الحي اللاتيني (رواية)
المؤلف | سهيل ادريس |
---|---|
اللغة | عربية |
الناشر | دار الآداب |
الإصدار |
الحي اللاتيني رواية للكاتب اللبناني سهيل ادريس. وهي ضمن أفضل مائة رواية عربية. ويمكن إدراج هذه الرواية ضمن الرواية الحضارية التي تصور العلاقة الجدلية بين الشرق والغرب أو بين الشمال والجنوب، أي أن الرواية الحضارية هي التي تصور العلاقة بين الأنا والآخر أو اللقاء الحضاري بين الشرق بعاداته ودياناته ومعطياته الروحية وبين الغرب بمعطياته المادية والعلمية والتكنولوجية. وقد تكون هذه العلاقة بين الأنا والآخر علاقة إيجابية قائمة على التواصل والتعايش والحوار والتكامل والأخوة والاحترام، وقد تكون العلاقة مبنية على الصراع الجدلي والعدوان والكراهية والصدام. والحي اللاتيني رواية من هذه الروايات الحضارية التي تعقد مقارنة حضارية بين الشرق والغرب، كما يمكن اعتبارها كذلك سيرة ذاتية للمؤلف الدكتور سهيل إدريس لتطابق أحداث الرواية مع سيرة الكاتب من الناحية العلمية والاجتماعية والهوية الثقافية والأدبية...ويمكن اعتبارها سيرة ذهنية على غرار سيرة عبد الله العروي أوراق والأيام لطه حسين وحياتي لأحمد أمين... مادامت تركز على المعطى العلمي والثقافي وما حصله البطل من شواهد علمية وما قرأه من كتب وما قام به من علاقات غرامية وثقافية وإنسانية. وليست هذه الرواية هي الرواية الحضارية الوحيدة بل هناك روايات أخرى ظهرت منذ القرن التاسع عشر مع صدمة الاستعمار وطرح المفكرين والمبدعين لذلك السؤال الحضاري الجوهري الكبير: لماذا تقدم الغرب وتأخر الشرق؟
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
عنوان الرواية
إن عنوان الرواية هو الحي اللاتيني، وهو عنوان كلاسيكي صيغ في تركيب وصفي اسمي، خبره المتن الروائي ككل. ويشير العنوان إلى المكون المكاني الذي تجري فيه الأحداث الرئيسة في الرواية. والحي اللاتيني حي الطلبة الذين يأتون إلى فرنسا من كل أصقاع العالم لطلب العلم ومتابعة الدراسات العليا الجامعية قصد تحضير شهادة الليسانس أو الدكتوراه, ويحاذي هذا الفضاء العلمي جامعة السوربون بباريس. كما أن هذا المكان يأوي الطلبة المغتربين بفنادقه ومطاعمه ويتحول إلى أندية للنقاش السياسي والاجتماعي والفكري أو ملتقى إنساني وحضاري متنوع لتعدد مشارب الطلبة على المستوى اللغوي والعقائدي، وفضاء رومانسي وغرامي يؤثث العلاقات بين الجنسين، كما يشكل صورة واضحة للعلاقة بين الشرق والغرب.
أحداث الرواية
تصور هذه الرواية العلاقة بين الشرق والغرب من خلال المرأة باعتبارها هي المحك الأساسي لهذه العلاقة والرمز الإنساني الذي سيحكم على هذا التواصل الحضاري بين الأنا والآخر. فبطل الحي اللاتيني هو الأنا أو الشرق، وجانين مونترو هي بمثابة رمز للآخر أو الغرب. إذا، كيف ستكون طبيعة العلاقة بين هاتين الشخصيتين الرئيسيتين في الرواية؟ هل ستكون علاقة إيجابية أم سلبية؟ وما أساس هذه العلاقة ومنظورها الفلسفي؟
يبدأ الكاتب باستهلال روائي يحدد الشخصيات المحورية في الرواية: البطل وعدنان وصبحي الذين غادروا لبنان متجهين إلى فرنسا من أجل استكمال دراساتهم العليا وتحضير الدكتوراه، وكل هذا على نفقة وزارة المعارف اللبنانية. بيد أن الشخصية الدينامية هي شخصية البطل التي استقر بها المقام بعد وصولها إلى باريس في الحي اللاتيني لتكون قريبة من جامعة السوربون. وقد نزل هذا البطل عاصمة الجن والملائكة من أجل تسجيل رسالة الدكتوراه في الشعر العربي الحديث تحت إشراف أساتذة فرنسيين ومستشرقين يدرسون في السوربون.
