تاريخ المسيحية
تاريخ المسيحية، ويعنى بهذا دراسة تاريخ الديانة المسيحية والكنيسة، منذ المسيح ورسله الإثني عشر حتى أيامنا الحاضرة. والديانة المسيحية هي ديانة توحيدية أقيمت على أساس بشارة وتعاليم وحياة يسوع المسيح. أما الكنيسة بمعناها اللاهوتي، فهي المؤسسة التي أقامها يسوع المسيح للتتابع من بعده مهمة نشر ثقافة الخلاص بين البشر.
بدأت المسيحية في القرن الأول الميلادي كجماعة يهودية صغيرة، سرعان ما انتشرت في القرون القليلة اللاحقة في مختلف أنحاء الشرق الأوسط والإمبراطورية الرومانية، وذلك رغم الاضطهادات التي كان يعلنها أباطرة روما ضد اتباع هذه الديانة، وفي النهاية أصبحت دينا رسميا للامبراطورية.
خلال القرون الوسطى وفي أثنائها واصلت المسيحية انتشارها فبلغت شمال أوربا وروسيا. ومع قدوم عصور الانفتاح والأستكشاف انتشرت هذه الديانة في جميع انحاء الأرض، حتى أصبحت أكبر أديان العالم من حيث عدد أتباعها.
خلال تاريخها الطويل، تمكنت الصراعات والمنازعات الدينية والسياسية من قسم جسم المسيحية بين ثلاثة مذاهب رئيسية، وهي الأرثوذوكسية (بفرعيها الشرقية والمشرقية)، والكاثوليكية والبروتستانتية.
يهتم تاريخ المسيحية بالدين المسيحي، العالم المسيحي، والكنيسة وطوائفها المختلفة، من القرن الأول حتى الوقت الحاضر.
تنتشر المسيحية الكاثوليكية الرومانية والأرثوذكسية الشرقية عبر أوروپا والشرق الأوسط. وقد انتشرت المسيحية في أنحاء العالم أثناء عصر الاستكشاف الأوروپي منذ عصر النهضة وما بعده، لتصبح أكبر ديانة في العالم.[1] يوجد اليوم ما يزيد عن مليوني مسيحي في العالم.[2]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المسيحية المبكرة (ح. 31/33 – 324)
أثناء تاريخها المبكر، نمت المسيحية من دين تابع لليهودية في القرن الأول إلى الدين الذي يمتد عبر العالم اليوناني-الروماني وما وراءه.
يمكن تقسيم المسيحية المبكرة إلى مرحلتين مميزتين: عصر الرسل، عندما كان الرسل الأوائل على قيد الحياة ويرأسون الكنيسة، وعصر ما بعد الرسل، عندما تطور الهيكل الأسقفي المبكر، وكان الاضطهاد يحدث بشكل مكثف. انتهى الاضطهاد الروماني للمسيحيين عام 324 عندما أعلن قسطنطين الأول اعتناقه المسيحية. بعدها دعا إلى انعقاد مجمع نيقية الأول سنة 325، لتبدأ فترة المجامع المسكونية السبعة.
الكنيسة الرسولية
المعتقدات المسيحية المبكرة
الاضطهادات
الفن المبكر
الكتاب المقدس الكنسي
تأسيس الأرثوذكسية الرومانية
الأريوسية وأول المجامع المسكونية
المسيحية كديانة الدولة الرومانية (380 م)
في 27 فبراير 380، بصدور مرسوم سالونيك من ثيودوسيوس الأول، اتخذت الامبراطورية الرومانية رسمياً المسيحية التثليثية كدين الدولة. قبل ذلك التاريخ، كان قسطنطيوس الثاني (337-361) و ڤالنز (364-378) يفضلان شخصياً آريان أو صيغاً شبه آريوسية من المسيحية، ولكن خليفة ڤالنز ثيودوسيوس الأول دعم عقيدة التثليث كما فصّلتها العقيدة النيقية.
النسطورية والامبراطورية الساسانية
الميافيزية
الرهبنة
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مطلع العصور المبكرة (476–799)
الشئون السياسية للبابوية (604-867)
وجد البابوات الأولون الذين جاءوا بعده أن من أشق الأمور عليهم أن يستمسكوا بكل ما كان يستمسك به من أهداب الفضيلة، أو يحتفظوا بكل ما كان له من سلطان. بل ارتضت الكثرة الغالبة منهم أن تخضع لسلطان حكام الولايات أو للإمبراطور، وكثيراً ما لاقوا المهانة وهم يحاولون أن يقاوموا هذا السلطان. وكان الإمبراطور هرقل Heraclius يتوق إلى توحيد إمبراطوريته التي أنقذها من أعداء الفرس، فسعى إلى التوفيق بين الشرق ذي المذهب اليعقوبي-القائل بأن ليس للمسيح إلا طبيعة واحدة،-وبين الغرب المتمسك بمبادئ الكثلكة الأساسية والقائل بأن للمسيح طبيعتين. ومن أجل هذا أصدر في عام 638 منشوراً يعرض فيه التوفيق بين المذهبين بالاعتقاد أن للمسيح مشيئة واحدة وطبيعة واحدة. ووافق البابا هونوريوس Honorius الأول على هذا الاقتراح وأضاف إلى ذلك قوله إن مسألة الإرادة الواحدة أو الإرادتين "مسألة اتركها للنحويين لأنها من المسائل القليلة الخطر"(24). ولكن رجال الدين في الغرب نددوا بموقفه هذا؛ ولما أصدر الإمبراطور كنستانس Constans الثاني منشوراً (648) يبدي فيه ميله إلى هذا المذهب رفضه البابا مارتن Martin الأول. فأمر الإمبراطور حاكم رافنا أن يقبض على البابا ويأتي به إلى القسطنطينية، ولما لم يذعن البابا لرغبة الإمبراطور نفي إلى شبه جزيرة القرم، وبقي فيها إلى أن مات في عام 655. ورفض المجلس المسكوني السادس الذي اجتمع في القسطنطينية عام 680 المذهب الجديد وحكم على البابا هونوريوس بأنه يحابي الخارجين على الدين(25)، ووافقت الكنيسة الشرقية التي آلمها استيلاء المسلمين على بلاد الشام ومصر التي تدين بمذهب اليعقوبيين، على هذا الحكم، وخفقت راية السلام الدينية لحظة وجيزة في سماء الشرق والغرب جميعاً.
ولكن إذلال البابوية المتكرر على أيدي أباطرة الشرق، وما حل بيزنطية من الضعف بسبب اتساع أملاك المسلمين في آسية وأفريقية وأسبانيا، وسيطرة المسلمين على البحر المتوسط، وعجز القسطنطينية أو رافنا عن أن تحمي الولايات البابوية بإيطاليا من هجمات للمبارد، كل هذا اضطر إلى البابوية إلى أن تدير ظهرها إلى الإمبراطورية المتداعية وتطلب معونة دولة الفرنجة الآخذة في النماء والقوة. وخشن البابا استيفن الثاني (752-757) أن يستولي اللمبارد على روما فيحط ذلك من شأن البابوية ويجعلها مجرد أسقفية محلية يسيطر عليها ملوك اللمبارد، فاستغاث بالإمبراطور قسطنطين الخامس، ولكن الإمبراطور لم يغثه، فولى البابا وجهه شطر الفرنجة، وأسفرت هذه الحركة عن نتائج سياسية غاية في الخطر. فقد لي بيبين القصير نداءه، وأخضع اللمبارد، ونفح البابوية بـ"هبة بيبين" التي أغنتها إذ منحتها جميع إيطاليا الوسطى (756)؛ وبفضلها قامت سلطة البابوية الزمنية. وبلغت هذه السياسة البابوية ذروتها حين وضع ليو الثالث التاج على رأس شارلمان، ولم يعد يعترف لشخص ما أنه إمبراطور على الغرب إلا إذا مسحه أحد البابوات. وهكذا أضحت أسقفية جريجوري الأول التي لا حول لها ولا طول من أعظم الدول في أوربا. ولما مات شارلمان (814)، انقلبت عطية الفرنجة للكنيسة ظهراً لبطن، فأخضع رجال الدين في فرنسا ملوكها شيئاً فشيئاً لسلطانهم، وبينما كانت إمبراطورية شارلمان تتدهور كان نفوذ البابوية وسلطانها يتزايدان. وكان الأساقفة في بادئ الأمر أكثر الناس إفادة من ضعف الملوك الفرنسيين والألمان ومنازعاتهم ذلك أن رؤساء الأساقفة تحالفوا مع الملوك في ألمانيا، فنالوا بفضل هذا التحالف أملاكاً واسعة، وحصل الأساقفة والقساوسة على سلطات إقطاعية كادوا يستقلون بها عن البابوات. ويلوح أن غضب الأساقفة الألمان واستياءهم من استبداد ورؤسائهم كان هو منشأ "الأحكام البابوية الكاذبة"، وهي مجموعة الأحكام التي قوت فيما بعد سلطان البابوية، والتي كانت تهدف في بادئ الأمر إلى تقرير حق الأساقفة في أن يستأنفوا أحكام مطارنتهم إلى البابوات أنفسهم.ولسنا نعرف متى صدرت هذه الأحكام ولا أين صدرت، ولكن أغلب الظن أنها جمعت في مدينة متز عام 842. وكان واضعها قس فرنسي تسمى باسم إزدورس مركاتور lsdorus Mercator. وكانت هذه المجموعة غاية في البراعة تشمل بالإضافة إلى طائفة كبيرة من القرارات الموثوق بها الصادرة من المجامع الدينية أو البابوات، عدداً من المراسيم والخطابات تعزوها إلى البابوات مبتدئة من كلمنت الأول (91-100) إلى ملخيادس Melchiades (311-314). وكان الغرض الذي تهدف إليه هذه الوثائق أن ما جرت عليه الكنيسة من تقاليد وعادات قديمة تقضي بألا يخلع أي أسقف من منصبه، وألا يدعى أن مجلس من مجالس الكنيسة إلى الاجتماع، وألا يفصل أية مسألة من المسائل الكبرى، إلا بعد موافقة البابا. وتدل هذه الشواهد على أن البابوات جميعاً، حتى الأولين منهم، كانوا يدعون أنهم أصحاب السلطان العالمي المطلق بوصفهم خلفاء المسيح في الأرض. وكان البابا سلفستر الأول (314-335) يوصف في هذه الأحكام بأنه قد أصبحت له بمقتضى "هبة قسطنطين" السلطة الزمنية والدينية الكاملتين على جميع أوربا الغربية، وأن "هبة بيبين" بناء على هذا لم تكن إلا استرداداً أعرج لحق مختلس، وبدا أن خروج البابا عن سيادة بيزنطية بتتويجه شارلمان لم يكن إلا تقريراً مرتقياً من زمن بعيداً لحق يرجع في أصله إلى مؤسس الإمبراطورية الشرقية نفسه. ومما يؤسف له أن كثيراً من الوثائق المزورة تنقل نصوصاً من ترجمة القديس جيروم للكتاب المقدس ومن المعروف أن جيروم قد ولد بعد ستة وعشرين عاماً من وفاة ملخيادس.
ولقد كان في وسع كل من أوتي قدراً من العلم أن يكشف عن هذا التزوير، ولكن البحث العلمي كان قد انحط كثيراً خلال القرنين التاسع والعاشر، وكان مجرد القول بأن كثرة الادعاءات التي تعزوها هذه الأحكام البابوية إلى أساقفة روما الأولين قد صدرت من هذا البابا أو ذلك من البابوات المتأخرين، كان هذا القول وحده كافياً لإضعاف حجة النقاد، ولهذا ظل البابوات ثمانية قرون كاملة يفترضون صحة هذه الوثائق ويستخدمونها لتوطيد أركان سياستهم .
وكان من المصادفات الطيبة أن كان ظهور "الأحكام الكاذبة" قبيل انتخاب شخصية من أعظم الشخصيات شأناً في تاريخ البابوية، تلك هي شخصية نقولا الأول Nicholas (858-867) وكان نقولاس قد تلقى تعليماً عالياً فذاً في قانون الكنيسة وتقاليدها، وتدرب على مهام منصبه السامي بأن كان مساعداً محبوباً لطائفة من البابوات. وكان يضارع جريجوري الأول والثاني العظيمين في قوة الإرادة، ويفوقها في سعة مطامعه ونجاحه في الوصول إليها. وقد أقام منطقه على قضيتين يقبلهما وقتئذ جميع المسيحيين: وهما أن ابن الله أنشأ الكنيسة بأن جعل الرسول بطرس أول رئيس لها، وأن أساقفة روما ورثوا سلطات بطرس واحداً بعد واحد في تسلسل متصل، ثم استنتج من هاتين القضيتين استنتاجاً يقبله العقل وهو أن البابا، ممثل الله على ظهر الأرض، يجب أن تكون له السيادة العليا والسلطان الأعظم على جميع المسيحيين-حكاماً كانوا أو محكومين-في شئون الدنيا والأخلاق إن لم تكن في جميع الشئون. ونشر نقولاس بفصاحته هذه الحجة السهلة، ولم يجرؤ أحد في البلاد المسيحية اللاتينية على معارضتها، وكل ما كان يرجوه الملك ورؤساء الأساقفة ألا يحملها محمل الجد أكثر مما يجب.
