اقتصاد اليونان القديمة
كان الاقتصاد في اليونان القديمة يقوم على العديد من النواحي ، فقد اشتهرت بلاد اليونان بالزيتون ومنتجاته وكذلك الكروم والنبيذ ، بالتالي فانها بدأت بعد استعمال حاجات مدنهامن تلك المنتجات بدات تفكر في التصدير للبلدان المجاورة وبذلك ربطت بين الزراعة والتجارة من ناحية ، ومن ناحية أخرى كانت الفضة من اهم المعادن الموجودة في بلاد اليونان واستلزم بحكم طبيعة بلاد اليونان الجغرافية الاتسعانة بالبحر كوسيلة من وسائل النقل الارخص والامن وقامت صناعة السفن وبدأ الاهتمام بتقوية الأسطول البحري لحماية طرقها التجارية.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الصناعة
كانت الصناعة في اليونان القديمة وإن كانت صغيرة في حجمها دقيقة شديدة التخصص في نوعها ، فقد كانت تستخرج الرخام وغيره من الحجارة من محاجرها ، وتصنع آلافاً من أشكال الآنية الخزفية ، وكانت تدبغ الجلود في مدابغ كبيرة كالتي يمتلكها كليون منافس بركليز و أنيتس الذي وجه التهمة إلى سقراط. وكان من أهلها فوق ذلك صانعو العربات ، وبناءو السفن وصانعو السروج وسائر عدد الخيل ، والحذاءون ، وكان من صانعي السروج مَن لا يصنعون إلا الأعنة ومن الحذائين مَن اختصوا بصنع أحذية الرجال أو النساء. وكان من المشتغلين بحرف البناء نجارون وصانعون للقوالب ، وقاطعون للأحجار ، ومشتغلون بالمعادن ، ومصورون ، وطالون للجدران والأخشاب. وكان فيها حدادون وصانعون للأسياف والدرو ع، والمصابيح ، والقيثارات ، والطحّانون ، والخبازون ، والوزامون والسماكون- وجملة القول أنها كانت تحتوي على كل ما تطلبه الحياة الاقتصادية الكثيرة العمل المتنوعة الأشكال ، غير الآلية أو المملة.
وكانت أرض أتكا تنتج المعادن والوقود كما تنتج الطعام ، وكان الأهلون يضيئون بيوتهم بمصابيح جميلة المنظر ، ومشاعل يستخدمون فيها زيت الزيتون المكرر أو الراتينج- أو بالشموع. وكانوا يدَّفئون بالخشب الجاف أو الفحم الخشبي ، يحرقونه في مواقد متنقلة.
التعدين
قد عريت الغابات والتلال القريبة من المدن لكثرة ما قُطع من أشجارها للوقود والبناء ، حتى أضحت البلاد في القرن الخامس قبل الميلاد تستورد الخشب الذي تحتاجه لبناء البيوت والسفن وصنع الأثاث. أما الفحم الحجري فلم يكن لهُ وجود. ولم يكن الغرض من التعدين في بلاد اليونان الحصول على الوقود ، بل كان غرضه استخراج المعادن ، وكانت أرض أتكا غنية بالرخام ، و الحديد ، و الخارصين ، و الفضة ، و الرصاص. وكانت مناجم لوريوم القريبة من الطرف الجنوبي من شبه الجزيرة "فوارة تندفع منها الفضة ، لأثينا" كما يقول إسكلس. وكانت هذه المناجم أكبر ما تعتمد عليهِ الحكومة ، فكانت تحتفظ لنفسها بملكية كل ما تحت التربة ، وتؤجر المناجم إلى من يستغلها من الأفراد نظير أجر محدد قدره وزنة )تالنت أي 6000 ريال أمريكي( وجزء من أربعة وعشرين جزءاً من غلتها في العام.
ولما اكتشفت أولى العروق المربحة في لوريوم عام 483 هرع الناس إلى إقليم المناجم لاستخراج الفضة. ولم يكن يسمح لغير المواطنين بأن يستأجروا تلك المناجم ، ولم يكن يقوم بالعمل فيها سوى العبيد. وكان نيشياس Nicias التقي ، الذي ساعد بخرافاتهِ على خراب أثينا ، يكسب ما يعادل مائة وسبعين ريالاً أمريكياً في اليوم الواحد بتأجير ألف عبد إلى مستغلي المناجم بما لا يزيد على أبولة واحدة )17 0 من الريال الأمريكي( لكل منهم في اليوم ؛ وما أكثر الثروات التي جمعها الأثينيون بهذهِ الطريقة ، أو بإقراض الأموال اللازمة لهذا الاستغلال.
