حكاية زهرة (رواية)
ملف:غلاف كتاب حكاية زهرة.GIF | |
المؤلف | حنان الشيخ |
---|---|
اللغة | عربية |
الناشر | |
الإصدار |
حكاية زهرة رواية لبنانية للكاتبة حنان الشيخ. وهي ضمن أفضل مائة رواية عربية.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أحداث الرواية
تنقسم رواية حنان الشيخ "حكايةزهرة" ، إلى قسمين ، يحمل القسم الأول عنوان ‘نُدوب السلام ونجد فيه زهرة ، الشخصية الأنثى المركزية ، وقد جرت التضحية بها بصمت ، من البنية الأبوية بمختلف مظاهرها البشعة . ويحمل القسم الثاني عنوانا فرعيا : ‘ تيارات الحرب الجارفة ’ نرى فيه زهرة شخصا مختلفة تماما ، مستعدة للقيام بأي عمل من أجل وقف الحرب ، حتى إن وصل الأمر إلى إقامة علاقة مع قنَاص ، رمز الحرب الأبوية ، وانتهت بموتها المأساوي .
2 – تجنيس الحرب في ‘‘حكاية زهرة’’
تقوم حجَتي على أن النساء ضحايا لكل من الأبوية والحرب ، ومن عقم تدمير فكرة الحرب من خلال عزل الأبوية . فعلى سبيل المثال، يصور والد زهرة أباَ مُستبدا بزوجته ، فاطمة ، وابنته زهرة ، المرعوبة منه دوما ، ‘‘ كل ما أعرفه إنني كنت خائفة من والدي ، مثلما كنت أخاف من ضرباته لها وضرباته لي ، بينما هي ترتعد و تولول بين يديه ’’ . ويعكس التركيز المكرَس على شقيق زهرة ، أحمد ، وهو طفل ، الأفكار المثالية للأبوية ، وقوة إحكامها على المجتمع . وتتذكر زهرة تصرَف والدتها حيال أخيها : ‘‘ في كل يوم ، عندما كنَا نجلس إلى مائدة الطعام في المطبخ ، ينكشف حبَها له . لقد ملأت صحني بالحساء ، وها هي تملأ صحن أحمد ، وتأخذ وقتها كلََه بحثا عن أفضل قطعة لحم له . تُنزل المغرفة في إناء الطبخ ، بحثا عن اللحمة المفرومة ، وتسكبها في صحن أحمد ’’ . وتستمر هذه العقلية الذكرية في عرض مظاهرها في الرواية.... في إدمان أحمد على الحشيش ، والاستمناء باليد ، والأغراض المسلوبة من جثث الموتى .
وتروي زهرة كيف أصبح وجهها ونفسيتها ينضحان نُدُبا جراء انحدار مجتمعها إلى هاوية الحرب ونلحظ أن والدها عزف عنها في سنوات صباها الأولى بسبب حبّ الشباب في وجهها... رمز جروحها الداخلية . وفي هذا السياق ، تُسهبُ آن آدمز في إبراز النزاعات داخل بيت زهرة ، وانطباع ذلك على جسدها : ‘‘ لم يكن فقر زهرة المدقع ، و وجهها الطافح بحبّ الشباب ، يُشهران فقط جروحها العاطفية ، التي أنبتتها هذه البيئة البيتية في الصبية الحساسة ، بل يفسران ايضاً ، وحرفياً ، ذاك الصراع المتصاعد والمستمر في المجتمع.... أي ‘‘المعركة‘‘ الدائرة بين الرجال والنساء على التحكم بالجسد الأنثوي وضبطه’’ . إنها مشكلة يعتقد والد زهرة إنها تجعل منها عانسا... دون أمل بالزواج . وهذا ما يدفعه إلى ضربها و إساءة معاملتها دون رحمة في كل مرة يراها تقشر بثور وجهها بأصابعها . "كان يعنفني تعنيفا قاسياكلما رآني انبش بذور وجهي.... وكان يستشيط غضبا كلّما شاهد وجهي ومشكلته ، كان "يَنِقَ" على والدتي بسخرية لاذعة : ذلك سيكون زواج زهرة... أي سيكون ذلك اليوم بالنسبة لها ولوجهها الطافح بالنطف" .