لكنه خيب رجاءهم: ذلك أنه لما أراد لوثير الثاني ملك لورين أن يطلق زوجته ثيوثيرجا Thentherga ويتزوج عشيقه ولدرادا حقق الرؤساء الدينيون في مملكته رغبته، فلجأت ثيوثيرجا إلى البابا نقولاس، وأرسل للبابا مبعوثيه إلى متز لينظروا في الأمر. ونفح لوثير أولئك المبعوثين برشا سخية ليؤيدوا الطلاق، وحمل كبير أساقفة تريير وكولوني هذا القرار إلى الهابا؛ ولكن نقولاس كشف ما فيه من تدليس، وأصدر قراراً بحرمان كبيري الأساقفة، وأمر لوثير أن يطرد عشيقته ويعيد زوجته إلى عاصمة؛ فعصى لوثير الأمر وزحف على روما بجيشه. وأقام نقولاس ثماني وأربعين ساعة صائماً مصلياً، وخانت لوثير على أثرها شجاعته فخضع لأوامر البابا. وحدث أن هنكمار كبير أساقفة ريمس وأعظم الرؤساء الدينيين في أوربا اللاتينية بعد البابا وحده عزل أسقفاً يدعى راثراد Ratherad من منصبه، فلجأ الأسقف إلى نقولاس (863)؛ فأعاد البابا النظر في قضيته، وأمر بإعادة راثراد إلى منصبه؛ ولما تردد هنكمار في تنفيذ حكم البابا هدده بأن يصدر قرار الحرمان على جميع أبرشيته، وهو قرار يقضي بوقف الصلوات في جميع كنائسها. واستشاط هنكمار غضباً، ولكنه خضع. وكان نقولاس يكتب للملوك ولرجال الدين كأنه صاحب السلطان الأعلى. ولم يجرؤ أحد على معارضته إلا فوتيوس بطريق القسطنطينية. وقد ثبت من التطورات المقبلة أن الأحكام التي أصدرها البابا كانت كلها تقريباً في جانب العدالة، وأن دفاعه الصارم عن الأخلاق الفاضلة كان هو السراج الوهاج الذي أنار دياجير الظلام والملجأ الحصين في ذلك العصر المنحل، وكانت سلطة البابوية عند وفاته معترفاً بها في أقاليم أوسع رقعة من التي كان يعترف بها فيها قبل أن يتولى شئونها.
توسع الإرساليات الغربية (529-1054)
لم يكن أجل الحوادث في التاريخ الديني لهذه العصور وأعظمها خطراً هو النزاع بين الكنيستين اليونانية واللاتينية، بل كان هو ظهور الإسلام وتحديه للمسيحية في الشرق والغرب على السواء. ذلك أنه لم يكد دين المسيح ثمار انتصاراته على الإمبراطورية الوثنية وعلى الشيع المسيحية الملحدة حتى انتزعت منه أعظم ولاياته عزة على الدين واستمساكاً به، انتزعها منه في يسر مروع دين يحتقر فلسفة الإلهيات المسيحية والمبادئ الأخلاقية المسيحية . نعم إن البطارقة ظلوا في كراسيهم بإنطاكية، وبيت المقدس، والإسكندرية بفضل تسامح المسلمين، ولكن مجد المسيحية قد زال من تلك الأقاليم، وكانت المسيحية الباقية فيها مسيحية مارقة قومية فقد قامت أرمينية، والشام، ومصر وسلطات كهنوتية مستقلة تمام الاستقلال عن القسطنطينية وروما. واحتفظت بلاد اليونان بدينها المسيحي لأن الرهبان قد انتصروا فيها على الفلاسفة، وكان الدير العظيم دير لافرا المقدس الذي أقيم على جبل آثوس Mt, Athos في عام 961 يضارع في عظمته البارثنون بعد أن استحال كنيسة مسيحية. وكان لا يزال بأفريقية في القرن التاسع الميلادي عدد كبير من المسيحيين، ولكنهم كانوا يتناقصون تناقصاً سريعاً تحت حكم المسلمين. أما أسبانيا فقد كان الجزء الأكبر منها في عام 711 قد خرج من أيدي المسلمين، ذلك أن المسيحية ولت وجهها نحو الشمال بعد هزيمتها في آسية وأفريقية وواصلت فتوحها في أوربا.
وأوشكت إيطاليا أن تقع في أيدي المسلمين، ولكنها بعد أن أفلتت منهم انقسمت بين المذهبين المسيحيين اليوناني واللاتيني، وكاد دير مونتي كسينو يقوم على الحد الفاصل بين المذهبين، وقد بلغت شهرة هذا الدير غايتها تحت حكم رئيسه دزيدورس (1058-1087). فقد جاء إليه من القسطنطينية ببابين فخمين من البرونز، ثم لم يكتف بهذا فجاء إليه أيضاً بصناع، زينوا داخله بالفسيفساء والميناء. والزخارف في المعادن والعاج والخشب. وكاد الدير يصبح جامعة علمية تدرس مناهج في النحو والآداب اليونانية والرومانية القديمة، والآداب المسيحية واللاهوت، والطب، والقانون. وأخرج الرهبان مخطوطات مزخرفة غاية في الإبداع على غرار النماذج البيزنطية، ونسخوا بخطهم الجميل كتب روما الوثنية القديمة، ومنها طائفة يرجع الفضل في بقائها حتى الآن إلى عمل هؤلاء الرهبان. وفي روما لم تشأ الكنيسة في عهد البابا بنيفاس الرابع وخلفائه أن تظل الهياكل الوثنية آخذة في التهدم والانحلال بل شرعت تعيد بقاءها ليستخدمها المسيحيون ويعنوا بها، فدشن البانثينون لمريم العذراء ولجميع القديسين (609)، واستحال هيكل يانوس كنيسة للقديس ديونيشيوس، وهيكل زحلى (ساترن) كنيسة المخلّص. وجدد ليو الرابع (847-855) كنيسة القديس بطرس وزينها، وبفضل ازدياد سلطان البابوية، ومجيء الحجاج إلى تلك المباني، تمت حولها ضاحية من مختلف الأجناس واللغات اشتق اسمها من اسم تل الفاتيكان القديم.
وكانت فرنسا وقتئذ أغنى البلاد التابعة للكنيسة اللاتينية. ذلك أن ملوك الأسرة المروفنجية لم يكونوا يرتابون في قدرتهم على ابتياع ملكوت السماوات بعد أن يستمتعوا بتعدد الزوجات وتقتيل الخصوم فأخذوا يهبون الأسقفيات الكثير من الأراضي والأموال. وكانت الكنيسة في فرنسا كما كانت في غيرها من البلدان تتلقى الوصايا من الكبراء التائبين والوارثات العابدات الصالحات؛ ولما حرم شلبريك Chilperic هذه الهبات ألغى جنثرام Gunthram أمر التحريم بعد قليل. وكان من سخريات التاريخ أن رجال الدين في غالة كانوا كلهم تقريباً من العنصر الغالي الروماني، وبهذا كان الفرنجة الذين اعتنقوا الدين المسيحي يخرون سجداً تحت أقدام من فتحوا هم بلادهم ويردون إليهم بالهبات ما نهبوه منهم من الحروب(28). وكان رجال الدين أعظم العناصر قدرة في غالة، وأحسنهم تعليماً، وأقلهم فساداً في الأخلاق. وكادت معرفة القراءة والكتابة أن تكون محصورة فيهم وحدهم، وكانت الكثرة الغالبة منهم تجد صادقة مخلصة في تعليم الشعب الذي كان يعاني الأمرين من شره كبرائه وملوكه، وفي تقييم أخلاقه، وإن كانت من بينهم أقلية صغيرة انغمست في الرذيلة. وكان للأساقفة القسط الأكبر من السلطة الزمنية والدينية في أبرشياتهم، وكانت محاكمهم الملجأ المفضل للمتقاضين في الشئون الدينية وغير الدينية أيضاً. وكانوا أينما وجدوا يبسطون حمايتهم على اليتامى، والأرامل، والمعدمين، والأرقاء؛ وكانت الكنائس تنشئ المستشفيات في كثير من الأبرشيات، ومنها hotel de Dieu-"نزل الله"-الذي افتتح في باريس عام 651. وقد اشتهر سان جرمان St. Germain، أسقف باريس في النصف الثاني من القرن السادس في جميع أنحاء أوربا بما بذله من الجهود في جمع الأموال-وإنفاق ماله الخاص-لتحرير العبيد. وقوى سيدونيوس أسقف مينز جسور الرين. وهذب فليكس أسقف نانت مجرى اللوار، وأنشأ ديدييه Didier أسقف كاهور Cahor قنوات لنقل مياه الشرب، وكان سان أجوبار St. Agobard (779-840) كبير أساقفة لبون نموذجاً صالحين في الدين، وعدواً لدوداً للخرافات، حرم المحاكمة بالمبارزة أو التحكيم الإلهي، كما حرم عبادة الصور، وتفسير الزوابع على أنها من أعمال السحر، وكشف عما في محاكمة الساحرات من أخطاء فكان بهذا "أكثر رؤوس ذلك الوقت صفاء"(29). وكان هنكمار الأرستقراطي كبير أساقفة ريمس (845-882) رئيساً لنحو عشرين من المجالس الكنسية، وقد أفل ستة وستين كتاباً، وكان رئيس شارل الأصلع، وكاد ينشئ حكومة دينية في فرنسا.
واتصفت المسيحية في كل بلد بصفات أهله القومية، فأصبحت في أيرلندة صوفية، عاطفية، فردية النزعة، انفعالية؛ أدخلت فيها الجنيات، والشعر، وخيال الكلت العجيب الرقيق، وورث القساوسة قوى الدرويد السحرية، وأساطير الشعراء الغنائيين، وكان النظام القبلي في البلاد مساعداً على تفكك الكنيسة-حتى كادت كل جهة فيها يكون لها "أسقف" مستقل. وكان الرهبان فيها أكثر عدداً وأعظم نفوذاً من الأساقفة والقساوسة، وكان أولئك الرهبان يعيشون جماعات قلّما تزيد الواحدة منها على اثني عشر راهباً يقيمون في أديرة شبه منعزلة ، معظمها مستقلة بشئونها ومنتشرة في أنحاء الجزيرة، تعترف للبابا برياسة الكنيسة، ولكنها لا تخضع لإشراف خارجي من أي نوع كان. وكان الرهبان الأسبقون يعيشون في صوامع منفصلة، ويعمدون إلى التنسك والزهد، ولا يجتمعون إلا في أوقات الصلاة. وجاء بعدهم جيل آخر-"الطبقة الثانية من القديسين الأيرلنديين"-خرجوا على هذه التقاليد المصرية، فكانوا يدرسون مجتمعين ويتعلمون اللغة اليونانية، وينسخون المخطوطات، وينشئون المدارس لرجال الدين وغير رجال الدين. وتخرج في المدارس الأيرلندية في القرنين السادس والسابع عدد متتابع من جبابرة القديسين الذائعي الصيت انتقلوا منها إلى اسكتلندة، وإنجلترا، وغالة، وألمانيا، وإيطاليا، ليعلموا فيها المسيحية المظلمة ويعيدوا إليها الحياة. وقد كتب أحد الفرنجة في عام 850 يقول: "تكاد أيرلندة كلها تهرع إلى جماعات إلى سواحلنا ومعها حشدن الفلاسفة"(30). وهكذا انعكست الآية واستُرِدَّ الدَّين، فبعد أن طردت غارات الألمان غالة وبريطانيا العلماء من هذين البلدين إلى إيرلندة، أخذ المبشرون الأيرلنديون يلقون بأنفسهم على فاتحي إنجلترا الوثنيين من الإنجليز والسكسون، والنرويجيين، والدنمرقيين، وعلى المسيحيين الأميين نصف الهمج في غالة وألمانيا، يحملون الكتاب المقدس بإحدى يديهم والمخطوطات اليونانية والرومانية القديمة باليد الأخرى، ولاح وقتاً ما أن الكلت سوف يستردون عن طريق المسيحية ما خسروه من الأراضي بالقوة. وبذلك كانت العصور المظلمة هي التي أشرقت فيها الروح الأيرلندية وتلألأت كما لم تتلألأ من قبل ولا من بعد.
وكان أعظم أولئك المبشرين هو سانت كولمبا St. Columba، نحن نعرف الشيء الكثير عنه من سيرته التي كتبها له (حوالي عام 976) أدمنان Adamnan أحد خلفائه في أيونا Iona. وقد ولد كولمبا في دنجال Donegal عام 521، وكان يجري في عروقه دم الملوك؛ وكان ما كان بوذا قديساً في وسعه أن يكون ملكاً. وبدا عليه وهو طالب في مدرسة موفيل Moville من الورع ما جعله معلمه يلقبه كولمبكيل Columbkille أي عماد الكنيسة. وأنشأ مذ كان في الخامسة والعشرين من عمره عدداً من الكنائس والأديرة أشهرها كلها ما كان منها في دري Derry، ودرو Durrow، وكلز Kells ولكنه لم يكن قديساً فحسب، بل كان فوق ذلك مكافحاً "قوي البنية. جهوي الصوت"(31)، سبب له تهوره كثيراً من النزاع ثم إلى الحرب مع الملك ديرمويد Diarmuid؛ ودارت بينهما آخر الأمر معركة قتل فيها، على حد قولهم، 5000 رجل. وانتصر فيها كولمبا ولكنه رغم انتصاره فر من أيرلندة (563)، وهو مصمم على أن يهدي إلى المسيحية من الأرواح بقدر من قتل في معركة كولدرفنا Cooldrevna. وأنشأ وقتئذ في جزيرة أيونا القريبة من شاطئ اسكتلندة الغربي ديراً من أعظم أديرة العصور الوسطى وأوسعها شهرة. ومن هذا الدير نشر هو ومريدوه الإنجيل في جزيرة هبريده Hebrides، واسكتلندة، وشمالي إنجلترا. وبعد أن هدى آلافاً من الوثنيين إلى الدين المسيحي وزخرف ثلاثمائة "كتاب نبيل" مات وهو يصلي عند المذبح في الثامنة والسبعين من عمره.
