محمد عبد الرحمن بيصار
الإمام الشيخ الدكتور محمد عبد الرحمن بيصار (20 أكتوبر 1910 - 8 مارس 1982م)، شيخ الأزهر الأسبق.
ولد في قرية السالمية مركز فوة. حفظ القرآن ثم التحق بمعهد دسوق الديني ثم معهد طنطا ثم معهد الإسكندرية. تخرج في كلية أصول الدين بتفوق عام 1939، ثم التحق بالدراسات العليا ثم حصل على العالمية بدرجة أستاذ عام 1945. في فبراير 1946 عين مدرساً بكلية أصول الدين. حصل على درجة الدكتوراة في الفلسفة العامة. في عام 1955 عين مديراً للمركز الثقافي الإسلامي بواشنطن. وفي عام 1978 عين وزبراً للأوقاف وشئون الأزهر، وفي عام 1979 عين شيخاً للأزهر. منح قلادة الجمهورية عام 1981، ومنحته جامعة ماليزيا درجة الدكتوراة الفخرية عام 1981.
توفى إلى رحمة الله يوم الثاني عشر من جمادى الأولى سنة 1402 هـ الموافق الثامن من مارس سنة 1982م.
من كتاباته: الوجود والخلود في فلسفة ابن رشد، العقيدة والأخلاق في الفلسفة اليونانية، العالم بين القدم والحدوث، رسالة عن الحرب والسلام في الإسلام بالإنجليزية.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
نشأته
في بيت ريفي متواضع وفي قرية (السالمية) من قرى مركز (فوة) التابع لمحافظة كفر الشيخ، ولد محمد عبدالرحمن بيصار في 20/10/1910م، ويقول المؤرخون إن أباه كان من أهل العلم، ونال حب واحترام أهل القرية جميعًا، وقد حاول أن يكون من طلاب العلم بالأزهر، ومن رجاله المرموقين، غير أن الظروف لم تكن في صالحه، فسأل الله سبحانه أن يعوضه عما فاته في ولده محمد، وقد أجاب الله دعاءه وحقق رجاءه، وجعل ابنه هذا إمامًا للإسلام، تعنو له الدنيا، وتخطب ودَّه الأيام،
حفظ الطفل محمد القرآن الكريم، على يد والده، وظهرت نجابة الابن مبكرة منذ نشأته، فأتم دراسته بالمعهد الإعدادي في تفوقٍ ظاهرٍ، ثم التحق بمعهد طنطا ليكمل فيه دراسته الثانوية، وكان بفطرته، ميالا للتجديد والإصلاح، شغوفًا بالدراسات الأدبية والثقافية، فألف رواية أسماها (بؤس اليتامى) عالج فيها ما يتعرض له الأيتام من الظلم والبؤس من الأوصياء عليهم، وكذا من المجتمع، ولقيت الرواية رواجًا وإقبالا من الناس، ومن المعروف أنه كان مولعًا بالرياضة البدنية، والعجيب أن نشاطه هذا جرَّ عليه مشاكل وغضبًا من إدارة المعهد لاشتغاله بالتأليف، وهو عيبٌ كبيرٌ في نظرها، ومهانة لا تليق بطالب العلوم الدينية والشرعية، فأجرت معه تحقيقًا كانت نتيجته أنه ترك معهد طنطا، والتحق بمعهد الإسكندرية، حيث وجد فيه عقولا متفتحة تشجع المواهب المفكرة، وتساعد الطلاب النابغين في شتى المجالات.
وفي هذا الفترة كان الأزهر يموج بحركة الإصلاح والتجديد، ويمرُّ بعوامل ثورةٍ فكريةٍ متأججةٍ، ويمرُّ بأزمةٍ ماليةٍ عنيفةٍ، صنعها العثمانيون والمماليك، وكانت الأبواب موصدةً أمام خريجي الأزهر، والقائمون على شئونه لا يحاولون حل هذا المشاكل، فكان بعض طلبة الأزهر يتحولون من دراستهم الدينية، ليشتغلوا صيارفة في الأقاليم بعد فترةٍ دراسيةٍ قصيرةٍ.
