طائر الحوم (رواية)
المؤلف | حليم بركات |
---|---|
اللغة | عربية |
الناشر | الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع |
الإصدار | 1988 |
عدد الصفحات | 159 |
طائر الحوم، هي رواية شهيرة للكاتب السوري حليم بركات. وهي ضمن أفضل مائة رواية عربية.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أحداث الرواية
في هذه الرواية يقدم لنا حليم بركات بأسلوب شاعري أخاذ ، تقريراً صادقاً عن حياته الشخصية ، ففي رواية قصيرة ذاتية ومركزة يستعيد بركات ماضيه كله ويزودنا بوثائق أصيلة عن رحلة حياة طويلة في الاقتلاع والحنين إلى الوطن والإغتراب والنفي الأبدي ، مما يجعل القارئ يلهث وراء الكاتب في رحلته القاسية والشديدة الانحدارات محاولاً أن يجد أجوبة لتلك الأسئلة الصعبة التي طرحتها الرواية .
لكن تجربة الكاتب الشخصية سرعان ما تتحول إلى بيان عام أشمل يتجاوز واقع كاتبها لينسحب على المفكرين العرب الذين يعانون الاضهاد والنفي يأتي كل هذا بأسلوب اعترافي يفصح عن تجارب شخصية غاية في الخصوصية ويكشف بصراحة متناهية عن أفكار مغيبة في لا شعور الكاتي ويسلط الضوء على خمسين سنة من تاريخه وأحداث حياته .
حليم بركات وبركات الذي هو داعية من دعاة التغيير السياسي والإجتماعي في العالم العربي وعربي قومي معروف ، إذ يركز على حياته الشخصية ويعرضها أمامنا عارية إنما يقوم من خلالها بكشف عري العالم أجمع وعري علاقاته في آن معاً . وفي كتابته المهووسة بحنين جارف لقريته وطفولته ووطنه وأبيه وأمه يسيطر اللاوعي واللاشعور على قلمه فيستحضر أحداثاً دفينه من الماضي ويستدعي أحلاماً وذكريات غيبها النسيان .
سابقة ومستترة في النماذج البدئية واللاوعي الجمعي للفرد والأمة على السواء فيسكر قشرة أسراره منذ الطفولة ويمليها في واقع راهن فتأتي في مشاهد ملونة ومأساوية معاً . وقد قال فيها الروائي الكبير عبدالرحمن منيف إن هذه الرواية ” تذكر وبوح وتأمل .. وكتبت بدماء القلب ” . تبدأ بنقطة إرتجاع سينمائية وتنفتح على مشهد من الماضي هو ” الكفرون ” قرية الكاتب ومسقط رأسه إذ تظهر في السماء أسراب من طيور الحوم الوديعة الرائعة الجمال تتأمل رحيلها إلى مناطق دافئة بعد أن إنتهى موسم الصيف وبدأ فصل الخريف . وسرعان مايتحول هذا المشهد الهادئ الجميل إلى مشهد دموي إذ يطلق الصيادون الأشرار نيران بنادقهم فجأة على الطيور البريئة فتسقط مضرجة بجراحاتها بأجنحة مترنحة ويتناثر ريشها الأبيض والأسود فوق رؤوس الأشجار ثم يسقط في النهر حيث يمتزج ماؤه بالدماء . وأمام هذا المشهد يقف الطفل الرواوي مراقباً بجزع وخوف الطيور الصامتة البريئة وهي تنتظر موتها البطئ . ومنذ هذه اللحظات يتوحد الطفل بطائر الحوم ليصبح عنده ، فيما بعد ، رمزاً للمفكر العربي المظهد ، المحاط بكل قوى الشر والطغيان ، الذي يدور إلى الأبد حول الكرة الأرضية ولا يجد مواطئا لقدمه ، باحثاً على الدوام عن الحرية والخلاص لنفسه ولأمته في آن معاً ، وناشداً الحلول لتناقضات الكون الحادة في الفرح والحزن ، في الفقر والغنى ، في الحب والكراهية ، في الشرق والغرب ، وفي البحث عن معنى الحياة والموت.