وشبيه به في روحه واسمه سانت كولمبان St. Columban المولود في لينستر Leinster حوالي عام 543. ولسنا نعلم عنه شيء حتى نجده وهو في الثانية والثلاثين من عمره يؤسس الأديرة في جبال الفوج بفرنسا. وكان من تعاليمه للمبتدئين من أتباعه في لكسويل Luxeuil:
يجب أن تصوم كل يوم، وتصلي كل يوم، وتعمل كل يوم، وتقرأ كل يوم؛ وعلى الراهب أن يعيش تحت حكم أب واحد، وفي مجتمع يتألف في كثير من الإخوان، حتى يتعلم التواضع من أحدهم والصبر من آخر والصمت من ثالث ودماثة الأخلاق من رابع... ويجب أن يأوى إلى الفراش وهو متعب يكاد يغلبه النوم وهو سائر في الطريق(23). وكانت العقوبات صارمة، أكثر ما تكون بالجلد: ستة سياط إذا سعل وهو يبدأ ترنيمة أو نسي أن يدرم أظافره قبل تلاوة القداس، أو تبسم أثناء الصلاة أو قرع القدح بأسنانه أثناء العشاء الرباني؛ وكانت اثنا عشر سوطاً عقاب الراهب إذا نسي أن يدعو الله قبل الطعام، وخمسون عقاب التأخر عن الصلاة، ومائة لمن يشترك في نزاع، ومائتان لمن يتحدث من غير احتشام مع امرأة(23). ولم يكن الناس يحجمون عن دخول الدير رغم هذا الحكم الإرهابي، فقد كان في دير مكسويل ستون راهباً، كثيرون منهم ينتمون إلى أسر غنية. وكانوا يعيشون على الخبز، والخضر، والماء؛ ويقطعون الغابات، ويحرثون الأرض، ويزرعون ويحصدون، ويصومون ويصلون. وهنا أقام كولمبان نظام "الحمد الذي لا ينقطع iaux perennis. فقد كانت الأوراد يتلوها بلا انقطاع ليلاً ونهاراً طائفة بعد طائفة من الرهبان يوجهونها إلى عيسى ومريم والقديسين(34). وكانت ألف دير ودير شبيهة بدير لكسويل من المعالم البارزة في العصور الوسطى.
ولم يكن المزاج الصارم الذي وضع هذه القواعد يجيز آراء غير هذه الآراء؛ ولهذا ألقى كولمبان، الذي يحرم النزاع، نفسه في نزاع متكرر مع الأساقفة الذين يتجاهل سلطانهم، ومع الموظفين الزمنيين الذين لا يقبل تدخلهم في الشئون الدينية ومع البابوات أنفسهم. ذلك أن الأيرلنديين كانوا يحتفلون بعيد الفصح حسب تقويم كانت تسير عليه الكنيسة في بادئ الأمر ولكنها غيرته في عام 343. ونشأ من ذلك نزاع بينها وبين القساوسة الغاليين، فلجأ هؤلاء إلى جريجوري الأكبر، ورفض كولمبان أوامر البابا وقال: "إن الأيرلنديين أعلم منكم بالفلك أيها الرومان"، وأمر جريجوري أن يقر طريقة الأيرلنديين في الحساب وإلا "فسيعد من الخارجين عن الدين وتنبذه بازدراء كنائس الغرب"(35). ثم طرد الأيرلندي المتمرد من غالة (609)، لتشهيره بآثام الملكة برنهلد Brunhild: ووضع بالقوة على ظهر سفينة مقلعة إلى أيرلندة؛ ولكن السفينة اضطرت إلى الاندفاع عائدة إلى فرنسا، وعبر كولمبان الأرض المحرمة عليه وأخذ يعظ أهل بافاريا الوثنيين. ولسنا نعتقد أن كولمبان كان في حقيقة أمره رهيباً كما يبدو من حكمه وسيرته، فنحن نسمع أن السناجب كانت تجثم في اطمئنان على كتفيه وتدخل في قلنسوته وتخرج منها(36). ثم ترك زميلاً له أيرلندياً ليؤسس (613) دير سانت جول St. Gall على بحيرة كنستانس، وعبر هو ممر سان جوثار St. Gothard Pass بعد أن عانى في سبيل ذلك الأمرين، وأسس دير ببيو Bobbio في لمباوديا عام 613 حيث توفي بعد عامين في صومعته المنعزلة التي كان يعيش فيها معيشة الزهد والتقشف.
ويحدثنا ترتليان Tertullian عن وجود مسيحيين في بريطانيا في عام 208؛ كما يحدثنا بيد Bede عن وفاة سانت أولبان أثناء اضطهاد دقلديانوس للمسيحيين. وقد شهد الأساقفة البريطانيون مجلس سرديقا Sardica (347)، كذلك ذهب جرمانوس Germanus أسقف أوكسير Auxerre إلى بريطانيا في عام 429 ليقضي فيها على الزنادقة البلاجيين(37). ويؤكد لنا وليم الملمزبريي William of Malmesbury أن الأسقف أباد جيشاً من السكسون بأن جعل الذين هداهم من البريطانيين يصرخون "حمداً لله" في وجوههم(38). ثم ضعف شأن المسيحية البريطانية بعد أن كانت لها هذه القوة العظيمة، وأشرفت على الفناء بسبب غارات الأنجليسكيون، فلم تعد تسمع عنها شيئاً بعدئذ حتى دخل أتباع كولمبا نورثمبرلند في آخر القرن السادس، وحتى وصل أوغسطين ومعه سبعة آخرون من الرهبان من روما إلى إنجلترا. وما من شك في أن البابا جريجوري قد علم من قبل أن إثلبرت ملك كنت الوثني تزوج برتا Bertha الأميرة المروفنجية المسيحية. واستمع إثلبرت في لطف ومجاملة إلى أوغسطين، وظل غير مقتنع بحديثه، ولكنه أطلق له حرية الوعظ، وهيأ له ولزملائه الرهبان الطعام والمسكن في كنتربري. ثم استطاعت الملكة آخر الأمر (599) أن تقنع الملك باعتناق الدين الجديد، وحذا حذوهما كثيراً من رعاياهما. وفي عام 601 بعث جريجوري بصورة الكاهن إلى أوغسطين فأصبح على رأس عدد من أساقفة كنتبري الأجلاء الممتازين. واصطنع جريجوري اللين مع من بقي في إنجلترا من الوثنيين وأجاز تحويل الهياكل القديمة إلى كنائس، بأن تحول عادة التضحية بالثيران في يسر ولطف غلى "ذبحها لإنعاشهم لمديح الله"(39)، وبهذا كان كل ما طرأ على الإنجليز من تغير هو تحولهم من أكل لحم البقر حين يحمدون الله إلى حمد الله حين يأكلون لحم البقر.
وأدخل مبشر إيطالي آخر يدعى بولينوس panlinus المسيحية إلى نورثمبرلند (726). ذلك أن أزولد Oswald ملك نورثمبرلند دعا رهبان أيونا إلى المجيء غلى بلاده ليعظوا شعبه، وأراد أن يعينهم على أداء مهمتهم فمنحهم جزيرة لنسفارن Lindisfarne القريبة من ساحل إنجلترا الشرقي. وفيها أنشأ سانت إيدان St. Aidan (634) ديراً خلد اسمه بمن تخرج فيه من المبشرين المخلصين وبما أخرجه من المخطوطات المزخرفة ذات الروعة. وهناك ترك سانت كثبرت St. Cuthbert (635؟-687) وراءه في دير ملروز Mlrose ذكريات طيبة لصبره، وتقواه، وفكاهته، وحسن إدراكه وبفضل صلاح هؤلاء الرجال وأمثالهم، وبفضل ما كانوا ينعمون به من أمن وسلام وسط الحروب الكثيرة، أقبل عدد كبير من المتنصرين حديثاً والمتنصرات إلى أديرة الرجال والنساء التي قامت وقتئذ في إنجلترا. وقد رفع أولئك الرهبان من كرامة العمل، بكدحهم المتواصل في الغابات والحقول على الرغم من انتكاسهم من حين غلى حين وعودتهم إلى أساليب عامة الناس. فتزعموا هنا، كما تزعموا في فرنسا وألمانيا، ركب الحضارة في كفاحه ضد المناقع والآجام، وكما تزعموه في كفاحه ضد الأمية، والعنف والدعارة، والسكر، والشره. وظل بيد أن من يدخلون الأديرة من الإنجليز قد زاد على الحد الواجب، وأن الأشراف قد أسرفوا في إنشاء الأديرة ليعفوا أملاكهم من الضرائب، وأن أراضي الكنيسة المعفاة من الضرائب قد استغرقت من أرض إنجلترا الزراعية فوق ما يجب أن تستغرقه؛ وأنذر البلاد بأنه لم يبق من الجنود من يكفون لوقاية إنجلترا من الغزو(40). وسرعان ما أثبت الدنمرقيون، ومن بعدهم النورمان حكمة الراهب وبعد نظره في شئون الدنيا.
ووجد النزاع سبيله إلى الأديرة نفسها، وعكر عليها صفوها، حين اصطدم الرهبان البندتيون المقيمون في جنوبي إنجلترا والذين اتبعوا الشعائر الرومانية والتقويم الروماني، بالرهبان الأيرلنديين والتقويم الأيرلندي والشعائر الأيرلندية في الشمال. وحسم سانت ولفريد St. Wilfrid بفصاحته في مجتمع هوتبي Whitby المقدس (664) هذا النزاع-وهو من الوجهة الفنية التاريخ الصحيح لعيد الفصح-في صالح روما. وقبِل الرهبان الأيرلنديون على كره منهم هذا القرار، وأضحت الكنيسة الإنجليزية بعد وحدتها وما نالت من الحبوس والهبات سلطة اقتصادية وسياسية، واضطلعت بدور رئيسي في تحضير الشعب وحكم الدولة.
وجاءت المسيحية إلى ألمانيا هدية من الرهبان الأيرلنديين والإنجليز. ذلك أن وليبرورد Willibrord الراهب النورثمبري الذي تلقى تعليمه في أيرلندة اجتاز هو واثنا عشر من أعوانه المغامرين بحر الشمال في عام 690، واتخذ مقره الديني في أوترخت Utrecht، وظل أربعين عاماً يعمل لهداية الفريزيين إلى المسيحية. ولكن أولئك الملاك ذوي النزعة الواقعية رأوا في وليبرورد يد بيبين الأصغر حاميه ونصيره؛ ولم يكن يرضيهم أن يقال لهم إن جميع أسلافهم غير المعمدين مثواهم الجحيم. ويروي أن ملكاً فريزياً عرف هذا وهو يوشك أن يعمد، فامتنع عن التعميد وقال إنه يفضل أن يخلد مع آبائه(41).
وواصل رجل أقوى من وليبرورد هذه الحملة في عام 716. ذلك أن نبيلاً إنجليزياً وراهباً بندكتياً يدعى ونفريد (680؟-754) منحه البابا جريجوري الثاني اسم بنيفاس ولقبَّه خلفاؤه الصالحون لقب "رسول ألمانيا". وقد وجد ونفريد هذا بالقرب من فرتزلار Fritzlar في هس Hesse شجرة بلوط يعبدها الناس على أنها موطن لإله من الآلهة، فما كان منه إلا أن قطع الشجرة، ودهش الناس حين رأوا أنه ظل حياً فهرعوا إليه يطلبون التعميد. وأقيمت بعدئذ أديرة عظيمة في ريخنو Reichenau (724)، وفلدا Fulda (744)، ولورسخ Lorsch (763). وعيَّن بنيفاس كبيراً لأساقفة مينز في عام 748، فنصب عدداً من الأساقفة ونظم الكنيسة الألمانية فجعلها أداة قوية لتقويم الأخلاق وتوطيد دعائم النظام الاقتصادي والسياسي. ولما أتم رسالته في هس وثورنجيا، أراد أن يختم حياته بالاستشهاد في سبيل الدين، فدخل فريزيا يعتزم أن يتم العمل الذي بدأه وليبرورد. وبعد أن ظل يكدح في هذا العمل سنة أو نحوها هاجمه الوثنيون وقتلوه. وبعد عام من مقتله نشر شارلمان الدين المسيحي بين السكسون بالسيف والنار، ورأى الفريزيون المعاندون أن لا مناص من الخضوع، وتم بذلك فتح بلاد الذين فتحوا روما على أيدي المسيحية الروماتية.