وبعد الاستقرار في الفندق، انطلق أصدقاء البطل للارتماء في أحضان الحرية والخمرة والرقص والمجون والاستهتار والجنس بعد أن هربوا من قيود أعراف مجتمعهم وتقاليده التي جعلتهم يعانون من الحرمان والكبت. و أصبحت الأنثى لعدنان وصبحي ملاذا وجوديا ومصيرا إنسانيا ضروريا في هذا الاغتراب الذاتي والمكاني. لكن بطلنا انطوى على نفسه وانزوى في حجرته يسترجع الماضي وأصدقاءه في بيروت وعشيقته ناهدة. وعاش البطل فترة من التردد والانجذاب بين بيروت وباريس، بيروت الماضي والتقاليد الصارمة وباريس الحاضر وحرية الانعتاق. وأحس بعد ذلك بالإخفاق والفشل في الحصول على ماكان يتمناه ألا وهو الوصول إلى أنثى شقراء للتواصل معها وجدانيا وعاطفيا على غرار أصدقائه العرب ولاسيما أحمد وربيع وفؤاد وصبحي وعدنان:" تبحث عنها... عن المرأة...تلك هي الحقيقة التي تنساها...بل تتجاهلها. لقد أتيت إلى باريس من أجلها. والآن، أرأيت أنك كنت مخدوعا عن نفسك، ساعة كنت تتصور أنهن كثيرات، هنا، وأنه يكفيك أن تسير في الطريق، ليتهافتن عليك، ويحدثنك حديث الهوى؟"1.
وقرر بطل الحي اللاتيني أن ينطلق مستبيحا ماهو محرم في بلده، يقتنص لذات الحب والجنس مع مومس الرصيف ويلامس ساق الفتاة الشقراء في قاعة السينما ويسأل هذه ويطارد الأخرى كدون جوان أو زير النساء. ولكن علاقاته في البداية كانت فاشلة أساسها الخيبة والانتظار والملل والإخفاق على غرار شخصية إدريس في رواية أوراق لعبد الله العروي. ولم يأت البطل إلى باريس إلا للبحث عن المرأة العارية للارتواء الجنسي بعد أن ذاق الحرمان والمنع والكبت السياسي والاجتماعي على شاكلة بطل الطيب صالح في روايته موسم الهجرة إلى الشمال الذي هاجر بلده السودان إلى لندن لينتقم من انجلترا التي استعمرت بلده جنسيا. إنه هروب من شرق التقاليد وطقوس الخوف والقهر إلى غرب الحرية واللذة الشبقية لا للانتقام من فرنسا المستعمرة بل للتحرر الشبقي والوجودي:" أسبوع طويل ينقضي، وفي جسدك نار تلتهب، وفي مخيلتك ألف صورة وصورة لنساء عاريات، متمددات على السرر، يلسعن فكرك وجسمك بألف لسان من نار. لا، لا تحاول أن تحتج أو تنكر. أجل شرقك ذلك، لم يغرك بالهرب منه سوى خيال المرأة الغربية، سوى اختفاء المرأة الشرقية في حياتك، إلا أن تطل في بسمة لا تزيد الحرمان إلا حرمانا، أو أن تشعرك بوجودها بلمسة تائهة، خائفة، بعيدة، تملأ ذاتك بمئة عقدة، وتميت فيك ثقتك برجولتك، أو أن تسعى أنت إليها حين تشعر تارة بالغربة الروحية مع امرأة لا تعطيك إلا جسدا فيه برودة الثلج، وطورا بالاشمئزاز والغثيان يتنافس في خلقهما عشرة أسباب على الأقل...هكذا عرفت المرأة في شرقك، فعرفت الخوف والحرمان والكبت والشذوذ والانطواء والخيال المريض. عرفت الخيال على أي حال، فكان لك فيه منجى من نفسك وجوك ومحيطك ومجتمعك. وقد أمسك هذا الخيال بذهنك، فقاده إلى البعيد الذي خلقت إطاره في وجدانك فصول من الكتب، أو من مغامرات صديق..." 22.
