تاريخ إسپانيا
تاريخ إسپانيا،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ما قبل التاريخ
- مقالة مفصلة: إيبريا ما قبل التاريخ
نجد في شبه الجزيرة الإيبيرية العديد من المواقع الأثرية ذات الشهرة العالمية وتشير الأبحاث إلى حضور الإنسان منذ العصر الحجري القديم الأسفل (مواقع أورثي، بينادو، أريدش، طورألبا، أمبرونة، أتابواركا). خلال العصر الحجري القديم الأعلى ترك السولوتري الإسباني بعض الآثار في كهف باراباليو ويعرض موقع ألتاميرا عينة من الفنون الجدارية التي تعود على 12.000 سنة ق.م.[1]
ظهرت خلال العصر الحجري الحديث ثقافات خاصة تدل عليها الأواني الجرسية الشكل التي عثر عليها قرب المرية (حضارة أرغار). من العصر الحجري الأعلى يمكن ذكر رسوم الكهوف الموجودة في التاميرا، ومن العصر الحجري القديم نستطيع التعرف على رسم كوجول (الرسم التصويري) ومن العصر الحجري الحديث يمكن ملاحظة الأرجار والكاس الذي يشبه شكل الناقوس.
التاريخ القديم
وصل الأيبيريون إلى شبه الجزيرة في نهايات العصر الحجري الحديث وبداية العصر البرونزي (2000-1500 قبل الميلاد) وقد قبعوا في الجنوب والجنوب الشرقي من شبه الجزيرة . وبعد ذلك جاء في أعقابهم جنس آخر يعرف باسم السلتيون الذين احتلوا منطقة الشمال وغرب شبه الجزيرة الأيبيرية. وعندما اتحد الشعبان عرفوا بعد ذلك باسم السلت الأيبيريين. وأيضا وحتى القرن العاشر قبل الميلاد وصلت الشعوب الجرمانية والغالية والفينيقيون وكذلك شعوب الإغريق والقرطاجيين[2].
الإيبيريون، الإيبيريون الكلت، الفينيقيون والإغريق
الإيبيريون هم السكان الأصليون لشبه الجزيرة الإيبيرية التي سميت بإسمهم حسب كثير من المصادر المكتوبة ولا تعرف أصولهم بالتحديد ولكن يغلب الظن على أنهم ليسوا من الشعوب الهندوسية الإيبيرية. هاجر الكلت لاحقا إلى شبه الجزيرة واختلطوا بالسكان الأصليين.
القرطاجيون
بعد الحرب البونيقية الأولى (264 ق.م. 240 ق.م.) وسع القرطاجيون نفوذهم إنطلاقا من قرطاجنة أو قرطاج الجديدة في شبه الجزيرة الإيبيرية وساهم الاستغلال المكتف للمناجم في استرجاع قرطاج لقوتها الإقتصادية و السياسية. وكان سبب اندلاع الحرب البونيقية الثانية حصار الجيش القرطاجي لمدينة ساجونتا التي كانت حليفة لروما.
الرومانيون
- مقالة مفصلة: هيسپانيا
- مقالة مفصلة: الغزو الروماني لهيسپانيا
- مقالة مفصلة: رومنة هيسپانيا
سيطر الرومان على شبه الجزيرة الإيبيرية في القرن الثالث قبل الميلاد و طردوا منها على يد الوندال في القرن الخامس ميلادي. أكمل الإمبراطور أوغست غزو شبه الجزيرة في القرن الأول ق.م وتلت ذلك مرحلة من الإضطرابات والثورات بالتزامن مع محاولات 'رومنة' الإيبيريين والتي اتسمت بالصعوبة و تأخرت نسبيا عن بقية أرجاء الامبراطورية.
هسبانيا Hispania هو الاسم المعطى من قبل الرومان إلى كامل شبه الجزيرة الإيبيرية (الحديثة البرتغال ، واسبانيا ، واندورا ، و جبل طارق و جزء جنوبي صغير جدا من فرنسا).
أعطى الامبراطور فاسباسيان حق المواطنة لكل الايبيريين سنة 74م. واسم أسبانيا في اللغة الأسبانية مشتق من هسبانيا.
أصبحت أسبانيا مقاطعة مهمة في الإمبراطورية الرومانية ، وانتقل الكثير من الرومان للعيش هناك. وبنوا مدنًا في أسبانيا، كما عبَّدوا طُرُقًا ممتازة امتدت إلى كل المناطق. كذلك أنشأوا قنوات ضخمة كانت تحمل الماء من الأنهار إلى المناطق الجافة. وقد وُلِد العديد من أباطرة روما العظام ـ مثل هادريان وتراجان ـ في أسبانيا. كذلك فإن كتابًا بارزين مثل مارشيال وسنيكا انحدروا من أسبانيا.
أدخل الرومان اللغة اللاتينية إلى المقاطعة، وتطورت اللغة الأسبانية تدريجيًا عن اللاتينية التي كانت لغة التخاطب. كذلك أدْخلت النصرانية إلى المقاطعة خلال الحكم الروماني، وأصبحت النصرانية هي الديانة الرسمية للمقاطعة ـ وللإمبراطورية الرومانية ـ خلال أواخر القرن الرابع الميلادي. وفي الوقت نفسه تقريبًا انقسمت الإمبراطورية إلى جزأين: الإمبراطورية الرومانية الشرقية والإمبراطورية الرومانية الغربية. وأصبحت أسبانيا جزءًا من الإمبراطورية الرومانية الغربية[3].
الغزو الألماني لهيسپانيا (القرن 5 و8)
- مقالات مفصلة: مملكة توليدو
- Suebic Kingdom of Galicia
- Spania
ابتدأت الحملات الجرمانية في زعزعة أمن روما خاصة في ما يعرف اليوم بفرنسا قبل أن تمتد في القرن الخامس ميلادي إلى شبه الجزيرة الإيبيرية.
التاريخ الوسيط
القوط الغربيون
القوط الغربيون شعب من الشعوب الجرمانية زحف جنوبا تحت ضغط الشعوب الجرمانية الأخرى. وفي 5 اكتوبر 456، قام القوط الغربيون بقيادة الملك ثيودوريك الثاني، بأمر من الامبراطور الروماني أڤيتوس، بغزو اسبانيا بجيش من البرگنديين والفرنجة والقوط، بقيادة الملوك چيلپريك الأول وگونديوك. فهزموا السوِبي بقيادة الملك رچيار على نهر اوربيكوس بالقرب من أستورگا (گالايسيا).
ثم سيطروا على شبه الجزيرة بعد أن طرد الوندال منها وأقاموا فيها حضارة استمرت حتى القرن السابع الميلادي.
الحكم الإسلامي
- مقالات مفصلة: الفتح الإسلامي
- الفتح الأموي لهيسپانيا
- الأندلس
- الاسترداد
الأندلس هي الدولة التي أسسها المسلمون في شبه جزيرة أيبيريا عام 711م بعد ان استولوا تحت قيادة طارق بن زياد وضموها للخلافة الأموية وأستمر وجود المسلمين بالأندلس حتى سقوط مملكة غرناطة عام 1492.
واصل المسلمون التوسع بعد السيطرة على معظم أبيريا لينتقلوا شمالا عبر جبال البرنييه حتى وصلوا وسط فرنسا وغرب سويسرا. هـُزم الجيش الإسلامي في معركة بلاط الشهداء (تورز) عام 732 أمام قائد الفرنجة شارل مارتل.أرسل القائد موسى بن نصير إلى إبنه عبد العزيز ليستكمل الغزوات في غرب الأندلس حتى وصل إلى لشبونة أما موسى بن نصير و طارق بن زياد فقد لإتجاها شمالا إلى برشلونه م سراقسطه ثم شمال تجاه الوسط والغرب حتى انتهت السيطرة على كل الأندلس في 3 سنين ونصف.
الإسترداد
كانت سنة احتلال العرب لمنطقة البروفانس الفرنسية قد أعقبت الاحتلال والتدمير النرويجي للمنطقة من ابادة وسلب ونهب، ليستغل دوق "ليون" تلك الفوضى، وبدعم من رجال الدين، فيؤسس مملكته الخاصة مملكة ليون في البروفانس عام 879م وعندما مات سنة 887م كان وريثه صغيرا غير قادر على الحكم، مما جعل بقية الأمراء المحليين ينتهزون الفرصة لتأكيد استقلالهم في الحكم، مما جعل لإمبراطورية الكارولنجية في فرنسا تنقسم إلى مملكتين شرقية وغربية[4].
بدات حركة الاسترداد في 718 يرى المؤرخون الإسبان أن هذه الحركة تبدأ من معركة كوفا دونجا أو مغارة دونجا وفيها انهزم ابن علقمي اللخمي شر هزيمة من قوات "بلايه" (Pelayo)، وانتهت بتأسيس أولى الإمارات المسيحية في شمال الأندلس[5].
جمع عبد الرحمن الغافقي المجاهدين وخرج باحتفال مهيب ليعبر جبال البرانس واتجه شرقاً ليضلل النصارى عن وجهته الحقيقية، فأخضع مدينة "أرل" التي خرجت عن طاعة المسلمين، ثم اتجه إلى "دوقية"، فانتصر على الدوق انتصاراً حاسماً، ومضى الغافقي في طريقه متتبعاً مجرى نهر "الجارون" ففتح "بردال" واندفع شمالاً ووصل إلى مدينة "بواتييه" في بداية غزو جنوب فرنسا. دققت بهاأودو العظيم في معركة تولوز في 721 تراجعت وتجميعهم ، تلقى التعزيزات. ولم يجد الدوق "أودو" بدا من الاستنجاد بالدولة الميروفنجية، وكانت أمورها في يد شارل مارتل، بعد الغزو كان شارل مارتل هزم في معركة جولات في 732 معركة بواتييه وقعت 10 أكتوبر عام 732 م بين قوات المسلمين بقيادة عبد الرحمن الغافقي وقوات الإفرنج بقيادة قارلة (أو تشارلز/ كارل مارتل). هُزم المسلمون في هذه المعركة وقتل قائدهم وأوقفت هذه الهزيمة الزحف الإسلامي تجاه قلب أوروبا وحفظت المسيحية كديانة سائدة فيها.
كان شمال شبه الجزيرة الايبيريه به ثلاثة ممالك مسيحية وهم أرجون ونافار وليون وكانت أكبرها هي ليون وكانت هذه الممالك تجترئ على الحدود الشمالية الأندلسية وتهجم عليها واحتلت بعض المدن الإسلامية مثل مدينة سالم[6] .
في عام 1095 كانت البرتغال إقطاعية حدودية من مملكة ليون. أراضيها البعيدة عن مراكز الحضارة الأوروبية، والتي تتضمن بشكل كبير الجبال والأراضي البرية والغابات، جاورت من الشمال مينهو، ومن الجنوب مونديجو.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
اسبانيا 1096 - 1285
سار المسيحيون في فتح أسبانيا بالسرعة التي أمكنتهم منها الفوضى الناشئة من تطاحن الملوك الأسبان، ومنح البابوات من عانوا على إخراج المسلمين من أسبانيا لقب المحاربين الصليبيين وامتيازاتهم؛ وأقبل بعض فرسان المعبد من فرنسا للانضمام إلى أهل البلاد المسيحيين؛ وتكونت في القرن الثاني عشر ثلاث جماعات دينية حربية- فرسان كلاترافا Calarrava، وفرسان سنتياجو، وفرسان القنطرة؛ واستولى ألفنسو الأول (الأذفنش) في عام 1118 ملك أرغونة على مدينة سرقسطة؛ وفي عام 1195 هزم المسيحيون، ولكنهم كادوا يبيدون جيش الموحدين الأكبر في واقعة العقاب Las Navkas de Tolosa في عام 1212. وكان نصرهم في هذه الواقعة نصراً حاسماً، تحطمت على أثره مقاومة المسلمين وسقطت قلاعهم واحدة بعد واحدة في أيدي المسيحيين: قرطبة (1236)، وبلنسية (1238)، وإشبيلية (1248)، وقادس (1250)، ثم وقف فتح المسيحيين نحو قرنين ليفسح الوقت إلى حروب الملوك.