لم ينجح السلوك الفظََََََََ َ لوالد زهرة إلا في تعميق إحساس زهرة بالعزلةفي مجتمَع أبوي تشعرفيه بالتمييز ضدَها,وغير مرغوب بها فيه , وغير محبوبة من أقرب الناس عليها. كما يُعزَز هذا المجتَمع , إلى درجة ما , تلك الأفكار الأبوية المنشأ عن الجمال والأنوثة المُصيَرة مثالية. ولمقاومة هذه الأفكار الأبوية , بدأت زهرة عملية تشويه ذاتي تعبيراً رمزياً عن رفضها لمجتمعها وقناعاته . فبأظافرها شوَهت متعمدة وجهها حتى صار الدَم ينزَ من بثورها , وللدرجة التي غدا فيها السبب الوحيد لاستيقاظها مبكرة صباح كل يوم : " كانت بثوري السبب الوحيد للاستيقاظ كل صباح , أهرع بعده إلى المراّّّّّه كي أتفحّص في ضوء النهار الهادئ أضرار اّّّّّّّّّخر هجوم" . في هذا السياق , يعلّق جون نوولز بأن وجه زهرة لم يعد جزءاً منها , بل كناية عن المجتمع . ذلك أنها "بهجومها على بشرتها إنما هي تتنكرّ , عملياً , للقوالب غير الواقعيه والبروكستيزيّه (المرفوضه قسراً ) التي أُجبرت النساء على الخضوع لها" . وبعبارة أخرى , ترفض زهرة , بمقاومتها الصامتة , جميع المعايير التي تقيس قيمة النساء وتُقيّمها كمواضيع جنسية وحسب .
تصوّر حنان الشيخ الكيفية التي تواصل بها زهرة مقاومة النظام الأبوي القهري , من خلال الالتجاء إلى مكان تحتمي به في صمت ، كما رأينا ذلك في القسم الأول من الرواية. إذ أصبح الحمّام ملاذها الآمن الوحيد من المجتمع الخانق الذي تعيش فيه. فزهرة, مثلاًّ, تحبس نفسها في الحمّام , سواء أكان ذلك في بيروت أم في أفريقيا , حيثما واجهت ضغوطاً نفسية وذهنية, فُرضت عليها من الوالد المستبّد , ومن خالها , وزوجها. فبالنسبه لخالها الذي يعيش في المنفى في أفريقيا , جاءت اليه فكرته المثالية عن وطنه الأم لبنان, في شكل زهرة. ونجد أن وصول زهرة إلى بلد المنفى لخالها يمثل " الصّله المباشره , التي هي أكثر ما يفتقده , فتعلّق بها بكل كيانه منذ البداية ". ويُلمَس ذلك من الطريقة التي اعطى بها سريره لزهرة ، بينما هو نام على الأريكة... وكيف كان يأتي لإيقاظها كل صباح . كان يُبدي اهتماماً شديداَ بها وغالبا ما كان يغازلها بطريقة تزعجها كثيراً ، ما أعاد اليها كل الذكريات المؤلمة من ماضيها . و توّد زهرة لو تكسر صمتها الخاص و تفصح عما يدور حقّا بخلدها . خالي ، هّلا قلت لي لماذا تمدّدت بجانبي . آه ! ليتني تمكنّت من لفظ هذه الكلمات ! خالي ، ليتك تستطيع سماع دقات قلبي ،وليتك تستطيع رؤية الاشمئزاز والغضب المتراكمين في روحي ، ويا ليتك تعرف حقيقة مشاعري . إنني افقد سلامة عقلي ، ومنزعجة من نفسي ، و اكرهها لأنني لازمة الصمت . فمتى ستصرخ روحي مثل امرأة مستكينة لحب مخلص ؟"
تكشف هذه الكلمات عن الذات الدخلية لزهرة , وعن بحثها اليائس عن هويتها الذاتية . لكنها بدلاً من التعبير عن غضبها من خالها , تنسحب الى الصمت في الحمّام ."ذهبت الى الحمّام وسمعت نفسي تفكّر بأن لا انفصال عنك أيها الحمّام . فأنت الشيء الوحيد الذي أحببته في أفريقيا ... أنت والأواني المنزلية الكهربائية المركونة على الرّفوف ".
وبينما كانت زهرة تحبس نفسها في الحمّام , تذكّرت أوّل تجربة جنسية غير مرضية مع مالك , زميل العمل المتزوج في مصنع التّبغ الحكومي. وإذ تمّلكها هاجس الماضي المؤلم , الذي اعتقدت أن أفريقيا ستكون ملاذها منه , قالت زهرة :" الاّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّن أنا في أفريقيا لأنني أود أن أكون بعيدة عن بيروت" . لكنها , من سوء الطالع , تواجه الواقع القاسي من جديد عندما طلب اليها ماجد أن تتزوجه , ما ألقى بها إلى انهيار نفسي أّّّّّّّّّّخر , وإلى العجز عن مواجهة زوجها المقبل بكونها غير عذراء ." ماذا سأفعل بحياتي بعد أفريقيا ؟ وأين سأمضي ؟ لابدّ وأن يأتي ذلك اليوم عندما أتزوج ويعرف فيه زوجي أنني ما عُدتُ عذراء , وأنني أجريتُ إجهاضين".