وبعد أيام وأيام من العبث واللهو والمجون، تعرف البطل فتاة شقراء في مقتبل العمر، حسناء من الألزاس هي جانين مونترو كانت تقطن معه بالفندق الذي كان يسكنه هذا الشاب الشرقي. فكانت بينهما ابتسامات الجوار، فتحولت إلى مطاردة ثم انتهت بالحب الرومانسي الذي أعقبه الارتواء الجسدي. فصارت العلاقة بينهما علاقة وفاء وصدق والتزام حتى أصبح كل واحد منهما لا يستطيع الفراق عن الآخر. عاشا أياما حلوة وممتعة بين قاعات السينما ومسارح باريس، وبين المقاهي والمطاعم، وبين الحانات والمراقص الليلية، وكانت جانين جسدا فاتنا ووجها جذابا يثير أنظار الآخرين. وقد أشاد بها زملاؤه ولاسيما فؤاد صديقه الوفي والعزيز لديه الذي كان شريكا لفرانسواز. وإذا كانت المرأة للبطل هدفا أساسيا فإنها بالنسبة لفؤاد وسيلة للنضال الوطني والقومي، فقضيته أكبر من المرأة، فأمته في حاجة إليه لتحريرها من شرنقة الاستعمار والتخلف والاستبداد؛ لذلك سيتصادم مع فرانسواز التي كانت تدافع عن الاستعمار الفرنسي، بينما فؤاد يرفض موقفها العنصري الذي لا ينسجم مع حقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها وما دعت إليها الثورة الفرنسية. لذلك سيغادرها فؤاد عائدا إلى بلده لتشييع والده والبقاء هناك من أجل النضال القومي.
ومع مرض الأم، اضطر البطل أن يغادر باريس للتوجه إلى بيروت لقضاء العطلة الصيفية ريثما يعود في السنة الجامعية المقبلة لتكون آخر سنة لمناقشة أطروحته الجامعية نظرا لكثرة النفقات التي لايمكن لوزارة المعارف اللبنانية أن تتحملها إذا طالت مدة إقامته في فرنسا. وكان هذا السفر بالنسبة لجانين مأساة مؤلمة أثار فيها فكرة التفاوت الحضاري بين الشرق والغرب على الرغم من انبهارها بالشرق الروحاني وسحره الطبيعي الرائع وصحرائه المشمسة الفيحاء وتعاطفها مع العرب وثورتها على بلدها: فرنسا الاستعمارية. ولم تستطع أن تمنع جانين عشيقها الشرقي من السفر مادامت أمه تلح على رؤيته قبل أن تودع الحياة.
وبعد وصوله إلى بيروت، أحس البطل بالغربة والملل والضيق بسبب ابتعاده عن باريس وحبيبته جانين التي كانت ترسل إليه عدة رسائل وكان آخرها تخبره بأن له ابنا وهو جنين في بطنه وعليه أن يحسم في اختياره وأن يحدد مصير علاقتهما. وتحت ضغوطات أمه وأخته، اضطر البطل أن ينكر هذا المولود الذي قد يكون ثمرة علاقات مشبوهة مع الآخرين ولاسيما خطيبها هنري الذي فض بكارتها في بداية الأمر. ولكن جنين اتخذت موقفا نزولا عند رغبة عشيقها فأجرت عملية جراحية لإسقاط الجنين، وعانت في ذلك المرارة والألم الشديد وتغيرت صحتها وأصبحت بعد ذلك فقيرة معدمة ليس لها من يعيلها ولا عمل يساعدها على مواجهة أعباء الحياة مادامت لم تسطع الحصول على شهادة في معهد الصحافة الذي كانت تدرس فيه. وعندما عاد بطل الحي اللاتيني إلى باريس، وبخه فؤاد لأنه لم يلتزم بالحرية ولم يكن في مستوى المسؤولية، كما عاتبته مذكرات جانين ورسائلها التي اعتبرت نفسها فيها عائقا كبيرا أمام طموح هذا الشرقي الذي ظفر بشهادة الدكتوراه ، وبحبها الصادق الذي ضحت من أجله لكي يدوم ويثمر ويبقى حيا طوال حياتهما. واستلقت جانين في كهف سان جيرمان لمعانقة أفكار سارتر في التحرر من المسؤولية والانسياق وراء الاختيار الوجودي والبحث عن المصير الإنساني المفضل. لقد أصبحت شخصية وجودية فقدت الثقة في القيم والإنسان ومعايير الحياة التي يقننها العقل والمنطق.