ولما هزم ألفنسو (الأذفنش) الثامن ملك قشتالة هجم على مملكته ملكاً ليون ونبرة وكانا قد وعداه من قبل بأن يخفا لمساعدته، واضطر ألفنسو إلى عقد الصلح مع المسلمين ليحمي نفسه من غدر المسيحيين (87) فرنندو الثالث Fernando III (1217-1252) توحيد ليون Leon وقشتالة، ووسع حدود المملكة الكاثوليكية إلى غرناطة، واتخذ إشبيلية عاصمة لملكه، وحول مسجدها العظيم إلى كنيسة، واتخذ القصر Alcazar مسكناً له، وكانت الكنيسة تعده وقت مولده ابناً غير شرعي، ولكنه عدته قديساً بعد وفاته. وكان ابنه ألفنسو (الأذفنش) العاشر (1252-1284) عالماً ممتازاً، ضعيف العزيمة؛ وأعجب الأذفنش الحكيم (el Sabio) بما وجده في إشبيلية من علوم المسلمين، فتحدى المتعصبين من أهل ملته باستخدام العلماء من العرب واليهود والمسيحيين على السواء لترجمة كتب المسلمين إلى اللغة اللاتينية كي تستطيع أوربا أن تفيد من هذه العلوم. وقد أنشأ هذا الملك مدرسة لعلم الهيئة هي صاحبة "الأزياج الأذفنشية" الخاصة بالأجرام السماوية وحركاتها التي أضحت المرجع الذي يعتمد عليه علماء الهيئة المسيحيون. ونظم هذا الملك هيئة من المؤرخين، وضعت كتاباً سمته باسمه جمعت فيه تاريخ أسبانيا، وتاريخاً عاماً واسعاً للعالم كله، ونظم نحو 450 قصيدة، بعضها بلغة قشتالة، وبعضها باللغة الجليقية- البرتغالية؛ ولُحن الكثير منها، ولا تزال هذه القصائد باقية حتى اليوم، أثراً خالداً لأغلبية العصور الوسطى. وفاضت حماسته الأدبية في عدة كتب ألفها هو أو أمر بتأليفها، في ألعاب الدراما، والشطرنج، والنرد، والموسيقى، والملاحة، والكيمياء، والفلسفة. ولعله أيضاً قد أمر بترجمة الكتاب المقدس من اللغة العبرية إلى القشتالية مباشرة. وقد رفع اللغة القشتالية إلى المرتبة العليا التي أمكنتها من أن تسيطر من ذلك الوقت إلى يومنا هذا على الحياة الأدبية في أسبانيا؛ ولقد كان هو في واقع المر منشئ الأدب الأسباني والبرتغالي، وعلم التاريخ الأسباني، والمصطلحات العلمية الأسبانية. ولكنه لوث تاريخه الوضاء بما حاكه من الدسائس للاستيلاء على عرش الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وأنفق في هذه المحاولة كثيراً من أموال أسبانيا، وعمل على ملء خزائنه بزيادة الضرائب وتخفيض قيمة النقد، ثم خلع ورفع ابنه إلى العرش، وعاش بعد سقوطه عامين، ثم مات محطماً كسير القلب.
وارتفع شأن أرغونة بزواج ملكتها بيرونلا Petronella من الكونت رامون برنجر Ramon Barenger صاحب برشلونة (1137)؛ وحصلت أرغونة بفضل هذا الزواج على قطلونية المشتملة على أعظم الثغور الأسبانية. وعم الرخاء هذه المملكة الجديدة على يد بدرو الثاني Pedri II (1196-1213)، بتأمين المواني، والأسواق، والطرق، وبصرامته في تنفيذ القانون على من يعبث بهذه المرافق، وجعل بلاطه في برشلونة مركز الفروسية والأسبانية والشعراء الغزليين، وزاد من بهجته أن كان ملتقى المحبين، ثم تقرب إلى الله- وضمن لنفسه لقبه- بأن قدم أرغونة إلى إنوسنت الثالث على أن يأخذها منه إقطاعية. وكان ابنه جيم Jaime أوجيمس James الأول (1213-1276) في الخامسة من عمره حين قتلى بدرو في ميدان القتال؛ واغتنم أشراف أرغونة هذه الفرصة السانحة ليستعيدوا استقلالهم الإقطاعي؛ ولكن جيمس تولى زمام الأمور وهو في العاشرة، وسرعان ما أخضع الأشراف لسلطان الملك. وكان لا يزال شاباً في سن العشرين حين استولى على جزائر البليار ذات الموقع الحربي المنيع من المسلمين (1229-1235)، واسترد منهم بلنسية وأليقانط. وقام في عام 1265 بحركة من محركات الفروسية التي هيأتها له الوحدة الأسبانية، فاستولى على مرسيه من المسلمين وأهداها إلى ملك قشتالة. وكان أكثر حكمة من الفنسو الحكيم، حتى أصبح بفضل هذه الحكمة أقوى ملوك أسبانيا في ذلك القرن، لا يقل في ذلك عن فردريك الثاني و لويس التاسع فقد كان يشبه أولهما في ذكائه ودهائه، وبسالته المجردة من الضمير. لكن تحلله من قيود الأخلاق. وكثرة طلاقه نساءه، وحروبه العوان، وما كان يلجأ إليه من الأعمال الوحشية في بعض الأحيان تجعل الفرق بينه وبين القديس لويس كبيراً من هذه الناحية.
وقد دبر المؤامرات للاستيلاء على الجزء الجنوبي الغربي من فرنسا، ولكن لويس استطاع أن يتغلب عليه بقوة صبره وإن كان قد نزل له عن منبلييه. ودبر في أخريات أيامه مؤامرة أخرى للاستيلاء على صقلية ليتخذها قاعدة حربية، ومركزاً تجارياً، وليجعل البحر المتوسط الغربي بحيرة أسبانية. ولكن هذا الحلم لم يتحقق إلا في عهد ولده. ذلك أن بدرو الثالث (1276-1285)، تزوج ابنة مانفرد ملك صقلية ابن فردريك، وظن أن هذه الجزيرة من حقه هو حين استولى عليها شارل كونت أنجو؛ وبارك البابا استيلاءه عليها، فما كان من بدرو إلا أن ألغي سيادة البابا على أرغونة، وارتضى الحرمان البابوي، وركب البحر إلى صقلية.
وشهدت هذه الفترة في أسبانيا ما شهدته في إنجلترا وفرنسا من قيام الإقطاع واضمحلاله. بدأه الأشراف بأن تجاهلوا أو كادوا يتجاهلون السلطة المركزية، فقد كانوا هم ورجال الدين معفين من الضرائب التي كان عبؤها الباهظ واقعاً على عاتق المدن والتجارة، ثم انتهوا بأن خضعوا للملوك المسلحين بجيوشهم هم، تؤيدهم موارد المدن وحاجياتهم، ويعلى من مكانتهم إحياؤهم القانوني الروماني، الذي كان يفترض أن الحكم الملكي المطلق من بدائه نظام الحكم. ولم يكن ثمة قانون أسباني في بداية تلك الفترة، بل كانت هناك قوانين متفرقة لكل دولة من دول أسبانيا، ولكل طبقة من طبقات كل دولة. ثم شرع فردريك الثالث يضع نظاماً جديداً لقانون قشتالة، وأتم ألفنسو العاشر هذا النظام الذي عرف باسم قانون السبعة الأقسام (Siete Partidas) لأنه كان مقسماً سبعة أقسام (1260-1265)، وهو من أتم القوانين وأعظمها شأناً في تاريخ التشريع. وقد أسس قانون السبعة الأقسام على قوانين القوط الغربيين الأسبان ولكنه عدل لكي يتفق مع قوانين جستنيان، وكان أرقى من العصر الذي وضع فيه، ولهذا ظل مهملاً إلى حد كبير؛ ولكنه أصبح في عام 1338 قانون قشتالة النافذ، ثم صار في عام 1492 قانون أسبانيا كلها. ثم أدخل جيمس الأول قانوناً مثله في أرغونة، فقد نشرت أرغونة في عام 1283 قانوناً تجارياً وبحرياً نافذاً، وأقامت في بلنسية ثم في برشلونة وميورقة بعدئذ محاكم تدعى محاكم "قنصلية البحر".
وتزعمت أسبانيا بلاد العالم في العصور الوسطى في إقامة المدن الحرة والأنظمة النيابية. ذلك أن الملوك أرادوا أن يحصلوا على تأييد المدن في صراعهم مع الأشراف، فمنحوا كثيراً من البلدان عهوداً بالحكم الذاتي. وأصبح استقلال المدن بشئونها شهوة جامحة في أسبانيا كلها، فأخذت البلدان الصغرى تطالب بتحررها من البلدان الكبرى أو من الأشراف أو الكنيسة، أو الملك؛ فلما أفلحت في نيل هذه الحرية أقامت مشانقها في السوق العامة رمزاً لحريتها. وكان يحكم برشلونة في عام 1258 مجلس مؤلف من مائتي عضو، تمثل كثرتهم الغالبة شئون الصناعة والتجارة(88). وبلغت سيادة المدن زمناً ما حد الاستقلال، وأخذت تشن الحرب على المسلمين أو بعضها على بعض، ولكنها بالإضافة إلى هذا الاستقلال ألفت من نفسها أخوة hermandades للتعاون على العمل أو للمحافظة إلى هذا أمنها وسلامتها. ولما أن حاول الأشراف في عام 1295 أن يخضعوا حكومات المدن المحلية ألفت ثلاث وأربعون مدينة "أخوة قشتالة"، وتعهدت كلها بالاشتراك في الدفاع عن استقلالها، وأنشأت لها جيشاً مشتركاً. ولما أن هزمت هذه "الأخوة" الأشراف، فرضت رقابتها على موظفي الملك وكبحت جماحهم، وسنت قوانين تراعيها المدن المنضمة إلى هذا الحلف التي بلغ عددها مائة مدينة في بعض الأحيان.
ولقد جرت عادة الملوك الأسبان من زمن بعيد أن يعقدوا من حين إلى حين جمعية من الأشراف ورجال الدين؛ وأطلق اسم كورتز Cortes أي المحاكم لأول مرة على إحدى هذه الجمعيات التي عقدت في عام 1137. وضم كورتز ليون الذي اجتمع في عام 1188 بعض رجال الأعمال يمثلون المدن. وأكبر الظن أن هذا هو أقدم مثل من أمثلة النظم النيابية السياسية في أوربا المسيحية. ووعد الملك في هذا المجلس التاريخي ألا يعلن الحرب أو يعقد الصلح، أو يصدر قراراً إلا بعد موافقة الكورتز(89). واجتمع في قشتالة أول مجلس من هذا النوع مؤلف من الأعيان، ورجال الدين، ورجال المال من الطبقة الوسطى في عام 1250 أي قبل اجتماع "برلمان" إدورد الأول "النموذجي" بخمس وأربعين سنة. ولم يكن الكورتز هو الذي يضع القوانين بنفسه، ولكنه كان يصوغ "المستمسكات" ويعرضها على الملك، وكثيراً ما كان لهذا المجلس سلطان على المال يحمل الملك على أن يوافق على هذه "المستمسكات". وأصدر كورتز قطلونية في عام 1283 قراراً صادق عليه ملك أرغونة بألا يصدر بعد ذلك الوقت أي تشريع قومي بغير رضاء المواطنين (cives)، ثم صدر قرار آخر يطلب إلى الملك أن يدعو الكورتز إلى الاجتماع كل عام، وسبقت هذين القرارين مثلهما من القرارات التي أصدرها البرلمان الإنجليزي (1311-1322) بأكثر من ربع قرن من الزمان. هذا إلى أن الكورتز عين أعضاء يختارهم من كل طبقة من الطبقات الاجتماعية يؤلفون جنتا (Junta) أي اتحاداً ليشرف في أثناء الفترات التي تقع بين أدوارد انعقاد الكورتز على تنفيذ القوانين وإنفاق الأموال التي وافق عليها (90).
وكان من العوامل التي عقدت مشكلة الحكم في أسبانيا قيام الجبال التي قسمتها أقساماً منفصلة، وعرقلت تنفيذ قانون عام موحد في جميع ربوعها. يضاف إلى هذا أن عدم استواء أرضها، وجفاف هضبتها، وما كان يحل بها من الدمار حيناً بعد حين بسبب الحروب، كل هذا قد عطل الزراعة، وجعل أسبانيا في معظم أجزائها مراعي للماشية والضأن. وكانت قطعان الضأن الجميلة الصوف تغذى آلاف الأنواع في البلدان؛ ولقد حافظت أسبانيا على شهرتها العالمية القديمة بجمال أصوافها. وكانت التجارة الداخلية تقف في سبيلها صعاب النقل، واختلاف الموازين والمقاييس والنقد، غير أن التجارة الخارجية تمت في موانئ برشلونة، وطرقونة، وبلنسية، وإشبيلة، وقادس؛ وكان تجار قطلونية يجوبون جميع الأقطار؛ وكان لتجار قشتالة في عام 1282 مركز في بروج لا يضارعه إلا مركز العصبة الهانسية(91). وأصبح التجار والصناع أعظم من يمدون التاج بالمعونة المالية، ونظم صعاليك المدن لهم نقابات طوائف Gremios، ولكن الملوك كانوا يسيطرون سيطرة قوية على هذه النقابات، وكانت الطبقات العامة تعاني مساوئ الاستغلال الاقتصادي دون أن تستمتع بحق التمثيل النيابي السياسي.