يتبيّن أن زوج زهرة رجل جاف أخرق , وتزوج من زهرة بغاية أن يكون " مالكا لجسد امرأة أستطيع ممارسة الجنس معها حيثما شئت ... وتزوجتُ ابنة شقيق هاشم, فحققتُ حلماً طالما راودني مذ كنتُ في الجنوب ... الزواج من ابنة عائلة شهيرة " . كان غافلاً تماماً عن حقيقة إن زهرة تتوق توقاً شديداً إلى التوكيد على هوّيتها وحرّيتها :" أردتُ أن أحيا لذاتي , وأردتُ لجسدي أن يكون ملكاً لي , وأن يكون المكان الذي أقف عليه , والهواء المحيط بي لي وحدي وليسا لأي شخص اّّّّّّّّّّّّّّخر " . ولما اكتشف زوجها أنها لم تكن عذراء , انفجرت فيه نوبة غضب هوجاء , مستشعراً أن شرفه وكبرياءه قد انجرحا : " حمدْت الله أن والدتي بعيدة عني وعن هذه اللخبطة , فلم تسأل عن الشراشف المبقَعة بالدّم كي تعرضها على والدة زهرة , والجيران , والأقارب . حمدتُ الله على غياب والدتي , وعلى غياب لسانها السّليط بغيابها " . من الواضح أنه يرى إلى زهرة سلعة جنسية وحسب , وهو مالكها الوحيد. فهو لا يكترث حتى بإقامة تبادل حب حقيقي, ومشاعر صادقة تنقذها من انهيار جديد,. وعلاوة على ذلك , فقد تكون أفريقيا ملاذاً سياسياً لهاشم وغيره من المنشقّين المقيمين في المنفى , كما يمكن أن تمثل فرصاً اقتصادية لشباب مثل ماجد, لكنها ليست ملاذاً لنساء يحاولن الهروب من عائلاتهن الأبوية القمعية , ومن ماضيهن الأليم . فأفريقيا أصبحت , بالنسبة لزهرة , لبنان, ما دامت القيم الأبوية التي تعني اضطهاد النساء قد نُقِلت بحالتها كما هي , دون تغيير , إلى هناك . فخالها وزوجها كلاهما " رفضا الاعتراف بزهرة كفرد لها احتياجاتها الشخصية الخاصة" .
ولمّا عادت زهرة إلى بيروت – في القسم الثاني من الرواية – " تيارات الحرب الجارفة" , تُصابُ باكتئاب شديد يتبدّى في أعراض انسحابها وتراجعها , والأكل الزائد , ما تطوّر إلى شكل من اليأس والمرض الكاملين : " كان نومي العميق هو المرض . وتناولي هذه الكمية الهائلة من الأطعمة هو مرض. ازدياد وزني واكتفائي بارتداء المِبْذل ( الرّوب) لمدة شهرين هو مرض. البثور التي تكاثرت حتى انتشرت في كل أنحاء وجهي ورقبتي وأعلى كتفي , وعدم مكافحتها جدياً هو المرض. صمتي هو المرض. صراخ أمّي كلما لمحتني بهذا الرّوب طوال هذين الشهرين , وأنا صامتة صمتاً مطبقاً هو المرض" .
مع إندلاع الحرب , تغير موقف زهرة تغيراً جذرياً بينما بدأت تتابع أخبار الحرب . " أخذت أقرأ , بتوتّر ولكن بشوق , ما بين السطور في الجرائد بحثاً عن الحقيقة . كان ذلك يجرّني إلى حالة تفكير متواصل , ثم خوف ويأس وعدم تصديق . هل هذه الأرقام ... أرقام الموتى .. مضبوطة؟ هل هناك فعلا خطف؟ هل هم فعلا يتناولون هوية النفوس , وعلى أثرها يُقتل الشخص أو ينجو ؟ هل الشباب في حالة حرب يتلقون أوامر قادتهم ويرتدون لباس الميدان؟ هل حريق سينما الريفولي حقيقي ؟ وحريق سوق سرسق حقيقي ؟ وسوق الطويلة حقيقي ؟ ... هل جورج الحَلاق . جارنا , قد انقلب ضدّي ؟ وهل انقلبتُ ضدَه ؟ " .