لم يستطع البطل أن ينسلخ عن شرقه وجذوره وما نشأ عليه من أعراف وتقاليد، وقد استوعبت جانين هذا الاختلاف الحضاري جيدا على الرغم من أن عشيقها قرر أن يتزوج منها بعد أن عاتبه ضميره الحي وأراد أن يقتاد بفؤاد وأن يكون مسؤولا وملتزما بدوره الوجودي. إنه صراع بين القيم الروحية والقيم المادية، صراع بين الدين والإلحاد، وصراع بين الأخلاق والإباحية، وصراع بين الرجولة الشرقية والأنوثة الغربية، وقد يعكس هذا الصراع التفاوت الحضاري بين غرب التقدم والتكنولوجيا والعلم وشرق التخلف والخرافات كما عكست ذلك رواية قنديل أم هاشم ورواية توفيق الحكيم: عصفور من الشرق. إذا، صدام اجتماعي وأخلاقي وحضاري، وهذا ما تعبر عنه جانين في مذكراته إلى فتاها الأسمر الشرقي بعد أن رفضت الزواج من فتاها بسبب القيود الاجتماعية والفكرية والعقائدية بين الشرق والغرب:" أنا الآن على يقين من أن اجتماعنا أمس، في غرفتي المسكينة، فرض علي فرضا أن أرد فكرة الاقتران بك. لقد اجتمعت أمس بإنسان لا أعرفه. بشاب أنكرته، وكأنني ما لقيته من قبل قط. كان شعوري بعد أن تركتني يا حبيبي. لقد استعدت ما حدثتني به عن المستقبل، وعن آمالك، وعن حياة الصراع الذي أنت مدعو إلى أن تعيشها في بلادك، فوجدت أن دنياك التي تحلم بها أوسع وأعظم من أن يستطيع الثبات فيها شخص ضعيف مثلي. إنك الآن تبدأ النضال، أما أنا فقد فرغت منه، ومات حس النضال في نفسي. لقد عجزت أن أقاوم أطول مما قاومت، فسقطت ضعيفة مهيضة الجناح...
أما أنت، فقد قرأت أمس في عينيك استعدادا طويلا، طويلا جدا للمقاومة والصراع. وقد كنت قرأت مثل ذلك في عيني صديقك العزيز فؤاد، ولكن يخيل إلي أن الجذوة التي كانت تطل من ناظريك هي أشد التهابا وإشعاعا من جذوة فؤاد، تلك التي حدثتني عنها مرة في معرض الإعجاب. إنك إنسان جديد يعرف الذي يريده، ويسعى إليه بثقة وإيمان. لا يا حبيبي، لسنا على صعيد واحد. لقد وجدت أنت نفسك بينما أضعت أنا نفسي. فكيف تريدني أن أستطيع السير إلى جانبك، قدما واحدة، في الطريق الشاق الذي ستسلك؟ إنني لا أنتمي إلى جيلكم، جيل وجيل فؤاد وربيع وأحمد وصبحي وعدنان. لا، لن أذهب معك. إن بوسعي الآن أن أتمثل نفسي إذا رافقتك. ستجرجرني خلفك. سأعيق طموحك. سأعيق طموحك. سأكون أنا في السفح وتكون أنت في القمة. فامض قدما يا حبيبي، ولا تلتفت إلى ما وراءك. أما أنا فأستمد دائما من حبي لك، هذا الذي تصهره الآلام، وقودا يشع علي، فينسيني شقاء عيشي، وزادا أتبلغ به حتى أيامي الأخيرة. فدعني هنا أتابع طريقي حتى النهاية، وعد أنت يا حبيبي العربي إلى شرقك البعيد الذي ينتظرك، ويحتاج إلى شبابك ونضالك.- جانين."3 وعاد الشرقي إلى بلده بشهادته المشرفة ليبدأ نضاله الوطني والقومي، ولتحقيق طموحاته وتطلعاته بين أحضان أسرته وشعبه وأمته.