وكانت كثرة الصناع إما من اليهود أو المسلمين المقيمين في أسبانيا المسيحية. فأما اليهود فقد أثروا في أرغونة، وقشتالة؛ وأسهموا بحظ موفور في حياة المملكتين العقلية؛ وكان عدد كبير منهم تجاراً أغنياء، ولكن قيوداً متزايدة في شدتها فرضت عليهم في نهاية هذه الفترة. وأما المسلمون المقيمون في أسبانيا المسيحية فقد ترك لهم حرية ممارسة شعائرهم الدينية، وقسط كبير من الاستقلال بحكم أنفسهم؛ وكان منهم أيضاً تجار أغنياء، ودخل عدد قليل منهم في بلاط الملوك، كما كان لأرباب الحرف منهم أثر قوي في العمارة الأسبانية، وأعمال التجارة الدقيقة، وأشغال المعادن، ونتج من أثرهم هذا طراز أسباني إسلامي أدى إلى استخدام الموضوعات والأشكال الإسلامية في الفن المسيحي. وقد سمي ألفنسو السادس نفسه في إحدى نشواته الدينية "إمبراطور العقيدتين Emperador de Ios Dos Cultos"(92). ولكن المسلمين في أسبانيا المسيحية كانوا يرغمون في العادة على لبس زي خاص، وعلى أن تكون منازلهم في كل مدينة في حي منعزل عن سائر أحيائها، وكانت تفرض عليهم ضريبة فادحة أكثر مما تفرض على غيرهم؛ وأخيراً أشعلت الثروة التي جمعوها بفضل مهارتهم في الأعمال الصناعية والتجارية نار الحسد في قلوب الأغلبية المسيحية؛ فأصدر جيمس الأول عام 1247 أمراً بطردهم من أرغونة، فغادرها أكثر من مائة ألف يحملون معهم حذقهم الفني، وتدهورت الصناعة في أرغونة من ذلك الحين.
وبعث امتزاج الحضارة الأسبانية بجزء غير قليل من الثقافة الإسلامية، والقوة الناشئة من الانتصار على عدو قديم، وتقدم الصناعة وازدياد الثروة، وارتقاء العادات والأذواق، بعث هذا كله في الحياة العقلية بأسبانيا نشاطاً عظيماً؛ فشهد القرن الثالث عشر نشأة ست جامعات في أسبانيا، وكان ألفنسو الثاني ملك أرغونة (1162-1196) أول الشعراء الغزلين الأسبان، وسرعان ما أصبح هؤلاء الشعراء يعدون بالمئات؛ ولم يكن هؤلاء يقرضون الشعر فحسب، بل صاغوا من احتفالات الكنيسة مسرحيات زمنية، ومهدوا بذلك السبيل إلى روائع لوبي ده فيجا Lope de Veag وكلدرون Calderon. وكان من روائع ذلك العصر أيضاً ملحمة السيد Cid ملحمة أسبانيا القومية. وكان خيراً من هذا كله فنون الموسيقى، والغناء، والرقص التي كانت تفيض من قلوب الشعب في المنازل والشوارع، والتي كانت مصدر العظمة والفخامة في قصور الملوك. وكانت أول مصارعة للثيران على الطراز الحديث سجلت في تاريخ أسبانيا هي المصارعة التي أقيمت في أبيلا عام 1107 في حفلة عرش؛ وقبل أن يحل عام 1300 كانت تلك المصارعة من الألعاب العامة في المدن الأسبانية. وجاء الفرسان الفرنسيون الذين أقبلوا على أسبانيا ليساعدوا أهلها في حروبهم مع المسلمين، جاءوا معهم في الوقت عينه بمبادئ الفروسية واحتفالاتها، فأصبح احترام النساء، أو احترام ملكية الرجل دون غيره لامرأة بعينها من مسائل الشرف لا تقل في هذا عن افتخار الرجل بشجاعته أو استقامته، وأضحت المبارزة للاحتفاظ بالشرف عاملاً أساسياً في الحياة الأسبانية. وكان امتزاج الدم الأوربي بالدم الأفريقي والسامي، والثقافة الغربية بالثقافة الشرقية، والأساليب السورية والفارسية بأصول الفن القوطي، والخشونة الرومانية بالعواطف الشرقية؛ كان هذا الامتزاج هو الذي تولد منه الخلق الأسباني، والذي جعل الحضارة الأسبانية في القرن الثالث عشر عنصراً فذاً بارزاً في موكب الحياة الأوربية.
المسلمون
انكفأ المسلمون في الأندلس التي كانت تشمل معظم أجزاء إسبانيا باستثناء بعض المناطق الشمالية الغربية مثل منطقة جليقية أو غاليسيا ، فإن المسلمين لم يفرضوا سلطانهم تماماً على هذه النواحي لوعورة مسالكها وبرودة مناخها، فأهملوا جانبها زهداً فيها واستهانة بشأنها. ولهذا استطاعت بعض فلول الجيش القوطي المنهزم بزعامة قائد منهم يدعى بلاي أن تعتصم بالجبال الشمالية في هذه المنطقة ، وعاشوا على عسل النحل الذي وجدوه في خروق الصخر . ولما أعيى المسلمين أمرهم ، تركوهم وانصرفوا عنهم استخفافاًً بشأنهم وقالوا : ثلاثون علجاً ما عسى أن يجيء منهم ؟.
من هذه المناطق نبتت نواة دولة إسبانيا المسيحية، ونبتت معها حركة المقاومة الإسبانية التي أخذت تنمو وتتسع حتى سيطرت على جميع المناطق الشمالية الغربية التي أصبحت تعرف بمملكة ليون . ولقد أحاطت هذه المملكة نفسها بسلسلة من القلاع والحصون لحماية نفسها من هجمات المسلمين . ولم تلبث هذه القلاع أن اتحدت في القرن العاشر الميلادي بزعامة أقوى أمرائها ويدعى فرنان جون زالس ، واستقلت عن مملكة ليون وصارت تعرف بإمارة قشتالة . وكانت الكنيسة الكاثوليكية في روما تحرّض الأسبان بشكل مستمر على صدّ المسلمين وقتالهم ، ودعت هذه الكنيسة ملوك أوروبا إلى مساعـدة الأسبان ضد العـرب والمسلميـن[7]
مملكة اسبانيا
- مقالة مفصلة: الإمبراطورية الإسپانية
اندمج تاج أراغون مع تاج كاستيا لتتكون مملكة اسبانيا ،اصبحت مملكة فالنسيا عضوا في الملكيه الاسبانيه. اتحدت مملكة كاستيا و مملكة ليون مع مملكة أراجون و استطاع الملك فيرنانديو و الملكة إيزابيلا ، الاستيلاء على الممالك العربية في الاندلس الواحدة تلو الأخرى إلى أن سقطت في أيديهم غرناطة آخر قواعد المسلمين سنة 1492 .
ضمنت ايزابيلا الاستقرار السياسي طويلة الاجل في اسبانيا عن طريق ترتيب الزيجات الاستراتيجيه لكل من اطفالها الخمسة. أول ، بنت اسمها ايزابيلا ، تزوجت من ملك البرتغال الفونسو ، من المهم اقامة علاقات بين هذين دول الجوار و لضمان مستقبل التحالف ، ولكن سرعان ما ماتت ايزابيلا قبل ولادة ولي العهد البرتغال . Juana ، ابنة ايزابيلا الثانيه خوانا ، تزوجت من فيليب الوسيم ، ، ملك بوهيميا (النمسا) والمعنون إلى التاج من الامبراطور الروماني المقدس وقد كفل هذا التحالف مع الامبراطوريه الرومانيه المقدسة الاقليم القوي ، بعيدة المدى الذي أكد اسبانيا مستقبل الأمن السياسي. ، تزوج ابن ايزابيلا الاول والوحيد ، خوان من مارغريت النمسا ، والحفاظ على علاقات مع عائلة هابسبورغ النمساوية ، وعلى اسبانيا التي كانت تعتمد إلى حد بعيد. تزوجت ماريا الطفل الرابع لها من مانويل الأول من البرتغال ، وتعزيز الصلة التي اقامها زواج الاخت الأكبر سنا . الطفل الخامس، كاترين ، تزوجت عام 1501م من آرثر، الأخ الأكبر للملك هنري الثامن، إلا انها ترملت بعد ستة أشهر فقط، فتم تزويجها من هنري الثامن عام 1509م. أنجبت خمسة أطفال، توفوا كلهم أثناء الولادة عدا الطفلة ماري (والتي أصبحت الملكة ماري الأولى).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الإمبراطورية الاستعمارية
عندما ارتقى «فيليب الثاني» عرش إسبانيا، كانت أقوى دولة في العالم، وبخاصة ممتلكاتها العينية والمالية.بلغ عدد سكان إسبانيا أواخر القرن الخامس عشر حوالي تسعة ملايين نسمة بما فيهم العبيد والمغاربة.. و كانت إسبانيا بلد التزمت الديني في تلك الحقبة. ولكن إسبانيا لم تكن لتخلوا من توترات داخلية تدفع بإسبانيا إلى هاوية الفقر. وكان أحد الأسباب في ذلك طرد اليهود عام /1492م/ ثم المغاربة عام /1609م/ مما أفقر إسبانيا من الخبرة التجارية واليد العاملة. ثم يضاف توسع إسبانيا عسكرياً مما كلفها الكثير من قوتها المادية وبخاصة ما رافق هذا التوسع من حروب[8].
الملوك الاسبان تحت هابسبورگ (القرنين 16- 17)
ثورة العامة 1520-1522
- مقالة مفصلة: ثورة العامة
كانت نعمة مشكوكاً فيها لإسبانيا أن يصبح الملك شارل الأول (1516-56) الإمبراطور شارل الخامس (1519-58). وولد وتربى في الفلاندرز: وتعلم مناهج الحياة الفلمنكية، واكتسب الأذواق الفلمنكية، إلى أن تغلبت عليه روح إسبانيا في سنواته. ولم يكن في وسع الملك إلا أن يصبح جزءاً صغيراً من الإمبراطور، الذي كان مشغولاً تماماً بالإصلاح الديني والبابوية وسليمان وبارباروسا وفرانسيس الأول، وشكا الإسبان أنه لم يمنحهم إلا القليل من وقته، وأنه أنفق الكثير من مواردهم البشرية والمادية في المحلات التي كانت في الظاهر لا تهم المصالح الأسبانيّة، وكيف كان في وسع إمبراطور أن يتعاطف مع نظم جماعية جعلت إسبانيا تتمتع بنصف ديمقراطية، قبل مجيء فرديناند الكاثوليكي، وكانت تتوق كثيراً إلى أن تستعيدها؟.
وقام بأول زيارة لمملكته (1517) ولم تكسبه حب أحد، وعلى الرغم من مضي عشرين شهراً عليه وهو ملك، فإنه كان لا يزال لا يعرف الإسبانيّة وكان عزله الفظ لأكسيمينس صدمة للدماثة الإسبانية. وجاء يحيط فلمنكيون، ظنوا إسبانيا بلداً همجياً تنتظر مَن يحلبها. وعين الملك البالغ من العمر سبعة عشر عاماً هذه الديدان الطبية في أعلى المناصب، ولم تخفِ المجالس التشريعية الإقليمية المختلفة التي يسيطر عليها صغار النبلاء، نفورها وعدم رضاها عن ملك أجنبي. ورفض المجلس التشريعي في قشتالة أن يعترف له باللقب، ثم اعترف به على كره منه حاكماً، تشترك معه في الحكم أمه المعتوهة جوانا، وجعله يفهم أنه لابد من أن يتعلم الإسبانيّة، ويعيش في إسبانيا، وألا يعين مزيداً من الأجانب في أي منصب. وقدمت المجالس التشريعية طلبات مماثلة. ووسط مظاهر الإذلال التي تعرض لها شارل تلقى أنباء بأنه انتخب إمبراطوراً، وأن ألمانيا كانت تدعوه للحضور لكي يتوج. وعندما سأل المجلس التشريعي في بلد الوليد (وكانت وقتذاك العاصمة) أن يمول الرحلة مني بالفشل والخيبة، وساد هرج هدد حياته. وحصل آخر الأمر على المال من المجلس التشريعي في كورونا وأسرع إلى الفلاندرز. ولكي يجعل الأمور محفوفة بالمخاطر أضعافاً مضاعفة أرسل نواباً corregidores لحماية مصالحه في المُدن، وترك مربيه السابق أدريان كاردينال أترخت نائباً له في إسبانيا. وثارت البلديات الإسبانيّة واحدة وراء الأخرى في "ثورة أعضاء الكومون" ونفوا النواب corregidores وقتلوا بعض النواب الذين صوتوا بالموافقة على منح أموال لشارل، وتحالفوا فيما يعرف باسم Santa Communidad الذي تعهد بالإشراف على الملك. وانضم النبلاء ورجال الكنيسة وأوساط الناس إلى الحركة ونظموا في أفيلا (أغسطس سنة 1520) الـ Santa Iunta أو الاتحاد المقدس ليكون بمثابة حكومة مركزية. وطالبوا بضرورة اشتراك المجالس التشريعية مع المجالس الملكية في اختيار نائب الملك، وعدم شنَّ حرب بغير موافقة المجالس التشريعية، وألا يحكم المدينة النواب بل يحكمها قضاة، أو عمد يختارهم المواطنون(29). ودافع أنطونيو دي أكونيا أسقف سمورة علناً عن قيام جمهورية، وحول أتباعه من رجال الأكليروس إلى محاربين ثوريين، وقدم موارد أسقفية للثورة. وعين جوان دي باديلا، وهو نبيل من طليطلة، قائداً لقوات الثوار. فقادها لتستولي على نورديسيلاس، وأخذ جوانا لالوكا رهينة، وحثها على أن توقع وثيقة، تخلع فيها شارل، وتعين نفسها ملكة، وكانت عاقلة في جنونها، فرفضت.