وكان آخر انتصارات الدين في أوربا هو هداية الصقالبة. وتفصيل ذلك أن رستسلاف Roslislav أمير مورافيا رأى المسيحية اللاتينية تدخل بلاده وتغفل في شعائرها لغة البلاد، فطلب إلى بيزنطية أن ترسل لبلاده مبشرين يستخدمون اللغة العامية في عظاتهم وصلواتهم، فبعث إليه الإمبراطور بأخوين همامثوديوس Methodius وسيريل Cyril كانا نشآ في سلانيك، ولذلك كان من السهل عليهما أن يتكلما لغة الصقالبة. ورحب بهما أهل البلاد ولكنهما وجدا أن الصقالبة ليست لهم حروف هجائية يعبرون بها عن لغتهم تعبيراً كاملاً بالكتابة، وأن العدد القليل الذين يكتبون يستخدمون في كتابة حديثهم الحروف اليونانية واللاتينية. ولهذا ابتكر الحروف الهجائية الصقلبية وطريقة كتابتها، وذلك باستخدام الحروف اليونانية مع التحسينات التي دخلت عليها نتيجة استخدام اليونان إياها حتى القرن التاسع، فكان حرف B ينطق كما ينطق V، H ينطق حرف I (وحرف E في الإنجليزية)، Ch ينطق الأسكتلنديون Ch، وابتكر حروفاً صقلبية للأصوات التي لا تعبر عنها الحروف اليونانية. وترجم سيريل بهذه الحروف الهجائية الترجمة اليونانية السبعينية للعهد القديم ونصوص الطقوس اليونانية، وبدأ بهذا العمل لغة مكتوبة جديدة وأدباً جديداً.
ونشأ وقتئذ بين المسيحية اليونانية واللاتينية نزاع تبغي به كلتاهما أن تستحوذ على الصقالبة، فاستدعى البابا نقولاس الأول سيريل ومثوديوس إلى روما، حيث ترهب سيريل، ومرض، ومات (859) أما مثوديوس فعاد إلى مورافيا كبيراً لأساقفتها من قبل البابا. وأجاز البابا يوحنا الثامن استخدم الطقوس الصقلبية، ثم حرمها استيفن الخامس، واكتسبت الكنيسة اللاتينية وشعائرها مورافيا، وبوهيميا، وسلوفاكيا (وهي التي تتألف منها دولة تشكوسلوفاكيا الحاضرة)، كما كسبت بعدئذ بلاد المجر وبولندا، أما بلغاريا، والصرب، وروسيا قد ارتضت الطقوس والحروف الهجائية الصقلبية، وقدمت ولاءها للكنية اليونانية، وأخذت ثقافتها عن بيزنطية. ولقد تأثرت هذه التغييرات الدينية بالاعتبارات السياسية. ذلك أن اعتناق الألمان المسيحية كان يقصد بهم ضمهم إلى مملكة الفرنجة وربطهم وإياها برباط وثيق. وفرض الملك هارولد بلوتوث (صاحب الناب الأزرق) الدين المسيحي على الدنمرقة (974)، ليكون جزءاً من الثمن الذي طلبه الإمبراطور أتو الثاني للصلح. وانحاز بوريس Boris ملك بلغاريا إلى جانب الكنيسة اليونانية (864) بعد أن ظل يداعب البابوية وقتاً ما، وكان انضمامه إليها لرغبته في الاحتماء بها من توسع ألمانيا، وجعل فلاديمير Vladimir الأول روسيا بلاداً مسيحية (988) ليستطيع الزواج بأنا Anna أخت بازيل الثاني إمبراطور الروم، وليحصل على جزء من بلاد القرم بائنة لها(42) وظلت الكنيسة الروسية قرنين من الزمان تعترف بسلطان بطرق القسطنطينية، ثم أعلنت استقلالها عنه في القرن الثالث عشر، وأضحت الكنيسة الروسية بعد سقوط الإمبراطورية الشرقية (1453) ذلك الشأن الأكبر في العالم الأرثوذكسي اليوناني.
وكان الجنود المظفرون في هذا الفتح المسيحي لأوربا هم الرهبان، كما كانت الراهبات هن الممرضات في هذه الحرب الدينية. ذلك أن الرهبان قد عاونوا الزراع على استصلاح الأراضي البور وزراعتها، وتقطيع أشجار الغابات وتنظيف الأرض من الأعشاب، وتجفيف المستنقعات، وإقامة الجسور على الجداول، وشق الطرق، ولقد أقاموا في البلاد مراكز للصناعة، وأنشئوا المدارس، ونظموا الصدقات، ونسخوا المخطوطات وجمعوا مكتبات متواضعة، وبثوا النظام الأخلاقي وروح الشجاعة والطمأنينة في نفوس الحائرين الذين انتزعوا من عاداتهم وشعائرهم أو بيوتهم القديمة. وكان بندكت الأنياني يكدح، ويحفر، ويحصد بين رهبانه، كما ظل الراهب ثيودولف يسوق المحراث بالقرب من ريمس مدى اثنين وعشرين عاماً، وقد بلغ من إخلاصه في هذا العمل أن احتفظ بعد وفاته بهذا المحراث وكان موضعاً للإكبار والإجلال.
وكان الرهبان والراهبات يعودون إلى فطرتهم البشرية بين آونة وأخرى بعد أن يبقوا زمناً طويلاً مثلاً عليا للفضيلة، والخشوع، والجد، وكان لا بد من قيام حملة في كل قرن تقريباً لرفع الرهبان مرة أخرى إلى المستويات العليا غير الفطرية التي شرعوا لأنفسهم قواعدها. كذلك كان بعض الرهبان ينهمكون في نوبات موقوتة من التقي والخشوع ثم يصبحون غير صالحين لنظام الرهبنة بعد أن يفيقوا من نشوتهم وتضعف حماستهم. ومن الرهبان والراهبات من كانوا نذوراً جيء بهم إلى الأديرة وهم أطفال في سن السابعة أو بعدها، ومنهم من جيء بهم وهم رضع في المهد، وقد ظلت هذه النذور حرمات لا يحل النكث بها حتى أباحت القرارات البابوية في عام 1179 التحلل منها إذ بلغ الطفل الرابعة عشرة من عمره(43). وهال لويس التقي ما رآه من ضعف النظام في الأديرة الفرنسية فدعا في عام 817 إلى عقد جمعية قومية من رؤساء الأديرة والرهبان في آخن، وعهد إلى القديس بندكت الأنياني أن يقرر السير في جميع في جميع أديرة بلاده على القواعد التي وضعها القديس بندكت النورسيائي St. Benedict of Nurcia. وأخذ بندكت الجديد يواصل العمل بجد، ولكن المنية وافته في عام 821، وما لبثت حروب الملوك أن أشاعت الفوضى في دولة الفرنجة، وخربت غارات النورمان، والمجر، والمسلمين مئات الأديرة، وهام الرهبان على وجههم في العالم غير الديني، ولما عاد بعضهم إلى أديرتهم بعد أن ارتدت موجة التخريب، جاءوا معهم إليها بطرائق الحياة في خارجها. يضاف إلى هذا أن السادة الإقطاعيين قد اغتصبوا الأديرة، وعينوا هم رؤساءها، واستولوا على إيرادها، ولم يحل عام 900 حتى تدهورت أديرة الغرب، كما تدهورت الأنظمة كلها، إلا القليل الذي يستحق الذكر منها، في أوربا اللاتينية إلى الدرك الأسفل من حياتها أثناء العصور الوسطى. وليس أدل على هذا الانحطاط من قول سانت أدو رئيس دير كلوني (المتوفى عام 942) "إن بعض رجال الدين في الأديرة وخارجها يستهترون بابن العذراء استهتاراً يستبيحون معه ارتكاب الفحشاء في ساحاته نفسها، بل في تلك البيوت التي أنشأها المؤمنون الخاشعون لكي تكون ملاذاً للعفة والطهارة في حرمها المسور، لقد فاضت هذه البيوت بالدعارة حتى أصبحت مريم العذراء لا تجد مكاناً تضع فيه الطفل عيسى"(44). ومن دير كلوني جاءت حركة الإصلاح العظمى للأديرة.
ذلك أن اثني عشر راهباً قد أنشئوا حوالي عام 910 ديراً في هذا المكان بين تلال برغندية يكاد يكون موضعه على الحدود الفاصلة بين ألمانيا وفرنسا. وفي عام 927 أعاد أدو رئيسه النظر في قواعده ليجعلها أشد صرامة من الناحية الأخلاقية وييسرها من ناحية الجهود الجسمية: فمنع التقشف الشديد، وأوصى بالاستحمام، ووفر الطعام، وأجاز شرب الجعة والنبيذ، ولكنه شدد في الاستمساك بالإيمان القديمة التي يلتزم بها الرهبان الفقر، والطاعة، والعفة. وأنشئت أديرة أخرى على غراره في أماكن أخرى من فرنسا، ولكنها لم تكن كالأديرة القديمة لكل منها قانونه الذي لا يقوم على أساس معروف، ولا يخضع إلا خضوعاً غير وثيق إلى أسقف محلي أو سيد من الأشراف، بل كانت الأديرة البندكتية الجديدة المتصلة بدير كلوني يحكمها رؤساء يخضعون لرؤساء دير كلوني وللبابوات. وانتشرت بزعامة مايول Mayeul (954-994)، وأوديلو Odilo (994-1049)، وهيو Hugh (1049-1109) حركة تآخي الأديرة من فرنسا إلى إنجلترا، وألمانيا، وبولندة وهنغاريا، وإيطاليا، وأسبانيا، وانضمت كثير من الأديرة القديمة "إلى المجمع الكلوني"، فلم يحل عام 1100 حتى كان نحو ألفي دير تعترف بأن دير كلوني أبوها وحاكمها. وكانت السلطة المنظمة على هذا النحو البعيدة عن تدخل الدول ورقابة الكنيسة، سلاحاً جديداً في يد البابوية تسيطر به على رجال الدين في خارج الأديرة، ويسرت في الوقت نفسه إصلاح نظام الرهبنة على أيدي الرهبان أنفسهم إصلاحاً ينطوي على الجرأة والشجاعة، فكبحت أيد قوية ما كان في الأديرة من اضطراب، وتعطل، وترف، وفساد أخلاقي، ومتاجرة بالدين وبالرتب الكهنوتية، وشهدت إيطاليا ذلك المنظر الغريب منظر راهب فرنسي في أراضيها، إذا دعى أدو إلى إيطاليا ليصلح دير مونتي كسينو نفسه(45).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
تحطيم الأيقونات البيزنطي (566-898)
لم يكن في وسع بطارقة الكنيسة الشرقية أن يعترفوا بهذا السلطان الأعلى لأسقف روما لسبب واضح هو أنهم كانوا من زمن بعيد خاضعين لأباطرة الروم، وأن هؤلاء الأباطرة لم ينزلوا حتى عام 871 عن دعواهم بأن لهم السيادة على روما ومن فيها من البابوات. ولقد كان البابوات من حين إلى حين يوجهون النقد إلى الأباطرة، ويعصون أوامرهم، بل ويشهرون بهم؛ ولكن الأباطرة هم الذين كانوا يعينونهم في مناصبهم، ويخرجونهم منها، ويدعون المجالس الكنيسية إلى الانعقاد، وينظمون شئون الكنيسة بقوانين تسنها الدولة، وينشرون آراءهم وتوجيهاتهم الدينية على رجال الدين. ولكن ثمة ما يحد من سلطان الأباطرة الديني المطلق في العالم المسرحي الشرقي إلا سلطان الرهبان، ولسان البطريق، واليمين التي يقسمها الإمبراطور حين يتوجه البطريق بأن لا يبتدع بدعة ما في الكنيسة.
وكانت أديرة الرهبان والراهبات منتشرة وقتئذ في القسطنطينية-بل في بلاد الشرق اليونانية على بكرة أبيها. وكان عدد هذه الأديرة في القسطنطينية وحدها يفوق عددها في الغرب، حتى لقد استحوذت نزعته التنسك على بعض أباطرة بيزنطية أنفسهم، فكانوا يعيشون معيشة الزهاد بين ترف القصور، ويستمعون في كل يوم إلى القداس، ويتقشفون في طعامهم، ويندمون على خطاياهم كلما اقترفوها وكانت تقوى الأباطرة والأثرياء حين يموتون سبباً في اتساع الأديرة وكثرة عددها بما كان يهبه هؤلاء وأولئك لها من الهبات في أثناء حياتهم ويوصون لها به من المال بعد وفاتهم. وكان الرجال والنساء من أعلى الطبقات إذا ما أخافتهم نذر الموت يسعون لدخول الأديرة، ويسترضون ربهم بما يهبونها من الأموال التي تعفى بعدئذ من الضرائب، ومنم من كانوا يعطون بعض أملاكهم لدير من الأديرة على أن يتقاضوا منه في نظير ذلك مرتباً سنوياً. وكانت أديرة كثيرة تدعى أن بها مخلفات لبعض القديسين الأجلاء، وكان الناس يعزون إلى الرهبان السيطرة على ما لهذه المخلفات من قدره على فعل المعجزات، ويقدمون إليهم المال راجين أن ينالوا من وراء استثماره لديهم أرباحاً طائلة لا يصدقها العقل. وقد شوه عدد قليل من الرهبان دينهم بكسلهم، وفسقهم، وتحزبهم، وشرههم، وإن كانت كثرتهم قد تمسكت بأهداب الفضيلة والسلام. وكان الرهبان جميعهم ينالون احترام الشعب، ويستمتعون بالثراء المادي، بل يستمتعون أيضاً بنفوذ سياسي لم يكن يسع إمبراطوراً ما أن يتجاهله. وكان ثيودور (759-826) رئيس دير استويودون Studion في القسطنطينية مثلاً أعلى في التقي والسلطان. وكانت أمه قد وهبته في طفولته إلى الكنيسة، فتطبع بجميع الطباع المسيحية إلى حد جعله يهنئ والدته أثناء مرضها الأخير باقتراب منيتها ومجدها. وقد وضع لرهبانه قانوناً للعمل، والصلاة، والعفاف، وتنمية مواهبهم العقلية لا يقل شأناً عن قانون القديس بندكت في الغرب، ودافع عن استعمال الصور الدينية، وأنكر أمام الإمبراطور ليو الخامس بمنتهى الجرأة أن من حق السلطة الزمنية أن تتدخل بأية صورة في الشئون الكنسية. وقد نفى أربع مرات لعناده هذا ولكنه ظل في منفاه يقاوم محطمي الصور الدينية إلى يوم وفاته.
