مسألة، منها معنوي ست مسائل، والباقي لفظي، وتلك الست المعنوية لا تقتضي مخالفتهم لنا، ولا مخالفتنا لهم فيها تكفيراً ولا تبديعاً... ولي قصيدة نونية، جمعت فيها هذه المسائل، وضممت إليها مسائل، اختلفت الأشاعرة فيها، مع تصويب بعضهم بعضاً فِي أصل العقيدة، ودعواهم أنهم أجمعين على السنة، وقد ولع كثير من الناس بحفظ هذه القصيدة، لا سيما الحنفية، وشرحها من أصحابي الشيخ الإمام العلامة نور الدين بن أبي الطيب الشيرازي الشافعي، وهو رجل مقيم في بلاد كيلان، ورد علينا دمشق في سنة سبع وخمسين وسبع مائة، وأقام يلازم حلقتي نحو عام ونصف عام، ولم أر فيمن جاء من العجم في هذا الزمان أفضل منه ولا أدين». ثم ذكر القصيدة، وهي كالتالي:[101]
لم تَذْكُر المصادر التاريخية عن تَصوّف السبكي شيئاً، وعن صحبته في التصوف أو على من تخرج فيه، غير أنّه من المقرّر المعلوم أنّ والده الشيخ تقي الدين كان قد صحب في التصوف الشيخ العارف بالله ابن عطاء الله السكندري وعليه تخرج في هذا العلم.[102] والشيخ تقي الدين كان من العلماء العارفين بالله تعالى وقد كان الشيخ تقي الدين أول مربٍّ موجِّه لولده، مما يقوي لديَّ احتمالية أنّ التاج قد أخذ التصوف عن والده وانتسب فيه إليه.
وهناك من النصوص ما يثبت أنّ التاج السبكي كان ذا قدم راسخة في التصوف، فمن ذلك قوله في كتابه (معيد النعم ومبيد النقم) إبّان حديثه عن أسباب زوال النعم: (وأنا أبحث عن هذه الأمور ... بحثاً مختصراً، لا أرخي فيه عنان الإطناب؛ فإنّه بحر لا ساحل له، لو ركبت فيه الصعب والذلول، وشمرت فيه مساق البيان، وخضت فيه لجج الدقائق، لذَكَرتُ ما يعسر فهمه على أكثر الخلائق، ... ولانتهينا إلى ما لم يُؤذَن لنا في إظهاره من الأسرار العلمية).[103] ثم أخذ يتكلم عن الشكر بلسان العارف البصير، وبيّن ما على الإنسان فعله شكراً لربه تعالى، وذكر أسباب زوال النعم، فشخص الداء ووصف له العلاج، وما هذه العلوم إلا من لب علم التصوف.
وقد كان تاج الدين السبكي كثير المحبة والإجلال والتعظيم للصوفية فهو لا يذكرهم إلا بألفاظ التبجيل والتفخيم، فهو يقول عنهم في كتابه (معيد النعم ومبيد النقم): «الصوفية: حَيّاهُم الله وبَيَاهُم وجمعنا في الجنة وإياهم».[104] ويقول أيضاً: (والحاصل أنهم أهل الله وخاصته الذين تُرتَجى الرحمةُ بذكرهم ويُستنزلُ الغيثُ بدعائهم، فرضي الله عنهم وعنا بهم).[105]
وقد حذّر التاج السبكي من الإنكار عليهم والوقوع في أعراضهم، فقال: «وقد جرّبنا فلم نجد فقيهاً ينكر على الصوفية إلا ويهلكه الله تعالى وتكون عاقبته وخيمة... إلى أن قال: لأنّ هؤلاء القوم لا يعاملون بالظواهر، ولا يفيد معهم إلا الباطن ومحض الصفاء، وهم أهل الله وخاصته نفعنا الله بهم، وأكثر من يقع فيهم لا يفلح».[106]
وأما موقفه مما يَصدُرُ عن الصوفية من ألفاظٍ مُوهمٌ ظاهرها الخروج عن رِبْقَةِ التوحيد فهو موقف معتدل وسط، فهو يرى أنّه ينبغي النظر أولاً إلى لزوم الشخص لأوامر الله تعالى، فإن كان كذلك وجب حسن الظن به ويقول: «وتلك الأمور قَلَّ أن يفهما من يَعِيبُها، والواجب تسليم أحوال القوم ... إليهم، وإنا لا نؤاخذ أحداً إلا بجريمة ظاهرة ومتى أمكننا تأويل كلامهم وحمله على محمل حسن لا نعدل من ذلك لا سيّما من عرفناه منهم بالخير ولزوم الطريقة، ثم إن بَدَرتْ لفظة من غلطة أو سقطة فإنّها عندنا لا تهدم ما مضى».[106]
والتصوف الذي يتحدث عنه التاج السبكي، هو التصوف الصافي النقي على طريقة إمام الطائفة الجنيد البغدادي، وأبو القاسم القشيري، وليس كل من تزيّى بزي الصوفية ونسب نفسه إليهم ممن يسيئون إلى التصوف وأهله الذين يقول فيهم التاج: «اعلم أنّهم [أي الصوفية] قد تشبه بهم أقوام ليسوا منهم، فأوجب تشبه أولاء بهم سوء الظن، ولعل ذلك من الله تعالى قصداً لخفاء هذه الطائفة التي تؤثر الخمول على الظهور».[107]
مظاهر من شخصيته
إنّ من يطالع مصنفات التاج السبكي يرى واضحاً بروز شخصيته، ويستطيع أن يدركَ بعض الجوانب المهمة في شخصيته، والتي منها ما يلي:
قيامه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
كان الإمام تاج الدين السبكي سَليطَ اللّسان والبنان في محاربة المنكرات أيا كان نوعها وأيا كان فاعلها، فهو دائماً ما يصحّح ويشدّد النكير إما على عامّي فاسق، أو حاكم مارق، أو عالمٍ أو قاضٍ أو مُفتٍ أو صوفي جاهل.