تحاول حنان الشيخ أن تدمَر الفكرة الأبوية عن الحرب , بإلقاء ضوء عن مشاركة المرأة لوضع حدّ لها. فنحن نرى , مثلاً , أن زهرة لم تعد حبيسة السلامة في الحمّام , بل إنها , بدلاً من ذلك ," تجد أنها قادرة على أن تسكن أماكن أخرى , وتنتقل إلى ما هو أبعد من نمط الحياة الضيّق لوالدتها . ففي حين جَبُن اّّّّّّّّّّخرون من الخوف , اندفعت زهرة الى خضم الاضطراب" . لقد أعادتها الحرب بقوة إلى الحياة , وأجبرتها على القيام بعمل . فتطوعت لفترة قصيرة في أحد أجنحة المصابين , ما وفّر لها رؤية أعمق لشناعة وقائع الحرب . " ترى هل يزور زعماء الحرب هذه المستشفيات ؟ وهل إذا زاروها ساعة , ثم غادروها , استطاعوا أن يحيوا بقية يومهم يندمجون بعمل شيء اّّّّّّّّخر غير التفكيرفي القدم المقطوعة , والعين التي أصبحت سائلاً , واليد التي خارت أصابعها وبقيت يداً وحيدة مستسلمة ؟ لماذا لا يقف زعيم ما , عند سماعه للأنين , ويُقسِم بأن يوقف الحرب ويصرخ, الحرب انتهت , سأنهي الحرب ! لا قضية سنفوز بها إذا ما أكملت الحرب حربها , أي قضية لن تكون أهمّ من قضية الإنسان وروحه وسلامته . سأنهي الحرب ابتداءً من هذه اللحظه".
تحاول زهرة فهم الأسباب الحقيقية للحرب , وما هي جداولها , وكذلك الحاجة الماسة للعمل لإيقاف هذا الجنون المطبق . وما من شك في أن تأملاتها , في هذه الحرب الوحشية , تطرح أسئلة هامة عن دور المرأة في إيقافها , وعن الاستراتيجيات الواجب تبنّيها في هذا الخصوص . وتحاول زهرة , في محاولاتها المستمرة لوقف الحرب , أن تمنع إطلاق النار على الأشخاص الذين اُسِروا من الجانب المسيحي, بالطلب إلى رجال الميليشيات الذين تعرفهم بإطلاق سراحهم . غير أن والديها , الخائفين على حياتها , يشدّانها ويعيدانها الى البيت حيث تقعد باكية :" جلستُ أعاقب نفسي على المضايقة التي كنتُ أحسبها ضيقاً قبل بدء الحرب , والتعاسة التي كنتُ أعِدّها تعاسة , الألم الذي كنت أحسبه ألماً قبل الحرب". في هذا السياق , علّقت وفا ستيفان على الدور البّناء للمرأة في الحرب , وقالت : " كانت النساء يُهدّئن المقاتلين بزياراتهن لمخيمات اللاجئين , ومقرّات القيادات العسكرية , ويضعن الورود في فوهات البنادق" .
الحرب تضع كل حقيقة من حقائق الحياة محلّ تساؤل . فزهرة ووالدتها تتشبّثان ببعضهما خلال النوبات المتتالية لقتال الشوارع فيما بين الفصائل اللبنانية , ما جعل زهرة تلتصق بوالدتها ثانية , مثل " البرتقالة والصُرّة :" أنا وأمّي نصرخ صرخة واحدة كأننا عدنا البرتقالة وصرّتها , كما وقفنا نرتجف خلف الباب في الماضي . نعدو من زاوية لأخرى , وعندما أصبحت الغرف شفافة مكشوفة تحت أضواء الانفجارات , زحفنا إلى الرواق ونحن نتنفّس بصعوبة , وجاء الطنين القريب حتى كأنه ولد في أذني نفسها . وقبل أن أصرخ , انفجر الإنفجار , وهبط قلبي حتى صار بين قدميّ . وأصبحتُ فارغة تماماً إلا من حبالي الصوتية التي تشابكت وما عُدتُ أعرف كيف أسيطر عليها . رفعت رأسي لأرى أمّي وقد خبّأت رأسها بين يديها كالأطفال الصغار " غير قادرة على الحركة قيد أُنملة.