الشخصيات
لقد وظف الكاتب سهيل إدريس مجموعة من الشخصيات التي تتقابل فضائيا وحضاريا( الشرق≠ الغرب)، وجنسيا( الذكورة العربية≠ الأنوثة الغربية)، ولونيا( الأسمر العربي≠ الغربية الشقراء) لرصد التفاوت الحضاري والاختلاف الوجودي بين البيئة العربية المكبلة بأغلال الحرمان والمنع والكبت والشذوذ والعقد والخلفيات المسبقة والعادات والتقاليد المحافظة الموبوءة والبيئة الغربية التي تتسم بالتحرر والانعتاق والعلم والإقبال على الحياة ولو في ثوبها المادي اللاأخلاقي.
وإذا كانت مجموعة من الروايات العربية روايات أفضية ومكانية مثل: روايات نجيب محفوظ( زقاق المدق)، وعبد الرحمن الشرقاوي( الأرض)، ومحمد عزالدين التازي( المباءة- المغارات...)، فإن رواية سهيل إدريس على الرغم من عنوانها المكاني لهي رواية الشخصية لاسيما الشخصية النموذجية( بطل الحي اللاتيني) التي تعيش مصيرا وجوديا من خلال ثنائية الحرية والمسؤولية، الحرية في إثبات وجودها والارتواء من لذات الحياة والاستمتاع بمباهج الدنيا ومعاقرة الخمرة والإشباع الجنسي، والمسؤولية التي تكمن في الثورة على الحرمان والتقاليد البالية والعادات المستنبتة في الشرق والرغبة في النضال الوطني والقومي لتحرير الإنسان العربي من موروثات التخلف وقيود الكبت والإحجام والانطواء النفسي حتى تصبح الذات العربية قادرة على الإبداع والابتكار في مجتمع يقدس المرأة ويحررها إلى جانب الرجل حتى تساهم في العطاء والبناء الحضاري على غرار المرأة الغربية.
لقد خلق الكاتب شخصية مركزية وهي البطل واستتبعها بشخصيات ثانوية تابعة لها مثل صبحي وعدنان وربيع وفؤاد وأحمد. وتتسم هذه الشخصية بالفردية والتشبع بالفكر الوجودي الذي اكتسبه في جامعة السوربون لاسيما أن هذه الفترة كانت فترة الفلسفة الوجودية التي دعا إليها كل من سارتر وسيمون دوبوبفوار وألبير كامو، إذ قال سارتر: إن الإنسان في هذه الحياة كممثل يؤدي دوره ثم ينتهي وجوديا، لذلك دعا إلى حياة العبث واللاجدوى تحت شعار: افعل ما تشاء، حيث تشاء، ومتى تشاء. ( حرية الفعل، حرية المكان، حرية الزمان). كما أن فلسفة سارتر تنبني على مرتكزين أساسيين هما: الحرية والمسؤولية. ويلاحظ أن شخصية بطل الحي اللاتيني شخصية تعبر عن المؤلف الواقعي: الدكتور سهيل إدريس مما يعطي لهذه الرواية بعدا أطوبيوغرافيا( سيرة ذاتية)؛ لأن الكاتب يرسم هذه الشخصية حسب قناعاته وأفكاره ومبادئه التي يؤمن بها حتى تتبدى لنا شخصية نموذجية ومثالية بالمقارنة مع عدنان المتعصب دينيا وصبحي