بات الطفل الرواي الذي شهد عدوان الصيادين وشر الناس معذب روح الطفولة نتيجة الظلم والعدوان الممارس ضد الطيور والمنطبق على الأفراد والمجتمعات والأمم . كما بات مشحوناً بكراهية شديدة لبشاعة هذا العالم ، الذي ينذر نفسه داعية للتمرد والحرية والثورة في كل مجالات الحياة ، على مستوى الفرد والمجتمع معاً . ويؤمن بشكل عميق بأن أبيات بابلو نيرودا – التي أوردها في الصفحة الأولى من الرواية : ، هذه هي الأرض التي أغرقت جذورها في شعري عمقها في داخلي كما في تلك البحيرة المفقودة تسكن رؤية طائر ، تنطبق على العالم العربي وبشكل أكثر تحديداً يؤمن بأن نيرودا ماهي إلا رؤيته هو والتي تنشد الخلاص وتسعى إليه .
وحقيقة أن بركات يتصدى في روايته هذه لموضوعات صعبة ومعقدة وتنسحب بالتالي على الماضي والحاضر والمستقبل . وأبعد من هذا فانه يأخذ طريق الخلاص وذاك عن طريق مايقدمه الكاتب من رؤى وإضاءات تستشرف المستقبل . والواقع أن مثل هذه المواقف القومية ليست بالغريبة ولا بالجديدة . فسبق للشعراء والروائيين العرب أن حملوا أنفسهم مهمة تصوير وتأريخ ويلات شعوبهم بما فيها وقائع الظلم التي يعيشها شعب فلسطين ، ووقائع التعسف التي يقوم بها القادة العرب ضد شعوبهم ، وأوضاع التفتت والإنقسام في الأمة العربية . إلا أن بركات يخرج عن إطار مسؤوليته تجاه الوطن العربي ويتجاوزها إلى العالم كله إذ يتوحد بشعب افريقيا في جوعه وفقره ، وبأطفال اليابان في مأساتهم إثر ويلات القنبلة الذرية في هيروشيما كما يتوحد بالأقلية السوداء في الولايات المتحدة في نضالها لإنهاء سياسية التميز العنصري . إنه باختصار يتوحد بكل الضعفاء والمقهورين والمظلومين في العالم وبكل العاجزين الذين لا صوت لهم . أن مثل هذا التوحد الإنساني مع المسحوقين ومثل هذا التعاطف الكوني معهم إنما يأخذ مثالية عالية مليئة بصيحات تبشرية متواصلة تحض على التمرد والرفض والمقاومة .
وفي مشهد آخر يستعرض بركات ذكرى أليمة عصفت به وهو طفل حين يقف برعب وهول أمام فراش أبيه الذي كان يواجه الموت في آخر لحظات احتضاره ، فتأتي كلماته بالغة التأثير قوية ، خارقة للروح وباعثه على البكاء . ولا بد لنا أن نسجل هنا أن ماكتبه بركات في هذا الصدد يعتبرمن أكثر الكتابات قوة وتأثيراً في الأدب العربي الحديث . إضافه إلى أن وصفه لشخصية أبيه ، هذه الشخصية التي طغت على الرواية وتسربت في ثناياهها ، تدخل وعي القارئ ولا تخرج منه . لقد رسم صورة رائعة ، صورة أب أصيل من أيام الدنيا الغابرة ، مثالي ، ذي وقار وذي هيبة يمضي عمره في خدمة زوجته وأولاده ، مجبول بالحب والتضحية وهذا الطفل الذي فقد أباه في الكفرون والذي شهد موته المفاجئ الأليم والذي فقد صورة المثال الأعلى ، والقدرة في الحياة ، هذا الطفل يكبر ثم يرحل إلى أمريكا ويصبح أستاذاً جامعياً . لكنه في البلد الذي هاجر إليه يعود لمواجهة الموت من جديد . هذه المرة يواجه موت أمه الطاعنة في السن ، إلا أن التجربة هنا تختلف فهذه السيدة الفاضلة النبيلة والتي كان الكاتب قد أهداها أحد أعماله الروائية بالعبارة التالية ” إلى الملحمة التي كانت حياتها سلسلة عطاء ومحبة ” .هذه الأم هي مريضةالآن بأكثر من مرض ومصابة فوق ذلك بالنسيان وأمست في حالة فقدان وعي دائم و تتأرجح مابين الحياة والموت . ومع تأرجحها المرير هذا يتأرجح الكاتب معها بين هذين العالمين . فالكاتب المعذب بعذابات أمه والآمها يعيش من جديد تجربة موت أبيه ويقف ممزقاً وعاجزاً عن فعله أي شيئ إلا الدعاء لله أن يأخذ أمه إليه رأفة بها وبه ، وفي هذا المشهد يغوص الكاتب في معاني الموت والحياة ويطرح فيها أسئلة كونية وأن كانت كلماته في موت أبيه حادة ومؤثرة إلا أن كلماته في وصف صورة أمة مقديسة لا تقل قوة وحساسية عنها بل تنحفر بعمق في وعي القارئ وتبقى خالدة .
