الأدب اليوناني القديم
الأدب اليوناني |
الأدب اليوناني القديم (حتى القرن 4 م.) |
الأدب البيزنطي (القرون 4 – 15) |
الأدب اليوناني الحديث (بعد القرن 15) |
لقد كان الأدب من أسباب فرقة بلاد اليونان كما كان من أسباب وحدتها، شأنه في هذا شأن الدين سواء بسواء. ذلك أن الشعراء كانوا يغنون بلهجاتهم المحلية، وكثيراً ما كانوا يصفون مناظر أقاليمهم، ولكن هلاس كلها كانت تستمع إلى أكثر الأصوات فصاحة. وكانت من حين إلى حين تستحثهم على أن يطرقوا موضوعات أعم وأوسع من تلك الموضوعات المحلية الضيقة. ولقد عدا الدهر كما عدت الأهواء الضيقة على هذا الشعر المبكر فأبادت أكثره حتى لم يعد في وسعنا أن نحس بما فيه من ثراء، وبما كان يطرقه من موضوعات، وبما يعزى إليه من جزالة اللفظ وجمال الشكل؛ ولكننا حين نطوف بجزائر اليونان ومدنهم في القرن السادس قبل الميلاد لا يسعنا إلا أن نعجب بوفرة ما تطالعنا به هذه الجزائر والمدن من الأدب اليوناني قبل عصر بركليز، وبجودة هذا الأدب. وإن الشعر الغنائي في ذلك القرن لتنعكس فيه صورة مجتمع أرستقراطي كانت فيه المشاعر والأفكار والأخلاق حرة مادامت تراعى واجبات الأدب وحسن التربية. وقد أخذ هذا الأسلوب من الشعر الحضري المصقول يختفي شيئاً فشيئاً في عهد الديمقراطية. وكان مختلف المبنى متعدد الأوزان، ولكنه قلما كان يقيد نفسه عن إحساسه وخياله في لغة موزونة .
وبينما كان أصحاب الشعر الغنائي يتغنون بالحب والحرب، كان الشعراء الجوالون ينشدون في مجالس العظماء الملاحم في وصف ما قام به اليونان من جلائل الأعمال. ولقد أنشأت جماعات المغنين على توالي الأجيال طائفة من القصائد الغنائية تدور كلها حول حصار طيبة وطروادة وعودة المحاربين إلى أوطانهم. وكانت الأغاني شائعة مشتركة بين هؤلاء الشعراء، وكان كل واحد منهم يؤلف قصته من قطع متفرقة أقدم منها عهداً، ولم يكن منهم من يدعى أنه هو الذي ألف سلسلة متتابعة من هذه القصص. وقد وجدت في طشيوز جماعة من أولئك الشعراء أطلقوا على أنفسهم اسم الهومريدي Homeridae، وادعوا أنهم من نسل شاعر يدعى هومر، وهو في زعمهم مؤلف الملاحم التي كانوا ينشدونها في شرقي بلاد اليونان بأجمعه(11). وقد يكون هذا الشاعر الضرير لا وجود له في الحقيقة بل كان أباً خيالياً لقبيلة أو طائفة من الناس، شأنه في هذا شأن هلن، ودورس وأبون(12). ولم يكن اليونان في القرن السادس يعزون إلى هومر الإلياذة والأوذيسة فحسب، بل كانوا يعزون إليه كذلك كل الملاحم المعروفة وقتئذ. والقصائد الهومرية أقدم الملاحم المعروفة في التاريخ، ولكن جودتها في حد ذاتها وما فيها من إشارات كثيرة إلى شعراء سابقين، لتوحيان إلينا بأن هذه الملاحم الباقية هي الحلقة الأخيرة من سلسلة طويلة بدأت بالقصائد البسيطة القصيرة ثم تطورت حتى وصلت إلى هذه الأغاني الطويلة "المحيطة" بعضها في بعض. وألف في أثينة في القرن السادس قبل الميلاد لجنة حكومية - قد تكون في عهد صولون(13)، وقد تكون وهو الأرجح في عهد بيستراتس- فانتقت الإلياذة والأوذيسة من بين الملاحم الأدبية الباقية من القرن الذي قبله، أو لعلها جمعتها بعد مقابلة النسخ الموجودة منها وقتئذ بعضها على بعض، ثم عزتهما إلى هومر، ثم نشرتهما- أو لعلها صاغتهما- في صورة هي في جوهرها صورتهما الحاضرة(14).