وكان عدد العبيد في المنجم يبلغ أحياناً عشرين ألفاً ، وكان منهم المشرفون عليهم والمهندسون. وكانوا يعملون في نوبات تطول كل منها إلى عشر ساعات ، ولم يكن العمل ينقطع ليلاً أو نهاراً ؛ فإذا ما تباطأ العبد أو استراح ألهب المشرف عليه ظهره بالسوط ، وإن حاول الهرب صُفّدَ بأغلال من حديد ، وإذا هرب وألقي القبض عليه كويت جبهته بالحديد المحمي. ولم يكن عرض المنجم يزيد على قدمين ، ولم يكن ارتفاعه يتجاوز ثلاث أقدام ، وكان العبيد يعملون فيه بالمنقب أو الإزميل و المطرقة ، وهم جاثمون على ركبهم ، أو منبطحون على بطونهم أو مستلقون على ظهورهم.
وكانت الخامات بعد تكسيرها تُنقل في سلال أو أكياس يتناولها رجل من رجل ، لأن الممرات لشدة ضيقها لا تسمح لاثنين أن يمر أحدهما بالآخر بسهولة. وكانت الأرباح التي تُجنى من هذهِ المناجم غاية في الضخامة. وحسبنا دليلاً على هذا أن إتاوة الحكومة منها بلغت في عام 483 مائة وزنة )نحو 600.000 ريال أمريكي(- وهي ثروة رُزِقتها أثينة من حيث لا تحتسب واستطاعت أن تُنشئ بها أسطولاً تنقذ به بلاد اليونان كلها عند سلاميس. ولقد عاد هذا العمل بالخير والشر معاً حتى على غير العبيد فقد أصبحت خزانة أثينا بسببه تعتمد كل الاعتماد على المناجم فلما أن استولى الاسبارطيون على لوريوم في حرب البلوبونيز ، اضطربت أحوال أثينا الاقتصادية من أولها إلى آخرها ولما نضب معين المناجم في القرن الرابع كان نضوبها أحد العوامل الكثيرة في اضمحلال أثينا ، وذلك لأن أرض أتكا ليس فيها معدن ثمين غير الفضة.
وصناعة التعدين تتقدم بتقدم استخراجها. فكانت الخامات المستخرجة من مناجم لوريوم تدق في مهارس ضخمة بمدقات ثقيلة من الحديد يحركها العبيد ، ثم تنقل بعدئذ إلى مطاحن تطحنها بين حجرين دوارين شديدي الصلابة ، ثم تغربل ، ويؤخذ ما ينزل من ثقوب الغربال إلى حيث يُغسل ، فيوضع على مناضد مائلة مستطيلة الشكل مصنوعة من الحجر ومغطاة بطبقة رفيعة ملساء من الأسمنت الصلب ويسلط عليه شؤبوب ماء من حوض. ويندفع تيار الماء ثم ينثني بزوايا حادة عندها فجوات تلتقط جزيئات المعدن. ثم يؤخذ ما يتجمع منه فيها ويُلقى في أفران للصهر مجهزة بمنافيخ ترفع حرارتها.
وفي قاع كل فرن فتحات ينزل منها المعدن المصهور. ويفصل الرصاص من الفضة برفع حرارة المعدن المصهور فوق بواتق مصنوعة من مادة مسامية وتعريضه بعد ذلك للهواء. وبهذهِ الطريقة السهلة يتحول الرصاص إلى أكسيد الرصاص وتخلص الفضة. وقد برع العمال في عمليتي الصهر والتنقية ، كما تشهد بذلك العملة الفضية الأثينية ، فإن فضتها نقية إلى درجة 98 في المائة. ولقد أدت لوريوم ثمن ما أنتجته من الثروة ، لأن صناعة التعدين تجلب في أعقابها أضراراً تُذهب بكثير من أرباحها. فالنبات يموت والناس يهلكون بتأثير الدخان المنبعث من الأفران ، والأماكن المجاورة للمصانع تصبح قفراء جدباء يغطيها التراب و الرماد.