المستهتر أخلاقيا وربيع التونسي المتطرف في مواقفه الوطنية والسياسية وفؤاد الملتزم بالدفاع عن قضايا الوطن والأمة حيث تخلى عن عشيقته فرانسواز لاصطدام مواقفهما تجاه فرنسا وبطشها الاستعماري. ويجمع فؤاد بين هموم المرأة الجنسية والهموم الثقافية والفكرية والنضالية، بينما يظل بطل الحي اللاتيني بطلا معتدلا في أفكاره ووطنيته ومواقفه تجاه الوطن والأمة والآخر لا يتشنج ولا يتعصب كالآخرين، فلسفته الوجودية متوازنة، وهذا ما يشير غليه كذلك الدكتور إبراهيم السعافين:" فالشخصية المركزية هي الفكرة المثالية، والشخصيات الأخرى إما عوامل كشف عن الشخصية المركزية وتعديل سلوكها وتسويغ له، وإما تبع لها تدور في فلكها، وتنطق باسمها، فوق أنها تلقي الضوء عليها، وتكشف عن أبعادها. وشخصية بطل الحي اللاتيني قد اختارت النوع الأول من الشخصيات الثانوية حيث تبدو شخصيته قائمة على الاعتدال، فهو معتدل في فكره و معتقده، معتدل في نزواته، معتدل في وطنيته، وحتى يلقى المؤلف الضوء على هذه القضايا، لجأ إلى توظيف الشخصيات الثانوية التي تعد نماذج ابتدعها فكر المؤلف، لتحدد " نموذج" الشخصية المركزية. وأما ما نسمعه على ألسنة جانين أو فرانسواز أو غيرهما فإنه محاولة لكشف بعد جديد من شخصية البطل، في الوقت الذي لانحس فيه بوجود هذه الشخصيات في الواقع أو نكاد. فهي- على أي حال- شخصيات كسيحة شوهاء أشبه بنماذج لفكرة جبرية في رأس المؤلف. الأمر الذي أدى أحيانا إلى أن تظهر النرجسية بوضوح فيما أضفته الشخصيات الثانوية إلى الشخصية المركزية" النموذج" على نحو ما ورد في رسالة جانين الأخيرة إلى بطل الحي اللاتيني التي أشرنا إليها في حديثنا عن الأحداث والعقدة"4. وحتى على مستوى الشخصيات النسوية نجد تقابلا بينها: فجانين مونترو عشيقة البطل هي شخصية نموذجية تدافع عن العرب، وتقدر الحب والمسؤولية، وفية وصادقة في عواطفها ومبادئها، تضحي بكل ما لديها من أجل الآخرين. أما فرانسواز حبيبة فؤاد فكانت مثقفة وواعية ذوقها الفني رفيع بيد أنها كانت عنصرية تدافع عن فرنسا الاستعمارية. أما مارغريت والأخريات كمرأة الرصيف وفتاة السينما فهي نماذج وجودية مستهترة وعبثية غير صادقة ووفية، فواحدة تدعي أنها شاعرة، والأخرى تسرق نقودا من البطل، وأخرى تعد ولاتفي. أما هند في الشرق فهي نموذج للمرأة العربية الخائفة على شرفها وعفتها وجسدها ترتعد من وجود الرجل وتعطي ألف حساب للمعتقدات والأنظمة الاجتماعية الموروثة حتى تحافظ على نفسها ووجودها بين أسرتها ومجتمعها.