ولم يكن لدى أدريان ما يكفي من الجند لقمع الثورة، فاستغاث بشارل وطلب منه العودة، وألقى تبعة قيام الثورة صراحة على تحكم الملك وحكمه الغيابي. ولم يحضر شارل، ولكنه وجد هو أو مستشاروه سبيلاً لإشاعة الانقسام والانتصار. فقد حذر النبلاء أن الثورة كانت تهديداً لطبقات أصحاب الأملاك وللتاج على السواء، والحق أن الطبقات العاملة، التي ظلمت منذ عهد بعيد بالأجور الثابتة، والعمل سخرة، وتحريم الاتحاد، كانت قد استولت من قبل على السلطة في عدة مُدن. وفي بلنسية والمنطقة المجاورة لها قبض الجرمانيا Germania أو اخوة أبناء الطوائف الحرفية على الزمام، وسيطروا على لجان العمال. وكانت هذه الدكتاتورية البروليتارية نقية على غير العادة، وفرضت على آلاف المغاربة الذين ظلوا في المقاطعة أن يختاروا بين التعميد والموت. وقتل آلاف من الذين رفضوا في عناد(30). وثار العامة في ماجوركا، الذين عاملهم سادتهم كالعبيد، ثورة مسلحة، وخلعوا الحاكم المعين من قبل الملك، وذبحوا كل نبيل لم يستطع أن يفلت منهم. وتخلت كثير من المُدن عن روابطها مع الإقطاعيين ومستحقاتها لهم، وفي مدريد وسجونزا ووادي الحجارة أقصت الحكومة البلدية الجديدة كل النبلاء والأعيان من المناصب، وقتل الأشراف هنا وهناك، وفرض الاتحاد Iunta ضرائب على أملاك النبلاء السابق إعفاؤها. وأصبح النهب عاماً، وأحرق العامة قصور النبلاء وذبح النبلاء العامة. وانتشر الصراع بين الطبقات في أرجاء إسبانيا.
وقضت الثورة على نفسها بالتوسع في أهدافها، توسعاً جاوز حدود طاقاتها، وانقلب عليها النبلاء، وحشدوا قواتهم، وتعاونوا مع قوات الملك، واستولوا على بلنسية، وأطاحوا بالحكومة البروليتارية، بعد أيام سقط فيها قتلى من الجانبين (1521)، وانقسم جيش الثوار، عندما بلغت الأزمة ذروتها، إلى فرقتين متنافستين بقيادة باديلا ودون بدرو جيرون، وانقسمت الجماعة السياسية إلى أحزاب، يناصب بعضها بعضاً العداء، وواصلت كل مقاطعة ثورتها، دون تآزر مع باقي المقاطعات.
وانطلق جيرون، وانضم إلى الملكيين الذين استولوا من جديد على تورديسلاس وجوانا. أما جيش باديلا الذي تضاءل عدد جنوده فقد هزم هزيمة منكرة في فيلالار، وأعدم باديلا. وعندما عاد شارل إلى إسبانيا (يوليو سنة 1522) ومعه 4.000 جندي ألماني، كان النبلاء قد فازوا بالنصر، وقد أضعف النبلاء والعامة بعضهم بعضاً إلى حد أنه استطاع أن يتغلب على البلديات والطوائف الحرفية، ويروض المجالس التشريعية، ويوطد أركان ملكية تكاد تكون مطلقة. وقد قمعت الحركة الديمقراطية تماماً بحيث ظل كل العامة الأسبان خائفين خاضعين، حتى القرن التاسع عشر. وخفف شارل سلطته بالدماثة، وأحاط نفسه بالنبلاء، وتعلم الحديث بلغة إسبانية سليمة، وسرت إسبانيا عندما علق قائلاً إن الإيطالية هي اللغة اللائقة لكي تتحدث بها النساء، والألمانية هي لغة الأعداء، والفرنسية لغة الأصدقاء، والإسبانية لغة الرب(31).
البروتستانت الإسبان
لم تكن هنا إلا قوة واحدة تستطيع أن تتحدى شارل - هي الكنيسة - وكان نصيراً للكاثوليكية، ولكنه مناهض للبابوية. وسعى، مثل فرديناند الكاثوليكي، إلى جعل الكنيسة الإسبانيّة مستقلة عن البابوات ونجح في هذا إلى حد أن التعيينات في مناصب الكنيسة ودخول الكنيسة إبان حكمه كانت في يديه، واستخدمت لرفع شأن السياسة الحكومية: ولم تكن هناك حاجة للإصلاح الديني في إسبانيا، كما هو الحال في فرنسا، لكي تتبع الكنيسة الدولة. ومع ذلك فإن الحماسة للعقيدة المحافظة الإسبانيّة، إبان نصف مدة حكمه، التي قضاها في مملكته، استحثته إلى حد أنه في سنواته الأخيرة لم يكن هناك أمر (باستثناء قوة آل هايسبرج) يهمه أكثر من قمع الهرطقة.
وبينما حاول البابوات أن يخففوا من وطأة محكمة التفتيش فإن شارل أيدها حتى وفاته. وكان مقتنعاً بالهرطقة في الأراضي المنخفضة كانت تؤدي بها إلى الفوضى والحرب الأهلية، وصمم أن يمنع حدوث مثل هذا التطور في إسبانيا.
وأخمدت محكمة التفتيش الإسبانيّة سورة غضبها، ولكنها مدت رقعة اختصاصها القضائي في عهد شارل. فاضطلعت بعبء الرقابة على المصنفات، وقامت بتفتيش كل مخزن للكتب، وأمرت بإحراق الكتب الموصومة بالهرطقة(32). واستقصت حالات الانحراف الجنسي وعاقبت عليها: ووضعت قواعد نقاء الدم Limpieza، التي أغلقت كل طرق التمييز أمام ذرية المتحولين إلى غير دينهم Conversos وكل مَن عاقبتهم المحكمة. وكانت تنظر إلى المتصوفة نظرة قاسية، لأن بعض هؤلاء ادعوا أن صلتهم المباشرة بالله أعفتهم من حضور الصلاة في الكنيسة، وأضفى آخرون على حالات وجدهم الصوفي طعماً جنسياً مشبوهاً. وأعلن الواعظ العلماني بدرو رويز دي الكراز أن الجماع هو اتحاد بالرب حقاً، وقال الأخ الراهب فرانسيسكو أورتيز مفسراً أنه عندما يرقد مع زميلة متصوفة جميلة فإنه لا يرتكب خطيئة من خطايا الجنس، بل ينعم بمتعة روحية(33). وعاملت محكمة التفتيش برفق هؤلاء المتنورين Alumbrados واحتفظت بأقسى إجراءاتها ضد البروتستانت في إسبانيا.
وكما حدث في شمالي أوربا وقعت مناوشة أرازمية قبل معركة البروتستانت، وهتف بعض رجال الكنيسة المتحررين استحساناً لانتقادات علماء الإنسانيات لأخطاء رجال الأكليروس، ولكن أكسيمنيس وآخرين كانوا قد قوموا من قبل المظالم البارزة أكثر من غيرها، قبل مجيء شارل. ولعل اللوثرية كانت قد تخللت أرض إسبانيا مع الألمان والبلجيكيين المتكلمين بالفلمنكية في الحاشية الملكية. وأدانت محكمة التفتيش ألمانيّاً في بلنسية عام 1524، لأنه جاهر بالتعاطف مع لوثر، وحكم على فلمنكي بالسجن مدى الحياة عام 1528، لتشككه في المطهر وصكوك الغفران، وأحرق في المحرقة فرانسيسكو دي سان رومان، أول مَن عرف من اللوثريين الأسبان عام 1542، بينما كان المشاهدون المتحمسون يطعنونه بسيوفهم. واعتنق جوان ديازاف كوينكا، الكالفينية في جنيف، فاندفع أخوه الفونسو من إيطاليا ليحوله مرة أخرى إلى العقيدة المحافظة، وعندما فشل الفونسو عمل على قتله (1546)(34) وسجن جوان جيل، أو أجيديو، وهو كبير قساوسة متعلم في أشبيلية، لمدة عام بسبب وعظه ضد عبادة الصور والصلاة للقديسين وفاعلية الأعمال الصالحات في الفوز بالخلاص. ونبشت عظامه بعد وفاته وأحرقت، وواصل رفيقه كبير القساوسة كونستانتينو بونس ديلافوينتي، دعايته، ومات في سجون محكمة التفتيش. وأحرق أربعة عشر من زملاء كونستانتينو، ومنهم أربعة رهبان وثلاثة نساء، وحكم على عدد كبير بعقوبات مختلفة، ودك البيت الذي اجتمعوا فيه حتى سوي بالأرض.
وتطورت جماعة نصف بروتستانتية أخرى في بلد الوليد، وهنا تورط نبلاء من ذوي النفوذ ورجال دين من أصحاب الرتب الرفيعة. ووشي بهم لمحكمة التفتيش، وقبض عليهم جميعاً تقريباً وحكم عليهم بالإدانة، وحاول البعض مغادرة إسبانيا فقبض عليهم وأعيدوا. وكان شارل الخامس وقتذاك يستحم في يوستى، فأوصى بعدم إظهار أية رحمة في معاملتهم، وقطع رأس النائبين وإحراق مَن يرفضون التوبة. وفي يوم أحد الثالوث الموافق 21 مايو سنة 1559 أعدم أربعة عشر من المحكوم عليهم أمام جمع متهلل(35). وتراجع الجميع عما قالوا إلا واحداً، وعوملوا برفق، وقطعت رءوسهم، أما أنطونيو دي هرزويلو الذي رفض التوبة فقد أحرق حياً. وسمح لزوجته ليونور دي سيزنيروس البالغة من العمر ثلاثة وعشرين عاماً بالسجن مدى الحياة. وبعد أن أمضت عشر سنوات في السحن، عدلت عن إنكارها لما قالت وجاهرت بهرطقتها، وطالبت أن تحرق حية مثل زوجها فأجيبت إلى ملتمسها(36). وعرض ستة وعشرون آخرون من المتهمين للحرق أحياء في اليوم الثامن من أكتوبر سنة 1559، أمام حشد مكون من 200.000 شخص، يرأسه فيليب الثاني. وحرقت ضحيتان وهما حيتان وخنق عشرة.
وكان بارتلومي دي كارانزا، رئيس أساقفة طليطلة ورئيس أساقفة إسبانيا، أشهر فريسة وقعت في براثن محكمة التفتيش في هذه الفترة. وكان باعتباره من الكومنيكان قد قام بنشاط كبير من مطاردة الهراطقة والإيقاع بهم، وعينه شارل مبعوثاً له في مجلس ترنت، وأرسله إلى إنجلترا لحضور زواج فيليب والملكة ماري. وعندما انتخب رئيساً للأساقفة (1557) كان الاختيار بالإجماع ما عدا صوته. ولكن بعض "البروتستانت" الذين قبض عليهم في بلد الوليد شهدوا بأن كارانزا كان قد تعاطف سراً مع آرائهم، ووجد أنه كان قد راسل المصلح الديني الإسباني الإيطالي جاون دي فالديس، واتهمه عالم اللاهوت ذو النفوذ ملشيور كانو بأنه كان يعضد العقيدة اللوثرية في التزكية بالإيمان. ولم يقبض عليه إلا بعد سنتين من ارتفاع شأنه ووصوله إلى أعلى منصب كنسي في إسبانيا، ونستطيع أن نحكم من هذا على مدى قوة محكمة التفتيش. وظل سبعة عشر عاماً معتقلاً في سجن أو غيره، بينما كانت تصرفاته في حياته ورسائله تتعرض للفحص والاستقصاء في طليطلة وروما. وأعلن جريجوري الثالث عشر أنه "مشتبه فيه بشدة" بالهرطقة وأمره بأن ينكر ستة عشر ادعاء، وأوقفه لمدة حمس سنوات عن مباشرة وظيفته. وتقبل كارانزا الحكم في ذلة، وحاول أن يؤدي الكفارات التي فرضت عليه، ولكنه مات في خلال خمسة أسابيع بعد أن أنهكه السجن والإذلال (1556).
وبموته زال خطر البروتستانتية عن إسبانيا، وحدث أن أعدم حوالي 200 شخص بين عامي 1551 و 1600، لما نسب إليهم من هرطقات بروتستانتية - أي بواقع أربعة أشخاص كل عام. وقد تجمد طبع الناس، الذي كان قوامه من كراهية المغاربة واليهود، التي تأصلت جذورها قروناً طويلة، في عقيدة محافظة لا تتزعزع، وامتزجت الكاثوليكية وحب الوطن، ووجدت محكمة التفتيش أن من اليسير أن تسحق، في خلال جيل أو جيلين، المغامرة الإسبانيّة العابرة التي اتسمت بفكر مستقل.