وأخذت الهوة بين المسيحية اللاتينية واليونانية تزداد بسبب ما كان بين المذهبين في هذه القرون من اختلاف في اللغة والطقوس والعقائد، وكان مثلهما في هذا كمثل جنس من أجناس الكائنات الحية انقسم في المكان وتنوع على توالي الأيام. فقد كانت الطقوس، والأثواب الكهنوتية، والآنية، والزخارف المقدسة في الكنيسة اليونانية أشد تعقيداً، وأكثر زخرفاً، وأعظم عناية بالناحية الفنية من مثيلاتها في الغرب. فكان ذراعا الصليب اليوناني مثلاً متساويتين، وكان اليونان يصلون وهم وقوف، أما اللاتين فكانوا يصلون راكعين؛ وكان اليونان يعمدون أطفالهم بأن يغمروهم في الماء المقدس، أما اللاتين فكانوا يرشون الماء عليهم؛ وكان الزواج محرماً على القساوسة اللاتين ومباحاً للقساوسة اليونان؛ وكان القسيسون اللاتين يحلقون لحاهم، أما اليونان فكانوا يرسلونها إرسالاً يخلع عليهم مظهر التفكير؛ وتخصص رجال الدين اللاتين في الشئون السياسية، أما اليونان فتخصصوا في أمور الدين؛ وكانت الزندقة تنشأ على الدوام تقريباً في بلاد الشرق الذي ورث عن اليونان شغفهم بتحديد ما لا حد له؛ ولقد نشأت بأرمينية حوالي عام 660 من مبادئ الإلحاد الغنوطسية التي نادى بها بردسانس Bardesanes في بلاد الشام، ومن اتجاه الحركة المانوية نحو الغرب على ما يظن، شيعة من البولسيين Paulicians اشتق اسمها من اسم القديس بولس، لا تؤمن بالعهد القديم، ولا بالعشاء الرباني، ولا تقول بتعظيم الصور المقدسة ولا برمزية الصليب. وانتقلت هذه الطوائف وهذه النظريات كما تنتقل بذور النبات من بلاد الشرق الأدنى إلى البلقان، وإيطاليا، وفرنسا. وصبرت صبر أولى العزم على أقسى أنواع الاضطهاد، ولا تزال بقاياها موجودة إلى الآن في طوائف الملخاني Molokhani، والخليستي Khlysti، والدخوبور Dukhobors. وكان الأباطرة أشد من الشعب إثارة للجدل القائم حول طبيعة المسيح الواحدة، وما من في أن الشعب لم يكن هو المسئول عن العبارة التي أدخلت على العقائد النيقية في طليطلة عام 589، والتي نقول إن الروح القدس ينبعث من الابن كما ينبعث من الأب، والتي لم تقبلها الكنيسة اليونانية. وزادت الهوة بين الكنيستين. لقد كانت العقيدة النيقية تحدث عن "الروح القدس الذي ينبعث من الأب"، ex patre procedit وظل هذا القول كافياً مدى 250 عاماً؛ ثم حدث في عام 589 أن غيره مجلس من مجالس الكنيسة عقد في طليطلة فجعله ex patri filioque procedit أي المنبعثة من الأب والابن. وارتضت غالة هذه الإضافة، واعتنقها شارلمان وعض عليها بالنواجذ. واحتج رجال الدين اليونان وقالوا إن الروح القدس لا ينبعث من الابن بل ينبعث عن طريقه. ووقف البابوات بين هؤلاء وأولئك إلى حين، ولم تدخل هذه العقيدة رسمياً في المذهب اللاتيني إلا في القرن الحادي عشر.
وقام في هذه الأثناء كفاح بين الإرادات أضيف إلى الكفاح بين الآراء، فقد كان من بين الرهبان الذين فروا من وجه محطمي الأصنام راهب يدعى إجناثيوس Ignathius ابن الإمبراطور ميخائيل الأول، واستدعت الإمبراطورة ثيودورا هذا الراهب في عام 840 وعينته بطريقاً. وكان رجلاً تقياً شجاعاً، شنع على قيصر بارداس Caesar Bardas رئيس الوزراء لأنه طلق زوجته وعاشر أرملة ابنه، ولما أصر بارداس على معاشرة أرملة ابنه المحرمة عليه طرده إجناثيوس من الكنيسة، فما كان من بارداس إلا أن نفى إجناثيوس، ورفع غلى عرش البطريقية أعظم علماء ذلك العصر وأكثرهم تهذيباً (855). كان فوتيوس (820؟-891) يتقن علوم اللغة، والخطابة، والعلوم الطبيعية، والفلسفة؛ وكانت محاضراته التي يلقيها في جامعة القسطنطينية قد اجتذبت إليه طائفة من الطلاب المخلصين المتحمسين فتح إليهم مكتبته وبيته. وكان قبل أن يرقى إلى مقام البطريقية قد تم موسوعة في مائتين وثمانية بابا استعرض في كل واحد منها أحد الكتب المهمة ونقل نماذج منه. وبفضل هذه الموسوعة الضخمة بقيت لنا فقرات كثيرة من الآداب القديمة، وارتفع فوتيوس بفضل هذه الثقافة الواسعة فوق تعصب الشعب، الذي عجز عن أن يفهم السر في بقائه مرتبطاً برباط الود والصداقة مع أمير كريت. واستاء رجال الدين في القسطنطينية حين رأوه يرتفع فجأة من بين العلمانيين إلى مقام البطريقية، وأرسل نقولاس الأول مبعوثيه إلى القسطنطينية لينظروا في الأمر، وقرر في رسائله إلى الإمبراطور ميخائيل الثالث وإلى فوتيوس المبدأ القائل بأن أية مسألة خطيرة من المسائل الكنيسة لا يصح أن يفصل فيها في أي مكان من غير موافقة البابا. وعقد الإمبراطور مجلساً كنسياً أقر تعيين فوتيوس، وانضم مبعوثو البابا إلى المؤيدين، فلما عادوا إلى روما أنكر عليهم نقولاس عملهم واتهمهم بأنهم قد خرجوا على التعليمات التي وجهها إليهم، وأمر الإمبراطور بأن يعيد إجناثيوس إلى منصبه، فلما تجاهل الإمبراطور هذا الأمر أصدر قراراً بحرمان فوتيوس (863). وهدد بارداس بأنه سوف يبعث جيشاً ليخلع نقولاس، ورد عليه نقولاس رداً بليغاً سخر فيه منه وأشار إلى خضوع الإمبراطور للمغيرين على أملاكه من الصقالبة والمسلمين:
"إنا نحن لم نغز كريت، ولم نقفز نحن صقلية من أهلها، ولم نخضع نحن بلاد اليونان، ولم تحرق الكنائس في ضواحي القسطنطينية، وبينما يفتح هؤلاء الوثنيون (أملاكك) ويحرقونها، ويخربونها، تبعث إلينا أيها المغتر تهددنا بهول جيوشك. إنك تطلق بارباس Barabbas وتقتل المسيح(27)". ودعا فوتيوس والإمبراطور مجلساً كنسياً آخر إلى الانعقاد، وأصدر هذا المجلس قراراً بحرمان البابا (867) وشنع على "إلحاد" الكنيسة الرومانية، ومن بينها انبعاث الروح القدس من الأب والابن، وحلق القساوسة للحاهم، وتحريم الزواج على رجال الدين. وأضاف فوتيوس إلى هذا قوله: "ولقد أصبحنا بفضل هذه العادات نرى في الغرب كثيرين من الأطفال لا يعرفون آباءهم". وبينما كان الرسل اليونان يحملون هذا الهزل إلى روما إذ تبدل الموقف فجأة (867) بجلوس بازيل الأول على عرش الإمبراطورية. وكان بازيل قد قتل قيصر بارداس، وأشرف على اغتيال ميخائيل الثالث. ونادى فوتيوس أن الإمبراطور الجديد قاتل سفاح، ورفض أن يمنحه العشاء الرباني. ورد عليه بازيل بأن دعا مجلساً كنسياً إلى الانعقاد، ونفى فوتيوس، وأعاد إجناثيوس، ولما مات إجناثيوس بعد ذلك بقليل، استدعى بازيل فوتيوس؛ وأعاده مجلس كنسي إلى مقام البطريقية، ووافق البابا يوحنا السابع على هذا القرار (وكان نقولاس الأول قد مات). وبهذا تأجل إلى حين انشقاق للكنيستين الشرقية والغربية إحداهما عن الأخرى بموت بطلي هذا الانشقاق.
العصور الوسطى العليا (800–1299)
كانت روما آخر المدن التي وصل إليها الإصلاح. ذلك أن أهل هذه المدينة كانوا على الدوام مشاكسين صعاب المراس حتى في الوقت الذي كان فيه النسر الإمبراطوري يفيض بمخلبيه على الفيالق الضخمة يسيرها أينما شاء. أما في الوقت الذي نتحدث عنه فكل ما كان يعتمد عليه البابوات هو جيش مرابط ضعيف، ومكانة منصبه السامية، ورهبة دينهم، ولهذا وجدوا أنفسهم سجناء في أيدي أرستقراطية تحسدهم على منزلتهم وأهلين يضعف من تقواهم قربهم من عرش بطرس. وكان الرومان أعز نفساً من أن يثأروا بالملوك كما كانوا أكبر من أن يرهبهم البابوات لطول ما ألفوا صحبتهم والاختلاط بهم، فقد كانوا يرون في خلفاء المسيح في الأرض رجالاً مثلهم يمرضون، ويخطئون، ويأثمون، ويغلبون، فلم تعد البابوية في اعتقادهم حصناً حصيناً للنظام وملجأً عاصماً للنجاة، بل أضحت طائفة من العمال يجمعون الصدقات من أوربا لمساكين روما. وكانت تقاليد الكنيسة تقضي بألا يختار البابا بغير رضاء رجال الدين في روما وأشرافها وجمهرة سكانها، وتفرق حكام أسبوليتو، وبنفنتوا، ونابلي، وتسكانيا، وأشراف روما شيعاً وأحزاباً كما كانوا في عهدهم القديم، وكان الحزب صاحب اليد العليا في المدينة يحيك الدسائس لاختيار البابا والسيطرة عليه. وقد عملوا جميعاً على تدهور البابوية في القرن العاشر إلى أحط مستوى وصلت إليه في تاريخها كلها. من ذلك أنه في عام 878 دخل لامبير Lambert دوق اسبوليتو مدينة روما على رأس جيشه، وقبض على البابا يوحنا السابع، وحاول أن يرغمه بتجويعه على تأييد ترشيح كارلومان لعرش الإمبراطورية. وفي عام 897 أمر البابا استيفن السادس بأن تخرج جثة البابا فورموسوس Formosus، (891-896) من قبرها، وترتدي الملابس الأرجوانية، وتحاكم أمام مجلس كنسي بتهمة مخالفتها بعض قوانين الكنيسة، ثم يحكم بإدانتها، وتجرد من ثيابها الكهنوتية، وتبتر على أعضائها وتلقى في نهر التيبر(46). وثارت في العام نفسه ثورة سياسية في روما خلع على أثرها استيفن من منصبه، وقتل في السجن خنقاً(47). وظل كرسي البابوية عدة سنين بعد ذلك الوقت لا ينال إلا بالرشا أو القتل، أو رغبات النساء ذوات القوام السامي والخلق الدنيء، وبقيت أسرة ثيوفيلاكت Theophylact، أحد كبار الموظفين في قصر البابا، ترفع البابوات إلى كراسيهم وتنزلهم عنها كما يحلو لها. واستطاعت ابنته مروزيا Marozia أن تنح في اختيار عشيقها سرجيوس الثالث لكرسي البابوية (904-911)(48)، كما أفلحت زوجته ثيودورا في تنصيب البابا يوحنا العاشر (914-928). وقد اتهم يوحنا هذا بأنه عشيق ثيودورا، ولكن هذا الاتهام لا يقوم عليه دليل قاطع(49)، وما من شك في أنه كان زعيماً ممتازاً في الشئون الزمنية، لأنه هو الذي عقد الحلف الذي رد زحف المسلمين على روما في عام 916. وظلت مريوزا تستمتع بعدد من العشاق واحداً بعد واحد حتى تزوجت جويدو Guido دوق تسكانيا؛ وأخذا يأتمران لخلع يوحنا، وعملا على قتل أخيه بطرس أمام عينيه، ثم زج البابا في السجن حيث مات بعد أشهر قليلة ميتة لا تُعلم أسبابها، ثم رفعت مريوزا في عام 931 يوحنا الحادي عشر (931-935) إلى كرسي البابوية، وكان الشائع على الألسنة أن يوحنا هذا ابن لها غير شرعي من سرجيوس الثالث(50). وفي عام 923 سَجَن ابنها ألبريك Alberic يوحنا هذا في قلعة سان أنجيلوا Sant' Angelo، ولكنه سمح له أن يصرف من سجنه شئون البابوية الروحية، وظل ألبريك يحكم روما اثنتين وعشرين سنة، كان فيها الطاغية المسيطر "على جمهورية رومانية". وأوصى وهو على فراش الموت بأن يخلفه من بعده ابنه أكتافيان Octavian وحمل رجال الدين والشعب على أن يعدوه باختيار أكتافيان باباً بعد موت أجابتوس Agapetus الثاني. وتم له ما أراد، فأصبح حفيد مروزيا هو البابا يوحنا الثاني عشر، وامتازت مدة ولايته بضروب من التهتك والدعارة في قصر لاتيران Lateran،(51).