فمن ذلك نقده لحكام زمانه الذين يكثرون من بناء الجوامع بلا حاجة لها، مع العلم بأنّ تعدّد الجمعة فيها غير جائز عند أكثر العلماء فيقول التاج في حق هؤلاء: «ولقد رأينا منهم من يَعمُرُ الجوامع ظانّاً أنّ ذلك من أعظم القرب ... فينبغي أن يُفهّمَ هذا الملك أنّ إقامة جمعتين في بلد لا تجوز عند الشافعي وأكثر العلماء؛ فإن قال: قد جوزها قوم منهم قلنا له: إذا فعلت ما هو واجب عليك عند الكل فذاك الوقت إفعل الجائز عند البعض، وأما أنّك ترتكب ما نهى الله عنه وتترك ما أمر به، ثم تريد أن تَعمُرَ الجوامع بأموال الرعايا ليقال: هذا جامع فلان، فلا والله لن يتقبله الله أبداً، وإنّ الله سبحانه طيّب لا يَقبلُ إلا طيباً».[108]
ويقول في موضع آخر منتقداً أحكام الولاة: «وبعض من طبع الله على قلبه من الولاة يأمر الرجلَ أن يُجّرد، فإذا شرع الجلاد في ضربه قام الوالي للصلاة وأطال ـ سمعت ذلك عن بعض ولاة القاهرة ـ فيستمرُّ المضروب تحت العصي والمقارع ما دام الوالي في الصلاة فقبحه الله، آلله أمره بهذا، وأي صلاة هذه؟!».[109]
ويقول عن عوائد نظّار الجيش القبيحة: «أنّهم يقولون هذا شرع الديوان، والديوان لا شرع له، بل الشرع لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا الكلام يُنهي إلى الكفر، وإن لم تنشرح النفس لتكفير قائله، فلا أقلَّ من ضربه بالسياط؛ ليكفَّ لسانه عن هذا التعظيم الذي هو في غنىً عنه».[110]
وبعد أن ذكر جملةً من القبائح والمنكرات التي ينغمس فيها أصحاب الساسة والأمراء قال: «ولكنهم احجتروا (أي التجئوا واستعاذوا) وفعلوا هذه القبائح، وطلبوا من الله تعالى أن ينصرَهم، ومنا أن ندعوَ لهم، ولو أنّهم اتقوا الله حقّ تقاته، لما افتقروا إلى دعائنا».[111]
هذا وقد استرسل الإمام تاج الدين السبكي في بيان قبائح الولاة والحكام، وبيّن ما يجب عليهم أن يفعلوه، ومن ثم تناول جميع فئات الشعب، مبيّناً لكل فئة ما يجب عليها فعله وما ينبغي عليها الكفَّ عنه، بأسلوب سهل مبسط مقبول، فهو يشدد حيث تعيَّنَ التشديد وبخاصة عند توجيه النقد للحكام والولاة، ويمارس الرفق واللين عند مخاطبته العامّة والدهماء من الناس.[112]
احترامه لأهل العلم
الإمام تاج الدين السبكي كان كثير الاحترام والتقدير لأهل العلم قاطبة، فقد كان يعرف للعلماء أَقدارَهُم، وينزلهم منازلهم في أعلى المراتب، وكان التاج يرى أنّ منازل العلماء هي من أعلى المنازل، بل لقد عدّ العلماء أعلى وأرفع من الملوك والأمراء، فهو يقول في مقدمة طبقاته: «الحمد لله الذي رفع طبقات العلماء على هام الملوك وتاجها، ودفع بألسنتهم من تُرَّهات المبطلين ما لم يدفعه مساجد التقى، ومشاهد الوغى عند عجاج ليلها، وليل عجاجها، وقمع بهم شبهات الملحدين، وما شبهة الملحدين إلا ليل غمة، وكلمة العالم صبح انفراجها».[113]
ولعل أكبر دليل على حب التاج للعلماء، هو إخراجه لكتاب جمع فيه طبقات العلماء الشافعية، فجمع فيه أشتات العلماء وبيّن مراتبهم، وكان لا يذكرهم إلا بصفات المدح والتبجيل والتفخيم والتعظيم، فهو لا يذكر إلا مناقبهم، ويدافع عنهم، ويَذبّ عن أعراضهم، وينتقد من ينتقدهم. وكان كثيراً ما يَغضّ الطرف عن مثالبهم، وإذا ما بَدَرتْ من أحدهم غلطة أو سقطة كان دائماً حَسَنَ الظَنِّ بهم يَلتمِسُ لهم الأعذار، ويُؤوّل لهم الأقوال، إلا إذا اقتضت الضرورة غير ذلك؛ فإنّه كان ينبّه على بعضها، وذلك لا يوجب نقصاً من أقدارهم، ولا طعناً فيهم؛ بل ليكون طلبة العلم على معرفة بها والحذر منها حتى لا يقعوا فيها.