قرّبت الحرب البنت ووالدتها من بعضهما أكثر من ذي قبل , كونهما مروّعتين من وجهها البربري . فعلى سبيل المثال, كانت كلتاهما تصرخان لدى رؤية صورة في صحيفة لأسرة مقتولة بكامل أفرادها وهم يلعبون الورق, " عائلة بكاملها تلعب الورق , لا تزال تمسك بالورق , وشظايا القذيفة مختلطة بشظايا أجسام أفرادها , بينما كلّ شيء في بيوتهم كان طبيعياً. ملابس داخلية لطفل معلّقة على حبل غسيل داخل الغرفة". هذه الأيام تجعل زهرة تستذكر علاقة طفولتها بوالدتها , وكيف أن تلك العلاقة " أرادت أن تقرّبها منّي , وأن تقرّبني منها أكثر , وأن أنظر إلى وجهها وأرى عينيها تحدّقان في عينيّ. أردت أن أختفي في أهداب ثوبها وأصبح أقرب منها حتى من الصّرة إلى البرتقالة !". لكن بالرغم من قرب زهرة الى والدتها , إلاّ أن مشاعرها تجاهها متناقضة . ذلك أن زهرة كانت , في طفولتها المبكرة , تتأذى بإستمرار من تخلّي والدتها عنها في كل مرّة يصل رجل : " أصبح الرجل مركز حياتها , ولا شيء حوله غير جمرات طائرة " . وتتذكر زهرة أيضاً كيف كانت والدتها تصطحبها معها دوماً للتستر على علاقاتها الجنسية , ومغتاظة من حقيقة أنها (أي زهرة) كانت تُستغَلّ لخداع والدها , الأمر الذي أدّى إلى اختلاط المشاعر بين الحب والكراهية تجاه والدتها ... " لم أعد أعرف ما كانت عليه مشاعري , وإلى من أدين بولائي" . ضمن هذا الإطار , يعلّق روجر ألين , " عندما تُقدَّم فتاة صغيرة , اّّّّّّّّّّّّّّّخذة في النمو في مجتمع تقليدي ذي هيمنة ذكرية بالكامل , بأنموذج من الحل الأنثوي المثقل تماماً بأفكار وعواطف متصارعة , فلا غرابة أبداً من أن يصيبها التشوش والإنزعاج بشكل ما " . وقد ينطبق هذا على عجز زهرة عن الثقة بوالدتها , وإيمانها بالوحدة النسائية حيثما " بدا الرجال أكثر أهمية من النساء بكثير . ولعل هذا ما يقود إلى جنونها وموتها في النهاية " .
تقّوض حنان الشيخ الفكرة الذكرية للحرب بالكشف عن جانبها القبيح والتعريض به , وكيف أن هذه الحرب تلحق الضرر بالنسيج الاجتماعي على نحو كارثي . فنجد , مثلا , أن الحرب غيّرت أحمد منذ أن كان صبياً , والذي أراد والده أن يرسله إلى الولايات المتحدة. " كان أمله أن يجمع القرش فوق الأّّّّّّّّّّخر حتى يتسنّى له إرسال أخي أحمد إلى الولايات المتحدة ليتخصّص مهندساً كهربائياً" إلى عضو ميليشيات غير متحضّر , يغمره كبرياء هائل في السظو على بيوت الناس لنهبها وتدنيسها وتدميرها . " كان أحمد قد بدأ يتسلّل عائداً ومعه أشياء أخرى غير البندقية , وغير لفائف الحشيشة . كان يحاول اخفاءها وراء ظهره ريثما يعبر صالة الجلوس إلى غرفة والديّ" . فالقتل بالنسبة لأحمد يعني الإسترجال الذكري – فهو على الأقل ليس مثل امرأة مُنزوية في البيت . وأصبح أحمد رمزاً للاتجاهات الفظّة والمستبدة في مجتمع راح الاّّّّّّّّن يدعمّها بعد أن ساعد في تجنيس الحرب" . لقد زوّدت الحرب أحمد قوة على الاّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّخرين , وطريقاً لكسب المال بالسرقة والنهب , حتى لكأن انتهاء الحرب يقلقه , لأنه سيعني بالنسبة له نهاية للهوية المتبدلة التي أضفتها علية هذه الحرب . " لا أريد للحرب أن تنتهي . لا أريد أن أحتار بما سوف أفعله . الحرب قرّرتْني. قرّرت يومي وليلي وجيبي . الحرب وظيفة لاءمتني , خاصة بعد الأشهر الأولى التي كنت فيها خجلاً ، متردداً ، خائفاً لاصبح بعد الاشهر الاولى فخوراً كديك الحبش , أرفع عُرفي , وأنفش ريشي وصدري ".