وعرف أتو الأول إمبراطور ألمانيا عن قرب ما وصلت إليه البابوية من انحطاط بعد أن توجه يوحنا الثاني عشر إمبراطوراً في عام 962. فلما عاد إلى روما في عام 963 بتأييد رجال الدين فيما وراء رجال الألب دعا يوحنا إلى المحاكمة أمام مجلس كنسي. واتهم الكرادلة يوحنا بأنه حصل على رشا نظير تنصيب الأساقفة، وأنه عين غلاماً في العاشرة من عمره أسقفاً، وأنه زنى بخليلة أبيه، وضاجع أرملته، وابنه أختها، وأنه حول قصر البابا إلى ماخور للدعارة. ورفض يوحنا أن يحضر أمام المجلس، أو أن يجيب عن هذه التهم، وخرج للصيد، فقرر المجلس خلعه، واختار بالإجماع مرشح أتو لكرسي البابوية، وكان هذا المرشح الذي أصبح البابا ليو الثامن (963-965) من غير رجال الدين. ولما عاد أتو إلى ألمانيا قبض يوحنا على زعماء الحزب الإمبراطوري في روما وبتر أعضائهم، وعمل على أن يعود إلى كرسي البابوية بقرار من مجلس خاضع لأمره (964)(52) ولما مات يوحنا (964) اختار الرومان بندكت الخامس لكرسي البابوية، وأغفلوا شأن ليو. فعاد أتو من ألمانيا، وخلع بندكت، وأعاد ليو، بهذا اعترف ليو رسمياً بحق أتو وخلفائه الأباطرة في أن يلغوا إذا شاءوا اختيار أي بابا في المستقبل . ولما مات ليو عمل أتو على اختيار يوحنا الثالث عشر خليف له (965-972). ثم سجن أحد أشراف الرومان بندكت السادس (973-974)، وقتله خنقاً، وفر بنيفازيو فرنكون Bonifazio Francone، وكان قد نصب نفسه بابا شهراً من الزمان، إلى القسطنطينية وحمل معه من كنوز البابوية كل ما استطاع أن يحمله. ثم عاد بعد تسع سنين من فراره، وقتل البابا يوحنا الثالث عشر (983-984)؛ وجلس على كرسي البابوية مرة أخرى، ومات ميتة هادئة في فراشه (985) ورفعت الجمهورية الرومانية رأسها من جديد، وأمسكت بزمام السلطة، واختارت كرسنتيوس Crescentius قنصلاً. فانقض أتو الثالث على روما بجيش قوي لا تستطيع مقاومته، وبتفويض من رجال الدين الألمان، ليقضي على الفوضى بتنصيب راعي كنيسته الخاصة بابا باسم جريجوري الخامس (996-999). وقضى الإمبراطور الشاب على الجمهورية، وعفا عن كرسنتيوس، وعاد إلى ألمانيا. وما كاد يعود حتى أعاد كرسنتيوس الجمهورية، وخلع جريجوري (997). فما كان من جريجوري إلا أن أصدر قراراً بحرمانه، ولكن كرسنتيوس سخر منه، وعمل على أن يختار يوحنا السادس عشر بابا. فعاد أتو مرة أخرى، وخلع يوحنا، وسمل عينيه، وقطع لسانه، وجدع أنفه، أمر أن يطاف به في شوارع روما على ظهر حمار ووجهه نحو ذنبه. ثم قطعت رؤوس كرسنتيوس واثني عشر من الزعماء الجمهوريين، وعلقت أجسادهم على أسوار سانت أنجليو (998)(53). وعاد جريجوري إلى كرسي البابوية، وظل جالساً عليه حتى مات مسموماً، في أغلب الظن، عام 998. وأجلس أتو في مكانه رجلاً أصبح من أنبه البابوات جميعاً.
ولد جربرت Gerbert من أسرة وضيعة بالقرب من أورلاك Aurillac من أعمال أوفرني Auvergne (حوالي عام 940)، ودخل وهو صغير السن أحد الأديرة. ثم سافر إلى أسبانيا عملاً بمشورة رئيس الدير ليدرس علوم الرياضة، إلى أن كان عام 970 فأخذه بوريل Borel كونت برشلونة معه إلى روما، حيث أعجب البابا يوحنا الثالث عشر بعلم الراهب وأوصى به أتو الأول خيراً. وقضى جربرت عاماً في التدريس بإيطاليا وكان أتو الثاني من بين طلابه في ذلك الوقت أو بعده. ثم انتقل إلى ريمس ليتلقى علم المنطق في مدرسة كنيستها، وسرعان ما نراه رئيساً لتلك المدرسة (972-982). وكان يعلم طائفة من العلوم غريبة في اختلافها تشمل شعراء اليونان والرومان الأقدمين؛ وكان يكتب باللاتينية كتابة ممتازة، وله عدة رسائل تكاد تضارع رسائل سيدونيوس Sidonius. وكان يجمع الكتب حيثما ذهب، وينفق ماله بغير حساب في نسخ صور من المخطوطات المحفوظة في دور الكتب المختلفة، ولعلنا مدينون بما لدينا من خطب شيشرون(54). وكان حامل لواء العالم المسيحي في علوم الرياضة، وأدخل في البلاد صورة جديدة من الأرقام "العربية"؛ وكتب عن المعد والاسطرلاب، وألف رسالة في الهندسة النظرية؛ واخترع ساعة آلية، وأرغناً يديره البخار(55). وقد بلغ من مهارته في كثير من العلوم المختلفة أن اشتهر بعد وفاته بأنه كانت له قوى سحرية(56).
ولما توفي أدلبيرو (985) سعى جلبرت ليكون كبيراً لأساقفة ريمس، ولكن هبوكابت عين بدله أرنولف Arnulf، وهو ابن غير شرعي من البيت الكارولنجي. ولما أخذ برنولف يأتمر بهيو أصدر مجلس كنسي قراراً بخلعه على الرغم من احتجاج البابا، واختار جربرت رئيساً للأساقفة (991). ولكن قاصداً رسولياً أقنع مجمعاً دينياً عقد في مواسون Moisson بعد أربع سنين من ذلك الوقت بفصل جربرت من منصبه. فما كان من العالم المستذل إلا أن هرع إلى بلاط أتو الثالث في ألمانيا، حيث قوبل بأعظم مظاهر التكريم، وهيأ عقل المليك الشاب لفكرة إعادة الإمبراطورية الرومانية واتخاذ روما عاصمة لها. وعينه أتو كبيراً لأساقفة رافنا، ثم عينه بابا في عام 999. وتسمى جربربت باسم سلفستر Sylvester الثاني، كأنما أراد أن يقول إنه سيصبح سلفستراً ثانياً لقسطنطين ثان يوحد العالم مرة أخرى؛ ولو أنه هو وأتو عاشا عشر سنين أخرى لكان من المحتمل أن يحققا حلمهما، لأن أتو ابن أميرة بيزنطية، ولكان من المحتمل أيضاً أن يصبح جربرت ملكاً فيلسوفاً. ولكن المنية عاجلت جربرت في السنة الرابعة من جلوسه على عرش البابوية، وتقول الإشاعة الرومانية إنه مات مسموماً، سمته استفانيا Stephania عينها التي سمت أتو.
وتدل الآمال التي كانت تخامرهما، كما تدل الحركات السياسية الدائبة على العمل في العالم حولهما، على قلة من كان فيه من المسيحيين الذين يعتقدون جادين أن العالم سينتهي في العام المتمم للألف بعد الميلاد. فقد حدث في بداية القرن العاشر أن أعلن مجلس كنسي أن القرن الأخير من حياة العالم قد استهل(57)، وظلت أقلية ضئيلة في نهاية ذلك القرن تؤمن بهذا القول وتستعد ليوم الحساب، أما الكثرة الغالبة فظلت تسير سيرتها المألوفة، وتعمل، وتلعب، وتأثم، وتصلي، وتحاول أن تطيل حياتها بعد سن الشيخوخة. ولسنا نجد شواهد على استيلاء الذعر على عقول الناس في عام 1000 بل إننا لا نجد زيادة في هبات الناس إلى الكنيسة(58). وعادت البابوية سيرتها الأولى من الضعف والانحلال بعد موت جربرت، فأخذ أعيان تسكيولوم Tusculum متحالفين مع الأباطرة الألمان يشترون مناصب الأساقفة، ويبيعون البابوية، وقلّما كانوا يحاولون التستر على عملهم هذا. وكان بندكت الثامن (1012-1024) الذي رشحوه لهذا المنصب الأخير رجلاً ذكياً قوياً؛ ولكن بندكت (1032-1045) الذي عين بابا في الثانية عشرة من عمره دنس منصبه بحياة الفحش(59)، إلى حد جعل الشعب يثور عليه ويخرجه من روما. غير أنه عاد مرة أخرى بتأييد تسكيولوم، فلما أتعبه منصب البابوية باعها إلى جريجوري السادس (1045-1046) بألف (أو ألفي) رطل من الذهب. وأدهش جريجوري روما بأن كان البابا مثالياً أو أقرب ما يكون إلى المثالية. ويلوح أن الذي دفعه إلى ابتياع منصب البابوية هو رغبته الصادقة في أن يصلح شأنها ويحررها ممن كانوا يسيطرون عليها ولم يكن أمراء تسكيولوم راغبين في هذا الإصلاح، ولهذا أعادوا بندكت العاشر إلى كرسي البابوية، ولكن حزباً آخر رفع سلفستر الثالث إلى عرشها. واستغاث القساوسة الإيطاليون بالإمبراطور هنري الثالث ليقضي على هذه المهازل، فجاء إلى استتري Stutri القريبة من روما وعقد فيها مجلساً كنسياً زج سلفستر في السجن، وقبل استقالة بندكت، وخلع جريجوري لاعترافه بأنه ابتاع منصب البابوية. وأقنع هنري المجلس بألا سبيل غلى انتشال الكنيسة من هذه الوهدة إلا بتنصيب بابا أجنبي تحت حماية الإمبراطور، واختير لهذا المنصب أسقف بامبرج Bamberg ولقب كلمنت Clement الثاني (1046-1047)، ولكنه مات بعد عام واحد من اختياره، كما قضت على خليفته دسموس Damasus الثاني (1047-1048) الملاريا التي كانت وقتئذ تنتشر باستمرار من مناقع كمبانيا التي لم تجفف. ثم وجدت البابوية آخر الأمر في ليو التاسع (1049-1054) رجلاً يستطيع أن يواجه مشاكلها بشجاعة، وعلم، واستقامة، وصلاح، قلّما رأت روما نظيراً له من زمن بعيد.
النهضة الكارولنجية
كانت النهضة الكارولنجية فترة إحياء فكري وثقافي للأدب، الفنون، والدراسات الكتابية في أواخر القرن الثامن والتاسع، معظمها في عهد الحاكمين الفرنجيين شارلمان ولويس الورع. لمعالجة مشكلة الا/ية بين رجال الدين وكتبة البلاط، أسس شارلمان مدارس وجذب معظم المتعلمين من جميع أنحاء أوروپا إلى بلاطه.
إصلاح الأديرة
كلوني
جدل التنصيب
محاكم التفتيش في العصور الوسطى
تنصير الاسكندناڤيين
تنصير السلاڤ
إرسالية إلى موراڤيا
تنصير بلغاريا
تنصير الروس
النجاح في تنصير البلغار سهل عملية تنصير الشعوب السلاڤية الشرقية الأخرى، ومن أشهرهم الروس، الأوكرانيون، وكذلك الروسيون. مع بداية القرن 11 كان معظم العالم السلاڤي الوثني، بما في ذلك روسء، بلغاريا وصربيا، اعتنق المسيحية البيزنطية. ارتبط هذا الحدث التاريخي بتعميد ڤلاديمير في كييڤ عام 989. ومع ذلك، تم توثيق المسيحية التي سبقت هذا الحدث في مدينة كييڤ وفي جورجيا. اليوم، تعتبر الكنيسة الأرثوذكسية الروسية أكبر كنيسة أرثوذكسية في العالم.
اصلاح الكنيسة (1049-1054)
ثلاث مشاكل داخلية كان يضطرب بها قلب الكنيسة في ذلك الوقت: وهي المتاجرة بالمناصب في محيط البابوية والأسقفية، والزواج أو التسري بين رجال الدين من غير الرهبان، ووجود حالات متفرقة من الدعارة بين الرهبان أنفسهم.