وبعضهم كان ينتقل إلى مدارس المعلمين، ليعمل مدرسًا بالمدارس الابتدائية، وانفعل الطالب محمد بيصار بهذه الأحداث، وكان شابًا طموحًا، متوقد الذهن، تغمره آمال المستقبل، فترك المعهد، وعاد إلى بلده ليفكر مع أبيه بشأن مستقبله في غير الأزهر.. وكان والده حكيمًا بعيد النظر، فقال لابنه: هل عدت إلينا لنفاد ما معك من نقود؟ فقال لا، وإنما عدت لأفكر معك في مستقبلي بعيدًا عن الأزهر، فقال له الأب: ما بعثتك للأزهر لتكسب منه نقودًا، وإنما بعثتك إليه لتتعلم شئون دينك، لتنفع نفسك وينتفع بك الناس، يا بني: إن الدين ليس سلعة تجارية، والرزق بيد الله وحده، والذي خلقك هو المتكفل بك، فعد إلى دراستك، وتوكل على الله، فإنه "وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا" والله لا يتخلى عن عباده "وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ"، واقتنع الشاب بنصيحة أبيه وآمن بها، وعاد ليواصل دراسته، في قوةٍ وعزمٍ وإيمانٍ، وأتمَّ دراسته فيها بتفوق، حتى تخرج فيها عام 1939م، وسار في دراساته العليا في تخصص قسم "العقيدة والفلسفة" حتى حصل على العالمية بدرجة أستاذ عام 1945، وفي عام 1946 اختاره الأزهر عضوًا في بعثاته التعليمية إلى إنجلترا، فتنقل بين الجامعات الإنجليزية، حيث نهل من علومها كل ما استطاع، واستقرَّ به المقام أخيرًا بكلية الأداب بجامعة (إدنبره) فنال منها الدكتوراة بتفوقٍ في الفلسفة العامة، وموضوعها "حجة الإسلام الإمام الغزالي والفيلسوف ديكارت".[1]
مناصبه قبل المشيخة
تولى - رحمه الله- مناصب عديدة، ففي سنة 1955م عُيِّنَ أستاذًا بكلية أصول الدين، ولقد رشحته مواهبه وثقافاته وأخلاقه لتولي منصب مدير المركز الثقافي الإسلامي، بواشنطن، فقام بشئون المركز على أعلى مستوى، وجعله مصدر إشعاعٍ يضيء العقول والقلوب، ويجذب إليه الأسماع والأبصار من بين الطوائف الإسلامية المتعددة في أفكارها وجنسياتها، والمنتشرة في أرجاء ولايات أمريكا، بالإضافة إلى العديد من الأفكار والعقائد الأخرى.
ولقد استطاع الدكتور بيصار بذكائه ومعرفته وعلمه ودرايته بأفكار أصحاب تلك العقائد والملل، أن يحظى باحترام وتقدير جميع تلك الطوائف، وتمكن في وسط هذا الضباب المتماوج أن يقود سفينة الدعوة في رفق وأناة، وأن يلفت إليه البصائر والأبصار، وظلَّ يدير المركز الإسلامي إدارة حكيمة رائعة لمدة أربع سنوات (1955ـ 1959م) ثم عاد إلى وطنه أستاذًا بكلية أصول الدين، لتخريج جيلٍ من أئمة العلماء والقادة، وفي عام 1963م اختاره الأزهر رئيسًا لبعثته التعليمية في ليبيا، فواصل جهاده وجهوده في نشر الدعوة الإسلامية بعلمه الغزير وبسلوكه القويم، وكان قد اكتسب خبرة علمية أعانته على فهم الطبائع المختلفة، والنزعات النفسية العميقة، وكان موفقًا في كل ما يباشره من أعمال.
وفي عام 1968م صدر قرارٌ جمهوريٌّ بتعيينة أمينًا عامًا للأزهر، ويتيح له هذا المنصب المشاركة في الأعمال الإدارية والتوجيهية في الأزهر، واستطاع بخبرته أن ينهض بأعباء هذا المنصب الهام، واداء واجبه، كما تولى منصب الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية، وهو منصبٌ علميٌّ خطيرٌ، لأنه هو الهيئة العليا المختصة بتجديد الثقافة الإسلامية، وتجريدها من الفضول والشوائب وآثار التعصب السياسي والمذهبي، كما يشرف المجمع على مؤسساتٍ علميةٍ كثيرةٍ هامةٍ، وقد استطاع الدكتور بيصار في هذا المنصب أن يقوم بنهضةٍ علميةٍ كبرى.
وفي عام 1974م خلا منصب وكيل الأزهر، فكان الدكتور بيصار أول المرشحين لولاية وكالة الأزهر، وتم تعيينه بقرار جمهوري.. والمعروف أن وكيل الأزهر هو المعاون الوحيد لشيخ الأزهر والمتولي تنفيذ قراراته والقائم بأعماله حين غيابه أو مرضه أو استقالته، وقد كان الدكتور بيصار الساعد الأيمن للإمام السابق د. عبدالحليم محمود، وموضع ثقته ويأخذ برأيه، ويثق في علمه وخلقه، ولقد طلب تجديد خدمته أكثر من مرة إلى أن صدر قرارٌ جمهوريٌّ بتعيينه وزيرًا للأوقاف وشئون الأزهر عام 1978.