اتباعه للحق وإنصافه لخصومه
كان الإمام تاج الدين السبكي كثير التحرّي للحق، وهو يدور مع الحق حيث دار، ولا يمنعه من قبول الحق محاباة لأحد ولا مجاملة لأي كان حتى ولو كان والده، فهو لا يتحرّج من مخالفة والده في مسألة رأى أنّ والده قد جانب الصواب فيها، لذلك قد عقد فصلاً في آخر كتابه (الترشيح) للمسائل التي رجّح فيها خلاف والده ويقول في ذلك: «وذكرت من معترضاتي على الوالد، وسأذكر في آخر الكتاب أيضاً منه، ليُعلَم أنا إن شاء الله لا نحابي في دين الله أحداً، ولو حابينا لحابينا الوالد».[114]
وبلغ من شدة تحرّيه الحق في المسائل، كان أحياناً ما يختلف قوله في المسألة الواحدة في كتبه المختلفة، فتراه في موضع ما يقرّر المسألة بوجه، ثم يرجع في كتاب آخر ويقرّرها بوجه آخر مغايراً له، بل إنّه قد يصرّح بخطئه ويرجع عن قوله ولا يرى في ذلك تحرّجاً، فمن ذلك أنّه صرّح في (جمع الجوامع) في مبحث (لو) اختيار كلام والده في عدم كونها امتناعية حيث قال هناك: «والصحيح وفاقاً للشيخ الإمام امتناع ما يليه واستلزامه لتاليه».[115]
ثم رجع عن هذا الرأي في (منع الموانع) واختار كونها امتناعية فقال: «واعلم أنّا كتبنا هذا ونحن نوافق الوالد إذ ذاك على ما رآه، ولذلك عبّرنا عنه بلفظ الصحيح، وأما الذي أراه الآن، وأدعي ارتداد عبارة سيبويه إليه، وإطباق كلام العرب عليه، فهو قول المعرَّبين، وقول الوالد: (إنّه منقوض بما لا قبل له) مما لا يَظهَر لي،... إلى أن قال: ولكنا هنا نَحيد عنه؛ فإن كان خطأً فمنّا ومن الشيطان، وإن كان صواباً فمن الله وببركته رحمه الله، فأقول: مدلول (لو) الشرطية: امتناع التالي لامتناع المقدم مطلقاً».[116]
هذا وقد امتاز التاج السبكي بمِيزة أخرى لا تقلّ أهمية عن كونه وقّافاً مع الحق حيث كان ومع أيّ كان، ألا وهي أنّه كان كثير الإنصاف لخصومه الذين يخالفهم في الرأي، ويوجّه النقدَ لاجتهادهم، فهو مع النقد العلمي الموجّه إليهم إلا أنّه لم يكن لينتقصَ من أقدارهم، أو يهتضم حقوقهم، بل كان ينزلهم منازلهم، ويحفظ لهم مكانتهم رغم مخالفته الشديدة لهم في كثير من أفكارهم. وليس أدل على ذلك من موقف التاج السبكي من شيخه الذهبي، فهو رغم شدة انتقاده له بسبب تحامله على الأشاعرة؛ إلا أنّه ما كان ليذكره إلا بصفات التبجيل والتفخيم والتعظيم.
فهو يقول عنه، محدث العصر، ويقول: «اشتمل عصرنا على أربعة حفاظ بينهم عموم وخصوص: المزيوالبرزالي والذهبي والشيخ الإمام».
وقد رثاه بقصيدة طويلة، منها:[117]
مَن لِلْحَديثِ ولِلسَّارينَ في الطَّلَبِ
مِن بَعْدِ مَوتِ الإِمامِ الحافِظِ الذَّهَبي
مَن لِلرِّوايةِ للأَخْبارِ يَنْشُرُها
بَيْن البَريَّةِ مِن عُجْمٍ ومِن عَرَبِ
مَن لِلدِّرايةِ والآثارِ يِحْفَظُها
بِالنَّقْدِ مِن وَضْعِ أَهْلِ الغَيِّ والكَذِبِ
إلى أن قال:
هُو الإِمامُ الّذي رَوَّتْ رِوايَتَه
وطَبَّقَ الأَرْضَ مِن طُلابِهِ النُّجُبِ
مُُهَذَّبُ القَولِ لا عَيٌّ ولَجْلَجَةٌ
مُثَبَّتُ النَّقْلِ سامي القَصْدِ والحَسَبِ
ثَبْتٌ صَدُوقٌ خَبيرٌ حافِظٌ يَقِظٌ
في النَّقْلِ أَصْدَقُ أَنْباءً مِن الكُتُبِ
كَالزُّهْرِ في حَسَبٍ والزَّهر في نَسَبٍ
والنَّهْرِ في حَدَبِ والدَّهْرِ في رُتَبِ
نبذه للتعصب المذهبي
رغم تمذهب التاج السبكي على فقه الإمام الشافعي، واعتباره مذهبه هو المذهب الحق، وأنّ من عانده فقد عاند الحق، ورغم عظيم حبه للإمام الشافعي، وأتباعه من السادة العلماء الذين دفعه حبه لهم إلى جمع أشتاتهم وتتبع أخبارهم في كتاب خاص بأئمة الفقهاء الشافعية. رغم كل ذلك إلا أنّه كان ينبذ التعصب المذهبي والجمود على أقوال الأئمة، بحيث تُجعَل الفروع المروية عن الأئمة أصولاً، بحيث يعادي بعضهم بعضا لأجلها ويُبدّع بعضهم الآخر بسببها، ويرى التاج السبكي أنّ هذا التعصب الممقوت لا يرضى به أحد ولو كان الأئمة الفقهاء أحياء لشددوا النكير على أمثال هؤلاء، ويقول: «ومنهم من تأخذه في الفروع الحمية لبعض المذاهب ويركب الصعب والذلول في العصبية، وهذا من أسوأ أخلاقه، ولقد رأيت في طوائف المذاهب من يبالغ في التعصب بحيث يمتنع بعضهم من الصلاة خلف بعض إلى غير ذلك مما يُستَقبح ذكره، ويا ويح هؤلاء! أين هم من الله تعالى! ولو كان الشافعي وأبو حنيفة رحمهما الله تعالى حَيّين لشددوا النكير على هذه الطائفة».[100]
ويضيف التاج السبكي أنّ على العلماء أن يتجاوزوا هذه الفروع التي للخلاف فيها مدخل وللاجتهاد فيها باب واسع، وكل مجتهد مأجور وإن أخطأ، وعليهم أن يشتغلوا بما هو أهم من ذلك؛ كالرد على أهل البدع والأهواء الذين يُفسِدون على الناس دينهم وعقائدهم، ويقول: «وليت شعري لم لا تركوا أمر هذه الفروع التي العلماء فيها على قولين، من قائل: كل مجتهد مصيب، وقائل: المصيب واحد، ولكن المخطئ يؤجر، واشتغلوا بالرد على أهل البدع والأهواء... ثم قال: فقل لهؤلاء المتعصبين في الفروع وَيْحكم: ذروا التعصب، ودعوا عنكم هذه الأَهْويَة، ودافعوا عن دين الإسلام، وشَمّروا عن ساق الاجتهاد في حَسْمِ مادة من يسبّ الشيخين أبا بكروعمر رضي الله عنهما».[100]