صناعة النسيج
كانت المنسوجات العادية لا تزال حتى ذلك الوقت تُنسج في المنازل ، ففيها كان النساء ينسجن ، ويصلحن ثياب الأسرة وفراشها ، ومنهن مَن يمشطن الصوف أو يدرن عجلة الغزل ، ومنهن مَن يتعهدن الأنوال ومَن ينحنين أمام إطار التطريز. أما المنسوجات الخاصة فكانت تُشترى من المصانع أو تُستورد من خارج البلاد- فالأقمشة التيلية الرقيقة كانت تَرد من مصر ، و أمرجوس Amorgos ، و تارنتم ؛ والأقمشة الصوفية المصبوغة من سراقوصة ، والبطاطين من كورنثة ، والطنافس من الشرق الأدنى و قرطاجة ، وأغطية الفراش الملونة من قبرص وتعلمت نساء كوس في أواخر القرن الرابع حل شرانق دود القز وغزل خيوط الحرير. وأتقنت النساء في بعض المنازل فنون النسيج إتقاناً أمكنهن أن ينتجن أكثر من حاجة أسرهن ، فكن يبعن ما زاد على حاجتهن إلى المستهلكين في بادئ الأمر ، ثم إلى الوسطاء ؛ وكن يستعن بمن يساعدهن ، من المعاتيق أو الأرقاء ، ونشأت على هذا النحو صناعة منزلية كانت هي الخطوة الأولى في سبيل نظام المصانع.
إنشاء المصانع
بدأ نظام الصناعة المنزلية يتوسع في عهد بركليز وكان البداية لإنشاء المصانه ، وتشكل في عصر بركليز ، وكان بركليز نفسه ، كما كان ألسبيديز ، يمتلك مصنعاً ، ولم تكن هناك آلات ، ولكن كان في الاستطاعة الحصول على كثير من العبيد ؛ وكان رخص القوة العضلية سبباً في انعدام الحافز إلى صنع الآلات ؛ ولهذا كانت دور الصناعة في أثينا "حوانيت صناعة" لا مصانع ، ولم يكن في أكبرها ، وهو حانوت صنع الدروع الذي يمتلكه سفالوس Cephalus ، سوى مائة وعشرين عاملاً ، وكان في دار صنع الأحذية التي يمتلكها تمركوس Timarchus عشرة عمال ، وفي مصنع دمستين للأساس عشرون وفي مصنعه للعُدد الحربية ثلاثون.
ولم تكن هذهِ الحوانيت في بادئ الأمر تنتج إلا لمن يطلب الإنتاج ، ثم صارت فيما بعد تنتج للسوق ، ثم للتصدير في آخر الأمر وكان حلول النقود محل المقايضة ، وانتشار هذهِ النقود انتشاراً واسعاً ، مما يسر عليها أعمالها. ولم تكن في البلاد منظمات صناعية ، بل كان كل مصنع وحدة مستقلة بذاتها يمتلكها رجل أو رجلان، وكان صاحبه يعمل في كثير من الأحيان إلى جانب عبيده. ولم تكن لديهم علامات تجارية ، وكانت الحرف يأخذها الأبناء من الآباء ، أو يتعلمها الصبيان عن الرؤساء وكان القانون يعفي الأثينيين من رعاية آبائهم في شيخوختهم إذا لم يعلمهم أولئك الآباء حرفة يشتغلون بها. وكانت ساعات العمل كثيرة ، ولكنهم كانوا يعملون على مهل ، فكان صاحب المصنع وعماله يعملون من مطلع الفجر إلى ما بعد غروب الشمس ، مع إغفاءة قصيرة في وقت الظهيرة صيفاً. ولم تكن هناك إجازات ولكنهم كانت لهم في كل عام ستون عيداً ينقطعون فيها عن العمل.