توليه المشيخة
في 29/1/1979م، صدر قرارٌ جمهوريٌّ بتعيين الدكتور محمد بيصار شيخًا للأزهر، ولما تقلد منصبه الجديد شمَّر عن ساعد الجد، وراح يسلك كلَّ طريقٍ يرى فيه صلاح الأزهر، ورفع مكانته، وقد استهل عمله بعد توليه المشيخة بتأليف لجنةٍ كبرى لدراسة قانون الأزهر ولائحته التنفيذية، ليستطيع الأزهر الانطلاق في أداء رسالته العالمية، وكان من ما امتاز به الإمام بيصار ولعه الشديد بتقديم المعونة لكل محتاج، والسخاء بما يملك من مال وغيره، بجانب جمعه بين الثقافة الإسلامية العميقة، والغربية العصرية في أحدث نهضاتها، وهو يجيد الإنگليزية والفرنسية، وبهذا استطاع أن يجذب إليه القلوب من شتى أجناس أهل الأرض، إضافة إلى أنه إداريٌّ من الطراز الأول، يحترم القوانين ويطبقها تطبيقًا دقيقًا في أناةٍ ويسر، ويراعي العدالة المطلقة في كل تصرفاته، ويدرك بفطنته الحكمة من سنِّ القوانين، وكأنه هو الذي وضعها، وله جلدٌ كبيرٌ على مواصلة العمل، وموالاة البحث والدراسة في صبر وعزم وإخلاص، فتراه باحثًا ومحاضرًا وخطيبًا في وقت واحد، مع طهارة قلبٍ وصفاء نفسٍ وضمير.. وله بديهية حاضرة تسعفه في حل أعقد المشكلات فيدلي فيها بالرأي السديد، دون إرهاق ذهنٍ، كما أعانته خبرته وتجاربه العلمية العديدة على إدارة أدق النوازع في قلوب المحيطين به، ويعاملهم بما يتسق معهم، وما من دعوة لنصرة الإسلام وبيان صحته إلا وأسرع للإسهام فيها بكل ما يملك.
وقد قدر الأزهر والدولة له كل هذه الجهود الشاقة، وتلك المساعي المخلصة فمنح قلادة الجمهورية - وهي من أرفع النياشين المصرية - تقديرًا للأزهر في شخصه، وتقديرًا لشخصه في رعاية الأزهر، ووضعه في المكان اللائق به.
آثاره العلمية وتأثيره
زار الإمام الدكتور محمد بيصار أكثر بلاد الله، وأفاد من كل مكان حل فيه، واستفاد من كل من التقى معه مهما كانت عقديته. وهو متخصص في الفلسفة الإسلامية، وقد درس جوانب هذه الفلسفة دراسةً علميةً دقيقةً، وتعمق في بحوث وجوه الاختلاف والخلاف بين الفلاسفة وعلماء الكلام والفقهاء والصوفية، وسجل هذه البحوث في كتبه ومحاضراته، وخرج من هذه الدراسات بنتائج هامة لخصها في بحثٍ ممتعٍ، ألقاه في المؤتمر الخامس لمجمع البحوث الإسلامية عام 1970م، وكان عنوان البحث "إثبات العقائد الإسلامية بين النصيين والعقليين" وهو بحثٌ جيدٌ وممتعٌ لأهل العقول الواعية.
وقد قضى فضيلة الإمام بيصار حياته معنيًا بالبحوث والدراسة في أدق المعارف الفلسفية والعلمية، وصياغتها في أسلوبٍ واضحٍ دقيقٍ يصل العقول والقلوب معًا، فكان يقوم بإلقاء المحاضرات العامة، وحضور المؤتمرات العلمية والندوات الدينية في أجهزة الإعلام. وقد شارك في منتديات ضخمة تناولت دراساتٍ مختلفةً، في سائر العقائد والديانات، وكان حريصًا على إظهار الإسلام في أجمل وجه.
ولقد أعلن الإمام بيصار بعض آرائه القيمة في كثير من المواقف الهامة التي تشغل العالم الإسلامي، وقد نشرت بعضًا منها مجلة الأزهر في كثير من أعدادها.
وكان الإمام يوصي علماء الأزهر، أن يتزودوا باللغة الأجنبية لا لمجرد التحدث بها أو التخاطب مع الغير، وإنما يساعد على تكوين أجهزة في الأزهر تكون ذات صلة قوية بما ينشر في العالم الإسلامي حول الإسلام لترجمته والرد عليه ونشر ثقافة الأزهر بالخارج.
مؤلفاته
وللإمام مؤلفاتٌ كثيرةٌ نذكر منها:ـ
- الوجود والخلود في فلسفة ابن رشد
- العقيدة والأخلاق في الفلسفة اليونانية
- العالم بين القدم والحدوث
- الواجب والممكن والممتنع
- الإسلام بين العقائد والأديان
- الإسلام والمسيحية
- رجلان في التفكير الإسلامي
وفاته
وبعد الكفاح الطويل والجهود المضنية التي لا تكاد تحصى في خدمة الإسلام والعلم، لبى الإمام بيصار نداء ربه في 28 مارس 1982م.
المصادر
وصلات خارجية
سبقه: عبد الحليم محمود |
شيخ الأزهر 1979 - 1982 |
لحقه: جاد الحق علي جاد الحق |