ويَعيبُ التاج على هؤلاء الفقهاء الذين شغلوا أنفسهم بالفروع ونسوا أنّ بين ظهرانيهم يعيش أهل الذمة، ولا تجد فقيهاً يجالس ذمياً يبيّن له هذا الدين ويدعوه إليه فيقول: «بل هؤلاء أهل الذمة في البلاد الإسلامية تتركونهم هَمَلاً... ولا نرى منكم فقيهاً يجلس مع ذمي ساعة واحدة، يبحث معه في أصول الدين... إلى أن قال: فيا أيها العلماء في مثل هذا فاجتهدوا، وتعصبوا، وأما تعصبكم في فروع الدين، وحملكم الناس على مذهب واحد؛ فهو الذي لا يقبله الله منكم ولا يحملكم عليه إلا محض التعصب والتحاسد».[93]
والمصيبة الكبرى التي يراها التاج السبكي، أن ترى من الفقهاء من يُشدّد النّكير على المسائل الفرعية، ويترك الإنكار على المسائل الأصلية القطعية، فلا تجدهم ينكرون على تارك الصلاة، ولا على كثير من المحرمات المجمع عليها ويضيف: «فَلَعَمْرُ الله لا أحصي من رأيته يُشمّر عن ساعد الاجتهاد في الإنكار على شافعي يذبح ولا يسمي... وهو يرى من العوام ما لا يُحصي عدده إلا الله تعالى يتركون الصلاة التي جزاء من تركها عند الشافعيومالكوأحمد ضرب العنق، ولا ينكرون عليه، بل لو دخل الواحد منهم بيته لرأى كثيراً من نسائه يتركن الصلاة، وهو ساكت عنهن، فيالله وللمسلمين! أهذا فقيه على الحقيقة! قبح الله مثل هذا الفقيه، ثم ما بالكم تنكرون مثل هذه الفروع، ولا تنكرون المكوس والمحرمات المجمع عليها، ولا تأخذكم الغيرة لله تعالى فيها! وإنّما تأخذكم الغيرة للشافعي، وأبي حنيفة، والمدارس المزخرفة».[118]
وقد كان الإمام تاج الدين السبكي ذا بعد نظر، وفكر ثاقب؛ فهو يريد أن يجتمع العلماء على كلمة واحدة، ولا يريد للأمّة أن تفترق فيما بينها وتذهب هيبتها، فقد كان يدعو العلماء إلى توحيد الكلمة ورصّ الصفوف ويرى أنّ افتراق العلماء هو سبب هلاك الأمّة فيقول: «فيؤدي ذلك إلى افتراق كلمتكم وتَسلّط الجهال عليكم، وسقوط هيبتكم عند العامّة، وقول السفهاء في أعراضكم ما لا ينبغي، فتهلكون السفهاء بكلامهم فيكم؛ لأنّ لحومكم مسمومة على كل حال، لأنّكم علماء، وتهلكون أنفسكم بما ترتكبونه من العظائم».[119]
اعتزازه بنفسه وبمؤلفاته
كان التاج السبكي كثير الاعتزاز بنفسه، فهو يقول عن نفسه: «وأنا اليوم مجتهد الدنيا على الإطلاق لا يقدر أحد يرد عليّ هذه الكلمة» فانظر إلى مدى هذا الاعتزاز وهذه الثقة بالنفس والتي جعلته يتفوه بمثل هذه الكلمة، في زمن كان العلماء يقفون فيه سداً منيعاً أمام من يدعى الاجتهاد ولم يكن قد تأهل له بعد.
ولا يرى التاج السبكي حرجاً بالتحدث عن مؤلفاته ومزاياها، فهو لا يترك فرصة إلا ويشيد بمؤلفاته ويرفع منها، بعبارات تفوح منها رائحة العزّة والأنَفَة فهو يقول عن كتابه الطبقات: «ومن نظر كتابي هذا علم كيف كان البدر يغيب وأنا شاهد، وتيقن أنّه وظيفة عمر رجل ناقد؛ فلقد اشتمل على بحر زاخر من غرائب المسائل، وقدر وافر من عجائب الأقوال والأوجه والدلائل وغيث هامع من العلم تتقاصر عنه الأنوا (أي جمع نوء وهو النجم المنازل في الغرب وكانت العرب تضيف إليه المطر والرياح)، وغدير جامع تلقى عنده الدلا (أي جمع دلو وهو ما يستقى به الماء)».[120]
ويضيف: «إنّ هذا المجموع شمس عوارف المعارف، وقمر لطائف الظرائف، ونجم سماء العلم، والناس تِلقاءَ حرمه بين عاكف وطائف، من شاهده قال: هكذا هكذا، وإلا فلا لا، ومن أنفق من خزانة علمه لم يخش من ذي العرش إقلالاً، ومن تأمله منصفاً جبن عن معارضته وأنشد: ..أهابك إجلالاً...».[121]
وهو يؤكد على أنّ إشادته بمصنفاته ليس للسمعة والفخر، وإنّما من باب "وأما بنعمة ربك فحدث" ويهدف من ذلك إلى تشويق القارئ وحضه على مطالعته. ومع ذلك كان يرجع ويتواضع، فهو فيه عزة وتواضع معاً، فبعد أن يمدح ويستطرد في المدح يقول: «وأنا مع وصفي هذا الكتاب، ما أبرئ كتابي ولا نفسي من شك ولا ريب، ولا أبيعه بشرط البراءة من كل عيب، ولا أدعي فيه كمال الاستقامّة، ولا أقول: بأنّ الطبقات جمع سلامّة، بل إذا دار في خلدي ذكر هذه الطبقات اعترفت بالقصور، وسألت الله الصفح الجميل عما جرى به القلم، فكم جرى بهذه السطور، وقلم اللوح المحفوظ والكتاب المسطور، ورجوت مسامحة ناظريه، فهم أهلوها، وأملت جميلهم فهم أحسن الناس وجوهاً وأنضرهموها».[122]
صبره وتحمله الأذى
لقد كان للتاج السبكي، الكثير من الحساد والمناوئين الذين يَحسدونه، وكان هؤلاء الحسّاد يَحيكون المؤامرات ضدّه للنيل من عرضه، وقد نجحوا في ذلك، فاضطهد التاج وعزل عن القضاء واتهم بالكفر وسجن. وقد تجلّى صبر التاج السبكي في هذه المحنة في أبهى صورة فقد ظل قوياً ثابتاً صابراً محتسباً، فهو لم يَجزَع ولم يتألّم، وظل كذلك حتى فرج الله تعالى عنه، وكشف عنه الغمة، وعاد التاج إلى منصبه معززاً مكرماً.