العصر الذهبي الإسباني
انهيار أسبانيا 1665-1700
كانت أسبانيا في 1665 لا تزال أعظم الإمبراطوريات في العالم المسيحي. حكمت الأراضي المنخفضة الجنوبية، وسردانيا، وصقلية، ومملكة نابلي، و دوقية ميلان ، ومساحات شاسعة في أمريكا الشمالية والجنوبية. ولكنها كانت قد فقدت القوة البحرية والحربية اللازمة للسيطرة على تجارة هذا الملك المبعثر ومصيره. وكانت أساطيلها الثمينة قد دمرها الإنجليز (1588) والهولنديون (1639)، وهزمت جيوشها هزائم فاصلة في روكروا (1643) ولينز (1648)، واعترف دبلوماسيوها في صلح البرانس (1659) بانتصار فرنسا، وكان اقتصادها يعتمد على تدفق الذهب والفضة من أمريكا، وهذا التدفق كان يقطعه المرة بعد المرة الأسطول الهولندي أو الإنجليزي. وتقلصت تجارتها وصناعاتها لاعتمادها على الذهب الأجنبي واحتقار شعبها للمتاجرة. وكان الكثير من التجارة الأسبانية يحمل في سفن أجنبية. ونقص عدد السفن الأسبانية العاملة بين أسبانيا وأمريكا 75% في عام 1700 عنه في عام 1600. وكانت البضائع المصنوعة تستورد من إنجلترا وهولندا، ويدفع ثمن جزء منها فقط بتصدير النبيذ أو الزيت أو الحديد أو الصوف، والباقي يدفع سبائك ذهبية، ومعنى ذلك أن الذهب الأمريكي إنما كان يمر مروراً بأسبانيا والبرتغال في طريقه إلى إنجلترا وفرنسا والأقاليم المتحدة. وكانت قرطبة وبلنسية في حالة اضمحلال واع برم بعد شهرتها الماضية بحرفها. وكان طرد المغاربة قد آذى الزراعة، وغش العملة المرة بعد المرة أربك المالية. وبلغت حال الطرق من السوء وحال النقل من التخلف مبلغاً وجدت معه المدن القريبة من البحر، أو الواقعة على أنهار صالحة للملاحة، أنه أرخص لها أن تستورد البضائع، حتى الغلال، من الخارج عن أن تجلبها من مصادرها في أسبانيا. وحاولت الضرائب الباهظة، بما فيها ضريبة بيع ارتفعت إلى 14%، أن تمول حروب أسبانيا ضد أعداء استعصت هزيمتهم إلى حد لا يصدق، رغم الافتراض بأنهم ملعونون من الله. وهبط مستوى المعيشة هبوطاً حمل أعداداً لا تحصى من الأسبان على هجر مزارعهم ومتاجرهم وأخيراً وطنهم. وارتفعت وفيات الأطفال، ويبدو أنه كان هناك بعض التحديد الماكر لعدد أفراد الأسرة. فقد أصبح آلاف الرجال والنساء رهباناً عقيمين أو راهبات وانطلقت آلاف أخرى للمغامرة في أراض نائية. وفقدت إشبيلية، وطليطلة، وبرجوس، وسقوبية بعض سكانها. وهبط سكان مدريد في القرن السابع عشر من 400.000 إلى 200.000(52) لقد كانت أسبانيا تموت من مرض الذهب.
وفي وسط الفقر المنتشر المتكاتف كدست الطبقات العليا ثروتها وعرضتها على الأنظار. وأمسك النبلاء، الذين طال إثراؤهم باستغلال الأهالي أو بالكنوز المستوردة، عن استثمار ثروتهم في الصناعة أو التجارة، وراحوا يبهرون أبصار بعضهم البعض بالجواهر والمعدن النفيس، وبالملاهي الغالية والأثاث الفخم. من ذلك أن دوق ألفا كان يملك 7.200 من صحاف الفضة و9.600 من الآنية الفضية الأخرى، وأن أمير ستليانو صنع لزوجته محفة من الذهب والمرجان بلغ ثقلها حداً لم يسمح باستعمالها. كذلك احتفظت الكنيسة بغناها، واستكثرت منه (53)، وسط الفاقة المحيطة بها. ورأى رئيس أساقفة سنتياجو أن يبني كنيسة كاملة من الفضة، فلما ثنوه عن ذلك بناها كلها بالرخام (54). لقد كان دم الشعب تربة الثروة ومجد الله.
أما ديوان التفتيش فكان على عهدنا به من شدة البأس، بل أشد بأساً من الحكومة. وقلت الاحتفالات التي يصدر فيها الحكم بالموت على المهرطقين عن ذي قبل، لا لشيء إلا لأن الهرطقة كانت قد أبيدت حرقاً. وكانت القيود التي أعجزت الكاثوليك في إنجلترا لا تقاس بما يلقاهالبروتستنت من أخطار في أسبانيا. وعجز كرومويل عن حماية التجار الإنجليز هناك. وقبض ديوان التفتيش في 1691 على الخادم البروتستنتي للسفير الإنجليزي، وفي تلك السنة نبش الشعب جثة القسيس الأنجليكاني الخاص بالسفير ومثل بها تمثيلاً. واستمر حرق اليهود المنتصرين الذين اتهموا بأنهم يضمرون يهوديتهم. وبنى ديوان التفتيش لنفسه في ميورقه قصراً جميلاً من الثروة التي صادرها في تحقيق واحد(55). وكانت الجماهير تؤيد بحرارة هذه المحرقات وإن حاول كثير من النبلاء تثبيطها. فلما أعرب شارل الثاني في 1680 عن رغبته في أن يشهد احتفالاً بحرق المهرطقين، تطوع صناع مدريد بأن يبنوا مدرجاً للمشهد المقدس، وفي أثناء قيامهم بالعمل كانوا يشجعون بعضهم بعضاً على الإسراع والاجتهاد بألوان من الحض الديني، لقد كان حقاً جهداً من جهود المحبة. وحضر شارل وعروسه الشابة في كل أبهة الملك، وحوكم 120 سجيناً، وأحرق واحد وعشرون حتى الموت في مرجل في الميدان الكبير، وكان هذا أعظم وأفخم احتفال بحرق المهرطقين في تاريخ أسبانيا، ونشر كتاب من 308 صفحة يصف الحدث ويخلد ذكراه (56). وفي 1696 عين شارل "هيئة كبرى" لفحص مفاسد ديوان التفتيش، فقدمت تقريراً أماط اللثام عن شرور كثيرة وأدانها، ولكن الرئيس العام للديوان أقنع الملك بأن يلقي بهذا "الاتهام الرهيب" في زوايا النسيان. فلما طلبه فليب الخامس في 1701 لم يعثر على نسخة منه(57). على أن الدين خفف من غلوائه بعد ذلك وقلل من حرائقه.
أما الكنيسة فقد حاولت أن تفتدي ثروتها وتدعم الإيمان بتمويلها للفن. ففي 1677 صمم فرانشسكو دي هيريرا ايلموزو كتدرائية سرقسطة الثانية التي سميت "ديل بيلار" لأنها تفاخر بعمود اعتقد الناس أن العذراء نزلت عليه من السماء. وجاءت العمارة الباروكية الآن إلى أسبانيا، وبين عشية وضحاها تحول المزاج الأسباني من الاكتئاب القوطي إلى الإسراف الزخرفي. وأشهر المعماريين هنا خوزي شوريجويرا، وقد أصبح لفظ "شوريجويريسكا" حيناً علماً على الباروك الأسباني. ولد في سلمنقة عام 1665، وأبدى نشاطاً مفرطاً في العمارة والنحت وصناعة الأثاث والتصوير. فلما وفد على مدريد في الثالثة والعشرين دخل في مسابقة لتصميم نعش لجنازة الملكة ماريا لويزا، ففاز بالجائزة، وتوطدت شهرته بالبراعة الزخرفية العربية بفضل هذا البناء المختلط(58)، المؤلف من أعمدة عجيبة الشكل وكرانيش مكسرة، والمزين بالهياكل العظمية والعظام المتقاطعة والجماجم. ثم عاد غلى سلمنقة حوالي 1690، وظل يكد فيها عشر سنين، يزخرف الكتدرائية، ويبني المذبح العالي في كنيسة القديس أسطفان، والبهو الفخم في مجلس المدينة. وفي مدريد صمم قرب ختام حياته واجهة كنيسة القديس توما، ولما مات (1725) ترك استكمال البناء لولديه جيرونيمو ونيقولا، وفي أثناء اشتغالهما بهذه العمليات سقطت القبة فوق رءوس الكثير من العمال والمصلين فسحقتهم. وهاجر إلى المكسيك لون معتدل نوعاً ما من باروك شوريجويرا، وهناك أثمر بعض المباني التي تعد من أجمل ما شيد في أمريكا الشمالية.
وظل النحت تعبيراً قوياً عن الروح الأسبانية. وكان مصدر هذه القوة أحياناً واقعية شاذة، كما نراها بتفصيل دموي في رأس يوحنا المعمدان أو غيره من القديسين مقطوعي الرءوس. وكان متحف بلد الوليد يحتفظ برأسين من هذا النوع للقديس بولس(59). وظلت حجب المذبح لوناً أثيراً من ألوان الفن، فترى بيدرو رولدان ينحت الحجب الكبرى في كنيسة الأبرشية الملحقة بالكاتدرائية، وفي مستشفى دي لا كاريداد في إشبيلية، وابنته لويزا رولدانا، مثاله أسبانيا الفذة تنحت في كتدرائية قادس مجموعة تماثيل تتركز حول "نوسترا سينورا دي لاس أنجوستياس" (سيدة الأحزان). وهيمن بيدرو دي مينا على العصر بتماثيل عراياه (وما أندرها في الفن الأسباني)، وتماثيل السيدة العذراء، ومقعد المرتلين في كاتدرائية ملقا، ويعد تمثاله" سان فرانسسكو" في كاتدرائية إشبيلية من أروع أمثلة النحت الأسباني. وحوالي نهاية القرن السابع عشر أدرك هذا الفن ما أدرك غيره من تدهور عام. فأثقلت الحشوات بالزخارف، وزودت التماثيل بأجهزة آلية لتحريك الرأس والعينين والفم، وأضيف الشعر والملابس الحقيقية، واللون دائماً، في جهد للوصول إلى أبسط التصور والذوق الجماهيريين.
وولى عصر العمالقة في التصور الأسباني، ولكن بقى الكثير من صغار الأبطال. فكان خوان كارينو دي ميراندا، الذي خلف فيلا سكويز مصوراً للبلاط، محبوباً كسلفه تقريباً-رجلاً متواضعاً لطيفاً، يبلغ به الاستغراق في عمله مبلغاً ينسيه أحياناً هل أكل أو لم يأكل. وقد سرت صوره لشارل الثاني وحاشيته الملك الشاب حتى عرض عليه لقب الفروسية وصليب سنتياجو، ولكن كارينو رفض هذا التشريف لأنه رآه فوق ما يستحق. وفي تلك الأيام ابتهجت مدريد بقصة "الكنتريللو دي مييل" (برطمان العسل). وتفصيل ذلك أن فناناً مغموراً يدعى جريجوريو أوتاندي رسم لوحة للراهبات الكرمليات طلب عليها أجراً مائة دوكاتية، فاستكثرن عليه الأجر، ولكن وافقن على تحكيم كارينو. وقبل أن يسمع كارينو بالأمر، أهداه أوتاندي برطمان عسل، ورجاه في أن يضع اللمسات الأخيرة للوحة. ففعل، وتحسنت الصورة كثيراً. ودهش كارينو حين طلبت إليه الراهبات تقييمها. فرفض، ولكن فناناً ثالثاً قدرها بمائتي دوكاتية، وكتم السر حتى دفع الثمن.
وفي ختام حياته يسر كارينو سبيل النجاح لأحد خلفائه، وهو كلوديو كويللو، الذي ظل يرسم آناء الليل وأطراف النهار دون أن يحقق نتائج ذات بال. فصادقه كارينو، وحصل له على إذن بأن يدرس وينسخ أعمال تتسيانو وروبنز وفانديك في قاعات الفن الملكية. وأعانت هذه التجربة كلوديو على النضج، وفي 1684، وقبل موت كارينو بعام، عين كويللو مصوراً للملك. وقد أحرز الشهرة في وطنه بلوحته "ساجرادا فورما" أي القربانة المقدسة، التي ظهرت فيها هذه القربانة تقدم إلى شارل الثاني لوضعها على مذبح في الأسكوريال. والأسطورة التي من وراء الصورة تعبر عن مزاج أسبانيا. تقول الرواية أنه في أثناء الحرب مع الهولنديين داس بعض الكلفنيين الفجرة قطعة من خبز القربان المقدس تحت أقدامهم، وسالت من القربانة المصابة قطرات من دم، هدت للتو أحد مدنسيها إلى الكاثوليكية، وحملت القربانة التي استنقذت إلى فيينا في احترام وإجلال، وأرسلت هدية إلى فيليب الثاني، ومنذ ذلك التاريخ وهي تعرض دورياً، ملطخة بدم المسيح على العابدين الخاشعين. وصور كويللو الملك وكبار حاشيته راكعين في تعبد أمام الخبز المعجز. وظهر في الصورة نحو خمسين شخصاً، كلهم تقريباً صاحب شخصية متميزة، وقد رتبوا في منظور ذي عمق خداع للبصر بشكل ملحوظ(60). بعد هذا العمل الذي اقتضاه الفراغ منه عامين، أصبح كويللو سيد الفنانين قاطبة في العاصمة غير منازع. وبعد ست سنوات (1692) حجبه بغتة وصول لوكا فاريريستو جوردانو من إيطاليا، وكلف لوكا على الفور بالدور الأول في زخرفة الأسكوريال من جديد. وزاد لوكا الطين بلة بامتداحه صور كلوديو. وأنهى كويللو الصور التي كلف بها، ولكنه ألقى فرشاته جانباً. وبعد عام من وصول جوردانو مات كويللو وهو بعد في الحادية والخمسين، وقيل قهراً وغيرة(61).