ومن المعجزات الأدبية أن تصل قصيدتان مستمدتان من أصول متعددة مختلفة إلى هذه الدرجة الفنية العالية. ولسنا ننكر أن الألياذة تقصر دون الغاية في مبناها وفي لغتها، وأن الصور الإيولية والأيونية تختلط فيها اختلاطاً لا يقدر عليه إلا رجل من أهل أزمير يتكلم عدة لغات، وأن أوزان شعرها مأخوذة من هذه اللهجة تارة ومن تلك اللهجة تارة أخرى، وأن حبكتها قد أفسدها كثرة ما فيها من تناقض، وتغيير في الخطة، وتوكيد أهمية حادثة ما في بعض المواضع ثم الاستخفاف بشأنها في البعض الآخر، وتعارض في أخلاق أشخاصها، وأن أبطالها يقتلون هم أنفسهم مرتين أو ثلاث مرات قبل نهاية القصة، وأن موضوعها الأصلي- وهو غضب أكليز ونتائجه- يقطعه ويطغى عليه عشرات القصص والحوادث المأخوذة على ما يظهر من قصائد أخرى أدمجت في الملحمة في أجزاء مختلفة منها؛ لسنا ننكر شيئاً من هذا ولكن القصة في مناحيها الكبرى قصيدة واحدة، ولغتها جزلة قوية حية، والقصيدة في جملتها "أعظم ما افترت عنه شفه بني الإنسان(15)" ولم يكن مستطاعاً أن تبدأ هذه الملحمة إلا في شباب اليونان الناضر النشيط، أو أن تختتم إلا في إبان نضوجهم الفني. وأشخاص الملحمة يكادون أن يكونوا كلهم من المحاربين أو من نساء المحاربين، وحتى الفلاسفة منهم أمثال نسطور يقاتلون بشجاعة يحسدون عليها. وكل شخصية من هذه الشخصيات كانت موضع تفكير وعطف من مصورها. ولعل أجمل ما في الأدب اليوناني كله هو نزاهته التي تجعلنا نعطف على هكتور تارة وعلى أكليز تارة أخرى. فأكليز في خيمته شخص قد تجرد من صفات البطولة، غير محبب إلى النفوس، يشكو إلى أمه أن حظه لا يتفق مع مقامه نصف الإلهي، وأن أجممنون قد سرق منه بريسيز البائسة وهي أعز ما يمتلك، ثم يترك اليونان يحصدهم الموت زمراً وهو غاضب في سفينته أو خيمته يأكل وينام، ويرسل بتركلوس ليلقى منيته دون أن يجد منه عوناً، ثم يملأ الجو عويلاً ونحيباً لا يليق بالرجال. وحين يذهب إلى المعركة آخر الأمر، لا يذهب إليها مدفوعاً بوطنيته بل لأن حزنه على فقد صديقه قد سلبه عقله، وينسيه غضبه جميع الصفات الإنسانية فينحدر إلى الدرك الأسفل من القسوة الوحشية في معاملة ليكاءون Lycaon وهكتور؛ فهو في حقيقته ذو عقل ناقص غير ناضج، غير مستقر ولا متزن، ولا سلطان له على نفسه، تنغص عليه حياته نبوءات الموت. انظر إلى ما يقوله لليكاءون بعد أن سقط على الأرض وأخذ يسترحمه: "لا يا صديقي، مت كما مات غيرك! ماذا يجديك بكاؤك الذي لا يرجى منه خير؟ لقد مات بتركلوس وهو خير منك. انظر إليَّ ألستُ وسيماً طويل القامة أنجبني أب كريم، وكانت أمي التي ولدتني إلهة؟ ولكن الموت رغم هذا يحوم حولي وتوشك المنية أن تنشب مخالبها فيَّ. ففي فجر يوم من الأيام أو ظهره أو مسائه تختطفني من بين الأحياء يد لا أعرفها"(16). ثم يطعن ليكاءون في عنقه دون أن يهم هذا بمقاومته، ويقذف بجسمه إلى النهر ثم يلقي خطبة من تلك الخطب الرنانة التي تزدان بها مذابح الإلياذة، ويضع بها أساس البلاغة الخطابة عند اليونان. وقد ظل نصف بلاد اليونان يعبد أكليز ويتخذه إلهاً(17)، أما نحن فنقبله على أنه طفل ونعفو عن ذنوبه بهذا الوصف، ومهما يكن ما يقال فيه فإنه أروع الصور التي أبدعها خيال الشعراء.