ولما عاد إلى منصبه؛ عفا وصفح عن كل من أساء إليه؛ فلم يعاقب أحداً بجريرة، ولم يراجع أيّاً منهم في شيء ذكره في حقه إبّان محنته، يقول ابن كثير في ذلك: «جرى عليه من المحن والشدائد ما لم يجر على قاض قبله... وأبان في أيام محنته عن شجاعة، وقوّة على المناظرة، حتى أفحم خصومه مع كثرتهم ثم لما عاد عفا وصفح عمّن قام عليه» نقل هذا القول عن ابن كثير ابن حجر العسقلاني في الدرر الكامنة،[123] ويقول ابن حجر: «حصل له بسبب القضاء محنة شديدة مرة بعد مرة، وهو مع ذلك في غاية الثبات، ولما عاد إلى منصبه صفح عن كل من أساء إليه».[124]
شيوخه
كتاب: (منهج الإمام تاج الدين السبكي في أصول الفقه) تأليف: د. أحمد الحسنات.
والده الإمام شيخ الإسلام تقي الدين السبكي (683-756هـ). من كبار أئمة الشافعية في عصره؛ وقد كان الإمام تاج الدين شديد الاعتداد بوالده وآرائه؛ حتى كان يَعُدُّهُ من مجتهدي المذهب الشافعيِّ، ويضعه في مصافِّ الرافعيوالنووي.
المؤرخ الحافظ شمس الدين الذهبي الشافعي (673-748هـ)، يقول عنه: «محدث العصر، إمام الوجود حفظاً، وذهب العصر معنى ولفظاً، وشيخ الجرح والتعديل ورجل الرجال في كل سبيل كأنما جمعت الأمة في صعيد واحد فنظرها ثم أخذ يخبر عنها إخبار من حضرها».
الإمام الحافظ جمال الدين المزي الشافعي، المتوفى عام (742هـ) قال عنه الإمام تاج الدين: «شيخنا وأستاذنا وقدوتنا، حافظ الزمان حامل راية السنة والجماعة والقائم بأعباء هذه الصناعة، إمام الحفاظ كلمة لا يجحدونها، وشهادة على أنفسهم يؤدونها، واحد عصره بالإجماع وشيخ زمانه الذي تصغي لما يقوله الأسماع».
الشيخ عز الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن عبد العزيز الحموي الشافعي المعروف بابن جماعة (ت: 819هـ) وقد ألف كتاب «النجم اللامع شرح جمع الجوامع».
الشيخ أبو موسى محمد بن محمود بن إسحاق بن أحمد الحلبي ثم المقدسي (ت: 776هـ) كان حنفيّاً فتحول شافعيّاً بعنايته ورعايته.
الشيخ علاء الدين حجي بن موسى بن أحمد بن سعد الحسباني الشافعي (721-782هـ) أخذ عنه الفقه وشهد له بالتقدم فيه.
عمران بن إدريس بن معمر الجلجولي ثم الدمشقي الشافعي (734-803هـ) لازمه وقرأ عليه.
الشيخ شرف الدين عبد المنعم بن سليمان بن داود الشيخ البغدادي الحنبلي (ت: 807هـ) صحبه وقرأ عليه.
القاضي شهاب الدين أحمد بن ناصر بن خليفة بن فرج بن عبد الله بن يحيى بن عبد الرحمن المقدسي الناصري الباعوني (751-816هـ) عرض عليه محفوظاته وأخذ عنه وانتفع به.
الشيخ شهاب الدين أحمد بن محمد بن أحمد عرندة المحلي الوجيزي الناسخ (742-818هـ) لازمه لما قدم القاهرة.
الشيخ شرف الدين عيسى بن عثمان بن عيسى الغزي (ت: 799هـ) لازمه وأخذ عنه.
ناصر الدين أبو المعالي محمد بن علي بن محمد بن محمد بن هاشم بن عبد الواحد أبي حامد بن أبي المكارم عبد المنعم بن أبي العشائر السلمي الحلبي الخطيب (742-789هـ) قرأ عليه الأصول.
الشيخ شمس الدين محمد بن محمد بن خضر الغزي القرشي الأسدي الزبيري (ت: 808هـ) وقد ألف كتاب «البروق اللوامع فيما أورد على جمع الجوامع».
الشيخ جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن الحسن بن محمد الحموي الشافعي المعروف بابن خطيب الناصرية (ت: 809هـ).
الشيخ علي بن سند بن علي بن سليمان الأنباري الشافعي النحوي (ت: 814هـ).
علومه
لم يُعمّر تاج الدين السبكي طويلاً، فقد عاش ثلاثة وأربعين سنة، ومع قصر مدة حياته إلا أنّه ترك تراثاً ضخماً في كثير من العلوم والمعارف فهو يعدّ موسوعة علمية متكاملة، لم يترك علماً من العلوم الشرعية وآلاتها إلا وله فيه يد طولى، ومن العلوم التي كان يتقنها:
لقد عُنِيَ التاج بالحديث عناية فائقة سواء رواية أو دراية، فهو يروي لنا الحديث بالأسانيد المتصلة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويتحدث على رجالها بالنقد والتعديل، ويتحدث على ألفاظها بالإيضاح والبيان. ولم يقتصر الأمر على ذلك فحسب، بل يقرّر قواعدَ خاصةً في علم الجرح والتعديل ينتقد فيها سابقيه ويبيّن فيها قوله المعتمد في الجرح والتعديل.[125] ومن يطالع مصنفات التاج وخاصة كتاب الطبقات يُدرِكُ بوضوح مكانته العَليّة في هذا العلم. وحسبه بذلك شهادة شيخ حفاظ الإسلام ابن حجر العسقلاني حيث قال في حقه: (ومن الطبقات تعرف منزلته في الحديث).[126]
إنّ من يطالع مصنفات التاج السبكي، لَيَرى واضحاً اهتمامه بعلم الكلام، فهو مُتكلِّم على طريقة الأشاعرة من أهل السنة، وكتبه زاخِرةٌ بمسائل هذا الفن الذي ارتبط ارتباطاً وثيقاً بعلم الأصول الذي كان التاج فيه إمام زمانه، فهو يذَكْرُ المسألة الكلامية مبيّناً ما فيها من مذاهب معقّباً على كل مذهب بما يستحق مع بيان الحق في كل ذلك، وليس أدل على ذلك من أنّه قد ترك مصنفات خاصة بعلم الكلام، وكتابه الطبقات مليءٌ وغنيٌّ بمسائل هذا الفن.