وخلال ذلك شهدت إشبيلية ميلاد ووفاة (1630-90) آخر فنان عظيم في التصوير الأسباني قبل جويا، وهو خوان دي فالديس ليال. وكان مثل كويللو برتغالي الأبوين أسباني المولد. وبعد أن أنفق سنوات في قرطبة، رحل إلى إشبيلية ليتحدى تفوق موريللو. وكان فيه من الكبرياء ما لم يسمح له بأن يقدم لرعاته الجمال الناعم لعذارى (مادونات) محتشمات. وقد صور العذراء في صعودها، ولكنه وضع قلبه وقوته في صور أخرى لا تعرف هوادة في الغض من لذات الحياة والإيماء إلى الموت الذي لا مهرب منه. فرسم القديس أنطونيوس يتولى في هلع عن فتنة النساء(62). وصورت لوحته "آن أكتو أوكولي" (أي في طرفة عين) الموت هيكلاً عظمياً يطفئ شمعة الحياة التي يكشف ضوءها القصير الأجل، في فوضى اختلطت على أرض الحجرة، عدة الأطماع الدنيوية ومجد العالم-الكتب، والسلاح، وتاج أسقف، وتاج ملك، وسلسلة لطائفة "الفروة الذهبية". وفي صورة مغايرة تدور حول هذه الفكرة أرانا ليال حفرة مقبرة تبعثرت فيها الجثث والهياكل والجماجم، ومن فوقها كلها يد جميلة تمسك بميزان تحتوي إحدى كفتيه على شعارات فارس، والأخرى على شارات أسقف، والكفة الأولى كتب عليها "نيماس" أي لا أكثر، والثانية "نيمينوس" أي لا أقل-فرجال الدنيا ورجال الدين على السواء وجدوا ناقصين في موازين الله. ورأى موريللو أول الصورتين، فقال لفالديس "إنها أيها الزميل صورة لا يستطيع المرء أن ينظر إليها دون أن يمسك بأنفه(63)"-وهي عبارة يمكن أن تفسر بأنها ثناء على واقعية المصور، أو رد فعل عقل سليم للفن المنحط.
ذلك أن الانحطاط كان سمة للعهد، فلم يشرفه أديب عظيم، ولم تعرض على مسرحه تمثيلية فذة. أما الجامعات فكانت تنزوي وسط الخراب والظلامية السائدين، ففي جامعة سلمنقة هبط عدد الطلاب في هذه الفترة من 7.800 إلى 2.076(64). وجاهد ديوان التفتيش وقائمة الكتب المحرمة بنجاح ليقصيا عن أسبانيا كل أدب يسيء إلى الكنيسة، وظلت أسبانيا طوال قرن توصد أبوابها كأنها صومعة عابد في وجه حركات الذهن الأوربي. وتربع الانحطاط بشخصه على عرش الملك رمزاً للعهد.
وبيان ذلك أن شارل الثاني أصبح ملكاً وهو بعد في الرابعة (1665) وفي سني حداثته كانت أمه الملكة ماريانا تحكم البلاد اسماً، أما حاكمها الفعلي فكان كاهن اعترافها اليسوعي يوهانز ابرهارد نيذارد، ثم عشيقها فرناندو فالنزويلا. وتفاقمت الفوضى، وكانت الوزارة الكفء التي تولاها دون خوان نمساوي آخر، أقصر أجلاً من أن توقف الانحلال. وفي 1677 تقلد الملك ذو الستة عشر عاماً الحكم وجلس عاجزاً على قمة هذا الصرح المنهار. ولعل التزاوج المتصل بين أفراده أسرة هابسبورج أسهم في ضعف بدنه وعقله. وكانت الذقن الهابسبورجية في شارل بارزة بروزاً أعجزه عن مضغ طعامه، ولسانه من الكبر بحيث لم يكد كلامه يفهم. وظل إلى العاشرة يعامل كأنه طفل يحمل بين الذراعين. وكان لا يكاد يستطيع القراءة، ولم يتلق من التعليم إلا القليل، وكان أعز ميراثه خرافات مذهبه وأساطيره. ويصف مؤرخ أسباني كبير بأنه "عليل، أبله شديد التعلق بالخرافات"، وكان "يعتقد أنه ممسوس، وكان ألعوبة لأطماع كل من أحاطوا به(65)". وقد تزوج مرتين، ولكن "كان من المعروف للجميع أنه لا يستطيع توقع الخلف(66)". هذا القصير الأعرج، المصروع، الخرف، المصلع تماماً قبل أن يبلغ الخامسة والثلاثين، كان دائماً على شفا الموت، ولكنه حير العالم المسيحي المرة بعد المرة ببقائه على قيد الحياة.
وأصبح تفكك أوصال أسبانيا الآن مأساة أوربية. فقد ازدادت الحكومة اقتراباً من الإفلاس برغم الضرائب والتضخم واستغلال المناجم الأمريكية حتى عجزت عن دفع فوائد دينها، وحتى المائدة الملكية اضطرت إلى التقتير في خدمة الملك. أما البيروقراطية الإدارية التي قلت رواتبها فكانت فاسدة متراخية. واستبد الفقر بالناس حتى كانوا يقتتلون للحصول على الخبز، وسطت عصابات من الجياع على البيوت لتسرع وتقتل، وكان عشرون ألف شحاذ يجوبون شوارع مدريد. أما رجال الشرطة العاجزون عن الحصول على رواتبهم فقد تشتتوا وانضموا إلى المجرمين.
ووسط الفوضى والقلق والخراب واجه الملك المسكين، الكسيح، نصف المعتوه، الشاعر بدنو أجله، في حيرة وتذبذب، مشكلة الفصل في وراثة عرشه. وإذ كان سلطانه من الناحية النظرية مطلقاً، فإن سطراً واحداً بخطه كان يكفي للتوصية بإمبراطوريته التي تمتد رقعتها في أربع قارات، أما للنمسا وأما لفرنسا. وانتصرت أمه للنمسا، ولكن شارل كان يكره تآمرها كما يكره جشع زوجته الألمانية الخبيث. وذكره السفير الفرنسي بأنه ما دام صداق عروس لويس الرابع عشر الأسبانية لم يدفع بعد، فإن تنازلها عن الوراثة قد بطل، وكان لويس يلح مطالباً بحقوقها، ويملك القوة لفرض مطلبه. فلو أن شارل داس هذه الحقوق لاشتعلت أوربا بنيران الحرب، وربما تمزقت أسبانيا إرباً في هذا الصراع. وانهار شارل تحت وطأة اتخاذ القرار، وبكى واشتكى من أن ساحرة قد ابتلته بخطوب لا قبل له بتحملها. وبينما كان يستمع إلى الحجج التي زادته اختلاطاً حاصر مثيرو الشغب قصره صائحين في طلب الخبز.
وفي سبتمبر 1700 لزم شارل فراش الموت وكسب الحزب الفرنسي، وهو أحد الأحزاب التي أحاطت به، رئيس أساقفة طليطلة-وكان كبير أساقفة أسبانيا-إلى صفه، وقد لازم الملك المحتضر ليل نهار، وذكره بأن لويس الرابع عشر وحده يملك من القوة ما يتيح له الحفاظ على الإمبراطورية الأسبانية سليمة واستخدامها معقلاً للكنيسة الكاثوليكية. ونصح البابا إنوسنت الثاني عشر شارل بتفضيل فرنسا، وذلك تحت إلحاح لويس. وخيراً أذعن شارل، ووقع الوصية المشئومة التي خلف فيها كل ممتلكاته لفيليب دوق أنجو، حفيد ملك فرنسا (3 أكتوبر 1700). وفي أول نوفمبر مات شارل، غير متجاوز التاسعة والثلاثين، وكأنه شيخ في الثمانين. وهكذا كانت خاتمة فرع الهابسبورج الأسباني في غروب شاعت فيه حمرة الحرب الداهمة.
عصر التنوير : اسبانيا تحت البوربون (القرن 18)
أما الكنيسة فقد حاولت أن تفتدي ثروتها وتدعم الإيمان بتمويلها للفن. ففي 1677 صمم فرانشسكو دي هيريراايلموز و كتدرائية سرقسطة الثانية التي سميت "ديل بيلار" لأنها تفاخر بعمود اعتقد الناس أن العذراء نزلت عليه من السماء. وجاءت العمارة الباروكية الآن إلى أسبانيا، وبين عشية وضحاها تحول المزاج الأسباني من الاكتئاب القوطي إلى الإسراف الزخرفي. وأشهر المعماريين هنا خوزي شوريجويرا ، وقد أصبح لفظ "شوريجويريسكا" حيناً علماً على الباروك الأسباني. ولد في سلمنقة عام 1665، وأبدى نشاطاً مفرطاً في العمارة والنحت وصناعة الأثاث والتصوير. فلما وفد على مدريد في الثالثة والعشرين دخل في مسابقة لتصميم نعش لجنازة الملكة ماريا لويزا,ففاز بالجائزة، وتوطدت شهرته بالبراعة الزخرفية العربية بفضل هذا البناء المختلط(58)، المؤلف من أعمدة عجيبة الشكل وكرانيش مكسرة، والمزين بالهياكل العظمية والعظام المتقاطعة والجماجم. ثم عاد غلى سلمنقة حوالي 1690، وظل يكد فيها عشر سنين، يزخرف الكتدرائية، ويبني المذبح العالي في كنيسة القديس أسطفان, والبهو الفخم في مجلس المدينة. وفي مدريد صمم قرب ختام حياته واجهة كنيسة القديس توما، ولما مات (1725) ترك استكمال البناء لولديه جيرونيمو ونيقولا، وفي أثناء اشتغالهما بهذه العمليات سقطت القبة فوق رءوس الكثير من العمال والمصلين فسحقتهم. وهاجر إلى المكسيك لون معتدل نوعاً ما من باروك شوريجويرا, وهناك أثمر بعض المباني التي تعد من أجمل ما شيد في أمريكا الشمالية.
وظل النحت تعبيراً قوياً عن الروح الأسبانية. وكان مصدر هذه القوة أحياناً واقعية شاذة، كما نراها بتفصيل دموي في رأس يوحنا المعمدان أو غيره من القديسين مقطوعي الرءوس. وكان متحف بلد الوليد يحتفظ برأسين من هذا النوع للقديس بولس(59). وظلت حجب المذبح لوناً أثيراً من ألوان الفن، فترى بيدرو رولدان ينحت الحجب الكبرى في كنيسة الأبرشية الملحقة بالكاتدرائية، وفي مستشفى دي لا كاريداد في إشبيلية، وابنته لويزا رولدانا، مثاله أسبانيا الفذة تنحت في كتدرائية قادس مجموعة تماثيل تتركز حول "نوسترا سينورا دي لاس أنجوستياس" (سيدة الأحزان). وهيمن بيدرو دي مينا على العصر بتماثيل عراياه (وما أندرها في الفن الأسباني)، وتماثيل السيدة العذراء، ومقعد المرتلين في كاتدرائية ملقا، ويعد تمثاله" سان فرانسسكو" في كاتدرائية إشبيلية من أروع أمثلة النحت الأسباني. وحوالي نهاية القرن السابع عشر أدرك هذا الفن ما أدرك غيره من تدهور عام. فأثقلت الحشوات بالزخارف، وزودت التماثيل بأجهزة آلية لتحريك الرأس والعينين والفم، وأضيف الشعر والملابس الحقيقية، واللون دائماً، في جهد للوصول إلى أبسط التصور والذوق الجماهيريين.
وولى عصر العمالقة في التصور الأسباني، ولكن بقى الكثير من صغار الأبطال. فكان خوان كارينو دي ميراندا، الذي خلف فيلا سكويز مصوراً للبلاط، محبوباً كسلفه تقريباً-رجلاً متواضعاً لطيفاً، يبلغ به الاستغراق في عمله مبلغاً ينسيه أحياناً هل أكل أو لم يأكل. وقد سرت صوره لشارل الثاني وحاشيته الملك الشاب حتى عرض عليه لقب الفروسية وصليب سنتياجو، ولكن كارينو رفض هذا التشريف لأنه رآه فوق ما يستحق. وفي تلك الأيام ابتهجت مدريد بقصة "الكنتريللو دي مييل" (برطمان العسل). وتفصيل ذلك أن فناناً مغموراً يدعى جريجوريو أوتاندي رسم لوحة للراهبات الكرمليات طلب عليها أجراً مائة دوكاتية، فاستكثرن عليه الأجر، ولكن وافقن على تحكيم كارينو. وقبل أن يسمع كارينو بالأمر، أهداه أوتاندي برطمان عسل، ورجاه في أن يضع اللمسات الأخيرة للوحة. ففعل، وتحسنت الصورة كثيراً. ودهش كارينو حين طلبت إليه الراهبات تقييمها. فرفض، ولكن فناناً ثالثاً قدرها بمائتي دوكاتية، وكتم السر حتى دفع الثمن.