وليس الذي يحملنا على أن نواصل قراءة الإلياذة، حين لا نضطر إلى دراستها أو ترجمتها، مقصوراً على تلك الخصائص المتباينة التي يخطئها الحصر، وليس هو أيضاً مقصوراً على تسلسل القصة وصخبها وعجيجها، بل هو جلال شعرها وتدفقه. ولسنا ننكر أن هومر يكرر أقواله ويشير إليها، وأن من خطته أن يعيد بعض الصفات وبعض الأبيات كما يفعل المغنون، فتراه يكرر قوله الحبيب إلى نفسه: "حين بدت بنت الصباح، الفجر ذات الأصابع الوردية"(18). فإذا كانت هذه عيوباً فإنها تختفي وسط جمال اللغة ووفرة ما تحتويه من الاستعارات والتشبيهات التي تصف جمال الحقول الهادئة فتبعث بذلك في نفوسنا الطمأنينة والهدوء وسط ما يحيط بنا من عجيج الحرب وصخبها. انظر إلى هذه العبارة التي تصف تجمع الجيوش اليونانية: "واحتشد اليونان ذوو الشعر الطويل فوق السهل كما تحتشد أسراب الذباب في مذاود الرعاة زمن الربيع حين يملأ اللبن الجديد الدلاء"، أو إلى العبارة الآتية:
"كما تشق النار العظيمة طريقها في الأودية العميقة بين الجبال الجرداء، فتحترق أمامها الأشجار الضخمة السميكة، ويتمايل اللهب يمنة ويسرة حين تهب عليه الرياح من هذه الناحية أو تلك - هكذا كان ينتقل أكليز وهو غاضب ثائر من جانب إلى جانب في ميدان القتال، ويدرك ضحاياه أينما كانوا فلا يفلتون منه، ويخضب الأرض بدمائهم"(20).
وتختلف الأوذيسة عن هذا كله أشد الاختلاف حتى ليظن الإنسان لأول وهلة أن مؤلفها غير مؤلف الإلياذة؛ وقد قال بهذا بعض علماء الإسكندرية أنفسهم، ولم يكم أفواه المتجادلين إلا أرستاركوس Aristarchus وما له من سلطان قوي بين الناقدين(21). وتتفق الأوذيسة مع الإلياذة في بعض العبارات القياسية "أثينة ذات العين الشبيهة بعين البومة" "اليونان الطوال الشعر" "قائم كلون النبيذ" "الفجر ذات الاصابع الوردية" - وهي ألفاظ يبدو أنها لم تستعمل إلا بعد جمع الإلياذة أو تأليفها(22). ففي الملحمة الثانية يتكرر ذكر الحديد على حين أن الأولى تتحدث عن البرونز، كذلك نسمع فيها عن الكتابة، وعن الملكية الخاصة للأرض، وعن العبيد المحررين وتحرير العبيد، وهذه كلها لا يذكر منها شيء في الإلياذة؛ بل إن الآلهة وأعمالهم ليختلفون في إحداهما عنهم في الأخرى(23). ووزن القصيدتين واحد وهو الوزن السداسي الأوتاد المكون كل وتد فيه من ثلاثة مقاطع وهو المتبع في جميع الملاحم اليونانية؛ ولكن أسلوب الملحمة وروحها ومادتها تختلف كلها عن نظائرها في الإلياذة اختلافاً لا يتسر معه لشاعر واحد على أن ينشئ الملحمتين إلا إذا بلغ الذروة في التعقيد، وكان صاحب السلطان الأعلى على جميع الأمزجة والحالات النفسية المتباينة. وما من شك في أن كاتب القصيدة الثانية أكثر تضلعاً في الأدب والفلسفة، وأقل عنفاً ونزعة حربية من كاتب الأولى؛ وهو أكثر منه تفكيراً وإدراكاً لذاتيته، وأملك منه لوقته وأكثر منه حضارة؛ وقد بلغ من رقته أن ظن بنتلي Bentley أن الأوذيسة إنما كتبت لفائدة النساء خاصة(24).
ترى هل الأوذيسة من قول شاعر واحد أو عدة شعراء؟ إن الجواب عن هذا السؤال أصعب في حالة الأوذيسة منه في حالة الإلياذة. إن فيها هي الأخرى شواهد على الإضافة والتلفيق، ولكن هذه الإضافات كانت من عمل كتاب أعظم حذقاً من كتاب الملحمة القديمة؛ فحبكتها، وإن كانت كثيرة اللف والدوران، متناسقة تناسقاً عجيباً، خالية من التناقض، لا يستحي أن يكتبها كاتب قصصي حديث، يلمح الإنسان من بدايتها خاتمتها، وكل حادثة من حوادثها تقرب القارئ من هذه الخاتمة، وهي تربط كتبها الأربعة فتؤلف منها وحدة كاملة. وأكبر الظن أن الملحمة قد بنيت على قصائد كانت معروفة من قبلها شأنها في هذا شأن الإلياذة، ولكن عملية التوحيد فيها أتم وأقوى منها في الإلياذة. وفي وسعنا أن نحكم بشيء كثير من التردد والإحجام أن الأوذيسة أحدث من الإلياذة بقرن من الزمان، وأن الجزء الأكبر منها من وضع رجل واحد.