وأما المنطق فلم يُهمِلهُ التاج قَط، بل له فيه باعٌ طويل، يَظهَرٌ ذلك جليّاً من خلال شرحه على (مختصر ابن الحاجب)، حيث ضمّن ابن الحاجب (مختصره) بمقدمة منطقية على طريقة الإمام الغزالي وبعض الأصوليين، وترى في شرح التاج له مَقدَرةً وبراعةً في هذا العلم مما يَعدُّه من كبار علماء المنطق.[127]
وهذا العلم قد بلغ به التاج عَنانَ السماء، وخضعت له رقاب العلماء، وفاق كل أقرانه بل فاق أكثَر العلماء، لقد أعطى التاجُ الأصولَ جُلَّ عنايته وعظيم اهتمامه، فتارةً يُدرّسه وأخرى يُؤلّف فيه، ويَستدرِك على من سبقه، ويُناقش من عارضه، وتارةً يقرّر عبارة سابقيه، مقيداً ما أطلقوه ومفسراً لما أجملوه، ومكمّلاً لما قد أغفلوه، وله في هذا الفن قدم راسخة، فهو ينظر إلى الأصول بنظر الناقد البصير، يوضّح مشكلاته، ويحلّ غوامضه، ويجمع شتاته، حتى عُدّتْ مؤلفاته مائدة زاخرة بكل ما لذ وطاب من هذا الفن. وليس أدلُّ على اهتمامه بهذا العلم من تركه ثمانيةَ مصنفات في علم الأصول، قلّما تجد لعالمٍ في فنّ الأصول قد ترك هذا القدر من المصنفات.
اهتم التاج بهذا العلم اهتماماً بالغاً، وله فيه مصنف زاخر يعدّ من أهم المصنفات في الأشباه والنظائر، فقد خرج فيه الفروع على الأصول وجمع شتات هذه الفروع في قواعد عامّة تنتظمها، فأجاد فيه وأجاد.
يعدّ التاج السبكي فقيهاً متمكناً وناقداً بصيراً، فقد تربّى في أحضان والده إمامِ الدنيا في عصره، فنهل من علمه واستقى من معارفه، وكتبُه مشحونةٌ بالفتاوى والمسائل المنقولة عنه، وقد جمع فتاوى والده، واختياراته الفقهية في مصنفات خاصّة. وفي كتابه الطبقات يُكثِر من ذِكْر المسائل الفقهية المروية عن الشخصية المترجَم لها وغالباً ما يعقّب عليها، ويختار ما يراه الأصوب منها.
وأما علم التاريخ والسير والتراجم فقد برع فيه، وكان ذو اطّلاع واسع على أخبار الماضين، وأحوال السابقين، وقد أسهم التاج في هذا المجال إسهاماً عظيماً، يُثبتُ أنّه مؤرخ لا نظير له، وتعدّ مؤلفاته في الطبقات من أعظم ما دوّن في هذا المجال، إذ يستوعب فيها جوانب الشخصية المترجَم لها، ويأتي بالعجب العجاب من قصص وغرائب لهذه الشخصيات، قلّما تجده عند غيره من كُتّاب الطبقات.
إنّ مَن يستقرئ مصنفات التاج السبكي، لَيجدُ فيها رَصانةً في الأسلوب، ودقّةً في التعبير وذوقاً عالياً في انتقاء العبارة والكلمة فهو أديب ذوّاق،[128] وما ذلك إلا نتيجة لصحبته لأديب وفحل زمانه صلاح الدين الصفدي، حيث صحبه منذ صغره وجرت بينهما مراسلات ومساجلات أدبية وشعرية مشهورة، قال التاج السبكي: (كنت أصحبه منذ كنت دون سن البلوغ، وكان يُكاتِبني وأكاتبه، وبه رَغِبتُ في الأدب).[129]
وقد أتقن التاج الأدب بقسميه: النثروالشعر، أما النثر فيبرز في كتاباته وخاصة مقدماته في تلك الكتب، كما ويبرز فيما يصف به الشخصيات المترجَم لها في كتابه الطبقات؛ فمن ذلك ما صدّر به ترجمة إمام الحرمين الجويني بقوله: «هو البحر وعلومه درره الفاخرة، والسماء وفوائده التي أنارت الوجود نجومها الزاهرة يَمَلّ الحديد من الحديد، وذهنه لا يَمَلّ من نصرة الدين فولاذه، وتَكِلّ الأنفس وقلمه يَسِحّ وابل دمعه ورذاذه، ويدجو الليل البهيم ولا ترى بدراً إلا وجهه في محرابه، ولا ناظراً إلا طرفه ناظراً في كتابه... هذا إلى لفظ غُرَّه سحر، إلا أنّه حِلّ وبِل، ودرّه يتيم، إلا أنّه لا يَذِل، بفصيح كَلِمٍ، قالت النحاة: هذا ما عجز عنه زيد وعمرو وخالد، وبليغ قول قالت البُلَغاء: قصّر عن مداه طريق الفصاحة والتّالد (أي القديم الأصلي)».[130]
وأما الشعر ففيه رقّةٌ وعذوبةٌ وروعةٌ قد لا تجدها عند كبار الشعراء، فمن ذلك ما كتبه إلى صديقه وحميمه الصلاح الصفدي:[131]
علم النحو من علوم الآلة التي لا يكون الفقيه فقيهاً ولا الأصولي أصولياً إلا إذا كان ذا قدم راسخة في النحو، والتاج السبكي لم يُهمِل النحو أبداً، فقد قرأ النحو على أبي حيان الأندلسي إمام النحو في عصره بلا منازع، ويكفيه فخراً أنّه تلميذ أبي حيان في ذلك، ومن هنا تُدرِك منزلة التاج في هذا الفن. ويظهر تَبحُّر التاج في النحو من خلال ما كتبه في طبقاته وبخاصة عندما ترجم لشيخه أبي حيان وما ذَكَر فيها من مسائل هامّة في النحو، كما أنّه عقد فصلاً خاصاً للنحو في كتابه (الأشباه والنظائر)[133] وسماه بـ: (كلمات نحوية يترتب عليها مسائل فقهية)، وقد أطال النفس في هذا الفصل.