وفي ختام حياته يسر كارينو سبيل النجاح لأحد خلفائه، وهو كلوديو كويللو، الذي ظل يرسم آناء الليل وأطراف النهار دون أن يحقق نتائج ذات بال. فصادقه كارينو، وحصل له على إذن بأن يدرس وينسخ أعمال تتسيانو وروبنز وفانديك في قاعات الفن الملكية. وأعانت هذه التجربة كلوديو على النضج، وفي 1684، وقبل موت كارينو بعام، عين كويللو مصوراً للملك. وقد أحرز الشهرة في وطنه بلوحته "ساجرادا فورما" أي القربانة المقدسة، التي ظهرت فيها هذه القربانة تقدم إلى شارل الثاني لوضعها على مذبح في الأسكوريال. والأسطورة التي من وراء الصورة تعبر عن مزاج أسبانيا. تقول الرواية أنه في أثناء الحرب مع الهولنديين داس بعض الكلفنيين الفجرة قطعة من خبز القربان المقدس تحت أقدامهم، وسالت من القربانة المصابة قطرات من دم، هدت للتو أحد مدنسيها إلى الكاثوليكية، وحملت القربانة التي استنقذت إلى فيينا في احترام وإجلال، وأرسلت هدية إلى فيليب الثاني، ومنذ ذلك التاريخ وهي تعرض دورياً، ملطخة بدم المسيح على العابدين الخاشعين. وصور كويللو الملك وكبار حاشيته راكعين في تعبد أمام الخبز المعجز. وظهر في الصورة نحو خمسين شخصاً، كلهم تقريباً صاحب شخصية متميزة، وقد رتبوا في منظور ذي عمق خداع للبصر بشكل ملحوظ(60). بعد هذا العمل الذي اقتضاه الفراغ منه عامين، أصبح كويللو سيد الفنانين قاطبة في العاصمة غير منازع. وبعد ست سنوات (1692) حجبه بغتة وصول لوكا فاريريستو جوردانو من إيطاليا، وكلف لوكا على الفور بالدور الأول في زخرفة الأسكوريال من جديد. وزاد لوكا الطين بلة بامتداحه صور كلوديو. وأنهى كويللو الصور التي كلف بها، ولكنه ألقى فرشاته جانباً. وبعد عام من وصول جوردانو مات كويللو وهو بعد في الحادية والخمسين، وقيل قهراً وغيرة(61). وخلال ذلك شهدت إشبيلية ميلاد ووفاة (1630-90) آخر فنان عظيم في التصوير الأسباني قبل جويا، وهو خوان دي فالديس ليال. وكان مثل كويللو برتغالي الأبوين أسباني المولد. وبعد أن أنفق سنوات في قرطبة، رحل إلى إشبيلية ليتحدى تفوق موريللو. وكان فيه من الكبرياء ما لم يسمح له بأن يقدم لرعاته الجمال الناعم لعذارى (مادونات) محتشمات. وقد صور العذراء في صعودها، ولكنه وضع قلبه وقوته في صور أخرى لا تعرف هوادة في الغض من لذات الحياة والإيماء إلى الموت الذي لا مهرب منه. فرسم القديس أنطونيوس يتولى في هلع عن فتنة النساء(62). وصورت لوحته "آن أكتو أوكولي" (أي في طرفة عين) الموت هيكلاً عظمياً يطفئ شمعة الحياة التي يكشف ضوءها القصير الأجل، في فوضى اختلطت على أرض الحجرة، عدة الأطماع الدنيوية ومجد العالم-الكتب، والسلاح، وتاج أسقف، وتاج ملك، وسلسلة لطائفة "الفروة الذهبية". وفي صورة مغايرة تدور حول هذه الفكرة أرانا ليال حفرة مقبرة تبعثرت فيها الجثث والهياكل والجماجم، ومن فوقها كلها يد جميلة تمسك بميزان تحتوي إحدى كفتيه على شعارات فارس، والأخرى على شارات أسقف، والكفة الأولى كتب عليها "نيماس" أي لا أكثر، والثانية "نيمينوس" أي لا أقل-فرجال الدنيا ورجال الدين على السواء وجدوا ناقصين في موازين الله. ورأى موريللو أول الصورتين، فقال لفالديس "إنها أيها الزميل صورة لا يستطيع المرء أن ينظر إليها دون أن يمسك بأنفه(63)"-وهي عبارة يمكن أن تفسر بأنها ثناء على واقعية المصور، أو رد فعل عقل سليم للفن المنحط.
ذلك أن الانحطاط كان سمة للعهد، فلم يشرفه أديب عظيم، ولم تعرض على مسرحه تمثيلية فذة. أما الجامعات فكانت تنزوي وسط الخراب والظلامية السائدين، ففي جامعة سلمنقة هبط عدد الطلاب في هذه الفترة من 7.800 إلى 2.076(64). وجاهد ديوان التفتيش وقائمة الكتب المحرمة بنجاح ليقصيا عن أسبانيا كل أدب يسيء إلى الكنيسة، وظلت أسبانيا طوال قرن توصد أبوابها كأنها صومعة عابد في وجه حركات الذهن الأوربي. وتربع الانحطاط بشخصه على عرش الملك رمزاً للعهد.
وبيان ذلك أن شارل الثاني أصبح ملكاً وهو بعد في الرابعة (1665) وفي سني حداثته كانت أمه الملكة ماريانا تحكم البلاد اسماً، أما حاكمها الفعلي فكان كاهن اعترافها اليسوعي يوهانز ابرهارد نيذارد، ثم عشيقها فرناندو فالنزويلا. وتفاقمت الفوضى، وكانت الوزارة الكفء التي تولاها دون خوان نمساوي آخر، أقصر أجلاً من أن توقف الانحلال. وفي 1677 تقلد الملك ذو الستة عشر عاماً الحكم وجلس عاجزاً على قمة هذا الصرح المنهار. ولعل التزاوج المتصل بين أفراده أسرة هابسبورج أسهم في ضعف بدنه وعقله. وكانت الذقن الهابسبورجية في شارل بارزة بروزاً أعجزه عن مضغ طعامه، ولسانه من الكبر بحيث لم يكد كلامه يفهم. وظل إلى العاشرة يعامل كأنه طفل يحمل بين الذراعين. وكان لا يكاد يستطيع القراءة، ولم يتلق من التعليم إلا القليل، وكان أعز ميراثه خرافات مذهبه وأساطيره. ويصف مؤرخ أسباني كبير بأنه "عليل، أبله شديد التعلق بالخرافات"، وكان "يعتقد أنه ممسوس، وكان ألعوبة لأطماع كل من أحاطوا به(65)". وقد تزوج مرتين، ولكن "كان من المعروف للجميع أنه لا يستطيع توقع الخلف(66)". هذا القصير الأعرج، المصروع، الخرف، المصلع تماماً قبل أن يبلغ الخامسة والثلاثين، كان دائماً على شفا الموت، ولكنه حير العالم المسيحي المرة بعد المرة ببقائه على قيد الحياة. وأصبح تفكك أوصال أسبانيا الآن مأساة أوربية. فقد ازدادت الحكومة اقتراباً من الإفلاس برغم الضرائب والتضخم واستغلال المناجم الأمريكية حتى عجزت عن دفع فوائد دينها، وحتى المائدة الملكية اضطرت إلى التقتير في خدمة الملك. أما البيروقراطية الإدارية التي قلت رواتبها فكانت فاسدة متراخية. واستبد الفقر بالناس حتى كانوا يقتتلون للحصول على الخبز، وسطت عصابات من الجياع على البيوت لتسرع وتقتل، وكان عشرون ألف شحاذ يجوبون شوارع مدريد. أما رجال الشرطة العاجزون عن الحصول على رواتبهم فقد تشتتوا وانضموا إلى المجرمين.
ووسط الفوضى والقلق والخراب واجه الملك المسكين، الكسيح، نصف المعتوه، الشاعر بدنو أجله، في حيرة وتذبذب، مشكلة الفصل في وراثة عرشه. وإذ كان سلطانه من الناحية النظرية مطلقاً، فإن سطراً واحداً بخطه كان يكفي للتوصية بإمبراطوريته التي تمتد رقعتها في أربع قارات، أما للنمسا وأما لفرنسا. وانتصرت أمه للنمسا، ولكن شارل كان يكره تآمرها كما يكره جشع زوجته الألمانية الخبيث. وذكره السفير الفرنسي بأنه ما دام صداق عروس لويس الرابع عشر الأسبانية لم يدفع بعد، فإن تنازلها عن الوراثة قد بطل، وكان لويس يلح مطالباً بحقوقها، ويملك القوة لفرض مطلبه. فلو أن شارل داس هذه الحقوق لاشتعلت أوربا بنيران الحرب، وربما تمزقت أسبانيا إرباً في هذا الصراع. وانهار شارل تحت وطأة اتخاذ القرار، وبكى واشتكى من أن ساحرة قد ابتلته بخطوب لا قبل له بتحملها. وبينما كان يستمع إلى الحجج التي زادته اختلاطاً حاصر مثيرو الشغب قصره صائحين في طلب الخبز. وفي سبتمبر 1700 لزم شارل فراش الموت وكسب الحزب الفرنسي، وهو أحد الأحزاب التي أحاطت به، رئيس أساقفة طليطلة-وكان كبير أساقفة أسبانيا-إلى صفه، وقد لازم الملك المحتضر ليل نهار، وذكره بأن لويس الرابع عشر وحده يملك من القوة ما يتيح له الحفاظ على الإمبراطورية الأسبانية سليمة واستخدامها معقلاً للكنيسة الكاثوليكية. ونصح البابا إنوسنت الثاني عشر شارل بتفضيل فرنسا، وذلك تحت إلحاح لويس. وخيراً أذعن شارل، ووقع الوصية المشئومة التي خلف فيها كل ممتلكاته لفيليب دوق أنجو، حفيد ملك فرنسا (3 أكتوبر 1700). وفي أول نوفمبر مات شارل، غير متجاوز التاسعة والثلاثين، وكأنه شيخ في الثمانين. وهكذا كانت خاتمة فرع الهابسبورج الأسباني في غروب شاعت فيه حمرة الحرب الداهمة.
عصر نابليون
الحروب النابليونية : حرب الاستقلال الاسبانية (1808-1814)
كانت إسبانيا لاتزال تعيش أجواء العصور الوسطى. لقد كانت دولة ذائبة في عشق الرب، تزدحم كاتدرائياتها المهيبة، ويقوم أبناؤها بالحج إلى المزارات المقدسة، دولة مكتظة برجال الدين، أنست إلى الغفران الذي تمنحه الكنيسة الكاثوليكية، تخشى محاكم التفتيش وتوقرها، وكان الإسبان يخرِّون ركعا سجدا في الطرقات عندما يمر أعضاء محاكم التفيتس في موكبهم المهيب. كما كان الإسبان يضعون في اعتبارهم قبل أي شيء آخر أن يكون الرب God حاضراً في كل بيت من بيوتهم يرعى أطفالهم ويحفظ عذرية بناتهم ويثيب في النهاية بالفردوس بعد اختبار مرهق اسمه الحياة. وقد وجد جورج بورو Borrow بعد ذلك بجيل >أن جهل الجماهير كان فظيعاً< على الأقل في ليون Leon >لدرجة أن التمائم المطبوعة ضد الشيطان وأعوانه، والتمائم التي تبعد النحس، كانت تباع علناً في المحلات وكانت تلقى رواجا كبيرا(4)< وقد انتهى نابليون الذي كان لايزال ابنا لحركة التنوير إلى أن >دور الفلاحين الإسبان وإسهامهم في الحضارة الأوربية أقل حتى من دور الفلاحين الروس(5)<. لقد عبر نابليون عن ذلك بينما هو يوقع الكونكوردات (الوفاق) مع الكنيسة الكاثوليكية. ومع هذا فقد كان الفلاح الإسباني - كما شهد لورد بايرون يستطيع "أن يكون فخورا معتزا بنفسه كأكثر الدوقات نبالة.