أما شخصياتها فأقل قوة وأقل وضوحاً من شخصيات الإلياذة ، فبنلبي شبح غير واضح، ولا تبرز واضحة من خلف نسجها إلا في آخر الملحمة، حين تطوف بعقلها لحظة من لحظات الشك، أو لعلها من لحظات الندم، بعد عودة سيدها. أما هلن بطلة الإلياذة فأشد منها وضوحاً، وهي امرأة فذة منقطعة النظير؛ فهذه المرأة التي من أجلها أقلعت ألف سفينة ولاقى الموت في سبيلها عشرة آلاف من الرجال لا تزال "إلهة بين النساء"، ناضجة الجمال في سن الكهولة، أرق أخلاقاً وأهدأ طباعاً مما كانت من قبل، ولكنها لم تفقد شيئاً من كبريائها وزهوها، وتتقبل في لطف ورقة كل مظاهر الترحاب والتبجيل التي تحيط بربات التاج وتعدها حقاً لها تنعم بها دون سائر النساء(25). وإن تصوير نسكا ليعد مقالة بديعة تنطق بمقدرة الذكور على فهم الإناث؛ والحق أننا لم نكن نتوقع أن يرسم يوناني هذه الشخصية الرقيقة الروائية. ولم يصور تلمكس تصويراً قوياً واضحاً، فهو مصاب بداء التردد كأن به مساً من هملت. أما صورة أوديسيس فهي أكمل صور الشعر اليوناني وأكثرها تعقيداً. وقصارى القول أن الأوذيسة رواية بديعة ساحرة في قالب شعري، مليئة بالعواطف الرقيقة والمغامرات المفاجئة، تستمتع بها النفس المسالمة التي في سن الكهولة أكثر مما تستمتع بالإلياذة الفخمة التي يراق فيها الكثير من الدماء.
وقد أضحت هاتان القصيدتان- وهما كل ما بقي من سلسلة طويلة من الملاحم- أثمن العناصر في تراث اليونان الأدبي كله. وبفضلهما صارت دراسة "هومر" العنصر الأساسي في نظام التعليم اليوناني، ومستودع الأساطير اليونانية، ومنبع ألف من المسرحيات، وأساس التدريب الخلقي؛ وأعجب من هذا كله أنه صار الكتاب المقدس الذي يستمد منه اليونان دينهم الصحيح.
وفي ذلك يقول هيرودوت- وأكبر الظن أن في قوله بعض المبالغة- إن هومر وهزيود هما اللذان خلعا على الآلهة الأولمبية صورة الأناسي، واللذان أدخلا النظام في مملكة السماء الكهنوتية(26). وإنا لنجد في آلهة هومر كثيراً من أسباب العظمة والفخامة، ونحن نحبها لما نتبين فيها من نقائض، ولكن العلماء قد تبينوا من زمن طويل في الشعراء الذي صوروها تشككاً ومرحاً لا يليق وصفه في كتاب يعد بحق كتاب اليونان القومي المقدس. فتلك الآلهة تتنازع كما يتنازع الأقارب، وتفسق كما تفسق البراغيث، وتشترك مع بني الإنسان فيما خيل إلى الإسكندر أنه وصمة البشرية- ونعني بذلك حاجتها إلى الحب وإلى الندم؛ ويجوز عليها كل ما يجوز على الآدميين إلا الجوع والموت. وليس فيها كلها من يضارع أوديسيس في ذكائه، أو هكتور في بطولته، أو أندرمكا في رقتها وحنانها، أو نسطور في مهابته. ولم يكن في وسع إنسان أن يهزل بالآلهة هذا الهزل إلا شاعر في القرن السادس قبل الميلاد ملم كل الإلمام بتشكك الأيونيين(27). ومن مضحكات التاريخ أن هاتين الملحمتين اللتين تخصان الآلهة الأولمبية بدور الهازلين، وتجعلان هذا الدور أهم أدوارها، إن من مضحكات التاريخ أن هاتين الملحمتين كانتا موضع الإجلال في بلاد اليونان كلها، وكانتا تعدان دعامة الخلق القويم والعقيدة المحترمة. ولكن هذا التناقض اتضح للناس آخر الأمر، وقضى ما فيها من هزل على ما توحيان به من عقيدة، وثارت أخلاق الناس بعد تطورها على أخلاق الآلهة وحلت محلها.