آثاره العلمية
صنف التاج السبكي مصنفات كثيرة تدل على براعته وتقدمه في جل العلوم الإسلامية وبيان تلك المصنفات كالتالي:[43]
ترشيح التوشيح وترجيح التصحيح في اختيارات والده الفقهية.
أرجوزة في الفقه.
أوضح المسالك في المناسك.
تبيين الأحكام في تحليل الحائض.
رفع المشاجرة في بيع العين المستأجرة.
رفع الحوبة في وضع التوبة.
الأشباه والنظائر في الفروع الفقهية الشافعية: وهذا الكتاب من أوائل وأفضل ما صنف في فني القواعد الفقهية والأشباه والنظائر مع تحقيقات وتدقيقات حتى إن من جاء بعده ممن صنف في الأشباه والنظائر عيال على كتابه هذا.
قاعدة في الجرح والتعديل وقاعدة في المؤرخين. طبع بتحقيق الدكتور عبد الفتاح أبو غدة.
جزء على حديث (المتبايعان بالخيار).
جزء في الطاعون.
أحاديث رفع اليدين.
كتاب الأربعين.
رابعاً: مؤلفاته في التاريخ والطبقات
طبقات الشافعية الكبرى. الديوان الذي ضم ترجمته 1419 فقيهاً شافعياً لم يذكر منهم أحداً إلا وذكر في الغالب مسائل وفوائد فقهية وأصولية وأدبية عنه، وقد طبع الكتاب بتحقيق الدكتورين عبد الفتاح الحلو ومحمود الطناحي بمطبعة عيسى البابي الحلبي ثم بدار هجر.
طبقات الشافعية الوسطى.
طبقات الشافعية الصغرى.
مناقب الشيخ أبي بكر بن قوام.
طبقات الأبدال. وهو ما زال مخطوطاً ومنه نسخة محفوظة بمكتبة تشستربتي وعليها تعليقات بخط الإمام تاج الدين نفسه.
تكملة الإبهاج في شرح المنهاج. كان قد ابتدأه والده الإمام تقي الدين وانتهى فيه إلى مبحث «مقدمة الواجب»، ثم أتمه الإمام تاج الدين، حيث انتهى منه سنة 752هـ أي قبل وفاة والده بحوالي أربع سنوات، وقد طبع الإبهاج كاملاً عدة طبعات.
رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب. شرح ماتع على مختصر ابن الحاجب الأصولي استمر فيه من أول سنة 758هـ إلى ربيع الآخر سنة 759هـ وقد حقق الكتاب في عدة رسائل جامعية بجامعة الأزهر.
أرجوزة في خصائص النبي صلى الله عليه وسلم ومعجزاته.
ترجيح لصحيح الخلاف.
وفاته
بعد حياة حافلة بالعطاء في التدريس والقضاء والإفتاء، أصيب الإمام التاج السبكي بالطاعون ليلة السبت، ثم توفي شهيداً ليلة الثلاثاء السابع من شهر ذي الحجة سنة 771هـ، عن أربعة وأربعين عاماً تقريباً، وقد كانت جنازته جنازة حافلة حيث صُلّي عليه أكثر من مرة، وحضر نائب السلطنة، وحمل نعشه الأمراء الكبار، وقد شيعه خلائق كثر، ودفن بمقبرة السبكيين بسفح جبل قاسيونبدمشق.
كتب ومؤلفات عنه
منهج الإمام تاج الدين السبكي في أصول الفقه.
تاج الدين السبكي والقضايا الأدبية من خلال كتابه طبقات الشافعية الكبرى.
جمع الجوامع لتاج الدين السبكي في ميزان الأصوليين القُدامى منهم والمحدثين.
ملاحظات
^هو السلطان الملك المعظم تورانشاه بن السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب بن السلطان الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي، آخر ملوك بني أيوب في مصر، توفي مقتولاً على يد أمراء المماليك سنة 648هـ.
^جمع رباط وهو دار يسكنها أهل طريق الله من الصوفية.
^وهي كلمة فارسية معناها بيت وأصلها خونقاه أي الموضع الذي يأكل فيه الملك وهي أماكن للصوفية للتخلي فيها لعبادة الله.
^هو السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الصالحي كان ملك مهيباً حليماً قليل سفك الدماء كثير العفو، توفي سنة 689هـ.
^هو الأمير زين الدين كتبغا المنصوري، تسلم الملك مدة يسيرة ولقب بالعادل ثم خلع وتقلبت به الأحوال حتى أصبح نائب السلطنة في حماة، كان من أكابر الدولة وفيه شجاعة وخيرة وحسن خلق، توفي سنة 702هـ.
^من مدارس دمشق، أنشأها الظاهر بيبرس وأتم بناءها السلطان سيف الدين قلاوون وهي اليوم مقر دار الكتب الوطنية بدمشق كما أفاده محقق كتاب الدارس في تاريخ المدارس.
^من مدارس دمشق بناها الملك الناصر بن صلاح الدين 653هـ.
^هو الإمام العلامة قاضي القضاة صدر مصر والشام بهاء الدين أبو البقاء محمد بن عبد البر بن يحيى بن علي بن تمام بن يوسف السبكي وهو ابن ابن عم تقي الدين السبكي، كان إماماً نظاراً جامعاً لعلوم شتى، توفي سنة 777هـ، من مصنفاته: قطعة من اختصار المطلب وقطعة من شرح الحاوي.
^هو الإمام العلامة المحدث شهاب الدين أبو العباس أحمد بن قاسم بن محمد البوني، توفي سنة 1139هـ، من مصنفاته: نظم الخصائص النبوية، والمستدرك على السيوطي.