تعكس كلمات أحمد الطريقة التي وفّرت فيها الحرب عملاً له ولرفاقه " لم يكن متوافراً لهم في السابق , ومن دونه لم يدروا ما سيفعلون ". فهو فخور بانتمائه إلى النظام الأبوي , ويتبّنى قيمه الرجالية . وتصوّر حنان الشيخ كيف فكّكت الحرب المجتمع اللبناني . ومن المظاهر المتكررة لذلك تعاطي المخدّرات , وفقدان القيم الأخلاقية , وتعطيل المؤسسات التقليدية . وفيما يتعلق بالمخدّرات , يتحدث أحمد بزهو عن شرعية تعاطيها خلال الحرب : " تعطي المخدرات للحرب أبعاداً أخرى لا يفسّرها أحد , إنما نراها وغمامة فوق أعيننا وفوق الزّناد . ننسى ما رأيناه ... ننسى مدافعهم وقنابلهم , ننسى كل النيران مع أننا نتعاطاها . لكن إذا سألت نفسي ماذا حقّقتُ , لأجبت : سمعتُ أوامر قائدي وحقّقت الكثير بأنني لم أنزو في البيت مع النساء " .
وبالنسبة لفقدان القيم الأخلاقية , ترتجّ مشاعر زهرة من وقاحة أحمد بالاستمناء أثناء وجودها . وتستغرب كيف غيّرت الحرب قيماً أخلاقية إلى مثل هذه الدرجة التي أصبح فيها كل شيء ممكناً في الحرب . " رأيته يداعب نفسه , فأسرعتُ الى غرفتي وقد راعني المنظر ... أسأل نفسي لماذا تبّدل كل شيء في هذه الحرب حتى أصبح أحمد يداعب نفسه , غير عابئ بوجودي وكأنه وحيد مع نفسه ... اّّّّّّّّّّّّه يا حرب !... أحمد , أنت في الغرفة المجاورة تداعب نفسك , بينما تلفظ أنفاسك دخان الحشيش , وتعود تستنشق الدخان وتعود تلفظه , وتعود تستنشقه وتُدخّنه , وتداعب نفسك وتصبح قريباً منها بعد أن قتلتَ وسرقتَ وركضتَ وتباطأتَ وحقدتَ .
زهرة متمكنة من انتقاد انهيار القيم الأخلاقية , وتنأى بنفسها عن النظام الأبوي كي تتمكن من تطوير قيم السلام والتسامح والمساواة . وهي مدركة بأن تلك الحرب نشاط ذكري , وأن النساء هن الضحيّة النهائية لأحوالها . وفي هذا السياق , تقول فرجينيا وولف , " إن استبعاد النساء من التقاليد الأبوية يجعلهن حُرّات على نحو فريد من الطمع والأنانية اللّذين رسّختهما تلك التقاليد , وأشد رغبة وإدارة لإنتقادها . والنساء بكونهن محرومات من المكافاّّّّّّّّّّت الاقتصاديه والاجتماعية لصالح التعدّي والطمع الممنوحين للرجال , إنما يكنّ أكثر حرية في تطوير قيم ضرورية للسلام , مثل التعاون والمساواة والابداع ".
وقد علّقت الحرب اضطهاد والدها , الدور الأبوي , الذي تراجع الى الخلف . فهو يترك بيروت عائداً مع زوجته إلى قرية الأجداد , ما له دلالة واضحة على عدم رضاه عن الحرب . وتركا زهرة في بيروت , التي لم يكن ليسمح لها سابقاً بالعيش وحدها دون قمع العرف الأبوي:" والتفتُّ إلى والدي الذي لم أره في مثل هذا الضعف . فقد بدا وكأن لا صوت له ولا قوة . لا يزال يهزّ رأسه وهو يحاول أن يُقنع أحمد بترك كل شئ والذهاب معنا الى الضيعة " . حتى حزام والدها لم يعد يشكل تهديداً لها ، فقد قوقعته الحرب ، وجعلته أداة بلا روح ولا قوة . وهو الحزام ذاته الذي كان يجلد به والدتها , وغرس الخوف في نفس زهرة .