نشأة التجارة
ازدهرت التجارة في اليونان القديمة من عام 480 إلى 430 كما لم تزدهر في المستقبل إلا بعد أن قضى بمبي على القرصنة في عام 67. وكانت أرصفة بيرية ومخازنها ، وأسواقها ومصارفها تقدم للتجارة كل ما تستطيعهُ من أسباب التيسير ؛ وسرعان ما أضحى هذا الثغر النشيط العامل أهم مراكز التصدير وإعادة الشحن للتجارة المتبادلة بين الشرق والغرب. وفي ذلك يقول سقراط: " لقد كان من اليسير أن يبتاع الإنسان في أثينا جميع ما يصعب عليهِ أن يجدهُ إلا في أماكن متفرقة سلعة منه في هذه المدينة وسلعة في تلك ". ويقول توكيديدس " إن عظمة مدينتنا تجذب غلات العالم كله إلى مرفئنا ، حتى أصبحت ثمار البلاد الأخرى من مواد الترف المألوفة للأثيني كثمار بلده نفسه ". وكان التجار يحملون من بيرية ما تنتجه حقول أتكا وحوانيتها من الخمور ، والزيت ، والصوف ، والمعادن ، والرخام ، والخزف ، والأسلحة ، ومواد الترف ، والكتب ، والتحف الفنية ؛ ويأتون إلى بيرية بالحبوب من بيزنطية ، و سوريا ، و مصر ، و إيطاليا ، و صقلية ؛ وبالفاكهة والجبن من صقلية و فينيقية ، وباللحوم من فينيقية و إيطاليا ؛ والسمك من البحر الأسود ؛ والنُّقل من بفلاجونيا ؛ والنحاس من قبرص؛ والقصدير من إنجلترا؛ والحديد من شواطئ بحر البنتس ؛ والذهب من ثاسوس وتراقية؛ والخشب من تراقيا و قبرص ؛ والأقمشة المطرزة من بلاد الشرق الأدنى؛ والصدف والكتان والأصباغ من فينيقية؛ والتوابل من قورينة ؛ والسيوف من خلقيديا؛ والزجاج من مصر ؛ والقرميد من كورنث ؛ والأسرة من طشيوز وميليطس ؛ والأحذية والبرنز من اترويا ؛ والعاج من بلاد الحبشة ؛ والعطور والأدهان من بلاد العرب ؛ والرقيق من ليديا و سوريا و سكوذيا.
ولم تكن المستعمرات أسواقاً فحسب ، بل كانت فوق ذلك وكالات شحن ترسل البضائع الأثينية إلى الداخل ، ومع أن مدائن أيونيا قد اضمحلت في القرن الخامس قبل الميلاد لأن التجارة التي كانت تمر بها من قبل تحولت إلى البروبنتس وكاريا أيام الحرب الفارسية وبعدها ، فإن إيطاليا وصقلية قد حلتا محلها وأصبحت بلادهما ثغوراً لتصدير ما زاد عن الحاجة من غلات بلاد اليونان الأصلية وسكانها ، وفي وسعنا أن نقدر قيمة تجارة بحر إيجة الخارجية إذا عرفتا أن حصيلة ضريبة الخمسة في المائة المفروضة على صادرات مدن الإمبراطورية الأثينية ووارداتها قد بلغت في عام 413 ألفاً ومائتي وزنة ، ومعنى هذا أن التجارة قد بلغت قيمتها 144.000.000 ريال أمريكي في ذلك العام.
وكان الخطر الكامن وراء هذا الرخاء هو اعتماد أثينا اعتماداً متزايداً على الحبوب المستوردة من خارجها ؛ ومن ثم كان حرصها على السيطرة على مضيق الهلسبنت والبحر الأسود ، وإصرارها على استعمار السواحل والجزائر الواقعة في طريقها إلى المضايق ، وحملتها المشؤومة على مصر عام 459 ، وعلى صقلية في عام 415. واعتمادها هذا هو الذي أغراها بتحويل حلف ديلوس إلى إمبراطورية أثينية ؛ ولما أن دمر الأسبارطيون الأسطول الأثيني في مضيق الهلسبنت عام 405 ، كان لابد أن تعاني أثينة آلام الجوع وأن تستسلم نتيجة لهذا التدمير. غير أن هذه التجارة هي التي جلبت الثراء لأثينة، وكانت مع خراج إمبراطوريتها عماد رقيها الثقافي، ذلك أن التجار الذين كانوا ينتقلون مع بضائعهم إلى جميع بقاع البحر الأبيض المتوسط كانوا يعودون إليها بنظرات إلى الحياة تختلف عن نظراتهم قبل خروجهم من بلدهم، وبعقول متيقظة متفتحة؛ وكانوا يأتون معهم بأفكار وأساليب جديدة، يحطمون بها القيود القديمة والخمول القديم، ويستبدلون بالتحفظ الأُسري الذي هو من طابع الأرستقراطية الريفية نزعة فردية تقدمية هي طابع الحضارة التجارية. وفي أثينة التقى الشرق بالغرب وبفضل هذا الالتقاء خرج كلاهما من أساليبه المألوفة العتيدة ، وفقدت الأساطير القديمة سيطرتها على نفوس الناس ، وزاد الفراغ، وشُجع البحث، ونشأ العلم والفلسفة ، وأضحت أثينة أكثر مدن زمانها حيوية ونشاطاً.