^عقيدة الأشاعرة قائمة على أساس التنزيه لله تعالى عن مشابهة الحوادث، والإيمان بكل ما وصف الله تعالى به نفسه من صفات الكمال، ونفي كل ما نفاه عن ذاته العلية من صفات الحوادث والنقص، فالأشاعرة يثبتون لله تعالى ما أثبته لنفسه، وينفون عنه ما نفاه عن نفسه، ولهم موقف وسط في متشابه الصفات قائم على أمرين:
أنّه لا يُتَكلّم في معناها؛ بل يقولون يجب علينا أن نُؤمنَ بها، ونَعتقدَ لها معنىً يَليقُ بجلال الله تعالى وعظمته، مع اعتقادنا الجازم أنّ الله تعالى ليس كمثله شيء، وأنّه منزّه عن التجسيم والانتقال والتحيّز في جهة وعن سائر صفات المخلوق، وهذا هو قول أئمة السلف، وأكثر المتقدمين.
أنّها تُأول على ما يليق بها على حسب مواقعها، بما ويتفق مع مقتضى لغة العرب وينسجم مع سياقها في النص، وهو مذهب أكثر المتكلمين ومعظم المتاخرين.
^ابن كثير، البداية والنهاية (13/ 210)، الذهبي، تاريخ الإسلام، حوادث سنة 648هـ ص: 388-390.
^استمر حكم المماليك لمصر والشام منذ عام 648هـ وحتى عام 923هـ، حكم فيها المماليك البحرية من عام 648هـ وحتى عام 784هـ، في حين حكم الجراكسة من عام 784هـ وحتى عام 923هـ. انظر: محمود شاكر، التاريخ الإسلامي (7/ 35، 69)، محمد سهيل طقوش، تاريخ المماليك في مصر والشام ص: 35، 341.
^ابن كثير، البداية والنهاية (13/ 235)، الذهبي، تاريخ الإسلام، حوادث سنة 656هـ ص: 39.
^انظر تفاصيل هذا الوباء في: ابن حبيب الحلبي، تذكرة النبيه (3/ 110–113)، الحسيني، ذيل العبر (4/ 149). ابن كثير، البداية والنهاية، (14/ 650–654). المقريزي، السلوك (4/ 78–93)، ابن قاضي شهبة، تاريخ ابن قاضي شهبة (2/ 541–552). ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة (10/ 155–168)، وجميع كتب التاريخ التي أرخت لتلك الفترة تذكر هذا الوباء ويسميه المؤرخون "الفناء العظيم"؛ وذلك لكثرة ما أفنى من البشر والحيوانات والأسماك.
^انظر عن هذا الوباء في: ابن كثير، البداية والنهاية، (14/ 704)، ابن قاضي شهبة، تاريخ ابن قاضي شهبة (3/ 164). ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة، (10/ 243).
^انظر تفاصيل هذا الوباء في: ابن حبيب، تذكرة النبيه (3/ 312)، المقريزي، السلوك (4/ 319)، ابن إياس، بدائع الزهور (1 قسم 2/ 65–66)، ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة (10/ 42).
^انظر: ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة (9/ 39، 112)، الذهبي، العبر (4/ 56)، ابن شهبة، تاريخ ابن شهبة (2/ 204)، سعيد عبد الفتاح عاشور، المجتمع المصري في عصر سلاطين المماليك ص: 229-233.
^مثل ما فعله السلطان محمد بن قلاوون، حيث أبطل العديد من هذه المنكرات في فترة حكمه، وكذلك كان يفعل بقية السلاطين إبان الأزمات، انظر: ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة (9/ 39). جلال الدين السيوطي ، حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة، (2/ 259).
^انظر: محمود رزق سليم، عصر سلاطين المماليك ونتاجه العلمي والأدبي، (3/ 16). إحسان عباس، تاريخ بلاد الشام في عصر المماليك ص: 161-162. سعيد عبد الفتاح عاشور، المجتمع المصري في عصر سلاطين المماليك ص: 141. وانظر للمزيد من المعلومات عن علماء ذلك العصر كتاب الحافظ ابن حجر العسقلاني المعنون بـ "الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة" فقد استوعب فيه ذكر علماء ذلك العصر.
^ أبكتاب: منهج الإمام تاج الدين السبكي في أصول الفقه، تأليف: أحمد إبراهيم حسن الحسنات، الناشر: رسالة ماجستير بإشراف (عبد المعز عبد العزيز حريز) كلية الشريعة، الجامعة الأردنية - عمان، عام النشر: 2002م، المطلب الثالث: مولده.
^لمعرفة المزيد عن هذه الأسرة انظر البيت السبكي لمحمد الصادق حسين، فقد جمع كل ما يمكن جمعه عن هذه الأسرة وترجم لثلاثة وخمسين شخصية منها، غير أنه أغفل ذكر بعض نساء هذه الأسرة كأمثال خديجة وست الخطباء ابنتي تقي الدين السبكي.
^انظر هذه المحنة بتوسع في ابن كثير، البداية والنهاية (14/ 746 - 749)، ابن العراقي في الذيل على العبر (1/ 234 - 235)، ابن شهبة في تاريخه (3/ 313 - 320، 345 - 346)، ابن حجر، الدرر الكامنة (2/ 427)، السخاوي، وجيز الكلام (1/ 162 - 163).
^نقل هذا القول عن ابن حجر من تذكرة الحفاظ، الكتاني في فهرس الفهارس (2/ 1037).
^انظر في ذلك شرح التاج السبكي على مختصر ابن الحاجب (1/ 256-349).
^لمزيد من الإطلاع على منزلة التاج السبكي الأدبية انظر رسالة الدكتور عوض محمد أحمد كركي المعنونة بـ (تاج الدين السبكي والقضايا الأدبية من خلال كتابه طبقات الشافعية الكبرى) حيث عرض لشخصية التاج السبكي الأدبية من خلال كتابه الطبقات وبين قيمة ومنزلة التاج الأدبية من خلال أمثلة استخرجها من ثنايا تراجمه في الطبقات.
كما له ذِكْر في: موسوعة طبقات الفقهاء (8/ 124، الموسوعة العربية العالمية (12/ 136) والموسوعة العربية الميسرة والموسعة (1/ 79)، وفي دائرة معارف القرن الرابع عشر، القرن العشرين (5/ 28).