وعطّلت الحرب المؤسسات التقليدية . ويوفّر هذا التعطيل للنظام الأخلاقي الراسخ متنفساً ما لزهرة . فانتقلت إلى مسكن خاص بها , وهي قادرة على تقنية طاقتها لصالح بقائها على قيد الحياة . وفي إطار هذا المجال الجديد الذي خلقته الحرب , تتقنّى طاقات زهرة الهائلة , في التوكيد على مجموعة جديدة من القيم الإنسانية , التي تمكّنها من مقاومة قانون الغاب الذي يمثله أحمد وجيله . وقد عبّرت بوضوح عن سخطها من كلام شقيقها وأغراضه المسروقة : " وسددْت أذنيّ وأنا أصرخ به : " أوعى تحكي بعد ! وانكفأتُ" أبكيَ في غرفتي .
المقصود من علاقة زهرة المعقدة مع القنّاص وقف الحرب , حتى وهي تستخدم لغة الإغتصاب . فبالنسبة لزهرة , إذا كانت غير قادرة على وقف الحرب والموت , فهي قادرة , على الأقل, على إرجائها بخلق قيم جديدة للحب , والتعايش , والتسامح . وكانت تتساءل في كل مرّة تلتقي القناص :" ما هو يا تُرى الشيء والحدث الذي يُلهي القنّاص عند تصويب البندقية , بل يجعله يفتح فَمَهُ من الدهشة ؟ ربما ظهور فرقة من الزنوج ترقص على أنغام الطبول غير مبالية بالرصاص وبالحرب؟ أم نوري وسعدانه ؟ أم مرور امرأة عارية؟ لربما عندما يرى مشهداً من هذه سيتوقف برهة ليسأل ماذا يجري ؟ ماذا يحدث؟ هل جُنَّ هؤلاء , والحرب لا تزال ؟ هل جُنّ هو بقنصه للأبرياء؟ " .
كان مشي زهرة عارية الصدر أمام القناص محاولة منها لصرفه عن مهمته القاتله. ولو وضعنا المسألة بشكل اّّّّّّّّخر لقلنا إن زهرة حدّدت لنفسها مهمة أخلاقية هي أن تأتي إلى القناص وتقيم معه علاقة جنسية وعلاقة شفوية , على أمل أن تخفف , هذه الأشكال من الاتصال , من فظاعة حقائق الحرب , وتلأم جراح وطنها المكلوم والمحطّم . فنجد في علاقة زهرة بالقناص أنها استخدمت جسدها كلغة لأنسنة هذا " الوحش الكاسر" " لقد قدّمت له جسدي , وحظيّ في الحياة والموت " وطرحت على نفسها عدداً لا يحصى من الأسئلة , في محاولة لفهم ما يجعل القناص قنّاصاً , وإلى الحدّ الذي غدا ذلك هو المغزى الذي تتوق توقاً شديداً لإيجاده في ذاتها . "فمن أوحى له , أو من أصدر له الأمر حتى يقنص المارّة المجهولين ؟" .
وجسد زهرة , الذي أتلفه الماضي المؤلم , يُستخدم الاّّّّّّّّّّّّن بطريقة خلاّقة لهدف له معنى . فهي تجرّب , الاّّّّّّّّّّّّن , اللّذة الجنسية لأول مرّة , وهو أمر افتقدته في علاقاتها التقليدية السابقة مع مالك ومع زوجها ماجد :" ماذا حدث لي أنا الصارخة على بلاط وسخ في بناية مهجورة , أنفاسها أنفاس الرّعب والحزن , وملكها إله الموت ؟ لقد إرتعش جسمي لأول مرّة منذ ثلاثين عاماً . وهنا , أخذ هدف جديد يجدّد حياتها , وهبط عليها السلام لأوّل مرّة , حتى لدرجة التفكير بالزواج من القناص , الرجل الوحيد الذي تقبّلها كمساوٍ له . " وكلّ ما أتمنّاه الاّّّّّّّّّّّّّّّن أن تنتهي الحرب حتى يصبح سريرنا سريراّّّّّ اّّّّّّّخر ... كل ما أتمنّاه أن يتزوجني هذا القناص , لأني أريد أن أكون معه دائماً , ولأن العيش معه دون زواج مستحيل ".