وسائل النقل
نشأت التجارة في حالة ما إذا أنتج الفرد ، أو الأسرة ، أو المدينة أكثر من حاجته أو حاجتها ، . وكانت أولى الصعاب التي واجهت أتكا أن وسائل النقل فيها كثيرة النفقة غير متيسرة ، وأن البحر شراك ليس من السهل على سفنها أن تفلت منه. وكانت أحسن طرقها البرية هي الطريق المقدسة الممتدة من أثينا إلى إليوسيس ؛ وإن لم تكن أكثر من طين ، وإن كانت أضيق من أن تتسع لمرور المركبات.
أما القناطر فلم تكن أكثر من معابر غير مأمونة مقامة من حواجز من الطين كثيراً ما تجرفها الفيضانات. وكان حيوان الجر المألوف هو الثور وهو حيوان أوتي من الفلسفة أكثر مما يسمح له بأن يغني التاجر الذي يعتمد عليه في نقل متاجره. وكانت العربات هشة تتحطم على الدوام أو تتعطل عن السير في الوحل وكان افضل منها لديه أن ينقل بضاعته على ظهور البغال ، لأنها أسرع من العربات قليلاً ، ولأنها لا تشغل ما تشغله لك العربات من الطريق. ولم يكن في بلاد اليونان نظام للبريد ، وحتى الحكومات نفسها لم يكن لها مثل هذا النظام ، بل كانت تقنع بالعدّائين ؛ وكانت الرسائل الخاصة تنتظر إلى أن يتاح لها مَن ينقلها منهم. وكانت الأخبار الهامة تُرسل بالإشارات النارية يتلقفها تل من تل أو بالحمام الزاجل. وكانت في أماكن متفرقة من الطرق نُزل ، ولكنها كانت مآوى محببة للصوص والحشرات ؛ وحتى الإله ديونيسس في إحدى مسرحيات أرسطوفان يسأل هرقل عن " بيوت الأكل ودور الضيافة التي هي أقل من غيرها بقّاً ".
وكان النقل البحري أقل كلفة من النقل البري وبخاصة إذا اقتصر على أشهر الصيف الساكنة الريح ، وكان هذا النقل في العادة مقصوراً على تلك الشهور. وكانت أجور السفر قليلة ، فكان في وسع الأسرة أن تنتقل من بيرية إلى مصر وإلى البحر الأسود نظير درخمتين )أي ريالين أمريكيين( ، ولكن السفن لم تكن تُعنى بنقل المسافرين لأنها صُنعت قبل كل شيء لنقل البضائع أو لشن الحرب أو لهذا الغرض أو ذاك كما تقضي الضرورة. وكانت أهم القوى المحركة هي قوة الريح تملأ الشراع ، ولكن العبيد كانوا يُسيّرون السفن بالمجاديف إذا سكنت الريح أو هبت في عكس اتجاه السفن. وكانت أصغر سفن البحار التجارية يُسيّرها ثلاثون مجدافاً ، ومنها ما كان له خمسون. وأنزل أهل كورنثة في البحر منذ عام 700 قبل الميلاد أولى السفن ذات الثلاثة الصفوف من المجاديف يعمل بها مائتان من الرجال. وقبل أن يستهل القرن الخامس كانت هذهِ السفن بمقدمها الطويل السامق قد بلغ وزنها 256 طناً ، وبلغت حمولتها سبعة آلاف بشل من الحبوب ، وأصبحت حديث جميع القاطنين على شواطئ البحر الأبيض المتوسط لأن سرعتها بلغت ثمانية أميال في الساعة.