فأما المتاجرة بالمناصب الكنسية وخدماتها فقد كانت هي المظهر الكنسي لما يعاصره من فساد في الشئون السياسية. ومن الناس الصالحين من كانوا هم أنفسهم مصدراً لهذه المتاجرة، مثال ذلك أن أم جوبيرت النوجنتي Guibert of Nogen كانت شديدة الرغبة في أن تهبه الكنيسة، فقدمت المال لرؤسائها لكي جعلوه قساً في إحدى الكنائس وهو في الحادية عشرة من عمره. وإذ كان الأساقفة في إنجلترا، وألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا يصرفون الشئون الروحية والزمنية جميعاً، وكانوا يقطعون أرضين، وقرى، ومدناً في بعض الأحيان، ليستمدوا منها إيراداتهم، فقد كانوا ذوو المطامع من الناس يقدمون مبالغ طائلة للرؤساء الزمنيين ليظفروا بهذه المناصب، وكان الشرهون من الرؤساء لا يتورعون عن ارتكاب كل مأثم للحصول على هذه الرشا. وحسبنا أن نذكر أن غلاماً في العاشرة من عمره عين رئيس أساقفة في نربونة Narbonne نظير مائة ألف صليدي(61)، وأن فيليب الأول ملك فرنسا كتب إلى رجل أخفق في الحصول على منصب رئيس أساقفة يواسيه في إخفاقه يقول: "أتركني أجني المال من منافسك، ثم حاول أن تسقطه باتهامه بابتياع منصبه، وسترى بعد ذلك كيف نرضيه"(62). وكان ملوك فرنسا يتبعون السنة التي سنها شارلمان فيعينون هم بانتظام أساقفة سان Sens، وريمس، وليون، وتور، وبورج، Bourges، أما في غيرها من المدن الفرنسية فكان الدوق أو الكونت هو الذي يعينهم(63). وأضحت كثير من مناصب الأساقفة ميراثاً لبعض الأسر الشريفة، تختص به الصغار من أولادها أو غير الشرعيين منهم؛ وكان أحد البارونات في ألمانيا يمتلك ثماني أسقفيات ويورثها أبناءه(64). ويزعم أحد الكرادلة الألمان (حوالي عام 1048) أن الذين يبتاعون كراسي الأساقفة ومناصب الكنيسة قد باعوا الواجهات الرخامية في الكنائس، وألواح القرميد في سقفها، ليحصلوا من ثمنها على ما أدوه ثمناً لمناصبهم(65). وكان الذين ينالون المناصب بهذه الوسائل من رجال الدنيا لا من رجال الدين، يعيش الكثيرون منهم عيشة المترفين، ويشنون الحرب، ويغمضون أعينهم عن الرشا في المحاكم الأسقفية(66)، ويعيشون أقاربهم في المناصب الكنسية، ويعبدون المال من دون الله، ويدينون له وحدة بالطاعة والولاء. ويقول البابا إنوسنت الثالث في وصف أحد رؤساء الأساقفة في نارين إنه لديه كيساً من المال في الموضع الذي كان جب أن يكون فيه قلبه(67). وقد أصبح ابتياع الكراسي الأسقفية أمراً مألوفاً يقبله الناس العمليون على أنه أمر عادي لا غضاضة فيه؛ أما المصلحون فأخذوا ينادون بأن سمعان المجوسي قد استحوذ على الكنيسة(68).
وكانت المشكلة الأخلاقية بين رجال الدين العاديين تتأرجح بين الزواج والتسري. وكان زواج القساوسة في القرنين التاسع والعاشر أمراً مألوفاً في إنجلترا وغالة وشمالي إيطاليا، وكان البابا هدريان الثاني نفسه متزوجاً(69)؛ وكتب راثريوس Ratherius أسقف فيرونا (في القرن العاشر) يقول إن أساقفة أبرشيته كلهم تقريباً متزوجون، ولم يستهل القرن الحادي عشر حتى كانت العزوبة بين رجال الدن غير الرهبان من الأمور الشاذة النادرة(70). ومن الخطأ أن نعد زواج القساوسة مناقضاً للأخلاق الفاضلة وإن لم يتفق في كثير من الأحيان مع قوانين الكنيسة ومثلها العليا، ذلك أن زواجهم كان متفقاً مع عادات ذلك الوقت ومبادئه الأخلاقية؛ وكان القس المتزوج أسمى منزلة من القس العزب في مدينة ميلان(71)، لأن ثانيهما كان يتهم بالتسري-بل إن الرأي العام كان يتسامح في التسري نفسه أي في اختلاط رجل غير متزوج بامرأة غير متزوجة اختلاطاً جنسياً منتظماً. ويلوح أن الكثرة الغالبة من القساوسة الأوربيين كانوا يحيون حياة لا غبار فيها من الناحية الأخلاقية، وإنا لنسمع طوال العصور الوسطى عن قساوسة وأساقفة يعيشون معيشة طاهرة نقية مخلصين لمن يرعونهم، وإنا كنا لا ننكر أنه كان في أماكن متفرقة رجال شواذ يندي من فعالهم الجبين، فها هو ذا الأسقف بنيفاس يشكو إلى البابا زخاري Zachary في 742 أن الأسقفيات تعطي "للشرهين من غير رجال الدين، وللزانين من القسيسين"(72)، وأن بعض الشمامسة "يحتفظون بأربع سراري أو خمس"(73). وقد اتهم بيد الموقر في هذا القرن بعينه "بعض أساقفة" إنجلترا بأنهم يضحكون ويهزلون، ويروون الأقاصيص، ويمرحون، ويسكرون و... يحيون حياة الملذات والفسق"(74). وكثرت هذه التهم وأمثالها في أواخر الألف السنة الأولى بعد الميلاد؛ فها هو ذا رالف جلابر Ralph Glaber يصف قساوسة ذلك العهد بأنهم يشاركون أهله في فسادهم الخلقي، وها هو ذا راهب إيطاليا يدعى بطرس داميان Peter Damian (1007-1072) يعرض على البابا كتاباً يسمى Liber Gomorrhianus ويصف فيه بالمغالاة التي يتوقعها الإنسان من رجل متمسك بدينه، ما يرتكبه القساوسة من رذائل؛ وفي هذا الكتاب فصل عن "مختلف القضايا المتناقضة للطبيعة". ويطالب داميان في هذا الكتاب بقوة أن يحرم الزواج على رجال الدين.
وكانت الكنيسة من زمن بعيد تعارض زواج رجال الدين بحجة أن القس المتزوج يضع ولاءه لزوجه وأبنائه في منزلة أعلى من إخلاصه للكنيسة سواء أدرك ذلك أو لم يدركه، وأنه سيميل من أجلهم إلى جمع المال أو المتاع، وأنه سيحاول أن ينقل كرسيه أو مرتبه لأحد أبنائه، وأن هذا قد يؤدي إلى طبقة وراثية من رجال الدين في أوربا تشبه مثيلتها في بلاد الهند، وأن ما يضيفه هذا السلطان الاقتصادي على القساوسة ذوي الأملاك يزيد في قوتهم إلى الحد الذي تعجز معه البابوية عن السيطرة عليهم. ويضاف إلى هذا أن القس يجب أن يكرس حياته لله والكنيسة وبني الإنسان، وأن مستواه الأخلاقي يجب أن يعلو على مستوى أخلاق الشعب، وأن يضفي عليه مستواه هذا المكانة التي لا بد منها لاكتساب ثقة الناس وإجلالهم إياه. وكانت عدة مجالس كنسية قد طالبت بفرض العزوبة على القساوسة؛ وكان واحد منها-هو الذي عقد في بافيا عام 1018-وقد أصدر قراراً يفرض فيه العبودية الدائمة والحرمان من الميراث على جميع أبناء القسيسين(75)، لكن رجال الدين ظلوا مع ذاك يتزوجون.
ووجد ليو التاسع أن كرسي الرسول بطرس قد افتقر لكثرة ما يوصي به رجال الدين من أملاك الكنيسة لأبنائهم، ولاستيلاء الأعيان على ضياع الكنيسة، ومن سطو قطاع الطرق على الحجاج الذي يأتون بالأدعية، والملتمسات، والنذور إلى روما، ولهذا وضع نظاماً لحماية الحجاج، وأعاد إلى الكنيسة ما خرج من أملاكها، وشرع يضطلع بهذا الواجب الثقيل، واجب تحريم بيع المناصب الكهنوتية، وزواج القساوسة. وقد بدأ عمله بأن أحال أعمال البابوية الداخلية والإدارية إلى الراهب المتبتل الحصيف الذي أصبح فيما بعد جريجوري السابع، ثم غادر روما في عام 1049، معتزماً أن يتعرف بنفسه أخلاق رجال الدين وأعمال الكنائس في مدائن أوربا الكبرى. وسرعان ما أعادت هيبته الشخصية، وصرامته غير المتكلفة، ما كان لرئيس الكنيسة الأعلى في قلوب الناس من إجلال؛ فأخفقت الرذيلة رأسها لمقدمه، وارتعت فرائص جدفري اللوريني الذي نهب الكنائس وتحدى الملوك حين أصدر البابا قراراً بحرمانه، وخضع صاغراً للجلد علناً أمام مذبح الكنيسة التي خربها في فردان، وتعهد بأن يصلح ما خربه منها، وأخذ يعمل في إصلاحها بيديه. وعقد ليو محكمة بابوية في كولوني، وقوبل فيها بجميع مظاهر الإجلال من رجال الدين الألمان الذين كانوا يفخرون بوجود بابا ألماني ثم انتقل ليو إلى فرنسا ورأس محكمة في ريمس، وأخذ يفحص عن أخلاق رجال الدين وغير رجال الدين، وعن المناصب الكنسية، وانتهاب أملاك الكنيسة، وتحلل رهبان الأديرة من قوانينها، وانتشار الزندقة في البلاد. وأمر كل من حضر المحكمة من الأساقفة أن يعترف بخطاياه، فأخذ كل منهم، واحداً بعد واحد، ومنهم رؤساء الأساقفة أنفسهم، يتهم نفسه. وأنبهم ليو أشد التأنيب، وأعفاهم من مناصبهم، وعفا عن بعضهم، وحرم أربعة من حظيرة الدين، واستدعى غيرهم إلى روما ليكفروا علناً عن سيئاتهم. وأمر رجال الدين أن يخرجوا زوجاتهم وسراريهم، وأن يمتنعوا عن استعمال الأسلحة. ثم أصدر مجلس روما فضلاً عن هذا قراراً يقضي بأن يختار رجال الدين وعامة الشعب الأساقفة ورؤساء الأديرة، وحرم بيع المناصب الكهنوتية، ونهى رجال الدين عن أخذ الأجور نظير تقديم القرابين، أو عيادة المرضى، أو دفن الموتى. وأجرى مجلس عقد في مينز (1049) بإلحاح ليو، إصلاحات شبيهة بهذه الإصلاحات في ألمانيا. وعاد ليو إلى إيطاليا في عام 1050 ورأس مجلس فرشلي Vercelli وحرم فيه آراء برنير التوري Beregner of Tours الخارجة على الدين.
ورد ليو بزيارته الطويلة الشاقة إلى شمالي أوربا ما كان للبابوية من هيبة ومنزلة سامية، وأعاد الإمبراطور الألماني رئيساً للكنيسة الألمانية كما كان من قبل، وأرغم الأسقفيات الفرنسية والأسبانية على الاعتراف بسلطان البابا عليها، وخطا بعض الخطوات في سبيل تطهير الكنيسة من الرشا والدعارة. ثم قام بحملات أخرى في ألمانيا وفرنسا في عامي 1051، 1052، ورأس جمعية كنيسة عظيمة في ورمز وأخرى في مانتو Mantua؛ ولما عاد آخر الأمر إلى روما اضطلع بذلك الواجب البغيض، واجب حماية الولايات البابوية بقوة السلاح. ذلك أن الإمبراطور هنري الثالث كان قد وهبه دوقية بنفنتو؛ ولكن بندلف Pandulf دوق كبوا أبى أن يقر هذه المنحة واستولى على هذه الدوقية واستمسك بها معتمداً على تأييد النورمان أتباع ربرت جسكارد. وطلب ليو أن يرسل إليه جيش ألماني يساعده على طرد بندلف ولكنه لم يرسل إليه إلا سبعمائة رجل، ضم إليهم بعض الإيطاليين غير المدربين، وزحف بهم على النورمان، وكاد فرسانهم وحدهم يبلغون ثلاثة آلاف من القراصنة المهرة في الحروب. وأوقع النورمان بجيش ليو هزيمة منكرة، وأسروه، ثم ركعوا أمامه يطلبون إليه أن يعفو عنهم لأنهم قتلوا خمسمائة من رجاله. وساقوه بعدئذ إلى بنفنتو، حيث قدموا إليه ما يليق بمقامه من مجاملة وتكريم، ثم استبقوه سجيناً تسعة أشهر. وتحطم قلب ليو من الحزن وندم أشد الندم على امتشاق الحسام، فحرم على نفسه أن يلبس غير الخيش، وأن ينام إلا على بساط وحجر، وكان يقضي اليوم كله إلا القليل منه في الصلاة. وأدرك النورمان أنه مشرف على الموت، وأطلقوا سراحه، ودخل روما بين تهليل الشعب وفرحه، وعفا عن جميع الذين حرمهم، وأمر أن يوضع تابوت في كنيسة القديس بطرس. وجلس بجواره يوماً واحداً مات بعده عند المذبح وجاء العرج، والبكم، والمجذومون من جميع أنحاء إيطاليا ليلمسوا جثته.