يعتبر التبادل الجسدي بين زهرة والقناص رمزاً لإيمان زهرة بالسلام وبالقيم الإنسانية . ويُنظر إلى محاولتها اليائسة لإيقاف الحرب , عن طريق تقديم جسدها وروحها للقناص على أنها أداة تفويض وتمكّن . ذلك أن زهرة تمكنّت من خلالها من الدفاع عن مجتمع أكثر إنسانية ومسالمة , وأقلّ بربريّة من ذلك المجتمع المحكوم بأيديولوجية الأبوية الاستبدادية , التي تحطَم أي أمل بمستقبل أفضل للمرأة . وتفكّر زهرة ملياً في لقاء القنّاص لبحث زواجهما مستقبلاً متى ما وضعت الحرب أوزارها :" غدا سأذهب إليه كالعادة , وسيكون لقاؤنا لقاءًآخر . سأفتح الموضوع وسأناقشه في كل شي عن القنص والزواج . غداً سيكون الغد الحاسم بالنسبة لحياتي كلّها . أريد أن أعرف كل شيء ! يجب أن أقرّر حياتي في الغد ".
في نهاية الرواية , تُبلغ زهرة القناص بأنها حامل منه , ما ولّد لديه ردّاً ذكورياً :" دخيلك يا زهرة لازم تطرّحي ". وسرعان ما غيّر عشيقها موقفه , مؤكداً لها أنه سيتزوجها . " شو بدّك تروحي , بكره بكون عندكم أنا وأهلي " . ويجعل التفكير بالشرعية والأمل زهرة تعتقد بأن الحرب انتهت , وحان وقت بناء مستقبل جديد : " وأتساءل , هل كان على الحرب أن تطلّ بكل وطأتها , بكل مآسيها , بكل خرابها , حتى تعيدني إنسانة طبيعية؟". غير أن مشاعرها لم يكن لها أن تدوم على ما يبدو . فقد أحسّت بألم شديد , ووجدت نفسها ساقطة في الشارع والدّم ينزف من جسمها :" بدأت أعتاد على الألم المريع كما اعتدت على الظلمة , وأغلقتُ عيني للحظة ورأيت نجوم الألم . عدتُ فرأيت أقواس قُزح في سماوات بيضاء . إنه يقتلني . قتلني بالرصاص الذي كان الى جانبه وهو يُضاجعني . قتلني والشرشف الأبيض حيث تمدّدت قبل وقت قصير لا يزال . هل قتلني لأنني حُبلى, أم لأني سألته إذا كان قناصاً؟ كأن احداً يسحبني , هل أصرخ . دخيلكم !" .
قد يُرى إلى موت زهرة المأساوي , في نهاية الرواية , دليلاً على أن الحرب لم تنظف القوى الأبوية التقليدية التي تجيز شرعاً كل ما يضطهد المرأة , " رغم أن الحرب حرقت معها مقاييس الغنى والفقر , الجمال والبشاعة " . ولعل هذا هو السبب الذي جعل حنان الشيخ تموضع اللقاءات الجنسية بين زهرة والقناص في سلالم بناية مهجورة " – ما يشير إلى عقم هذه العلاقة و عدم جدواها ، والمقدَر لها أن تقتل أي أمل بحياة جديدة .
3. الخلاصة
ختاما ، كانت هرة ضحية كل من الأبوية والحرب . فزهرة تسقط أمام البنى الهيكلية الأبوية ذاتها ، متمثلة الآن في شكل القناص ، التي سبَبت لها الآلام في شبابها . وقد أخطأت زهرة التفكير بأن الحرب – بالرغم من جانبها القبيح- قد تكون بداية جديدة تدشَن فيها حياة صحية و اعتيادية . في رواية "حكاية زهرة" ، أكدت حنان الشيخ على حديث بارز القوة للمرأة . ويلمس ذلك من خلال حياة زهرة ، ابتداء من صمتها حتى سعيها الحازم من أجل القيام بعمل ذي قيمة ، وبعيد كل البعد عن الانتماء السياسي المحدود ، وبهدف وضع حد لهذه الحرب الهمجية . وتسجل حكاية " رواية زهرة" رفض المرأة لخطاب الحرب ، وللأبوية التي تولدَها . زهرة تنبذ ، كامرأة مضطهدة فرض عليها الصَمت ، هذه القيود وتشدَد على حقها في الإفصاح عن معارضتها للنظام الأبوي المستبد . وفي هذا الخصوص ، تقول العقاد إنه " ينبغي على النساء والرجال العمل معا نحو وطنية مقوَمة ، مجردة من شوفينيه المذكَر ، ومن الحرب والعنف .
من هنا ، فإن أية محاولة لوقفها ، من دون تحطيم الأبوية الشنيعة ، ستكون جهدا ضعيفا واهنا ـ يبذل في إطار أبوية مستبدة ، كما رأينا في موت زهرة المأساوي . وأخيرا ، ترمز أعمال زهرة باسم الإنسانية والقيم المحتضرة إلى بيان أنسني دفاعا عن السلام والحب والتسامح .[1]