لاشئ يموت ولاشئ يتلاشى في ذاكرة الكاتب ، فها هو يستعيد مشهد آخر لشخصية من أيام طفولته تعمل أثراً في النفس لا يمحى . إذ كان في القرية شخص معتوه يدعى مخول ، كان غريباً ومشرداً وعجيب الخلقة . لا أحد يعرف من أين جاء أو أين ولد ، لذا كان عرضة مستمرة لتهكم أطفال القرية وإهاناتهم غير المحدودة ، يضحكون منه ويلاحقونه بالعصي والحجارة على مر السنين . ويأخذ المشهد بعداً مؤثراً حين يتذكر الكاتب أن أباه كان في إحدى الأمسيات يغني بصوته الدافئ أبيات العتابا بلحن عاطفي حزين ، وكان في الشارع وخلف الدار يقف مخول يجهش بالبكاء وتنهمر الدموع بمرارة على وجهه ، لقد اخترقت أبيات العتابا روح ذلك المعتوه وأثارت شواجنه الدفينة وعواطفه المقموعة في داخله . أزاء هذا المشهد يحدث وعي فجائي عند الطفل ظ الراوي تجاه مخول ويتعاطف معه ، وينذر نفسه للدفاع عنه ضد أطفال القرية .
ربما كانت أعظم خدمة قدمها بركات في روايته هذه هي تخليدل قريته ومسقط راسه كفرون ، فهذه القرية المغمورة الصغيرة في سوريا والتي لم يسمع بها كثيرون تصبح فجأة ذات شأن ومعروفة في العالم أن حب الكاتب الشديد لها واخلاصه الهائل لها ووصفه الحي لأشجارها وكرومها وطرقها وأوديتها وأناسها والذي سيطر على الرواية كان ذا أهمية بالغة في تحويلها إلى مكان تاريخي ذي دلالة خاصة ، وفي جعلها بطلاً رئيسياً في الرواية .
إنه لمن المفارقة أن نجد الكاتب يطلق لفظ حبيبتي على زوجته طوال الرواية ، إلا أنه لم يستطع ان يعطيها وصفاً غنياً أو رائعاً كما هو الحال في معظم شخصيات الرواية ، ونجد أن الحوار والجدال بينهما لم يكن إلا وسيلة وأداة فنية هدفها استدعاء الأحلام واستحضار ذكريات الماضي وأثارة التساؤلات حول المستقبل ، وعلى طوال الرواية بأسرها تبدو علاقته بها ، وكذلك علاقتها به ، علاقة فكرية محورية المركز دون أن تكون علاقة حب حقيقي بين شريكين . إلا أن ” طائر الحوم ” تبقى واحدة من اقوى الروايات في الأدب العربي الحديث ومن أكثرها شفافية وحساسية . وهي في حقيقة صراحتها وأسلوبها الاعترافي نادرة ومميزة ، أنها رواية مليئة بالمشاعر وبالألتزام الحميمي وبروح المقاومة . انها حقاً بمثابة مرآة لروح هذا الكاتب وسجل حافل بتاريخه الشخصي ، وسجل تاريخي خالد لقرية كفرون ، إنها تبدو كشجرة علقت على أغصانها أحداث أجيال متعاقبة ، وأنها بحق إنجاز كبير آخر يضاف إلى أعمال هذا الروائي وشهادة ميلاد وجواز سفر .[1]