جدل والحروب الصليبية تقسم الشرق والغرب
حدث الانفصال النهائي بين الكنيستين اليونانية واللاتينية في عهد جلوس سانت ليو على كرسي البابوية. وبينما كانت أوربا الغربية تتخبط في ظلمات القرنين التاسع والعاشر، وبؤسهما وجهالتهما، وكانت الإمبراطورية الشرقية تحت حكم أباطرتها المقدونيين (867-1057)، تستعيد بعض ما استولى عليه العرب من أملاكها، وتسترد زعامتها في جنوبي إيطاليا، وتزدهر فيها الآداب والفنون من جديد. واستمدت الكنيسة اليونانية من عودة الثراء والسلطان إلى الدولة البيزنطية قوة وكرامة، فأدخلت بلغاريا وبلاد الصرب في حظيرة الكنيسة الشرقية، وقاومت بشدة لم يسبق لها مثيل ما كانت تدعيه البابوية المنحطة المعدمة من سلطان دين مطلق على العالم المسيحي. وكان اليونان في ذلك العصر ينظرون إلى المعاصرين لهم من الألمان والأنجليسكسون على أنهم أقوام من الهمج الغلاظ، وأنهم طائفة من غير رجال الدين الأميين ديدنهم العنف وتتزعمهم فئة فاسدة من رجال الدين. وكان رفض البابوية أن يكون الإمبراطور البيزنطي ملكاً على الفرنجة، واستيلاء البابوية على مقاطعة رافنا، وتتويج البابا لإمبراطور منافس لإمبراطور الشرق، واندفاع البابوية إلى إيطاليا اليونانية-كانت هذه الحادثات السياسية التي تحز في النفوس لا الاختلاف القليل بين العقائد هي التي شطرت العالم المسيحي شطرين أحدهما شرقي والآخر غربي.
ففي عام 1043 عين ميخائيل كرولاريوس Cerularius بطريقاً للقسطنطينية. وكان كرولاريوس هذا رجلاً من أسرة نبيلة، واسع الثقافة، حاد الذهن، قوي العزيمة. وكان في الأصل راهباً ولكن الذي رفع من شأنه هو تاريخه السياسي لا تاريخه الديني. فقد كان كبير وزراء الإمبراطورية، وكان من أصعب الأمور على نفسه أن يقبل منصب البطريقية، لو أنها كانت تتطلب منه الخضوع إلى روما. وقد أذاع في عام 1053 رسالة باللغة اللاتينية كتبها راهب يوناني يلوم فيها الكنيسة الرومانية أشد اللوم لإرغامها رجال الدين على العزوبة مخالفة بذلك أفعال الرسل وتقاليد الكنيسة، ولاستعمالها خبزاً فطيراً في القربان المقدس، ولإضافة الفقرة القائلة بأن الروح القدس ينبعث من الأب والابن إلى العقيدة النيقية. وأغلق كرولاريوس في ذلك العام نفسه جميع كنائس القسطنطينية التي تستخدم الشعائر اللاتينية، وحرم جميع القساوسة الذين يصرون على استخدامها. وبعث ليو، وكان وقتئذ في أوج سلطانه، برسالة إلى كرولاريوس، يطلب أن يعترف البطريق بسيادة البابوات، ويصم كل كنيسة ترفض هذا الاعتراف بأنها "جمعية من الخارجين على الدين، وجماعة من المنشقين، ومعبد للشيطان"(76). ثم أرسل ليو وهو في هذه الحالة النفسية رسلاً إلى القسطنطينية ليناقشوا الإمبراطور والبطريق في الفوارق التي تبعد فرعي المسيحية إحداهما عن الآخر. واستقبل الإمبراطور رسل البابا بالترحاب، ولكن كرولاريوس أنكر عليهم حقهم في معالجة تلك المسائل. ثم مات ليو في شهر إبريل من عام 1054 وظل كرسي البابوية شاغراً مدة عام. حتى إذا كان شهر يولية أخذ المندوبون هذه المسألة على عاتقهم: ووضعوا على مذبح كنيسة أيا صوفيا قراراً بحرمان كرولاريوس، فما كان من ميخائيل إلا أن عقد مجلساً يمثل المسيحية الشرقية على بكرة أبيها، وكرر هذا المجلس جميع شكاوي الكنيسة اليونانية من الكنيسة الرومانية، ولم تغفل فيها شكواها من حلق اللحى، وشنع رسمياً على قرار المندوبين وعلى "كل ما كانت له يد في صياغته، سواء أكان ذلك بمشورتهم أم بصلواتهم نفسها"(77). وبذلك تم الاشتقاق بين الكنيستين.
تفاقم التوتر بين الشرق والغرب
الانشقاق الفوتياني
انشقاق الشرق والغرب (1054)
الحملات الصليبية
- مقالة مفصلة: الحملات الصليبية
جدل هيسيكاست
أسـْر الأرثوذكسية الشرقية (1453-1850)
سقوط القسطنطينية
عام 1453، سقطت القسطنطينية في يد الدولة العثمانية. في ذلك الوقت كانت مصر تحت الحكم الإسلامي لسبعة قرون، لكن الأرثوذكسية كانت قوية للغاية في روسيا والتي كانت قد حازت مؤخراً حالة الأوتكيفاليك؛ ومن ثم فقط أطلقت موسكو على نفسها اسم روما الثالثة، كوريث ثقافي للقسطنطينية.
الحقوق الدينية في العهد العثماني
الفساد
العصور الوسطى المتأخرة وأوائل عصر النهضة (1300–1520)
البابوية الأڤينوية (1309–1378)
الانشقاق الغربي (1378–1416)
الانشقاق الغربي، أو الانشقاق البابوي، كانت أزمة استمرت فترة طويلة في المسيحية اللاتينية والتي امتدت من 1378 حتى 1416، عندما كان هناك مطالبان أو أكثر للكرسي الرسولي في روما وكان هناك نزاع حول صاحب الحق في البابوية. كان النزاع ذو طبيعة سياسية، أكثر منها عقائدية.
جون ويكليف وجان هس
النهضة الإيطالية (ح. 1375 – 1520)
الاصلاح ومناهضة الاصلاح
الاصلاح الپروتستانتي (1521–1610)
مارتن لوثر
أولريش زوينگلي
جون كالڤين
الإصلاح الإنگليزي
الإصلاح المضاد (1545–1610)
مجمع ترنت
الإرساليات الكاثوليكية
بدأ توجيه الإرساليات الكاثوليكية إلى أماكن جديدة في عصر الاستكشاف الجديد، وأسست كنيسة الروم الكاثوليك عدداً من الإرساليات في الأمريكتين ومستعمرات أخرى بهدف نشر المسيحية في العالم الجديد ولإدخال الشعوب الأصلية إلى المسيحية. في الوقت نفسه، مبشرون مثل فرانسيس خاڤير وكذلك اليسوعيون، الأغسطينيون، الفرنسيسكان والدومنيكان قد انتقلوا إلى آسيا والشرق الأقصى. أرسل الپرتغاليون إرساليات إلى أفريقيا. بينما ارتبطت بعض هذه الإرساليات بالإستعمارية والقهر، بينما إرساليات أخرى (أشهرها إرسالية اليسوعيين ماتيو ريتشي إلى الصين) ارتبطت بالسلام وركزت على التكامل بدلاً من الاستعمارية الثقافية.
كنيسة التنوير (1610–1800)
محاكمة گاليليو
قضية گاليليو، والتي دخل فيها گاليليو گاليلِيْ في خلاف مع كنيسة الروم الكاثوليك حول دعمه لعلم الفل الكوپريني، عادة ما تعتبر لحظة حاسمة في تاريخ العلاقة بين الدين والعلوم.
الپوريتانيون في أمريكا الشمالية
أوائل العصر الحديث
هذه هي الفترة الممتدة من الثورة الصناعية والثورة الفرنسية حتى منتصف القرن 19.
انظر معايير تقويم الجمهورية الفرنسية وanti-clerical. انظر أيضاً الرابطة المقدسة، ومعركة ڤيينا، كاردينال ريشليو، ولويس الرابع عشر من فرنسا.
الإحيائية (1720–1906)
تشير الإحيائية إلى الإحياء الكالڤيني والوسلياني، والذي يسمى الصحوة الكبرى، في أمريكا الشمالية والذي شهد تطور الكنائس الأبراشية، المشيخية، المعمدانية، والميثودية الجديدة.
الصحوات الكبرى
الاستردادية
شهود ياهوه
مصطلح "الاستردادية" يستخدم أيضاً لوصف حركة شهود ياهوه، والتي تأسست في أواخر عقد 1870 على يد تشارلز تاز روسل.
حركة قديس الأيام الأخيرة
أواخر العصر الحديث
تاريخ الكنيسة منذ منتصف القرن 19 حول فترة ثورة 1848 حتى اليوم.
الأرثوذكسية الشرقية الحديثة
الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية في الامبراطورية الروسية
شهد البلاشڤة والثوريون الروس الآخرون الكنيسة، مثل الدولة التترية، على أنها عدو الشعب.
الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية في الاتحاد السوڤيتي
هجرة الشتات إلى الغرب
التوجهات الحديثة في اللاهوت المسيحي
الحداثة والمسيحية الليبرالية
الأصولية
- مقالة مفصلة: الأصولية المسيحية
في عهد النازية
مجمع الڤاتيكان الثاني
المسكونية
الحركة الخمسينية
انظر أيضاً
- المسيحية والوثنية
- نظرية أسطورة يسوع
- تاريخ اللاهوت المسيحي
- تاريخ كنيسة الروم الأرثوذكس
- تاريخ الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية
- تاريخ الپروتستانتية
- تاريخ الأرثوذكسية الشرقية
- تنصير
- خط زمني للمسيحية
- كنيسة الروم الكاثوليك
- الكنيسة الشرقية الأرثوذكسية
- پروتستانتية
- صحوة المسيحية أثناء سقوط روما
- دور الكنيسة المسيحية في الحضارة
- خط زمني لكنيسة الروم الكاثوليك
- Restoration Movement
- خط زمني للإرساليات المسيحية
الهامش
- ^ Adherents.com, Religions by Adherents
- ^ BBC Documentary: A History of Christianity by Diarmaid MacCulloch, Oxford University
- ^ "الشكل (…) رمز للمسيح الراعي" أندريه گرابار، أيقونية مسيحية، دراسة لأصولها، ISBN 0-691-01830-8
للاستزادة
- Bowden, John. Encyclopedia of Christianity (2005), 1406pp excerpt and text search
- Cameron, Averil (1994). Christianity and the Rhetoric of Empire: The Development of Christian Discourse. Berkeley, California: University of California Press. p. 275. ISBN 0-520-08923-5.
- Carrington, Philip. The Early Christian Church (2 vol. 1957) vol 1; online edition vol 2
- Edwards, Mark (2009). Catholicity and Heresy in the Early Church. Ashgate.
{{cite book}}
: Invalid|ref=harv
(help) - González, Justo L. (1984). The Story of Christianity: Vol. 1: The Early Church to the Reformation. Harper. ISBN 0-06-063315-8.; The Story of Christianity, Vol. 2: The Reformation to the Present Day. 1985. ISBN 0-06-063316-6.
- Grabar, André (1968). Christian iconography, a study of its origins. Princeton University Press. ISBN 0-691-01830-8.
- Hastings, Adrian (1999). A World History of Christianity. Grand Rapids: Wm. B. Eerdmans Publishing. ISBN 0-8028-4875-3.
- Holt, Bradley P. Thirsty for God: A Brief History of Christian Spirituality (2nd ed. 2005)
- Johnson, Paul. A History of Christianity (1976) excerpt and text search
- Koschorke, Klaus; et al. (2007). A History of Christianity in Asia, Africa, and Latin America, 1450-1990: A Documentary Sourcebook. Wm. B. Eerdmans Publishing. excerpt and text search and highly detailed table of contents
- Latourette, Kenneth Scott (1975). A History of Christianity, Volume 1: Beginnings to 1500 (revised ed.). Harper. ISBN 0-06-064952-6. excerpt and text search; A History of Christianity, Volume 2: 1500 to 1975. 1975. ISBN 0-06-064953-4.
- Livingstone, E. A., ed. The Concise Oxford Dictionary of the Christian Church (2nd ed. 2006) excerpt and text search online at Oxford Reference
- MacCulloch, Diarmaid. A History of Christianity: The First Three Thousand Years (2010)
- McLeod, Hugh, and Werner Ustorf, eds. The Decline of Christendom in Western Europe, 1750–2000 (2003) 13 essays by scholars; online edition
- McGuckin, John Anthony. The Orthodox Church: An Introduction to its History, Doctrine, and Spiritual Culture (2010), 480pp excerpt and text search
- McGuckin, John Anthony. The Encyclopedia of Eastern Orthodox Christianity (2011), 872pp
- Shelley, Bruce L. (1996). Church History in Plain Language (2nd ed.). ISBN 0-8499-3861-9.
- Stark, Rodney. The Rise of Christianity (1996)
- Tomkins, Stephen. A Short History of Christianity (2006) excerpt and text search
وصلات خارجية
The following links give an overview of the history of Christianity:
|
The following links provide quantitative data related to Christianity and other major religions, including rates of adherence at different points in time:
|