وكاد يكون التعليم مقصورا على البورجوازية والنبلاء. وكانت معرفة القراءة والكتابة تمثل حداً فاصلا، فحتى الهيدالجوات hidalgos (من طبقة النبلاء الدنيا) قلما كان الواحد منهم يستطيع قراءة كتاب. وكانت الطبقة الحاكمة تتخوف من الطباعة(7)، وعلى أية حال لم يكن محو الأمية مطلوبا في ظل الاقتصاد الإسباني الموجود آنئذ. وكانت بعض المدن التجارية مثل قادش Cadiz وأشبيلية مزدهرة، وقد اعتبر اللورد بايرون قادش >أجمل مدن أوربا<(8) في سنة 9081. وكانت هناك بعض المراكز الصناعية المزدهرة، فقد ظلت توليدو Toledo مشهورة بسيوفها(9) لكن طبيعة البلاد الجبلية الوعرة لم تجعل غير ثلثها فقط هو الذي يمكن زراعته بمردود اقتصادي، وكانت الطرق والقنوات (الترع) قليلة جدا، ووعرة وتنقصها الصيانة كما كان المرور فيها يستلزم رسوما تفرضها الولايات أو السيد الإقطاعي، لدرجة أن الناس وجدوا أنه من الأرخص استيراد القمح من إنتاجه محليا(01). لقد راح الفلاحون - وقد أوهنت التربة التي لا تصلح للزراعة إلا بشق النفس - من عزائهم راحوا يفخرون بحياة البطالة الواضحة بدلاً من انتظار نتائج الكدح في تربة ليس نتاجها مؤكدا. ووجد أهل المدن سعادتهم في تهريب البضائع أكثر مما وجدوها في العمل الذي لايتقاضون لقاءه أجوراً مجزية. وكان يجثم فوق أنفاس الحياة الاقتصادية ضرائب تزداد أكثر مما يزداد الدخل وجهاز شرطة فاسد وطبقة موظفين متزايدة، وحكومة منحطة (فاسدة). ورغم هذه الصعوبات فقد ظلت روح الأمة العالية، يشد أزرها تراث فرديناند وإيزابيلا، وفيليب الثاني، وتراث ڤلاسكويز Velaisquez وموريو Murillo، ويشد أزرها زيادة ثروة الإمبراطورية الإسبانية في الأمريكتين والشرق الأقصى، تلك الثروة الهائلة التي كانت إمكانية زيادتها أمراً متوقعا.
وحقق الفن الإسباني شهرة ضارعت الفن الإيطالي والهولندي. لقد جمعت الأمة الإسبانية - الآن - كنوزها الفنية - رسماً ونحتا في متحف دل برادو Museo del Prado الذي شيده في مدريد (5871 - 9181) خوان دي ڤيلانويڤا Juan de Vilanueva ومعاونوه ومن أتوا بعده. وفي هذا المتحف توجد الأعمال العظيمة الخالدة لسيد رسامي العصر فرانسسكو خوزيه دي گويا Francisco Jose de Giya Y Lucientes (ع. 1746 - 1828) وقد وصلتنا صورة لهذا الرسام رسمها له فيسنت لوبيزي بورتانا Vicente Lopez Y Portana وهي صورة تظهره عنيدا متصلباً مما يتوافق مع الروح المتجهمة التي أظهر فيها (في رسومه) الحرب بكل وحشيتها وقسوتها الدموية، ومما يتوافق مع رجل أحب بلاده لكنه في الوقت نفسه كان يحتقر ملكها. لقد انتعش الأدب الإسباني بفضل حافزين، أوّلهما الثقافة الكاثوليكية، وثانيهما التنوير الفرنسي، واستمر هذا الانتعاش حتى عندما استهلكت الحروب الأهلية والحروب الخارجية الأمة الإسبانية. فالقس الجزويتي (اليسوعي) خوان فرانسسكو دي ماسدو Juan Francisco de Masdeu أصدر على مراحل بدءا من سنة 3871 إلى سنة 5081 كتابه المهم عن تاريخ الثقافة الإسبانية Historia Critica de Espana Y de la Crltura Espanola تناول فيه التاريخ بشكل تكاملي إذ خلط التاريخ الثقافي في سياق التاريخ الحضاري العام(11). وتلقى خوان أنتونيو لورنت Juan Antonio Llorente - الذي كان سكرتيرا عاما لمحكمة التفتيش الإسبانية (الكاثوليكية) من 9871 إلى 1081 - من جوزيف بونابرت (9081) تكليفا بكتابة تاريخ هذه المؤسسة (محكمة التفتيش)، ووجد خوان أن كتابة هذا التاريخ في باريس سيكون أكثر أمناً، فكتبه بالفرنسية في الفترة بين عامي 7181 و 8181. ولم يكن ازدهار النثر والشعر الذي كان غرة في جبين عصر شارلز الثالث قد ذبل تماما عند موته: فقد واصل جاسبر ملكور دي جوفيلانوس Gaspar Melchor de Jovellanos (4471 - 1181) دوره كصوت معبر عن الليبرالية في التعليم ونظم الحكم، وظل لياندرو فرناندز دي مورتين Leandro Fernandez de Mortain (ع.1760 - 1828) يتسوّد على خشبة المسرح بمسرحياته الضاحكة (كوميدياته) التي ضمنت له لقب (موليير إسبانيا)، وخلال حرب التحرير (8081 - 4181) راح مانويل خوزيه كوانتانا Manuel Jose Quantana والقس خوان نيكازيو گاليگو Juan Nicasio Gallego يفيضان أشعارا حماسية لتأجيج نيران الثورة على الفرنسيين.
لقد تأثر معظم الكتاب الإسبان الرواد بالأفكار الفرنسية سواء في مجال الفكر الخالص أو التحرر السياسي، لقد تفرنس هؤلاء الكتاب تماما كما تفرنس الماسونيون. حدث هذا رغم النضال الإسباني للتحرر من الاحتلال الفرنسي. لقد استنكروا إضعاف الملكية لمجالس الأقاليم (المحافظات) تلك المجالس المحلية التي كان لها دور في وقت من الأوقات في المحافظة على أسبانيا حيّة في مختلف أنحائها. لقد هلّلوا للثورة الفرنسية ورحّبوا بنابليون كمتحدٍ يدفع اسبانيا لتخليص نفسها من الارستقراطية الاقطاعية والكنيسة ذات الصبغة الوسيطية (كنيسة العصور الوسطى) والحكومة التي لا تتسم بالكفاءة. ولندع مؤرخا أسبانيا متمكنا يقدم لنا لحنا جنائزيا حزينا ومتسما بالقوة يتناول فيه الأسرة الحاكمة الإسبانية المحتضرة:
في سنة 8081، وعندما كانت أسرة البوربون الحاكمة في فرنسا تسير نحو الهاوية - يمكننا أن نلخص الوضغ السياسي والاجتماعي في أسبانيا كالتالي: أرستقراطية فقدت احترامها للملوك، فقد كان رجال الحاشية على نحو خاص لا يوقرون ملوكهم. وسياسات فاسدة يقوم عليها سياسيون تحركهم العداوات الشخصية، ويملأهم الخوف والتردد. وكانت الطبقات العليا تعوزها الوطنية لا يحركها سوى الجشع والهوى. وكانت الآمال المحمومة للجماهير تتحلق حول أمير (هو فرديناند) أثبت بالفعل أنه حقود يميل للانتقام وأنه أمير زائف. وأخيرا ظهر التأثير العميق في دوائر الأدب والفكر، لأفكار الموسوعيين (الأنسيكلوبيديين) الفرنسيين والثورة الفرنسية(21)<.
وقد وصفنا في فصل سابق انهيار العرش الإسباني وتفسخه من وجهة نظر نابليون: لقد سمح شارل الرابع (حكم من 8871 إلى 8081) لزوجته ماريا لويزا Luisa وعشيقها جودوي Godoy أن يسلباه صلاحيات الحكم، وراح الأمير فرديناند الوريث الظاهر يناور لعزل أبيه، وحارب أنصار جودوي أنصار الأمير فرديناند، وغرقت مدريد وما حولها في حالة من الفوضى. ووجد نابليون في هذه الفرضى فرصة لضم كل شبه الجزيرة الأيبيرية للحكم الفرنسي ليحكم بها الحصار القاري (المضاد) في وجه البضائع والنفوذ البريطانيين. لقد أرسل نابليون مورا Murat والجيش الفرنسي الثاني إلى أسبانيا بتعليمات مؤداها إعادة النظام إلى أسبانيا. ودخل مورا Murat مدريد (32 مارس 8081) وقمع العصيان المسلح المعروف بعصيان الثاني من مايو historic Dos de Mayo. وفي هذه الأثناء دعا نابليون كلاً من شارلز الرابع وفرديناند للالتقاء به في بايون Bayonne في فرنسا بالقرب من الحدود الإسبانية. وأرهب نابليون الأمير وأجبره على إعادة العرش لوالده، ثم حث نابليون الأب على التنازل عن العرش لصالح من يعينه هو (أي يعينه نابليون) ووعد نابليون بالاعتراف بالكاثوليكية كدين رسمي وحمايتها كدين وطني لأسبانيا. وأمر نابليون أخاه جوزيف بالقدوم ليكون ملكاً على أسبانيا. ولم يكن جوزيف راغباً في القدوم لكنه أتى على مضض وتسلم من نابليون دستورا جديدا لأسبانيا منح فيه الإسبان كثيرا مما كان يطمح إليه الليبراليون الإسبان، لكنه - أي الدستور - طلب منهم أن يكونوا على علاقة طيبة بالكنيسة. وتولى جوزيف مهامه الجديدة غير سعيد بها، وعاد نابليون إلى باريس سعيدا بابتلاع أسبانيا غير واضع في اعتباره الجماهير الإسبانية ولنگتون Wellingtom.
التاريخ المعاصر
الجمهورية الإسپانية الأولى (1873-1874)
الإحياء (1874-1931)
كارثة 1898
الحرب العالمية الأولى
الجمهورية الثانية والحرب الأهلية
الحرب الأهلية الإسپانية (1936-1939)
ديكتاتورية فرانشيسكو فرانكو (1936-1975)
إسبانيا الفرنكية
الانتقال الديمقراطي
في الثاني والعشرين من نوفمبر عام 1975 أعلن خوان كارلوس ملك لإسبانيا بعد موت فرانسيسكو فرانكو ، وفي رسالته الأولى إلى الأمة أبدى افكاره الداعية لإعادة الديمقراطية للبلاد . حسب الدستور المعدل عام 1978 أصبحت إسبانيا دولة قانون اجتماعية وديمقراطية تحت نظام ملكي برلماني. قبل ذلك كانت تحت حكم شمولي تحت حكم فرانكو. الملك منصبه فخري و رئيس الوزراء هو الحاكم الفعلي للبلاد. البرلمان الإسباني (Cortes Generales) مقسم إلى مجلسين واحد للأعيان (Senado) وعدد أعضاءه يبلغ 259 عينا وآخر للنواب (Congreso de los Diputados) وعدد أعضاءه يبلغ 350 نائبا. ينتخب الأخير مباشرة من الشعب كل 4 سنوات، بينما يعين 51 عضو من مجلس الأعيان و ينتخب الباقون من الشعب أيضاً. رئيس الوزراء والوزراء يتم تعيينهم من قبل البرلمان اعتماداً على نتائج الانتخابات النيابية. أهم الأحزاب الإسبانية:
- حزب الشعب (PP)
- حزب العمال الاشتراكي الأسباني (PSOE)
- اتحاد اليسار (IU)
- التحالف الديمقراطي لكاتالونيا (CiU)
- الحزب الوطني الباسكي (EAJ-PNV)
- اليسار الجمهوري لكتالونيا ERC)
إسپانيا الحديثة
المصادر
انظر أيضاً
- Black Legend
- التاريخ الاقتصادي لإسپانيا
- Global Empire
- تاريخ اوروپا
- تاريخ الاتحاد الاوروپي
- تاريخ فرنسا
- تاريخ المغرب
- تاريخ البرتغال
- قائمة رؤساء وزراء إسپانيا
- قائمة رؤوس دولة إسپانيا
- قائمة الحروب الإسپانية
- Ottoman-Habsburg wars
- سياسة إسپانيا
- عمارة إسپانية
- الإمبراطورية الإسپانية
- Spanish Armada in Ireland
- Timeline of the Muslim presence in the Iberian peninsula
الهوامش
قائمة المراجع
- Barton, Simon. A History of Spain (2009) excerpt and text search
- Carr, Raymond, ed. Spain: A History (2001) excerpt and text search
- Casey, James. Early Modern Spain: A Social History (1999) excerpt and text search
- Edwards, John. The Spain of the Catholic Monarchs 1474-1520 (2001) excerpt and text search
- Esdaile, Charles J. Spain in the Liberal Age: From Constitution to Civil War, 1808-1939 (2000) excerpt and text search
- Gerli, E. Michael, ed. Medieval Iberia: an encyclopedia. New York 2005. ISBN 0-415-93918-6
- Kamen, Henry. Spain. A Society of Conflict (3rd ed.) London and New York: Pearson Longman 2005. ISBN
- Lynch, John. The Hispanic World in Crisis and Change: 1598-1700 (1994) excerpt and text search
- O'Callaghan, Joseph F. A History of Medieval Spain (1983) excerpt and text search
- Payne, Stanley G. Spain: A Unique History (University of Wisconsin Press; 2011) 304 pages; history since the Visigothic era.
- Philips, William D., Jr., and Carla Rahn Phillips. A Concise History of Spain (2010)
- Pierson, Peter. The History of Spain (2nd ed. 2008) excerpt and text search
- Shubert, Adrian. A Social History of Modern Spain (1990) excerpt and text search
- Tusell, Javier. Spain: From Dictatorship to Democracy, 1939 to the Present (2007) excerpt and text search
وصلات خارجية
- History of Spain: Primary Documents
- Spanish History Sources & Documents
- Stanley G. Payne The Seventeenth-Century Decline
- Henry Kamen, "The Decline of Spain: A Historical Myth?", Past and Present,) (Explains the complexities of this subject)
- WWW-VL "Spanish History Index
- Carmen Pereira-Muro. Culturas de España. Boston and New York: Houghton Mifflin Company 2003. ISBN