قد قلنا سالفا أن شخصية البطل أتت لتعبر عن فكر المؤلف مما جعلها تتميز بالفردية والنرجسية؛ لأن الشخصيات الأخرى كلها تدور في فلكها وترغب في اصطحابها ومعاشرتها على الرغم من انطوائيتها وعزلتها واحترامها لحريتها المقننة التي ترتبط بالمسؤولية. كما يمكن لنا أن نرصد مسارات في هذه الشخصية النامية الديناميكية: مسار الإخفاق والعبث والملل واليأس واللاجدوى والاغتراب الذاتي والمكاني؛ مسار التحرر الوجودي عن طريق التمركز الذاتي والإشباع الجنسي والارتواء الثقافي والفني؛ مسار النقد الذاتي وتحمل المسؤولية الوجودية والوطنية والقومية. ويمكن كذلك أن نضع تصنيفا للشخصيات في الرواية بهذا الشكل: شخصيات وجودية عابثة:( صبحي- عدنان- أحمد....)؛ شخصيات وجودية متوازنة( البطل، وفؤاد)؛ شخصيات محافظة:( الأم، ناهدة، هدى، الأهل في لبنان....)؛ شخصيات نسوية زائفة( مارغريت، ليليان، فتاة الرصيف، فتاة السينما...)، شخصيات نسوية عنصرية( فرانسواز، امرأة مطعم لوي جران التي وصفت الإنسان العربي بالمتوحش)؛ شخصيات إنسانية ضحية الظروف ولها موقف: ( جانين مونترو- تيريز). ونستغرب أن يكون بطل سهيل إدريس بدون اسم علم يحمله، إذ تركه مجهولا لتعبر عنه ملامحه وأفعاله والقيم التي يؤمن بها. وما الجدوى من اسم علم في عالم يتناطح فيه الصراع ويبرز فيه الشر وتنعدم فيه الحرية . يقول سهيل إدريس عن بطله:" ولكن من حسن حظ بطل الحي اللاتيني أن قام عشرات من الدارسين يتعاطفون معه، محللين سلوكه بين الوقائع والأحداث، ويربطونه بوضع الإنسان العربي، المحروم المقموع، جنسيا وفكريا واجتماعيا، الذي يذهب ليلتمس الحرية في فترة من الاغتراب المؤقت، حتى إذا أاشبع هذه الرغبة المقموعة والتي كانت تكبت معظم طاقاته الإنسانية والإبداعية، بدأ يعي ذاته ويستكمل مختلف أبعادها، ويوظف طاقته في خدمة قومه الذين يعود إليهم. لقد ارتكب هذا الإنسان كثيرا من الآثام والأخطاء، لأنه كان يعتقد أن الحرية بلا ثمن. ولكنه حين أراد التكفير عن خطئه، أثبت أنه أصبح يعي مسؤوليته وأنه مدعو لتوظيفها في خدمة قضاياه المصيرية."5 وهكذا نخلص إلى أن شخصية البطل اللاتيني شخصية وجودية متوازنة على الرغم من تناقضاتها، وقد اهتدت في الأخير إلى خلاصها المسؤول أخلاقيا ومصيريا ووجوديا ووطنيا وحضاريا. الفضاء الروائي: نقصد بالفضاء الروائي المكان وزمان القصة في ترابطهما الجدلي والفني والسردي. فأحداث الرواية تقترن بفضاءين متناقضين: فرنسا ولبنان، وهما يشيران إلى التفاوت الحضاري بين فضاء روحاني وفضاء مادي. فلبنان بالنسبة لبطل الحي اللاتيني فضاء الحرمان والكبت والقهر والعادات المحافظة أما فرنسا فهو فضاء التحرر والانعتاق الوجودي. ويبقى الحي اللاتيني هو الفضاء الأساسي في الرواية لأبعاده التربوية والإنسانية كما أنه ملاذ للمحرومين جنسيا وعاطفيا. وتتقابل كذلك باريس الحرية مع بيروت التقاليد والمحافظة لتشكل شخصية البطل في صراعها الذاتي والموضوعي.
أما زمان القصة، فإن كان غير محدد بشكل جلي ولكن يمكن أن نموقع القصة في فترة ما بين الأربعينيات و الخمسينيات لانتشار الفكر الوجودي وإقبال الشباب على كهوف سان جيرمان لإثبات وجودهم الجنسي والمصيري والتحرر من قيود العقل وأنظمة المنطق، والإشارة إلى خضوع الوطن العربي للاستعمار[1]