النظام النقدي
كانت ثاني مشاكل التجارة هي العثور على واسطة للتبادل يثق الناس بها ، فقد كان لكل مدينة نظامها الخاص في الموازين والمقاييس ، وعُملتها التي لا تشاركها فيها مدينة أخرى. وكان على الإنسان عندما يصل إلى أحد التخوم التي تكاد تبلغ المائة عداً أن يبدل نقوده وأن يكون على حذر في هذا التبديل لأن كل حكومة يونانية ، عدا حكومة أثينا ، كانت تسلب الأجانب عنها أموالهم بتخفيض قيمة نقدها. وفي ذلك يقول يوناني لم يشأ أن يُعرف اسمُه "كان التجار في معظم المدن يضطرون أن ينقلوا على سفنهم بضائع وهم عائدون إلى مدنهم لأنهم لم يكن في وسعهم أن يحصلوا على نقود ذات نفع لهم في أي مكان آخر".
وكانت بعض المدن تسك نقوداً من خليط من الذهب و الفضة ، وينافس بعضها بعضاً في إنقاص ما في هذا الخليط من الذهب. أما الحكومة الأثينية منذ أيام صولون فقد أخذت على نفسها تشجيع التجارة إلى أقصى حد بإيجاد عملة موثوق بها طبعت عليها بومة اثينا ؛ وكان قولهم: "يُأخذ البوم إلى أثينا" وهو المثل اليوناني المقابل لقول الإنجليز "يحمل الفحم إلى نيوكاسل" وإذا كانت أثينا قد أبت خلال صروف الدهر أن تخفض من قيمة درخماتها الفضية ، فقد كانت سائر بلاد البحر الأبيض المتوسط تقبل وهي راضية هذهِ "البومات" التي أخذت تحل شيئاً فشيئاً محل العملة المحلية في جزائر بحر إيجة. وكان الذهب في هذهِ المرحلة لا يزال سلعة تجارية تُباع بالوزن ، ولم يكن وسيلة يُستعان بها على الاتجار ، ولم تكن أثينا تسكّه عملة إلا في حالات الضرورة النادرة ، وكانت النسبة المعتادة بينه وبين الفضة كنسبة 14 إلى 1. وكانت أصغر النقود الأثينية تُسك من النحاس ، وكانت ثمان قطع منها تكوّن أبولة - وهي عملة من الحديد أو البرونز سُميت بهذا الاسم لمشابَهتها للأظافر أو السفود.
وكانت ست أبولات تكوّن الدرخمة أي الحفنة ؛ والدرخمتان تكوّنان استاتر Stater والمائة درخمة تكوّن مينا Mina وستون مينا تكوّن وزنة Talent وكانت الدرخمة في النصف الأول من القرن الخامس يُبتاع بها بشل Bushel من الحبوب ، كما يبتاع بالريال الأمريكي في القرن العشرين.
ولم يكن في أثينة عملة ورقية ، ولا صكوك حكومية ، ولا شركات محاصة ، ولا مصفق للأسهم والسندات. لكن أثينة كان فيها مصارف مالية لاقت صِعاباً شديدة في توطيد دعائمها لأن الذين لم تكن بهم حاجة إلى القروض ينددون بالربا ويرونه جريمة ، ويتفق معهم الفلاسفة في هذا الحكم. وكان الأثيني العادي في القرن الخامس ممن يكنزون المال ، فكان إذا ادخر شيئاً منه آثر أن يُخبئه بدل أن يودعه في المصارف.
وكان بعض الناس يقرضون مدخراتهم نظير رهون بفائدة تتراوح بين 16، 18 في المائة ، ومنهم مَن يقرضونها من غير فائدة إلى أصدقائهم ، أو يودعونها في خزائن الهياكل. وكانت الهياكل تعمل عمل المصارف فتقرض المال إلى الأفراد والحكومات بفائدة معتدلة ، وكان هيكل أبلو في دلفي إلى حد ما مصرفاً دولياً لجميع بلاد اليونان. ولم تكن الحكومات تقترض من الأفراد ، ولكن الدول كانت في بعض الأحيان يقرض بعضها بعضاً. وفي القرن الخامس بدأ مبدل النقود الجالس أمام منضدته( يقبل المال وديعة لديه ، ويقرضه للتجار بفوائد يتراوح سعرها بين 2 ، و 30 في المائة حسب ما تتعرض له من الأخطار. وبهذهِ الطريقة أصبح ذلك الصراف مصرفياً ، وإن كان قد احتفظ إلى آخر تاريخ اليونان باسمه الأول )صاحب المنضدة Trapezite(. وقد أخذ أساليبه عن بلاد الشرق الأدنى ، وحسّنها ، ونقلها إلى رومة فأسلمتها هذهِ إلى أوربا الحديثة. وما كادت الحرب الفارسية تضع أوزارها حتى أودع ثمستكليز سبعين وزنة )240.000 ريال أمريكي( عند فيلوستفانوس المصرفي ، بنفس الطريقة التي يعمل بها المغامرون السياسيون لدينا هم في هذهِ الأيام وهذهِ أول إشارة معروفة للأعمال المصرفية خارج المعابد في تاريخ اليونان.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
انشاء المصارف
لما آذن هذا القرن بالانتهاء أنشأ أنتسثنيز Antisthenes وأرخستراتس المؤسسة التي أضحت في عهد باسيون Pasion أشهر المصارف اليونانية التي يملكها الأفراد ، وعن طريق هؤلاء الصيارفة كانت الأموال تتداول بحرية وسرعة أكثر من تداولها قبل وجود هذا النظام، وكانت لهذا تيسر من الأعمال أكثر مما كانت تيسره قبل وجودهم. وبفضل هذا التيسير راجت التجارة الأثينية واتسعت أسواقها ونشطت أكثر من ذي قبل. وكانت التجارة، لا الصناعة ولا الأعمال المالية، روح الاقتصاد الأثيني. ذلك أنه وإن ظل الكثيرون من المنتجين حتى ذلك الوقت يبيعون منتجاتهم إلى المستهلك مباشرةً، فإن عدداً متزايداً منهم كان في حاجة إلى وساطة السوق التي كانت وظيفتها شراء السلع وخزنها حتى يستعد المستهلك لشرائها. وبهذه الطريقة نشأت طبقة من بائعي التجزئة يعرضون بضائعهم في شوارع المدن، أو في مؤخرة الجيوش، أو في الأعياد والاحتفالات العامة، أو يعرضونها للبيع في حوانيت أو "أكشاك" في الأماكن المزدحمة أو غير المزدحمة في المدن. وكان الأحرار والغرباء والأرقاء يذهبون إلى هذه الأماكن ليساوموا التجار ويبتاعوا ما تحتاجه البيوت. وكان من أقسى القيود المفروضة على النساء "الحرائر" في أثينا أن العادات لم تكن تبيح لهن أن يخرجنَ إلى الأسواق ليشترين منها حاجتهنَ. وتقدمت التجارة الخارجية لبلاد اليونان أسرع من تقدم التجارة الداخلية نفسها، لأن الدول اليونانية أدركت مزايا توزيع العمل بين بعضها البعض الآخر فتخصصت كل منها في إنتاج نوع من المنتجات. فصانع الدروع مثلاً لم يعد ينتقل من مدينة إلى مدينة تلبية لطلب مَن يحتاجه بل أخذ يصنع دروعه في حانوتهِ ويبعثُ بها إلى أسواق العلم القديم. وهكذا انتقلت أثينا في قرن واحد من الاقتصاد المنزلي- الذي يصنع فيهِ كل منزل جميع ما يحتاجهُ تقريبا- إلى الاقتصاد الحضري- الذي تصنع فيهِ كل مدينة جميع ما تحتاجه تقريبا- ثم إلى الاقتصاد الدولي- الذي تعتمد فيهِ كل دولة على ما تستورده من غيرها ، والذي لا بد لها فيه أن تصدر من السلع ما تؤدي به أثمان وارداتها.
المصادر
ديورانت, ول; ديورانت, أرييل. قصة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود.