اللجنة العسكرية للبعث السوري
كمال خلف الطويل ساهم بشكل رئيسي في تحرير هذا المقال
|
اللجنة العسكرية للبعث السوري هي لجنة سرية حكمت سوريا ما بين 8 آذار 1963 وحتى 13 تشرين أول 1970، وهي واحدة من أهم سياقات البعث التاريخية. [1]
الثابت هو أن ضباط البعث العربي الإشتراكي – بفلقتيه البعث العفلقي- البيطاري والعربي الإشتراكي الحوراني – لعبوا دورا شديد الأهمية سواء في الانقلاب على الشيشكلي في شباط / فبراير 1954 أم في التأثير على الحياة السياسية السورية التي تلت ذلك الانقلاب وصولا إلى الوحدة. كان نجمهم مصطفى حمدون – الحوراني الولاء – هو بطل تمرد حلب الذي تفشى في عديد من المحافظات دون دمشق ونجح في إقناع الشيشكلي بأن سبيله للبقاء – وكان ممكنا – هو الولوغ في الدم واصطدام قطعات الجيش ببعضها البعض. فضل الشيشكلي بعد ما ينوف عن سنوات أربع من الحكم – غير المباشر ثم المباشر – اجتناب طريق الدم واللجوء عند حلفائه آل سعود. كان رجحان فئة الحوراني من ضباط البعث الاشتراكي غالبا. فمنهم حمدون وقنوت ودريعي وعياش والمنجد والمفتي والشاغوري و موسى باشا و زكار، وكانوا الأعلى رتبة من الضباط صغار الرتبة كعمران ومجايليه. كانت هناك أيضا فئة بعثية لم تدخل لعبة المحاور داخل الحزب مثل جمال الصوفي وبشير صادق ونبيه الصباغ وأمين الحافظ. في آذار / مارس 57 دخل البعثيون العسكريون أول بروفة إنقلاب في فترة ما بعد الشيشكلي عندما غضبوا لقرار اليمين السوري المتحالف معهم في وزارة ائتلافية نقل حليفهم عبد الحميد السراج ملحقا عسكريا في الهند. أحسوا أن من يبدأ بالسراج سيثني بالبعث وأن خسران موقع مدير المخابرات العسكرية هو ضربة في الصميم لا مناص أمامهم من ردها. في فترة 1954-1958 توزعت محاور العسكريين السوريين السياسية على:
- البعث.
- بقايا الشيشكلي وعلى رأسهم العقيد أمين النفوري وأحمد عبد الكريم وحسين حدة وطعمة العودة الله وأحمد حنيدي، وهم متحالفون مع تيار "المليونير الأحمر" خالد العظم وهو السياسي السوري الذي ركب موجة التقارب مع الاتحاد السوفيتي رغم يمينيته القاطعة في الداخل.
- المحايدون وهم الذين كانوا مقربين من الشيشكلي لكنهم لم يدوروا في فلكه لدرجة الارتباط ومنهم: عبد الحميد السراج و جاسم علوان و محمد النسر و أكرم الديري و ياسين فرجاني وعبد الله جسومة ومصطفى رام حمداني وغالب الشقفة.
- اليمين وعلى رأسهم ضباط مثل توفيق نظام الدين – رئيس الأركان الذي خلف شوكت شقير عام 56 – و طالب الداغستاني و سهيل العشي و زهير الصلح و عمر القباني و هشام السمان و حسن العابد و رياض الكيلاني.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الجزء الأول: آذار/مارس 1957 واللجنة العسكرية الأولى
دور البعثيون العسكريون في آذار/مارس 1957؟
البعثيون العسكريون رفضوا قرار شكري القوتلي رئيس الجمهورية وصبري العسلي رئيس الحكومة وخالد العظم وزير الدفاع بنقل السراج واعتصموا بمعسكر قطنا معلنين العصيان وتحت سيطرتهم القوة الآلية (لواء مجحفل) وهي أقوى القطعات حينها في الجيش. كان هذا العمل مقرونا بتدخل محمود رياض، السفير المصري بدمشق كفيلا بانصياع اليمين المدني الشريك في الحكم وعدوله عن قراره. أراد حمدون الاندفاع أكثر لدرجة الانقلاب الصريح لصالح إيصال البعث للسلطة لكن الحوراني لجمه لا لنبل في السبب وإنما لتقديره الصحيح للقدرة. كانت أهم نتائج عصيان قطنا هي التدهور المتسارع لوضع اليمين العسكري ذلك أن عمـر القباني كان شريكا في العملية الانقلابية المجهضة في نهاية تشرين الأول / أكتوبر 56 – على يـد السراج والتي رعتها المخابرات المركزية و جهاز المخابرات البريطاني M16 وجمعت الحزب القومي السوري وعديدا من سياسيي اليمين ومنهم أسماء لامعة بعضها غير متوقع مثل بدوي الجبل وكذلك ضباط مسرحين اشتغلوا عملاء لمخابرات العراق الهاشمي أمثال محمد صفا ومحمد معروف وحسين الحكيم. كان عمر القباني باعتراف بيل ليكلاند في كتاب "حبال من رمال" عميلا رسميا للمخبرات المركزية الأميركية (سي آي إيه) ومنسقا مع الرأس المدني الأكبر ميخائيل إليان. [2]
طوال ربيع وصيف 1957 تنامت حملة التصفية لليمين العسكري لتصل ذروتها في آب / أغسطس 1957 بإقالة رمزه، رئيس الأركان، توفيق نظام الدين وتعيين عفيف البزرة الماركسي الولاء رئيسا للأركان وحوله مجلس قيادة من مجموع 24 ضابط هم بالإضافة للبزرة: أمين النفوري وأحمد عبد الكريم وطعمة العودة لله وحسين حدة وأحمد الحنيدي عن بقايا الشيشكلي ... أمين الحافظ ومصطفى حمدون وبشير صادق وجمال الصوفي وعبد الغني قنوت عن البعث .. إبراهيم فرهود مع البزرة عن الماركسيين / الشيوعيين .. عبد الحميد السراج وأكرم الديري ومصطفى رام حمداني ومحمد النسر وجادو عز الدين وجاسم علوان وعبد الله جسومة وياسين الفرجاني وغالب الشقفة ونور الله الحاج إبراهيم ولؤي الشطي عن المستقلين.
حكم مجلس القيادة العسكرية سوريا شهورا ستة فرض فيها أجندته على الحياة السياسية السورية والتي كانت في المجمل متلاقية على طول الخط مع رغبات ومشاعر جماهير الشعب السوري وهي باختصار الوحدة مع مصر عبد الناصر. كان ذلك أيضا متلاقيا مع رغبة البعث – المنقسم داخليا – والذي وجد في الاتحاد مع سوريا تساوقا مع الرغبة الشعبية .. تحقيقا لواحد من شعاراته .. هروبا إلى الأمام من أزمته الداخلية .. وفرصة لقادته ليحكموا سوريا عبر صيغة الاتحاد كونهم الأقرب فكريا وسياسيا لعبد الناصر وفرصة لعفلق بالذات ليضحي مفكر عبد الناصر – أي سوسلوف العربي – تاركا له الرمزية والقيادة. عند مسألة الوحدة تلاقت التيارات العسكرية الثلاث وأسهمت في هذا التلاقي أمور ثلاث:
- خوف كل كتلة من الأخرى وانعدام الثقة بينها بل والتربص لبعضها البعض ..
- خوف الجميع من التهديد العراقي – التركي المرعي أنجلو- أميركيا ..
- شعور الجميع بأن رغبة الشعب السوري لا ترد.
في ذات الشهر الذي تولى فيه مجلس القيادة العسكرية مسؤولياته قام عبد الحميد السراج نجم المجلس ومدير المخابرات العسكرية بإلقاء القبض على الكولونيل هيوارد ستون الملحق العسكري الأمريكي وطرده خارج سوريا كشخص غير مرغوب فيه وذلك لرعايته محاولة إنقلاب كان سهمها أديب الشيشكلي .. مرة أخرى. بهذا الفشل صعّدت واشنطن من تهديداتها لسوريا عبر أمر حليفتها الأطلسية تركيا بحشد قواتها على طول حدود سوريا الشمالية مهددة بالاجتياح في تشرين الأول / أكتوبر 1957.
رد عبد الناصر بإنزال قوات بحرية محمولة بحرا في ميناء اللاذقية تضامنا مع سوريا ورسالة لأصحاب التهديد بالتوقف عته. مع نهاية 1957 تبلور الموقف داخل مجلس القيادة لصالح الوحدة مع مصر. لم يكن متبلورا عندهم شكل الوحدة لكنهم ببساطتهم واندفاعهم تركوا الأمر لعبد الناصر. بالمقابل كان عبد الناصر شديد التهيب من مسألة الوحدة – أو حتى الاتحاد – مفضلا المزيد من أعلى درجات التنسيق والتكافل في كل المجالات وعبر سنوات انتقالية خمس يمكن بعدها ترجمة النهج بوحدة دستورية.
مع اشتداد تقلصات الرغبة الوحدوية في المجلس أوفد عبد الناصر العميد حافظ إسماعيل رئيس أركان القيادة المشتركة للقاء صريح مع المجلس وضع فيه أمامهم تصور عبد الناصر للوحدة – رغم الممانعة الجادة – فيما لو قامت وهي بكلمة واحدة وحدة اندماجية تطابق بين الواقع المصري والمطلوب في سوريا أي حل الأحزاب وخروج الجيش من السياسة ومركزية الحكم. لم ينقض شهر على زيارة العميد إسماعيل – الذي لم يسمعوا بعده شيئا من القاهرة – إلا وقرر المجلس يوم 12 كانون الثاني / يناير 1958 إرسال معظم أعضائه للقاء مباشر مع جمال عبد الناصر. باختصار وافق الجميع على شروط عبد الناصر بعد انهيار مقاومته لفورية الوحدة وحلت الأحزاب نفسها وعين عبد الناصر الحوراني نائبا له ورئيسا لاحقا للوزراء في إقليم سوريا ومعه البيطار والكلاس وحمدون وقنوت والطرابلسي والمالكي والحاج يونس (كلهم باستثناء البيطار من فئة الحوراني) وزراء بعضهم في المركز والآخرون في الإقليم. وكما هو متوقع في مسألة تأمين الجيش لنظام يوليو فإن الضباط الحزبيين أي بالتحديد الشيوعيين والبعثيين كان يجب أن يخرجوا من الجيش أو على الأقل ينقلوا لإقليم مصر أو لمراكز ثانوية في إقليم سوريا. هذا ما حدث بالتدريج مع تنظيم الضباط الأحرار ذاته في مصر. من هذا المنطلق وقع الفأس في رأس الضباط الشيوعيين أولا لسبب سياسي حاد وهو رفض الشيوعيين السوريين مباركة الوحدة ومقاطعة خالد بكداش زعيمهم جلسة البرلمان السوري المدشنة للوحدة وتلكؤ الاتحاد السوفيتي في إبداء التأييد لها. كان أول ضحية لهذا الصدام هو قائد الجيش الأول – السوري – عفيف البزرة والذي أقيل من منصبه في ربيع 58 ليخرج بعده عشرات من الضباط الشيوعيين مسرحين.
التفت المشير عامر بعد ذلك صوب البعث مبقيا بعض ضباطه في سوريا وناقلا عديدهم إلى مصر وهو ما تم طوال سنة 1959. يجدر التنويه هنا إلى أن ضباط البعث – خارج مجلس القيادة – لم يكونوا شديدي الرضا عن حل حزب البعث بموافقة قادته الثلاث. هم كانوا مع الوحدة ولكن ضد حل الحزب ومن هنا فهم استاؤا من الأساتذة الثلاثة .. هذه واحدة ثم أنهم صمموا على الحفاظ على كينونتهم البعثية حتى ولو – بل ربما لكونهم – في المنفى المصري عل المقبل من الأيام يعيد لهم حيوية دورهم مع عبد الناصر .. أم حتى بدونه.
لم يكونوا يفكرون بانقلاب فهم أولا وحدويون ثم أنهم كانوا لا يملكون من وسائله شيئا .. وهم قابعون في الكنانة. كانوا يتخندقون في انتظار "گودو" مراهنين على أن عبد الناصر سيكشف عقم تعاونه مع بعض شرائح اليمين السوري على حساب البعث وسيكتشف عدم جدارة الضباط المحايدين – اليمينيين بالثقة الممنوحة لهم بلا حدود بقرار من مشيره عامر. كانوا أيضا يشعرون بأن خروجهم من المولد بلا حمّص – كما شعروا – لا يجب أن يتركهم لعبث الأقدار وأن التهيؤ ليوم ما واجب وأن عليهم في ذات الوقت وهم جغرافيا في مصر أن يتعلموا من عبد الناصر طرائقه وأخطاءه ونجاحاته وأن يراقبوا مسارات مدنيي البعث المنحل ليستطيعوا في وقت لاحق نسج وشائج عمل مشترك فالعسكر في حاجة للحزب والحزب في حاجة للعسكر. هم في الباطن استثنوا من تفكيرهم الرضوخ لفكرة اندثار البعث.
تشكل اللجنة العسكرية الأولى
تشكلت اللجنة العسكرية الأولى برئاسة بشير صادق أعلى البعثيين رتبة وضمت: مزيد هنيدي وعبد الغني عياش وممدوح الشاغوري ومحمد عمران. خلال عام 1959 شهدت علاقة البعث بفلقتيه مع عبد الناصر تدهورا تدريجيا ولكن وطيدا، من تجلياته: رسوب البعث في انتخابات الاتحاد القومي في حزيران / يونيو وإعادة تنظيم البعث خارج جمهورية الوحدة بقيادة السوري عفلق عبر مؤتمر قومي عقد في آب وفصل من صفوفه ناصري الهوى عبد الله الريماوي وتزايد استياء الأساتذة الثلاثة من تزايد نفوذ وزير داخلية الإقليم وصاحب الحظوة عند عبد الناصر أي السراج ثم من انتداب المشير عامر في أكتوبر مقيما عاما في دمشق بسلطات رئيس الجمهورية. في 24 كانون الأول / ديسمبر 1959 قدم الحوراني النائب والوزراء من البيطار إلى قنوت استقالاتهم من حكم الوحدة. والحاصل أن باكورة الفراق كانت إقالة عبد الناصر المهينة لرياض المالكي وزير إعلام الإقليم في أيلول 1959 وتسليم صلاحياته للسراج. كانت أخبار الفراق بين عبد الناصر والأساتذة تجلب المزيد من السخط عليهم في نفوس عسكريي البعث لأنهم فرطوا بسهولة بالحزب كما يعتقدون. كما كان المؤتمر القومي في آب بشارة إحياء لمركبة يؤمنون بضرورتها لهم في رحلة المستقبل. لا شكل أن الإستقالة البعثية تسببت في المزيد من عدم الارتياح تجاه ضباط البعث المنتدبين لإقليم مصر ومن هنا نقل بعض وجوههم إلى السلك الدبلوماسي إبعادا نهائيا عن صفوف الجيش. من هنا اضطرار بشير صادق ومزيد الهنيدي وعبد الغني عياش وممدوح الشاغوري للإنفكاك عن اللجنة العسكرية الأولى. أصغرهم رتبة الرائد محمد عمران تكفل بإعادة تشكيل اللجنة ليكون فيها الأعلى رتبة. والثابت أن عمران كان جديرا بالاستخلاف فهو كان أحد نجوم تمرد قطنا/1957 وهو الأكثر ثقافة ثم الأعلى رتبة. لكن المثير للانتباه أن التشكيل الجديد عكس غلبة واضحة للأقليات المذهبية في جسم البعث العسكري بعكس ما كان عليه سابق الحال.
هنا الآن: محمد عمران وصلاح جديد وحافظ أسد، العلويون، وأحمد المير وعبد الكريم الجندي الإسماعيليان (رغم أن تسنن بعض آل الجندي من إسماعيلية السلمية متداول) ثم عثمان كنعان ومنير الجيرودي السنيان. هل كان ذلك قرارا بوعي مقصود أم أنه عكس صورة تضاريس الجسم العسكري البعثي المنفي حينها؟ أظن – ولا أقطع – أن الجواب هو في منزلة بين المنزلتين إذ أن جمعا غفيرا من ضباط البعث السنة كان متوافرا في إقليم مصر ثم أن الأجواء الطائفية التي استعرت لاحقا في هزيع الستينات وبعدها لم تكن بادية في مطلعها بل وأن كلا من عمران وجديد وأسد – كل في وقته – لجأ لأدوات طائفية في تجميع قوته ولكن ليس بالضرورة من منظور طائفي محض أي من منطق التكتيك و ليس الاستراتيجية زاولت اللجنة العسكرية بتشكيلها الثاني السباعي دورها طوال عام 60 ووصولا إلى 28 أيلول / سبتمبر 1961 يوم الانفصال السوري. عند ذاك المفصل تمت إعادة كل الضباط السوريين إلى بلدهم الذي خضع الآن لقيادة عسـكرية يمينية على رأسها عبد الكريم النحلاوي – سكرتير المشير عامر – وموفق عصاصة.
لم تنتظر هذه القيادة طويلا إذ قامت في آخر يوم من عام 61 بتسريح ما ينوف عن 70 ضابطا جلهم من البعثيين ضمت منهم كل أعضاء اللجنة العسكرية باستثناء السنيان عثمان كنعان ومنير الجيرودي. هذا إضافة إلى عدم إعادة أي ضابط بعثي مسرح للخدمة بل ونقل بعض الضباط ملحقين عسكريين في الخارج كما الحال مع أمين الحافظ الذي ذهب للخدمة في الأرجنتين مع أول يوم من عام 1962.
في واقع الحال لم يبق للبعث في الخدمة العسكرية غير نفر صغير من الضباط يضم إضافة لكنعان والجيرودي: موسى الزعبي وحمد عبيد وإبراهيم العلي وسليمان حداد وموسى العلي وسليم حاطوم و عبد الحميد الجمل وجلال الجهني وآخرون. صاحب الانفصال السوري وفي أعقابه مباشرة انفجار البعث إلى شظايا أربع: الوحدويون الاشتراكيون .. وهم ناصريو البعث والعدد الأكبر نسبيا من كوادره – القطريون .. وهم يساريوا البعث والذين رفضوا حله عشية الوحدة واستمروا على شيء من الترابط خلال عهد الوحدة مخالفين قرار الحل – الإشتراكيون العرب .. وهم الحزب العربي الإشتراكي سابقا أي جماعة الحوراني – وأخيرا الموالون لميشيل عفلق وصلاح البيطار ممن دعوا بالقوميين. كانت الشظية الخامسة والأهم وإن بدت غير مرئية هي البعث العسكري بقيادة اللجنة السباعية. هذا الشطر قرر مد خيوطه وإن بدرجة متفاوتة مع كل الشظايا الأربع مع ابتعاد ملحوظ عن أكرم الحوراني لتقديرهم الصحيح للموقف حينها والذي مؤداه أن الحوراني حرق نفسه سياسيا بتوقيعه وثيقة الانفصال وبإسناده عهده.
ما إن سرحت غالبية اللجنة العسكرية حتى بدأت في البحث عن حلفاء عسكريين لها يشاركونها في الإطاحة بعهد الانفصال وذلك لإدراكها حجم ونوعية الضعف البنيوي للبعثيين في الجيش. ما كان لها من حليف موضوعي في ظروف الانفصال إلا الناصريين وهم كثرة غير منظمة من الضباط كانت تحتاج لعون قلة منظمة ومن هنا حصل التلاقي في 30 آذار / مارس 1962 عبر تمرد حمص ثم حلب والذي قاده جاسم علوان عن الناصريين و محمد عمران عن البعثيين. كان سامي الجندي – من الوحدويين الإشتراكيين – أحد أهم وسائط التحالف التكتيكي المستجد بين الطرفين. هذا التحالف برهن عن هشاشته وارتجاله يوم 1 نيسان / أبريل 1962 عندما دب الخلاف بين الحليفين حول إعلان عودة الوحدة من عدمه وانتهى اليوم بفرار قياديي اللجنة العسكرية من حلب متوارين عن الأنظار بعد أن ارتكب بعثيان هما حمد عبيد وإبراهيم العلي حماقة إعدام ضباط أربعة من الموالين لسلطة دمشق قبل انهيار التمرد. ترك فشل ربيع 1962 مرارة في حلقي الطرفين لكن تفاعل تطورات عهد الانفصال واشتراك البعث والناصريين في تلقي عداوة النظام المترنح ساهمت في إخماد سعير الخلاف وجعله مستترا وتحت السطح. مثال ذلك اعتقال العديد من ضباط الطرفين المتمردين ومنهم علوان وعمران والقاتلين عبيد والعلي وكذلك لؤي الأتاسي ثم مقالات صلاح البيطار الودودة تجاه عبد الناصر في جريدة البعث وانحيازه إليه ضد هجوم الحوراني الضاري عليه.
الجزء الثاني
كان شهر أيار 1962 شهر إعادة تنظيم حزب البعث السوري بقيادة ميشيل عفلق عبر مؤتمر قومي جديد هو الخامس عقد في حمص. شهد المؤتمر خروج يساريين معظمهم لبناني وبعضهم عراقي من الحزب (منهم عبد الرحمن منيف و غسان شرارة و عبد الوهاب الشمايطلي) كما شهد تكريس انفصال الحوراني النهائي عن البعث وكذلك تكريس انشقاق القطريين عن الحزب المعاد تنظيمه. عهد عفلق بمهمة إعادة التنظيم إلى لجنة سداسية نصفها عراقي والآخر سوري، ضمت محسن الشيخ راضي و حمدي عبد المجيد العاني و هاني الفكيكي من العراق و شبلي العيسمي و الوليد طالب و حمود الشوفي من سوريا. فتح الناشطون في اللجنة العسكرية وبالتحديد أعلاهم رتبة بعد سجن عمران أي الرائد صلاح جديد حوارا مع قيادة الحزب وبالتحديد عفلق كما حافظوا على علاقات نامية مع القطريين وإن كانت صلاتهم مع الوحدويين الإشتراكيين قد وهنت بعد نيسان 1962 بل وانقطعت مع الحوراني منذ العودة من مصر. كان وضع البعث العسكري طوال عام 1962 ودخولا في عام 1963 هو كمن رجله في الداخل أما باقي جسمه فهو في الخارج. هذا بالتحديد كان مدعاة أن يعودوا بالضرورة للبحث عن حلفاء لهم ثانية في انقلاب جديد على الانفصال آملين أن يلقى النجاح بعد أن استفادوا من دروس نيسان. كانت اللجنة العسكرية قد بلورت رؤاها في موضوعة الحكم والوحدة والحزب وفق الخطوط التالية: لا لوحدة فورية مع مصر – إنشاء حكم بعثي صرف بتدرج يراعي القدرة – ركوب مركبة الحزب المعاد تنظيمه مع رفده بالقطريين الباقين خارجه – منافسة عبد الناصر عبر المزايدة عليه يساريا وقوميا وفلسطينيا. تلفتت اللجنة فلم تجد حولها من حليف محتمل إلا كتلتين: الكبيرة وغير المنظمة من الناصريين وهم من مستويات رتب متنوعة. والصغيرة المتحلقة حول ضابط طموح انتهازي برتبة عقيد يتولى قيادة القطاع الشمالي للجبهة مسقط رأسه حماة إسمه زياد الحريري. لم يكن الحريري محسوبا لا على الوحدويين ولا على البعثيين بل قد عرف عنه إعجاب مكتوم بأكرم الحوراني. في الشهور الأخيرة من الانفصال وخصوصا بعد دورة شتورا للجامعة العربية في آب 1962 والتي شهدت أعنف الحملات على عبد الناصر من قبل انفصاليي دمشق قام استقطاب داخل الجيش بين ضباط الانفصال والذين أضحى رمزهم العميد مطيع السمان قائد قوى الأمن الداخلي وبين الضباط المناهضين للانفصال والذين تكوكبوا حول العقيد زياد الحريري. هزّ هذا الاستقطاب بطل الانفصال الأول عبد الكريم النحلاوي والذي كان قد أبعد وجماعته عن سوريا في نيسان 62 إثر فشل تمرد حمص-حلب وانعقاد مؤتمر حمص العسكري لتسوية ذيوله.
كان النحلاوي دمشقيا بامتياز محافظا متدينا لدرجة الارتباط غير المعلن مع جماعة الإخوان المسلمين وفي 13 كانون الثاني / يناير 1963 عاد متسللا إلى سوريا ليحرض بقاياه في الجيش على الانقلاب. ما فتك بالنحلاوي كانت الوعود المعطاة له من قبل أطراف وحدوية وبعثية بنصرته إن تحرك. هذه الأطراف أوقعته في الفخ بل وتحركت ضده لدرجة إيصاله لليأس والخروج القسري من البلاد ثانية. في الأسبوع الأول من 63 بدأ الرائد صلاح جديد تكثيف اتصاله بالعقيد زياد الحريري لإقناعه بأن يصبح بؤرة استقطاب تجمع حولها الناصريين والبعثيين معا. في مطلع 63 جرى تعيين العميد راشد القطيني مديرا للمخابرات العسكرية والعميد محمد الصوفي قائدا للواء المدرع الخامس بحمص وكلاهما وحدويان. كان ذلك الإجراء جزءا من لعبة التوازنات الداخلية في الجيش لكن توقيته لم يكن له أن يأتي في وقت أفضل. كان لهذين التعيينين إضافة لوجود عدد من الضباط الناصريين المتولين مواقع مهمة مثل عادل الحاج مراد و حسين القاضي و أسعد الحكيم و نور الله الحاج إبراهيم و ممدوح الحبال و فواز محارب و كمال هلال فعل إجبار كل من الحريري وصلاح جديد على طلب التعاون معهم. أما الحريري فلا يتجاوز أنصاره العشرات في العدد في حين أن جديد لم يكن له إلا عشرة أو ما يقارب من الضباط العاملين وصغيري الرتب. في الجبهة حيث ساحة التآمر كان له سليم حاطوم وسليمان حداد وزياد حمضمض وآخرين. في 8 شباط / فبراير 1963 وقع الانقلاب البعثي – المؤيد ناصريا – في العراق ضد حكم عبد الكريم قاسم. والثابت أن هذا الحدث المهم كان له وقع نفسي شديد في أوساط الانفصال إذ ارتبكت سياستهم وارتعدت أوصالهم ما بين استرضاء غير مجدي لبعث بغداد وهلع من نسخة انقلابية له في دمشق. وطوال شباط – ما بعد بغداد – راجت الإشاعات في دمشق بأن زياد الحريري يحضر انقلابا يشترك فيه البعثيون والناصريون بما يشبه وقائع بغداد.
أخذ حكام الانفصال نفسا عميقا وقرروا كخطوة إنقاذ أخيره لعهدهم إخراج زياد الحريري ملحقا عسكريا في بغداد ثم غطوا هذا القرار بابتعاث مطيع السمان – المكروه للأعماق من خصوم الانفصال – ملحقا عسكريا في دولة آسيوية. لوهلة وهنت أعصاب الحريري – فهو ليس من زمرة المتآمرين المخضرمين الأشداء – وقرر الخضوع لقرار التسفير لكن ضغوط حلفائه من الجهتين عليه صلبّت من عوده وأقنعته بالبقاء و ... الإنقلاب. لم يكن هذا الإنقلاب والذي وقع في 8 آذار / مارس إلا سرا مفتوحا لكل أجهزة المخابرات الإقليمية والدولية من شدة التوقعات له. بل إن حماة النظام المفترضين من مدير الشرطة العسكرية إلى قائد اللواء المدرع بالكسوة إلى غيرهم كانوا قد عقدوا الصفقات مع الحريري للنجاة بأنفسهم بل واقتناص مناصب مسرية في الخارج.
عودة إلى اللجنة العسكرية ... أين تموقع الرائد صلاح جديد؟ من الطبيعي أن يكون أول خطوات الإنقلاب الإفراج عن المسجونين الوحدويين والبعثيين ومنهم لؤي الأتاسي الذي اتفق عليه رئيسا لمجلس الثورة وكذلك محمد عمران رئيس اللجنة العكسرية وآخرين مثل حمد عبيد وإبراهيم العلي ومصطفى طلاس ومحمد النسر. أعيد كل الضباط المسرحين من البعثيين إلى الخدمة بينما أبقي العديد من المسرحين الناصريين خارجها أمثال جاسم علوان وحكمت الداية ورائف المعرى وكاظم زيتونة ووفيق إسماعيل. ليس ذلك فقط بل أن ضباط الاحتياط البعثيين ثبتوا في الخدمة ضباطا عاملين.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
سر الحركة الطليقة للجناح البعثي رغم صغر حجمه ودوره في التحالف والانقلاب
السبب هو تمسكن الرائد – الآن المقدم – صلاح جديد حتى تمكنه. هو جلس في مقعد عبد الكريم النحلاوي عندما كان الأخير نائبا لمدير شؤون الضباط تحت العميد المصري أحمد علوي واستطاع من ذلك الموقع تدبير وتدبر ما يبتغي. في حالة جديد هو وضع فوقه العقيد غسان حداد – أحد حلفاء الحريري "المستقلين" – ونسج حوله شرنقة من التودد والتقرب وتكبير المقام لاقت هوى غلابا في نفس حداد الذي أصبح أداة مطواعة في يد مرؤوسه. على ذات النسق جرى تشكيل مجلس الثورة الأول: محمد عمران وصلاح جديد و موسى الزعبي عن البعث ... زياد الحريري و غسان حداد و فهد الشاعر عن المستقلين ... راشد القطيني ودرويش الزوني وكمال هلال وفواز محارب عن الناصريين ومعهم لؤي الأتاسي رئيسا. تولى محمد عمران – العقيد آنذاك، رئيسا لأركان اللواء المدرع 70 في الكسوة بينما أسند إلى النقيب – الرائد آنذاك – حافظ أسد قيادة قاعدة الضمير الجوية.
تولى زياد الحريري رئاسة الأركان والقطيني نيابة القائد العام والحاج إبراهيم قيادة الطيران كما استدعى العميد أمين الحافظ المبعد للأرجنتين ملحقا عسكريا ليصبح وزيرا للداخلية مقابل الفريق محمد الصوفي وزيرا للدفاع – دون صلاحيات جادة. وفق ذات السياق جرى تشكيل الوزارة الأولى مناصفة بين البعث وبين الأطراف الناصرية برئاسة البعثي المؤسس صلاح البيطار. كانت المعضلة التي واجهتها اللجنة العسكرية للبعث بعد نجاح الانقلاب ثلاثية الأبعاد: كيف نتخلص من أو ندعي التجاوب مع ضغوط الشارع العارمة طلبا لعودة الوحدة مع مصر؟ كيف نضرب الناصريين في الجيش استباقيا ووقائيا ولكن بتدرج محسوب؟ ثم كيف نتخلص من عبء الحريري بعد استنفاذ دوره؟ تلاقت سياسات اللجنة العسكرية في ذلك الوقت مع رغبات عفلق – البيطار لجهة التنائي عن وحدة مع عبد الناصر أو كبديل اضطراري السعي لاتحاد ثلاثي يضم عراق البعث وبما يكفل أن يصبح عبد الناصر بين المطرقة والسندان: بعث دمشق وبعث بغداد. كانت مناورة البعث ماكرة إذ لا يستطيع لا عبد الناصر ولا ناصرييه السوريين الممانعة في احتساب العراق متحدا ثالثا حتى ولو ناور ناصر خلال الجولة الثانية من مباحثات القاهرة بالقول إنه مستعد لقبول وحدة سورية-عراقية أولا بمقدار قبوله لوحدة مصرية-سورية أولا. إذن في مسألة الوحدة لاقى البعثان مخرجا شبه مريح في طرحهم الثلاثي لكن المنغص الكبير بقي ثنائية الشارع الناصري والكثافة الناصرية في الجيش. ورغم أن حديث ميثاق 17 نيسان له مكان آخر في ورقة 8 شباط / 8 آذار / 17 نيسان إلا أنه من اللافت وقوع أول التسريحات الكبرى في صفوف الناصريين يوم 20 نيسان أي بعد أيام ثلاثة من التوقيع وبخديعة ماكرة تلخصت في إيفاد العديد منهم لبغداد لبحث الوحدة العسكرية ثم ليعودوا إلى منازلهم مسرحين. استمرت التسريحات طوال أيار وحزيران ولم تنفع في ذلك وساطة المهدي بن بركة أو وساطة هواري بومدين من قبله، ابتغاء رأب الصدع المتفاقم بين عبد الناصر والبعث.
في أيار استقال الوزراء الناصريون وقمعت المظاهرات الناصرية الضخمة بالعنف المسلح واعتقل العديد من ناصريي العراق لاتهامهم بالتآمر. كان الجهاز المحرك للحوادث في سوريا هي اللجنة العسكرية والتي اتسع ملاكها حوالي تاريخ 8 آذار ليضم حسين ملحم ورباح الطويل وحمد عبيد وموسى الزعبي ثم ضم إليها بعد استفراد البعث بالسلطة صيف 1963 أمين الحافظ وسليمان حداد وطلال أبو عسلي وصلاح نمور ومصطفى الحاج علي وأحمد سويداني وسليم حاطوم وتوفيق بركات.
استطاعت اللجنة العسكرية أن تنفذ إلى أحشاء التجمعات الناصرية العسكرية وهي ترتقب منها تحركا مضادا يوفر لها الغلبة على البعث خصوصا بعد تسارع وتعاظم التسريحات وذلك عبر أحد عملائها الرائد محمد نبهان الذي استطاع أن يحوز ثقة قائد هذه التجمعات العقيد متقاعد جاسم علوان ومنه عرفت باليوم والساعة ما يمور في أجوائهم من نقمة وما بدؤوا في الترتيب له من تحرك. عُرف الناصريون دوما بالكثرة غير المنظمة ولقد كان ربيع 1963 مثلا ساطعا على ضعفهم النوعي إذ قبعوا يتلقون اللطمات بينما صفوفهم في الجيش تتناقص ورجحان البعث يغلب. ولعل جزءا من السبب في ذلك عدم إحراج عبد الناصر وهو في خضم تلقي الوساطات المغاربية ولعدم مفاقمة أجواء التوتر الناصري – البعثي في العراق. لكنهم وصلوا في أواخر حزيران إلى قرار بالتحرك رغم علمهم المسبق بضعف احتمال النجاح. في خضم هذه الأجواء قررت اللجنة العسكرية البدء بتصفية كتلة زياد الحريري الصغيرة لكونه الأسهل منالا وتوطئة للصدام الأوسع المرتقب مع الناصريين. هنا أيضا كانت الخديعة هي الأسلوب المتبع: أقنع الحريري بترؤس وفد لزيارة الجزائر. ولطمأنته اصطحبه عديد من القيادات البعثية المدنية والتي كانت خالية الذهن من مسألة التواطؤ و معهم المقدم صلاح جديد. خلال تلك الزيارة جرى تسريح ضباط الحريري وعلى رأسهم قائد اللواء 70 المدرع حسن الجلاغي ومدير المخابرات العسكرية محمود الحاج محمود. عاد الحريري إلى دمشق ليجد نفسه قد أضحى نكرة في المشهد السياسي لدرجة أنه اصطحب إلى المطار يوم 8 تموز مطرودا سفيرا في أسبانيا. في ذلك الوقت كان معلوما للجنة العسكرية اقتراب خطوات الانقلاب الناصري المزمع وكانت تفضل أن يتم الانقلاب ويسحق على أن يجهض باستباق وقوعه بحملة اعتقالات لمنفذيه المتوقعين. والحاصل أن رغبة الفراق البات مع عبد الناصر ومشايعيه كانت عارمة وبمقولة جازمة إن عهد البعث قد بزغ وأنه سيحكم دولتين متجاورتين ليقود عبرهما العالم العربي على أنقاض عبد الناصر. يثور هنا السؤال .. هل كانت قيادة الحزب المدنية متساوقة مع عسكرييه في هذا المنظور؟ والإجابة الحاسمة في ضوء وقائع تلك الفترة هي بنعم. كان ميشيل عفلق يظن أن العسكريين الشباب هم أداته للوصول إلى حلم البعث الذي يحكم إقليم الرافدين – الشام لينطلق منه إلى حلم قيادة العالم العربي إما بالبعث منفردا أو بالشراكة المتكافئة مع عبد الناصر كحد أقصى.
كان حلمه بعيدا عن أرض الواقع بمسافات ضوئية إذ كان العسكريون يمتطون جواده كمرحلة عابرة وصولا إلى تثبيت بعث جديد يزيح عن مشهده القيادة التاريخية التي اعتبروها منذ الوحدة غير جديرة بالقيادة أو بالتبني. منذ تلك اللحظة صعد إلى السطح بعثان: الأول تقليدي مدني والثاني "تجديدي" عسكري. ساعد في الفرز المكتوم توالد تيار يساري متمركس من داخل بنية الحزب المدنية قاده حمود الشوفي و الذي استطاع في انتخابات الحزب القطرية الأولى في أيلول 1963 إيصال أربعة من رجالاته إلى عضوية القيادة القطرية وهم بالإضافة للشوفي .. أحمد أبو صالح ومحمود نوفل وخالد الحكيم. لم يفز من أنصار عفلق – حينها – سوى نور الدين الأتاسي ثم انتخبت اللجنة العسكرية ممثلين ثلاثة لها في القيادة هم: حافظ أسد وحمد عبيد ورباح الطويل. بل وصل الأمر إلى إسقاط صلاح البيطار ذاته – وهو رئيس الوزراء – في انتخابات القيادة رسالة صارخة لعفلق بأن زمانه قد أزف على الأفول. طبعا جرت تلك الانتخابات في أعقاب الصدام الدموي المروع مع الناصريين في 18 تموز والذي أسفر عن حمام دم – بمقاييس سورية حينها – مع قرار اللجنة العسكرية بإعدام ما يفوق عن عشرين ضابطا ناصريا بعد محاكمة صورية جرت في دقائق. والطريف أن أسلوب الخداع والمكر تواصل حتى ذلك اليوم. صباح يوم الجمعة 18 تموز – وقبل سويعات من بدء الصدام – وصل إلى الاسكندرية وفد سوري برئاسة لؤي الأتاسي ضم محمد عمران وفهد الشاعر تحت عنوان السعي لمصالحه شافية مع عبد الناصر.
كان من أرسلهم يعرف توقيت الانقلاب – وبالتحديد عمران – بل وربما كان عبد الناصر نفسه مطلعا على الموعد كل من مصدره وبالتالي لم تكن مباحثات الاسكندرية سوى مأساة – ملهاة، لعبة عبثية بعد أن ارتسمت في الأفق قطيعة مفجعة التوابع. رفض لؤي الأتاسي بعد عودته التصديق على قرارات الإعدام واستقال نجاة بنفسه من مسؤولية الدم المراق فسارعت اللجنة العسكرية بتعيين عضوها المستجد وغير الأصيل أمين الحافظ رئيسا لمجلس الثورة وقائدا عاما وحاكما عرفيا بل واحتفظ برئاسة الأركان التي تولاها خلفا للحريري المطرود قبلها بأيام. وجد العسكريون في يساريي البعث حليفا موضوعيا في معركتهم المقبلة مع القيادة التقليدية التاريخية وأسهم في تعزيز قناعتهم صعود يسار مماثل في أوساط البعث العراقي قاده نفس الأعضاء العراقيين في لجنة إعادة تنظيم الحزب السوري قبل عام ونيف أي علي السعدي وحمدي عبد المجيد العاني وهاني الفكيكي ومحسن الشيخ راضي. هذه المجموعة تمكنت في أيلول 1963 من الفوز بغالبية أعضاء القيادة القطرية المنتخبة في المؤتمر القطري لتماثل في غلبتها ما جرى في دمشق ذات الشهر. والثابت أن المعلم الرائد لهذا اليسار البعثي بعراقييه وسورييه كان ياسين الحافظ الشيوعي السابق من دير الزور والمنتمي حديثا للبعث بعد إعادة التنظيم.
لعب هذا المفكر المميز – بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع طروحاته – دورا استثنائيا في تحويل البعث – في تلك الفترة – من حزب دان لمؤسسه بالانقياد فكرا وعملا إلى متمرد خارج عليه بكل ما للخروج من معنى. إذ ما أن انعقد المؤتمر القومي السادس في دمشق في أكتوبر 1963 إلا ووجد عفلق نفسه غريبا عن حزبه الذي أسسه ورعاه لعقدين من الزمان. تجلى هذا الانفصام في تبني المؤتمر للمنطلقات النظرية والتي لم تكن أكثر من لبوس بعثي لماركسية لينينية مقنعة. ثم شهدت كواليس المؤتمر ترتيبات هدفت لإضعاف قبضة عفلق لدرجة الوهن كتمهيد للاستغناء لاحقا. والشاهد أن نجاح هذه الترتيبات ما كان له أن يرى النور لولا تواطؤ اللجنة العسكرية السورية معها. رد عفلق في بغداد بموافقته الصامتة على شبه انقلاب – عسكري الطابع – جرى يوم 11 نوفمبر وفيه قام عسكريوه الموالون باعتقال القيادة المنتخبة وتسفيرها إلى أسبانيا. ارتج الأمر على اللجنة العسكرية والتي فوجئت بأن تضاريس المشهد الحزبي العراقي لا تبشر بخير بسبب مدى الكراهية والنقمة المستفحلة في أوساط الجيش العراقي – سواء فيه البعثي أم غيره – من قيادة السعدي اليسارية والتي جعلت من حرسها القومي جيشا موازيا تدين له الدولة والمجتمع عبر قبضته الخشنة والمتطرفة.
رد الحرس القومي الموالي لليسار البعثي بخطوات عسكرية مناوئة فجرت الموقف برمته رغم قدوم ميشيل عفلق مصحوبا بأمين الحافظ وصلاح جديد للوساطة. عاشت بغداد أسبوعا من أزمة عارمة فككت الحزب إلى شظايا بل أوصلت معظم عسكرييه لدرجة التحالف مع رئيس الجمهورية غير البعثي – عبد السلام عارف – للإطاحة بحكم الحزب برمته. والحاصل أن انقلاب عارف في 18 تشرين الثاني/نوفمبر ما كان له أن ينجح بالحسم والسلمية التي تم بها لولا أن من نفذه بالأساس كان البعثي حردان التكريتي مؤيدا من رئيس الوزراء البعثي أحمد حسن البكر ومتفاهما مع ضباط كبار حسبوا على البعث بدرجة أم بأخرى مثل طاهر يحيى ورشيد مصلح. لم يحس البعث السوري بكل أجنحته بمدى ضعفه مثلما أحسّ في أواخر 1963. وجد عفلق نفسه دون رديف عراقي بعثي إذ أن ما انتهى إليه الحال في بغداد كان تشظي واندثار البعث برمته رغم مشاركة بعض رموزه في الانقلاب انحيازا لولائهم العسكري قبل الحزبي. هو الآن أصبح وجها لوجه أمام يسار متمرد سوري وأمام لجنة عسكرية ظنها في الربيع والصيف المنصرمين عدته وعتاده في الوصول لحلمه الكبير بينما لمس لمس اليد في الخريف أنها قلبت له ظهر المجن وانحازت إلى هذا اليسار المتمرد. بالمقابل وجدت اللجنة العسكرية نفسها أمام حليف مرهق في هذا اليسار إذ كان صنوه العراقي سببا رئيسا في وصول حكم الحزب في العراق إلى نهاية مفجعة وهو الذي لم ينقض عليه في الحكم إلا شهور تسعة وبالتالي فهذا نذير شؤم من نجاعة استمرار التحالف مع هكذا يسار. وعلى المقلب الآخر وجد اليسار المدني نفسه يتيما على مائدة اللئام إذ ليس بين يديه أدوات عسكرية لإصلاح الميزان لصالحه – رغم بعض التعاطف المذهبي الطابع من سليم حاطوم ومجموعته الصغيرة – وهو ليس مع ميشيل عفلق بخير ولا مع اللجنة العسكرية بخير. عند هذا المفصل وجدت اللجنة العسكرية ضالتها في "القطريين" الذين لا زال جسمهم الأكبر خارج الحزب رغم مسارعة العديد منهم للعودة له بعد 8 آذار. والثابت أن القاسم المشترك بين عسكريي اللجنة وبين مدنييي القطريين كان أرضية طبقية واضحة فمعظم الطرفين من الريف بل وأن نسبة كبيرة منهما من خلفية مذهبية متقاربة (الأقليات العلوية والإسماعيلية والدرزية).
من رموز القطريين كان هناك منير العبد الله وسليمان الخش ومصطفى رستم وأسعد صقر وفوزي رضا ويوسف زعين ومحمد عيد العشاوي وفايز الجاسم وأنيس كنجو وعبد الحميد المقداد ومروان حبش وعادل نعيسة وإسماعيل عرفي ومصلح سالم وكامل حسين وإبراهيم ماخوس و حميد مرعي و حسام حيزة. مثل ماخوس هذا التيار في أول وزارة بعد 8 آذار وزيرا للصحة ثم لحقه زعين في نوفمبر وزيرا للإصلاح الزراعي. قام اليسار بعد نوفمبر بطرد صلاح البيطار من عضوية الحزب في خطوة قصد فيها المزيد من التحدي لعفلق والذي رد بتعيين البيطار نائبا لرئيس مجلس الثورة.
الجزء الثالث
في أعقاب نوفمبر أعاد البعث السوري تنظيم نفسه بعزل البيطار من رئاسة الحكومة والتي أضيفت إلى أمين الحافظ مع احتفاظه برئاسة مجلس الثورة ومنصب القائد العام مع الحاكم العرفي. لكن ذلك التنظيم شمل ترفيع محمد عمران رئيس اللجنة العسكرية إلى رتبة اللواء مع تعيينه نائبا لرئيس الوزراء .. أي عمليا رئيس الوزراء. هل كان ذلك تعزيزا لدور عمران؟ بدا ذلك على السطح بل ظن هو نفسه كذلك فبدأ يتقمص دور رجل الدولة صاحب البرامج ومقترح السياسات. هنا بالتحديد بدأ محمد عمران يراجع مسيرة الشهور التسعة المنصرفة ليجد أن الصيغة المثلى له ولسورية هي مد الخيوط مع عبد الناصر وفق معادلة يتبناها فيه عبد الناصر حاكما باسمه. أرسل له أكثر من مرة من يوصل له هذا الاقتراح وأنه القادر على إعادة تجميع الصفوف القومية بناصرييها وبعثييها تحت رمزية عبد الناصر وبواسطة دوره لكن ذلك لم يلق من عبد الناصر أي قبول وذلك لشكه في عمران إن كان لجهة النوايا أم القدرة. والراجح أن اتصالات عمران الخفية ومحاولاته التقرب من ناصريي البعث المنشقين – الوحدويين الاشتراكيين – ليكونوا أداته السياسية في بيع دوره المأمول لم تخف على رفيقه الأساسي في اللجنة صلاح جديد والذي شملت إعادة التنظيم ترفيعه من مقدم للواء وتعيينه رئيسا للأركان العامة. لكن الأولوية الأولى لجديد كانت الخلاص من اليسار البعثي واستبداله بالقطريين ومن هنا عقده الصفقة التكتيكية مع ميشيل عفلق والتي بموجبها يفصل اليسار من الحزب عبر مؤتمر قطري استثنائي في شباط ومؤتمر قومي استثنائي في آذار 1964. ولكن ما إن تم ذلك حتى نشب عصيان شبه مسلح في حماة سبقته مظاهرات ضخمة في العديد من المدن شقت عصا الطاعة على البعث ووصلت الأمور لحد الاقتتال الدموي في حماة ورغبة بعض ضباط اللجنة العسكرية (حمد عبيد وسليم حاطوم بالذات) في استعمال أقصى درجات العنف لوأد تمردها وكانتقام متأخر لما أوقعه أديب الشيشكلي الحموي بجبل الدروز في شتاء 1954. كان أمين الحافظ وصلاح جديد أكثر عقلانية وتقديرا لما قد يجره ذلك من حرب أهلية في وقت كان فيه البعث بكل تلاوينه طري العود وقابلا للإقتلاع فيما لو وقعت الواقعة. وما إن أغلق ملف حماة عبر نوع من التراضي بين السلطة والمجتمع الأهلي إلا ووجدت اللجنة العسكرية نفسها مضطرة للاستعانة بقدامى البعثيين من التقليديين وعلى رأسهم المكروه لديهم صلاح البيطار ليشكل وزارة تخمد أوار العداوة المستفحلة في أوساط الشعب سواء بغالبيته الناصرية أم بأقليته المحافظة. ساهم أيضا في تلطيف الأجواء نوعا ما أجواء مؤتمرات القمة التي دعا إليها عبد الناصر بدءا بيناير ووصولا إلى سبتمبر ثم مؤتمر عدم الانحياز في أكتوبر. أخرج من السجون معظم المسجونين السياسيين وسفّر إلى القاهرة المحكوم بالإعدام جاسم علوان وواظب عمران طوال شهور 1964 على محاولة غزل حبال الود مع عبد الناصر. في أكتوبر 1964 وفي جلسة ضمت أمين الحافظ ومحمد عمران مع آخرين من أعضاء الوفد السوري ألقى عبد الناصر قنبلته في وجه عمران متهما إياه ورفاقا له في اللجنة العسكرية من العلويين بتزعم تنظيم علوي سري ملتحف برداء البعث يسعى للانفراد بالسلطة ويستعمل أدوات طائفية في الهيمنة على الجيش ومن ثم البلد. تلك المصارحة كانت جوابا سافرا من عبد الناصر برفض تقرب عمران منه. كانت أيضا إشارة – غير مقصودة – لأمين الحافظ بأن ما حوله – وهو المفترض أنه رئيس البلاد – غير صحي ومعبأ باحتمالات السوء.
وجد محمد عمران نفسه عند تلك المرحلة أمام خيار وحيد. هو من جهة شعر ولأكثر من عام أن استمرار الحال من المحال وأن التنائي عن عبد الناصر مكلف لكنه من جهة أخرى يجد صدودا مريرا من عبد الناصر وبالتالي فلا مناص من إثبات حسن النوايا والجذرية في الالتفات إلى طريق آخر. ماذا فعل؟ اغتنم فرصة اقتراح رئيس الأركان اللواء صلاح جديد ترفيع الرائد حافظ أسد إلى رتبة اللواء وتعيينه قائدا لسلاح الجو مناسبة للاعتراض وبعدها تفجير الموقف. كان حافظ أسد حينها محسوبا في الأساس على صلاح جديد وبالتالي فتسليمه قيادة سلاح الجو هو تعزيز لخصومه المحتملين. ذهب محمد عمران إلى القيادة القومية – التي هي عضو فيها – ليقول بالفم الملآن إن هناك لجنة عسكرية سرية وأنها تخطط للإطاحة بالقيادة المدنية وأنها ترمي لبناء دولتها المطرزة على مقاسها الخاص وأنه بالتالي منحاز للقيادة القومية ولا يريد إلا كشف المستور والخلاص من المنشقين عنها في الظلام. شربت القيادة القومية عندها حليب السباع وقامت حينها – في ديسمبر 1964 – بحل القيادة القطرية الواجهة الحزبية للجنة العسكرية معتقدة أنها بذلك تحسم الصراع المكتوم والذي أوصل ميشيل عفلق في حزيران 1964 إلى الترحال – قرفا – عند أخيه وصفي في ألمانيا. لكن ما تمخض عن هذه المواجهة – غير المحسوبة جيدا – هو ثورة قواعد الحزب على القيادة القومية ونصرة لقيادتها القطرية. لم يكن في الأمر عجب إذ شهد عام 1964 بطوله انضواء كل القطريين في الحزب وتسـلمهم الشعب والفروع والمنظمات والتي عبرها ملكوا الجسم وبقي فوقهم الرأس – غير الفاعل – كرمز لا تعلو مكانته عن كونه هذا الرمز.
خسر عمران رهان القيادة القومية كما خسر قبله رهان عبد الناصر فاضطر كسيرا ملتاعا للذهاب إلى المطار مطرودا كسفير في أسبانيا على خطى سلفه الحريري. قد يتساءل المرء ألم يكن معروفا أن معظم الضباط العلويين كانوا يدينون بالولاء لعمران شخصا أكثر من جديد أو أسد. بالتأكيد هذا صحيح لكن دهاء جديد مكنه من الاستحواذ على ولاء معظمهم بترديده مقولة إن "معلمهم" قصير النفس وأنه بخياراته الجديدة سواء منها الناصري أم العفلقي يهدد كل مخططات اللجنة العسكرية سواء المتوسطة أم طويلة الأمد وبالتالي وجد عمران نفسه وقت الشدة معزولا عن معجبيه ولو كمن فيهم حب غريزي له لأقدميته وسابقيته ومزاياه.
دخلت اللجنة العسكرية عام 1965 بقرار تأجيج يساريتها ولأهداف عدة منها المزايدة على كل من عبد الناصر وعفلق ثم البرهان على أنها لا تقل يسارية عن اليسار المفصول ومنها حاجتها لتثبيت شرعية معينة هي شرعية الطبقات المستضعفة – وفوق مفهومها -. سبق ذلك إقالة وزارة صلاح البيطار في أكتوبر 1964 وعشية اللقاء الثالث مع عبد الناصر في القاهرة. في الأول من يناير 65 اتخذت اللجنة العسكرية قرارا بتأميمات واسعة للنطاق شملت القطاعات المالية والصناعية والتجارية وسواها كان جلها – بمنطق اقتصادي محض – يتجاوز أي حاجة فعلية له لدرجة أن العديد منها سرعان ما ألغي لتبين كوميديته الفاقعة. رد تجار دمشق بإضراب واسع قمع بقسوة غير معهودة لدرجة اقتحام المسجد الأموي تعقبا لبعض المضربين والمتظاهرين.
صاحب قرار التأميمات قرار رعاية نشاط حركة فتح الفلسطينية انطلاقا من سوريا وعبورا إلى الأردن ولبنان ووصولا إلى فلسطين المحتلة. كانت الورقة الفلسطينية في مفهوم اللجنة العسكرية هي الأربح للتداول والاستعمال في الساحة العربية إذ كان واضحا أن عبد الناصر ملتزم بسياسة الابتعاد عن المواجهة المسلحة مع إسرائيل – وحديث ذلك في ورقة أخرى – ومكتف بانتهاج سياسة دفاعية عبر تبنيه للقيادة العربية الموحدة وهيئة تحويل روافد نهر الأردن و منظمة التحرير الفلسطينية. وفي وقت كان التململ فيه هو الشائع في ساحات المنافي الفلسطينية ورغم جو الولاء الفلسطيني العام لقيادة عبد الناصر القومية بزغت في الأفق وبشكل فطري تنظيمات فلسطينية عدة نوت امتشاق السلاح لهز الركود السائد على جبهة الاشتباك مع إسرائيل. لاقى هوى اللجنة العسكرية تنظيمان: الأول هو حركة فتح والتي رغم موزاييكها التركيبي ورغم احتشاد الكثير من الإخوان المسلمين سابقا بين قياداتها وكوادرها إلا أن ميزتها الأهم أنها ولهذا السبب البنيوي بالذات كانت خارج قوس النفوذ الناصري وبالتالي فهو قوة موازنة لمنظمة التحرير ذات الولاء الناصري الغلاب ثم هي بحكم ظروف أعضائها الأقدر تمويلا والأميز قدراتً.
أما التنظيم الثاني فهو سوري المنشأ اسمه جبهة التحرير الفلسطينية أسسها أحمد جبريل الضابط المسرح من الجيش السوري والوثيق الصلة بالمخابرات العسكرية. ومع انطلاق عمليات فتح في 1 يناير 65 بان أن المنطلق والراعي هو سوريا البعث. لم تكن فتح صنيعة البعث بل حليفا تكتيكيا بحكم الجغرافيا والمناخ السياسي والخلفيات الفكرية. لكن اللجنة العسكرية وهي تنفذ سياساتها في الداخل والخارج وقعت من جديد في أتون الصراع الداخلي المستنفذ. ها هو رئيس اللجنة الإسمي أمين الحافظ يشق عصا الطاعة على رئيسها الفعلي صلاح جديد متهما إياه بسوق البلاد إلى معمعة طائفية بسبب محاباته لضباط الأقليات وركوبه حصانهم فوصل الأمر بسلك الضباط البعثيين إلى حافة الانقسام كما تجلى في المؤتمر العسكري الحزبي في نيسان 1965 والذي تلى المؤتمر القطري الذي انعقد في آذار وسبق المؤتمر القومي في أيار. تمخضت هذه المؤتمرات الثلاث عن تسويات بين أطراف الصراع لجمت أمين الحافط عن مزيد من التصعيد وقربت بينه وبين القيادة القومية كما حدث مؤخرا مع المبعد محمد عمران وأوصلت عفلق والعسكر الموالي لجديد إلى تركيبات تنظيمية هجينة كان عنوانها تخلي عفلق عن الأمانة العامة لرفيقه الأردني منيف الرزاز واكتفائه بلقب القائد المؤسس الفخري.
ما استطاعه أمين الحافظ في أزمة نيسان العسكرية هو استقطاب العديد من ضباط البعث السنة تحت عنوان مجابهة "المؤامرة" العلوية وبالمقابل اصطف ضباط الأقليات في غالبيتهم مع صلاح جديد لخوفهم من المد السني المتعاظم في الجيش. هل كان اتهام الحافظ لجديد محقا؟ ما من شك في أن الرجل استساغ وسوغ لنفسه اللجوء لأدوات طائفية في خوض صراعاته ونيل أهدافه لكن ذلك كله يندرج تحت باب العصبوية وبناء حصون قوة على أسس ليس فقط طائفية بل وعشائرية وفوق ذلك طبقية (أي ريفية). لم يكن صلاح جديد طائفيا بمعنى السعي وراء دولة طائفية للعلويين أو وراء استفرادهم بحكم سوريا إنما أراد اختصار الطريق أمام وصول "بعثه" اليساري الجذري ليبسط مشروعه التغييري في سوريا لصالح الريف أساساً ولينطلق منها ليمد إشعاعه على باقي المنطقة والأخص الشمال العربي. إذا قارنا بين جديد وأحد من أسلافه فسنجد حسني الزعيم قد استعان بعصبويته الكردية وأديب الشيشكلي وقد استعان بعصبويته الحموية وهكذا. فاقم في مسألة جديد حرب الإشاعات التي شنها أنصار الحافظ دامغين خصمه بتهمة الفاطمية إضافة لحقيقة أن نهوض الريف سيعني ضمن أهم ما يعنيه تمكين العلويين من الاستقواء على كل الأصعدة.
كان محمد عمران سلف صلاح جديد قد اتهم في وقته بالطائفية أيضا لكن ذلك لم يخرج عن إطار ما سبق تناوله من تحليل وكما قلنا فلقد سبق لعبد الناصر نفسه أن شك بطائقية عمران. ولو أن علويي اللجنة الأساسيين الثلاث .. عمران وجديد وأسد .. كانوا مجموعة طائفية متماسة لما طرد الأول قبل مضي عامين على الوصول للسلطة وبسبب تحالفات غير طائفية سعى وراءها "ثم قتل في نهاية العام التاسع لـ 8 آذار ولما سجن الثاني مدة 23 عاما على يد الثالث بعد أن وصل الأمر بينهما لعامين متواليين إلى الصدام المسلح مرتين. جدير بالذكر أن عضوا علويا آخر في اللجنة العسكرية خرج مع محمد عمران في ديسمبر 64 هو الرائد سليمان حداد – أحد منفذي 8 آذار – والذي أرسل ملحقا عسكريا في الخارج. بذلك انخفض عدد ملاك اللجنة إلى 16 عضو. ثم مع انفصام أمين الحافظ عن غالبية اللجنة بدأت هذه الغالبية في الانعقاد من وراء ظهره مستثنية معه من جلساتها أنصاره موسى الزعبي و حسين ملحم و صلاح نمور أو تأتي هذه الغالبية للجلسات بعد أن تكون قد التأمت على موقف مسبق. في تلك الفترة حسم سليم حاطوم أمره ورمى بثقله – المغاوير – وراء صلاح جديد بعد طول تردد وتراوح.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
كيف مارس الحافظ وجديد الصراع؟
لما كان الثاني رئيسا للأركان نراه استعمل صلاحيات هذا المنصب لعرقلة قرارات القائد العام – غير المتفرغ – الحافظ .. هذا من جهة ولتمكين أنصاره من حيازة المواقع الحساسة من جهة أخرى. ما الذي أوصل الحافظ وجديد إلى الصراع المفتوح ولم تنقض إى مدة وجيزة على إبعادهما خصمهما المشترك محمد عمران؟ باختصار رأى صلاح جديد أمام ناظريه صنيعة تحاول أن تصبح ليس فقط سيدة نفسها بل وتتمكن لدرجة التسيد إذ سعى الرجل للمطابقة ما بين المنصب وفعاليته فأراد أن يكون رئيس دولة وقائد جيش بحق وحقيق وبالتالي وجد أن صلاح جديد عقبة كؤود في هذا الطريق كما وجده الأخير شريكا استنفذ أغراضه وأصبح ليس فقط عبئا بل وتهديدا خارقا. على خلفية كل هذه التطورات المتسارعة أصبح صيف وخريف 65 مسافة زمنية انتقالية قبل ارتسام تخوم الصراع الحاسم. كانت الصراعات داخل القيادة القطرية الائتلافية قد شبت بين العفالقة والقطريين لدرجة أن شلت أعمال القيادة فقام الأخيرون بحركة التفاف بارعة باستدعاء مؤتمر قطري استثنائي للانعقاد في آب وتقديم استقالة القيادة له. عندها انتخب المؤتمر قيادة قطرية جديدة لم يفز فيها من الخصوم إلا أمين الحافـظ. انطلقت هذه القيادة الخالصة للقطريين للتحرك في اتجاهات عدة .. شكلت وزارة جديدة برئاسة أحد رموزها يوسف زعين عجت بآخرين من هذه الرموز .. اعتقلت أكرم الحوراني والعديد من أنصاره في خطوة ابتغت إحراج عفلق الشريك القديم له في الأيام الخوالي .. وشكلت برلمانا معينا بغالبية بعثية كاسحة اختلط فيها القومي بالقطري مع رجحان نسبي للأخير.
ومع انتزاع رئاسة الحكومة من الحافظ أحاطته القيادة القطرية باثنين من رموزها في مجلس الرئاسة معه .. نور الدين الأتاسي الآتي من خريف ميشيل عفلق إلى ربيع صلاح جديد ومعه فايز الجاسم. أما الخطوة الأهم فكانت انتزاع القيادة العام للقوات المسلحة عمليا من يد الحافظ وذلك عبر تنسيب عضو اللجنة العسكرية حمد عبيد ليتولى وزارة الدفاع مع توحيد سلطة وزير الدفاع بصلاحيات القائد العام. وكشكل ترضوي قام صلاح جديد بتنسيب محمد الشنيوي أحد المحسوبين على أمين الحافظ ليصبح رئيسا للأركان مكانه – أي جديد. كانت تلك ضربة بارعة حار الحافظ في كيفية اتقائها وعدم إنفاذها وفشل.
مع ذلك كله وفوقه اتخذ صلاح جديد لنفسه موقع قوميسار الحزب المتفرغ عبر منصب الأمين القطري المساعد بعد أن جعل من السلطة الحزبية السلطة الأولى في حياة البلاد تخضع لها أجهزة الدولة وفعاليات المجتمع. لم تعن انتصارات صلاح جديد التكتيكية كلها أن الأمر قد قضي لصالحه فلا زال الجيش مليئا بأنصار فعليين أو محتملين لأمين الحافظ ثم أن تهمة الطائفية قد فعلت فعلها وساد الاستراب. أضف إلى ذلك أن الخصوم على المقلب الآخر كانوا يدبرون ويتدبرون.
عاد محمد عمران في إجازة صيفية ليتصل بمحازبيه السابقين محاولا تفعيل الوشائج معهم وعاقدا لمباحثات مع صلاح البيطار (كان الاثنان قد وصلا لحالة من التقارب عام 63-64 خصوصا مع أزمة ديسمبر 64) لمحاولة بناء تحالف قوى يتفوق على تحالف جديد – القطريين. في ذات الوقت دأب صلاح البيطار على تمتين الأواصر مع أمين الحافظ – بموافقة من ميشيل عفلق – منخيا إياه للوقوف مع الشرعية الحزبية المتمثلة في القيادة القومية ضد خصومها القطريين.
خلال كل هذه المناورات المثيرة للدوار قام صلاح جديد عبر وزيره الجديد للدفاع حمد عبيد بنقل قائد اللواء المدرع الخامس العقيد صلاح نمور – وهو بنفسه أحد أعضاء اللجنة العسكرية – إلى دمشق في محاولة لتهشيم أحد أهم عناصر قوة أمين الحافظ العسكرية. رفض نمور الإنصياع للقرار. أمر صلاح جديد مصطفى طلاس نائب نمور في اللواء باختطافه وإرساله مخفورا إلى دمشق. كانت تلك القشة التي قصمت ظهر البعير مع أمين الحافظ وعبره مع القيادة القومية.
تداعت القيادة القومية لدورة انعقاد مفتوحة في 8 كانون الأول/ديسمبر 65 لبحث الأزمة الحزبية وقررت بعد أيام من الانعقاد حل القيادة القطرية وإقالة الوزارة وحل البرلمان المعين وإعادة تشكيل مجلس الرئاسة. كان القرار المهم الآخر هو استدعاء اللواء محمد عمران من منفاه الإسباني وزيرا للدفاع رغم اعتراض خصمه القديم أمين الحافظ. السبب الحقيقي وراء تفعيل عمران كان علويته. باختصار ظن ميشيل عفلق أن عمران هو ورقة الجوكر في كسب ولاء عدد مؤثر من الضباط العلويين يستطيعون إحباط مخطط صلاح جديد في استعمالهم في صراعه ضد عفلق – الحافظ. مرة ثانية كان الرهان فاشلا إذ سبق سيف صلاح عزل عمران فاستحوذ على ولائهم مبرهنا لهم أن عمران مرة ثانية اتخذ الموقف الخطأ نصرة للطرف الخطأ. بالمقابل لم تكن حوافز عمران للعمل ضد صلاح جديد مقنعة له بالتمام ذلك أن نفوره من الحافظ تساوى مع صدامه مع جديد مما حيد دوره وجعله غير ذي قيمة.
مقابل خطوة صلاح جديد في الاستيلاء على اللواء المدرع الخامس بحمص قررت القيادة القومية إقالة عدد من ضباط اللجنة العسكرية من مناصبهم العسكرية المهمة وهم بالتحديد أحمد سويداني مدير المخابرات العسكرية وسليم حاطوم قائد كتيبة المغاوير وعزت جديد قائد اللواء 70 المدرع بالكسوة. تلك كانت نقطة الفصال وعندها تحرك صلاح جديد بقضه وقضيضه لهزم أعدائه بالضربة القاضية.
صبيحة الثالث والعشرين من شباط تحرك لواء الكسوة المدرع السبعين ومعه كتيبة المغاوير لتطبق على أمين الحافظ في بيته حيث خاض المهاجمون وحرس المدافع معركة دموية شرسة انتهت باعتقال الحافظ وجرح أولاده ومقتل الكثيرين من عناصر الطرفين. ومع ذلك فإن هذه المعركة لم تكن تكفي للحسم إذ أن صراعا دار في حلب بين معسكري الخصام حسمه بالكاد مؤيدوا جديد وعلى رأسهم الرائد ناصر ناصر عضو التنظيم العسكري القديم (والذي أصبح وزيرا للداخلية بعد أكثر من عقدين). أوفد صلاح جديد وزير الدفاع وحليفه حمد عبيد إلى حلب للإشراف على حسم الموقف لكن الأخير محركا بعوامل الغيرة مما سمعه عن تصعيد قائد الطيران حافظ أسد لمنصب وزير الدفاع آثر البقاء على الحياد مما جعله منبوذا في عيون رفاقه السابقين ثم هو في كل الأحوال ورقة استعملت لحد النفاذ ولم يعد له من قيمة شيء يذكر.
من عوامل تسهيل انتصار صلاح جديد تخاذل حسين ملحم حليف الحافظ وقائد الشرطة العسكرية وعدم نصرته للحافظ في محنته الدموية. تم اعتقال عفلق والبيطار وعمران لكن صلاح جديد فضل بعد حين تيسير هروب عفلق والبيطار تهيبا من صفتيهما كمؤسسين للحزب مفضلا معالجة عقابيل وجودهما المتوقع في لبنان على تحمل وزر البطش بهما داخل السجون. أكمل عفلق طريقه إلى البرازيل فيما أعلن البيطار ومعه منصور الأطرش تبرؤهما من البعث وانسحابهما منه في بيان إصداره من بيروت. قبع الحافظ وعمران في السجن لحين الإفراج عن المعتقلين السياسيين يوم 9 يونيو 67 في جو الهزيمة الفادحة. والملفت للنظر أن عبد الناصر وهو يرقب مشهد التناحر البعثي لم يمد يد العون لعفلق خلال فترة استيلائه الواقعي على السلطة ما بين 8 كانون الأول/ديسمبر 65 و 22 شباط/فبراير 66 رغم أن وزارة البيطار الجديدة ضمت عناصر صديقة لعبد الناصر مثل محمد الفاضل ومحمود عرب سعيد سواك عن عمران الذي لم ينفك يحاول التقرب. والسبب اليتيم هنا هو أنه رغم حذره الشديد بل وتوجسه من صلاح جديد وجناحه إلا أن أزمة الثقة بينه وبين عفلق وحناحه كانت على درجة من الاستحكام منعت إمكانية التقارب من جديد رغم الإشارات المليئة بالتودد من قبل القيادة القومية.
الجزء الرابع
- مقالة مفصلة: انقلاب شباط 1966
كانت موسكو شديدة الرضا عن تغيير شباط وصعود النيو-بعث وذلك لسببين: أن تجد حليفا إقليميا على يسار عبد الناصر لتبتزه به وتكسر احتكار البوابة عبره وأن ترى في هذا الحليف ميسرا لنشاط – ولو غير رسمي – لحزبها الشيوعي المحلي. بالمقابل كان عبد الناصر يرى أن فوائد انتصار النيو-بعث تفوق بقاء البعث القديم فهم في نهاية المطاف قليلو خبرة ويحتاجون لظهير إقليمي يرضى بهم وعليهم وسط جو العزلة الداخلي شعبيا والعداوة الإقليمية من دول الجوار والإقليم وبالتالي فهو يستطيع التأثير على إيقاعهم ومسلكهم ودون مظنات الماضي الأليم مع أسلافهم. أما بالنسبة لعراق عارف فالأمر عنده سيان فالبعث لديه بعث وهو كاره له بالجملة فيما شعر بومدين – المنقلب على بن بللا الناصري الهوى – أن صلاح جديد أقرب إليه ممن سبقوه خصوصا وأن ثلاثة من رجاله المدنيين (الأتاسي وزعين وماخوس) سبق وأن خدموا أطباء في صفوف جيش التحرير الوطني خلال حرب الاستقلال. وسرعان ما وصل كوسيجن رئيس الوزراء السوفيتي إلى القاهرة في مايو 1966 ليصارح عبد الناصر بأن موسكو تطلب منه أن يكون ظهير نظام دمشق وحاميه وفي ذات الوقت ملطف غلوه وضابط أفعاله. ثم استقبل بعد عودته لموسكو رئيس الوزراء السوري الجديد يوسف زعين ليعقد معه اتفاق بناء سد الفرات رمزا للصداقة الدافئة والمتصاعدة بين الاتحاد السوفيتي وسوريا النيو-بعث. قامت القيادة القطرية المؤقتة بإعادة تنظيم الحزب ليتطهر من آثار عفلق ثم مدت آفاقها عبر الساحة العربية سعيا وراء إنشاء تنظيم جديد يدين لها بالولاء. والثابت أن المشهد الحزبي خارج سوريا كان مختمرا ليتفاعل مع هذا السعي إذ ما لبث البعث الجديد في العراق وأن طغى بما لا يقاس على بقايا البعث القديم مالئا صفوفه بالألوف من المثقفين والعمال والكسبة مع بعض امتداد فلاحي وأصغر منه عسكري لدرجة أن ما اصطلح على تسميته بعث اليسار أصبح هو الرائج بامتياز. كان من نجومه العقيد عبد الكريم نصرت (أحد رموز انقلاب البعث الأول/63) و فؤاد شاكر مصطفى و عمار الراوي و سلمان العبد الله و محمود الحمصي و أحمد العزاوي و باقر ياسين وغيرهم. إنشق الحزب عموديا في لبنان والأردن/فلسطين والجزيرة/الخليج واليمن وبالتالي استطاع صلاح جديد من موقعه في دمشق أن يستند إلى تنظيم قومي الامتداد في صراعه على الشرعية الحزبية ولم يعد منشقا سوريا برر لنفسه اللجوء للغة السلاح عاصيا قيادته.
كانت تلك أيام اليسار بكل تلاوينه وبالأخص منها الطفولية وهو ما سبب أن يحاول من اتهم باليمين في هكذا انشقاق أن يبرهن على جدارته اليسارية بالمزيد من المغالاة وهكذا دواليك. بالمقابل حاول أنصار عفلق تجميع أنفسهم عبر عامي 66 و 67 لكنهم كانوا إلى أفول لولا الهزيمة المنكرة التي وقعت في حزيران 67.
النيو-بعث وهزيمة 1967
كيف وصل النيو-بعث إلى أعتاب الهزيمة وكيف تصرف عشيتها وغداتها ولسنوات أربع؟ كانت الشهور الأولى من حكم النيو-بعث حافلة بمهام تصليب قواعد وارتكازات النظام الجديد خصوصا وأنه حمل في تلافيفه نويات صراع تناحري تمثلت في حرد ثم تململ ثم تمرد قياداته الدرزية. والحاصل أن البداية كانت في حلب حين فشل وزير الدفاع المقال من قبل عفلق وعهده القصير والمزكى من قبل جديد في أيلول الفائت أي حمد عبيد في تأمين ولاء قوات المنطقة الشمالية للانقلاب مما أدى لنشوب معارك بين القوات التابعة للطرفين حسمها انحياز المقدم ناصر ناصر قائد أحد الألوية المدرعة لجديد. لكن مشكلة المشاكل كانت في أحد أهم صناع الإنقلاب وقائد قوة المغاوير المرابطة في قابون دمشق والحامية لمبنى الإذاعة والتلفزيون القريب من الأركان العامة .. سليم حاطوم. هنا تصح العودة إلى صيف 65 بعض الشيء إذ شهد وبعد تسوية مايو بين القوميين والقطريين عودة الطرفين للعبة عض الأصابع والمناورة وتحسين المواقع مما أوصل القيادة القطرية المنتخبة في مارس إلى الاستقالة واستدعاء المؤتمر القطري لانعقاد استثنائي في أغسطس. في هذا الانعقاد انتخبت قيادة قطرية جديدة رجح فيها أيضا بشكل مهيمن القطريون وحلفاؤهم العسكريون ودخلها بينهم سليم حاطوم تثمينا منهم لدوره المعزز لهم خصوصا بعد أن نقل البارودة من كتف أمين الحافظ إلى كتف صلاح جديد قبلها بشهور.
كان ذلك الانتخاب إغراءً له باجتياز نقطة العودة في الانحياز خصوصا وأن جديد يعرف منذ ربيع 65 أن الأمور لا بد واصلة إلى الصدام المسلح مع الحافظ وأن حاطوم بيضة قبان مؤثرة ولا بد من اكتسابها وبحرص. وبعد أن أنجز حاطوم دوره المطلوب وبدموية ملحوظة واجه تنكر جديد له مجسدا في عدم إعادة انتخابه عضوا في القيادة القطرية المؤقتة التي انتخبها مؤتمر قطري استثنائي جديد عقد في مارس 66 بعد نجاح الانقلاب. والثابت أن تلك كانت لطمة شكلت نقطة تحول في موقف حاطوم مما جرى ويجري.
بدأ حاطوم في تكتيل مؤيدين حوله وبالأخص من الضباط الدروز ومن أهمهم العقيد طلال أبو عسلي عضو اللجنة العسكرية وقائد الجبهة. في ذات الحين كان منيف الرزاز الأمين القومي "المقال" متخفيا في دمشق ناسجا خيوطا كثيرة مع ضباط بعثيين يدينون بالولاء للقيادة القومية وعلى رأسهم اللواء فهد الشاعر ومعه شريف سعود و علي سلطان و مجلي العقيد و إسماعيل هلال و علي الضماد و حسين زيدان و شريف الشاقي و عبده الديري. اشترط الشاعر علي الرزاز ألا يضم التنظيم العسكري السري أي ضابط علوي وذلك لضرورات أمن التنظيم. ورغم أن الرزاز وافق على الشرط إلا أنه حافظ على خيط اتصال مع أحد ضباط إنقلاب شباط هو المقدم علي مصطفى القريب الصلة بحافظ أسد. لماذا فعل الرزاز ذلك؟ لمعرفته الوثيقة أن عضو القيادة القومية حافظ أسد انحاز – بعد تردد طويل – إلى صلاح جديد فقط لكرهه الشديد لأمين الحافظ وليس ولاء حاسما لجديد بل وأن له كتلته الخاصة التي لم تقتصر على طيارين (مثل محمود عزام ومصباح الصمصام وناجي جميل وأحمد عنتر ومحمد الخولي وحسن قعقع) بل وامتدت إلى القوات البرية.
عرف الرزاز أيضا أن موقف حافظ أسد عشية 23 شباط/فبراير كان مهما – إن لم يكن حاسما – في ترجيح كفة جديد عسكريا وأن حسمه موقفه كان بالضرورة وليس بالرغبة. من هنا راهن الرزاز على استجلاب أسد شيئا فشيئا إلى تنظيمه ليكون حصان طروادة من داخل النظام الإنقلابي. والثابت أن محاولة الرزاز لم تفلح كثيرا رغم أن أسد لم يوصد الباب أمام الاتصال غير المباشر خصوصا وأن تنظيم الشاعر الموالي للرزاز انهار كخيوط العنكبوت في أغسطس 66 عبر خيانة أحد أعضائه إسماعيل هلال وتبليغه عبد الكريم الجندي مدير المخابرات العامة – الجهاز المستحدث حينها – عن الترتيبات السرية للتنظيم. أين محل حاطوم من إعراب هذه القصة؟ عرف حاطوم بتنظيم الشاعر بعد فترة من نشوئه وقام بالاتصال بالأخير عارضا التعاون بين التنظيمين وطي صفحة الماضي – القريب – والائتلاف للإطاحة بجديد ونظامه الوليد.
وافق الرزاز على التعاون لكن وشاية هلال وتساقط تنظيم الشاعر أربكا حاطوم بشدة لشعوره بأنه انكشف أمام جديد متواطئا ومتآمرا. لهذا السبب وجدناه يسارع في 8 أيلول لتفجير الموقف عبر اعتقال نور الدين الأتاسي وصلاح جديد و إبراهيم العلي أثناء زيارتهم للسويداء لبحث الموقف الحزبي هناك إثر تمرد الفرع على القيادة مطالبا بعودة "المنشقين" – وغالبيتهم دروز – لصفوف الحزب مدفوعين من حاطوم ومؤيدين. هنا كان بيضة القبان ثانية حافظ أسد الذي ومن موقعه في الأركان اتصل بحاطوم وهدده بضربه جوا وبرا (اللواء 70 المدرع) إن لم يطلق سراح أسراه على الفور وهو ما فعله وفر على أثره إلى الأردن ضيفا على هاشميي عمان.
مثير هنا ذكر أن مساعد حاطوم العقيد طلال أبو عسلي فرّ من عمان إلى بيروت ومن ثم القاهرة في ديسمبر 66 ليعلن أن انقلاب حاطوم الفاشل كان مرعيا من أجهزة مخابرات غربية (أمريكية و/أو بريطانية). السؤال هنا هل هذا موثق وهل الرزاز ضالع أيضا وهل صحيح أن أسد شجع حاطوم على التمرد واعدا إياه بالمساندة لينقلب عليه ويرسله هائما على وجهه إلى الأردن طريدا لاجئا وليضحي المنقذ لصلاح جديد والدائن له بحياته؟ يرجح عندي إلى أن يثبت العكس أن هذه كلها أقاصيص خصوم ضد بعضهم فلا الرزاز ولا حاطوم تحالفا مع المخابرات المركزية الأميركية أو المخابرات البريطانية M16 ولا أسد حض حاطوم على التمرد. المهم أنه بعد تصفية حاطوم تركز الثقل العسكري البعثي في الضباط العلويين وهم الأكثر عددا وكذلك بعض الضباط الإسماعيليين والبعض من السنة والمسيحيين والقليل من الدروز.
والشاهد أن الضباط السنة ومنذ 1957 دخلوا في طور لا متناه من التآكل والانكماش العددي بفعل شروخاتهم وصراعاتهم المستمرة ... قومي مقابل يميني ... قومي مقابل شيوعي ... قومي مقابل انفصالي ... ناصري مقابل بعثي ... اشتراكي مقابل الجميع ... بعثي يميني مقابل بعثي يساري وهكذا دواليك. وفي داخل جسم البعث العسكري فلقد كان لانقلاب شباط وتصفية تنظيم الشاعر عام 66 فعل الكارثة على عدد الضباط السنة ثم أيضا على عدد الضباط الأكفاء في العموم. شكلت التصفيات المتلاحقة داخل جسم السلك العسكري عاملا مضعفا لكفاءة الجيش السوري والتي كانت قد وصلت خلال سني الوحدة مع مصر – رغم كل مثالبها الشديدة – إلى درجة مطمئنة بعد عقد من الضعف البنيوي الشديد تلا هزيمة حرب فلسطين. المهم أنه ما إن أوشكت سنة 67 على الدخول إلا وكانت الحالة القتالية والجهوزية للجيش السوري في أسوأ مقام. بالمقابل وما إن تمكن صلاح جديد من السلطة إلا وبدأ في تصعيد خطاب المواجهة مع إسرائيل. بدأ ذلك في ربيع وصيف 66 عبر تصدي الطيران السوري لغارات الطيران الإسرائيلي على مواقع تحويل روافد نهر الأردن السورية. لفت ذلك نظر عبد الناصر الذي رد بعرضه إتفاق دفاع مشترك على نظام جديد في خطابه يوم 22 تموز/يوليو 66 والذي سبق أن قدمه محمود رياض في زيارته لدمشق ذات الشهر. لنتذكر أن عبد الناصر أثبت هنا أنه مستجيب لدعوة كوسيجن له قبل شهرين بحماية جديد ولجمه في آن. في ربيع 66 دخل النيو-بعث في صراع شرس مع حركة فتح في محاولة للسيطرة عليها من الداخل عبر دمج عسكريي البعث الفلسطينيين في مراتبها القيادية والذي قاومته الحركة لدرجة تصفية يوسف عرابي بالنار في إحدى شقق دمشق. أدى ذلك لسجن عبد الرؤوف عرفات القدوة و خليل الوزير لحوالي الشهرين قبل أن تصفى الأزمة وتعود العلاقة إلى بعض الطبيعية. سبب هذا الصراع قرارا للمؤتمر القومي للنيو-بعث في أكتوبر 66 بإنشاء منظمته المستقلة للعمل الفدائي الفلسطيني باسم الصاعقة وبتبنيه لمقولة حرب التحرير الشعبية.
أثارت هذه القرارات قلق عبد الناصر الذي أحسى أنه إن لم يضبط إيقاع صلاح جديد فإن نزعته المغامرة ستصل بالتوتر في المنطقة إلى حافة الانفجار وفي وقت غير ملائم لعبد الناصر بالمرة خصوصا وأن لديه 8 ألوية تقاتل في اليمن ولواءا تاسعا لحماية النظام "القومي" في العراق. والشاهد أن قرار صلاح جديد بالتصعيد مع إسرائيل غرائبي الطابع فهو يعلم – بل وكل مواطن عادي يعلم – أن جيشه في الدرك الأسفل وأن جيش عبد الناصر منشغل في ساحة أخرى وبعيدة وأن الجيش الهاشمي خارج المعادلة وأن الجيش العراقي مستنزف على يد أكراد الشمال .. إذن علامَ تعتمد في تصعيدك؟ الظن أنه كان يغلّب فوائد التصعيد على سوءاته بوهم أن ذلك سيضفي الشرعية الشعبية العربية على النيو-بعث وسيرتقي به إلى مصاف عبد الناصر منافسا له وندا وأن الرد الإسرائيلي لن يتخطى ما جرى أعوام 64-66 أي القصف المدفعي والجوي لمواقع بؤرية وللمنطقة المجردة من السلاح ذلك أن قرارا إسرائيليا بالحرب الشاملة لا بد له من موافقة أمريكية وهي في الأرجح مشلة بالتأييد السوفياتي الداعم لدمشق. على هذه الأوتار لعب صلاح جديد محاطا بأركان نظامه الأساسيين: حافظ أسد وزير الدفاع وقائد الطيران عبد الكريم الجندي مدير المخابرات العامة أحمد سويداني رئيس الأركان العامة .. أحمد المير قائد الجبهة. وهم جميعا ومعهم رباح الطويل ما بقي من هيكل اللجنة العسكرية بالقياس مع العدد الواسع الذي وصلته عام 63. في نوفمبر 66 زار القاهرة رئيس الوزراء يوسف زعين ومعه وزير الخارجية إبراهيم ماخوس ورئيس الأركان أحمد سويداني وقرأ عبد الناصر عليهم ولساعات طوال مزامير التهدئة والتعقل والحسابات الباردة وموازين القوة والتفريق بين فيتنام وفلسطين إلخ. والتي وضح أنها وقعت على آذان مسدودة. عرض عبد الناصر توقيع اتفاق الدفاع المشترك كرمز لدعمه لنظام دمشق في وجه مؤامرات هاشميي عمان عليه وكرمز لإسناده له في وجه تصعيد إسرائيلي شامل ولكن مقابل أن تنتظم خطوات دمشق وفق أيقاع القاهرة. وكما الحال بين حليفين اضطراريين أحدهما أميل للتعقل والآخر للتهور فإن من يضبط الإيقاع في النهاية هو الأكثر صخبا وانفعالا. وليس العكس.
في يناير 67 عادت عمليات فتح المنطلقة من الجولان للتواتر رغم أن غارة السموع الإسرائيلية في نوفمبر 66 أظهرت كم الخيط رفيع بين الأزمة و ... الحرب. سافر صلاح جديد إلى موسكو في يناير واستقبل استقبال المحظيين مما أشهر مكانته لديها مستعيدا بعض ملامح مكانة عبد الكريم قاسم عندها 58-63. لم يسمع جديد حينها كلاما مهدئا من بريجنيف بخصوص سياسته الفلسطينية. في ذات الوقت كان عبد الكريم الجندي يسمح لنفسه من موقعه كمدير للمخابرات العامة باللجوء إلى سلاح أبعد ما يكون عن القومية وهو دعم التمرد الكردي المسلح في العراق. كان البرزاني والبزاز (رئيس الوزراء القومي المعتدل) قد وقعا اتفاق 29 حزيران/تموز 66 لحل المشكلة الكردية والذي اعترض عليه ابراهيم أحمد وصهره جلال الطالباني (كانا قد انشقا عن البرازاني عام 64). دخل الجندي على الخط محتضنا الطالباني لاستخدامه ورقة تستنزف النظام القومي الضعيف في بغداد آملا بتساقطه في أحضان بعث – اليسار .. امتداد النيو-بعث السوري. (امتدت هذه السياسة منذ 66 وحتى 2003 مع الأسف).
كان يوم 7 نيسان/أبريل 67 يوما فاصلا في مسيرة نظام دمشق نحو الحرب. اخترقت أسراب الطيران الاسرائيلي سماء دمشق في العيد العشرين للبعث ناصبة فخا محكما للطيران السوري المتصدي ومسقطه 6 طائرات منه فوق العاصمة وعلى مرآى ومسمع من المواطنين. الرسالة واضحة .. الآن الإهانة .. ولاحقا الاجتياح. سارع عبد الناصر بإرسال قائد القوات الجوية المصرية الفريق أول صدقي محمود إلى دمشق عارضا تسلم مصر قاعدتين جويتين جنوب سوريا لتستعملها في حماية الأجواء السورية، فرفضت دمشق الطلب خشية من استغلال عبد الناصر لهذا الوجود لصالح أنصاره الناصريين. لم يكن هذا الرفض جديدا بل متواصلا منذ 64 وبدء مؤتمرات القمة العربية. أمل عبد الناصر أن يستوعب صلاح جديد درس لطمة 7 نيسان رغم امتعاضه من النقد المبطن الذي أعلنته دمشق نحوه. لكنه في ذات الحين شعر أن السموع/نوفمبر 66 ودمشق/أبريل 67 لا تحتمل ثالثة تهز مكانته كقائد للأمة العربية ولحركة القومية العربية وكرئيس لمصر ثم قبل هذا كله وبعده تجعل من العالم العربي مكسر عصا لاستراتيجية الردع الإسرائيلية المؤيدة بل والمحمّسة أمريكيا.
لقد ولدت حرب 67 من رحم السموع/دمشق إذ اعتملت في نفس عبد الناصر غداة 7 نيسان/أبريل عزيمة قلب المائدة وخلط الأوراق وإعادة التوازن لمعادلة الصراع في المنطقة والتي اختلت كثيرا بعد 64. والثابت أن الرجل في حساباته المجراة للموقف اعتقد بيقين أن تحريكه للموقف بشكل فاعل ومتصدي لن يجر عليه في أسوأ الأحوال إلا خوض معركة دفاعية ناجحة في صحن سيناء قبل أن يهرع القطبين الأعظم إلى وقف النار قبل اتساع الفتق على الراتق. وبهذا كله كان عبد الناصر يشعر أنه يعيد امتلاك زمام المبادأة الاستراتيجية في الإقليم .. يوقف العداء الأمريكي عند حدوده .. يلجم نظرية الردع الإسرائيلية .. يوفر غطاءً لانسحاب مشرف من اليمن مع الحفاظ على جمهوريته .. يعيد النيو-بعث إلى حجمة الطبيعي .. الصغير .. يحرم الرجعية العربية من أوكسجين البقاء .. يُشعر السوفياتي أنه صاحب القرار وأنهم اصدقاء وليس مشاريع هيمنة .. يؤكد ويؤبد زعامته المحلية والعربية والعالمية .. ويعزز أوراق التعامل مع المؤسسات الغربية المالية. كان صلاح جديد لاه عما يدور في عقل عبد الناصر والذي يصلح خطابه في 2 أيار/مايو/عيد العمال لتبين نبرة التحدي الفائض فيه لواشنطن وكأنه يوشك على التصريح بأنه مقبل على أمر ما جلل ذلك أن السكوت لا يستدر إلا المهانة.
والشاهد أن حسابات عبد الناصر كانت متوقعة لدى واشنطن وتل أبيب مع فارق ثقتهم التامة بأن هزيمة جيشه محتمة وهم لذلك رفعوا وتيرة التصعيد بإطلاق ليفي أشكول رئيس الوزراء وإسحق رابين رئيس الأركان تهديداتهما بغزو دمشق يومي 11 و 12 أيار/مايو. وما إن صدرت تلك التصريحات إلا وكان عبد الناصر يهرع إلى إعلان حالة التأهب القصوى في جيشه وينقل 5 فرق إلى سيناء تحت عنوان ردع إسرائيل عن مهاجمة سورية ويطلب إعادة توزيع قوات الطوارئ الدولية لتنسحب من خط رفح – إيلات. ليس هنا مجال الحديث عن حرب 67 فلقد تم التعرض لها في ورقتي مقدمات 67 والتآمر والخيانة/أحاجي 67. لكن ما هو مهم في معرض علاقة سورية بتلك الحرب تبيان كم تملكت الدهشة حكام دمشق من تحرك عبد الناصر المفاجئ وكم أخذوا على حين غرة.
في اليوم التالي لقرار عبد الناصر بالتحرك – 13 أيار/مايو – أوفد الفريق أول محمد فوزي رئيس الأركان المصري لدمشق للتثبت من معلومات سوفياتية وصلت لعبد الناصر بشكل طازج مفادها أن غزوا إسرائيليا لدمشق سيبدأ يوم 17 أيار/مايو بقوة 3 فرق ولمحاولة التنسيق بين الجيشين وفق معاهدة الدفاع المشترك ذات الشهور الست من العمر. واضح أن التثبت من المعلومة من عدمه سيان في فكر عبد الناصر الذي استقر على ضرورة التقدم لامتلاك زمام المبادأة ووقف الخصم الأمريكي – الإسرائيلي عند حده في مخاطرة ظنها محسوبة. لذلك وجدنا أن تأكيد حافظ أسد وأحمد سويداني للفريق فوزي بعدم وجود هكذا حشود إسرائيلية أمامهم لم يغير أو يبدل في قرار عبد الناصر بالتحرك. سارع صلاح جديد بعد سفر فوزي بإرسال وزير خارجيته الموثوق إبراهيم ماخوس للقاء عبد الناصر واستكشاف آفاق تحركه و نواظمه ومحدداته فوجده قد قرر المزيد من التصعيد بإغلاق خليج العقبة على خلفية تأكيد المشير عامر له بقدرة قوات مصر المسلحة على خوض معركة واسعة مع إسرائيل رغم وجود ما يزيد عن فرقتين في اليمن. وكعادة عبد الناصر في المفاصل الاستراتيجية الحاسمة كان شحيحا في كشف أوراقه ومتواضعا في مطالبه. أراد من دمشق الاستعداد الدفاعي والانتظار وطمأن مبعوثها بحقيقة أن حشود إسرائيل هي الآن أمام سيناء وليس الجولان وأنه يخوض مواجهة سياسية واسعة بهامش مناورة فسيح وما عليكم إلا ترقب التطورات بحذر. لم ترتح بقايا اللجنة العسكرية / القيادة القطرية لتصاعد الحوادث من حولها وهي في دور المتلقي وليس الفاعل فأوفدت رئيس الدولة الإسمي نور الدين الأتاسي إلى موسكو وفي ذات الحين رئيس الوزراء يوسف زعين إلى القاهرة لمزيد من التطمينات وهي العارفة بضحالة مواردها القتالية وسوء جاهزيتها لحرب حقيقية شاملة. خلال تلك الأيام الحاسمة من أواخر مايو رتبت المخابرات السورية عملية تفجير في الرمثا الأردنية كرسالة تحذير لنظيرتها الأردنية على ما تدبره من ترتيبات ضد نظام دمشق مستخدمة جماعة حاطوم الفارة ورد حسين عمان بقطع العلاقات الدبلوماسية مع دمشق. واللافت هنا هو أن عزلة نظام دمشق كانت مستحكمة فحتى مع نظام بغداد القومي –سكر خفيف أوصل العلاقة معه إلى درجة من النفور غير مسبوقة عبر تصعيد نزاعه مع شركة نفط العراق السورية على توزيع الريع وحصة الدولة السورية منه مما أفضى إلى وقف مرور النفط العراقي عبر خط بانياس السوري لما يزيد عن شهور أربعة أوصلت خزانة العراق لدرجة من النضوب محرجة ودونما أي تنسيق مع بلد المنشأ العراق. في ذات الحين تمنع نظام دمشق عن قبول قوات عراقية على أراضيه تحت نفس الحجة المستخدمة مع المصريين وهي قدرته الذاتية على الدفاع من أراضيه وأجوائه وتخوفه من تأثير هكذا وجود على أمنه السياسي. يوم 30 أيار/مايو وصل الملك حسين إلى القاهرة في تكرار مذهل لحكاية رسائل رمضان الاستغفارية في ربيع 61 تمهيدا لدوره البارز في مؤامرة الانفصال السوري بعدها بشهور ستة. أتى الملك مستغفرا متوددا واعدا ومرددا نشيد الانقياد والطاعة أمام الكبير ولدرجة قبول دخول قوات عراقية لأراضيه إضافة لوحدات مصرية من الصاعقة و الدفاع الجوي. هنا أيضا أحس قادة النيو-بعث السوري بأنهم آخر من يعلم وبأن المياه تجري من تحتهم دون حسبان لهم من أحد.
حاول عبد الناصر طمأنتهم بأن أوفد إليهم يوم 1 حزيران/يونيو نائبه زكريا محيي الدين مصحوبا بأمين هويدي وحسن الخولي والفريق عبد المنعم رياض. بث قادة دمشق لواعجهم لزكريا مستذكرين عدم دقة حكاية الحشود وخطوات التصعيد غير المعروفة لهم إلا من الأخبار وأخيرا التنسيق مع عدوهم اللدود في عمان والذي يتربص بهم الدوائر. قال لهم زكريا بأن نسبة احتمال الحرب هي الآن 80% وعليهم تلقي الضربة الأولى وامتصاصها باقتدار ثم تنسيق الخطوات التالية مع القاهرة.
ذات اليوم كان موشي ديان قد عُين وزيرا للدفاع في إسرائيل وبتعيينه وصل احتمال الحرب إلى 100% خصوصا وأن القوات العراقية بدأت في دخول الأردن وهو أمر يعتبر في عرف صانع القرار الإسرائيلي من مسببات الحرب القاطعة كما الحال مع إغلاق خليج العقبة أو باب المندب. ها نحن الآن صبيحة 5 حزيران/يونيو .. ماذا جرى في سوريا يومها وفي الأيام التالية؟ كان لدى سوريا حينها قرابة المائة مقاتلة وقاذفة يطير عليها ما لا يزيد عن 60 طيار عامل وكما كان الحال في القاهرة ذاك الصباح المشؤوم فإن هذه الطائرات كانت مكشوفة في العراء على الأرض تنتظر انقضاض العدو لتدميرها. لكن المفارقة هي أن هذا الانقضاض لم يبدأ في التاسعة إلا ربع صباحا – كالقاهرة – وإنما ما بعد الثانية عشر ظهرا أي مع اقتراب الهجوم الجوي الشامل على مصر من الانتهاء وبالتالي فلقد كان أمام حافظ أسد قائد الطيران السوري فترة إنذار تفوق عن ثلاث ساعات لإبقاء طائراته في السماء كمظلة جوية جاهزة للاشتباك مع المغير أو تهريبها بالجملة إلى مطارات العراق أو الانقضاض بها – وطيران إسرائيل منشغل بالصيد المصري الأثمن – على قواعد الشمال الإسرائيلي الجوية وأهداف استراتيجية أخرى هناك. الذي حدث هو أن الطائرات كانت بطات قابعة منتظرة للتدمير وفي هذا فلقد كنت شاهد عيان صعد إلى سطح منزله بفيلات المزة الغربية ليرى بالمنظار – بل بالعين المجردة – إنقضاض الميراج والميستير على الميج. السوخوي في قاعدة المزة الجوية القريبة. ما الذي جرى بعد ذلك؟ باختصار لا شيء ولا شيء كبيرة. قبعت قوات الجبهة في خنادقها طيلة أيام 5 و 6 و 7 و 8 حزيران/يونيو في حالة سكون تام سوى بضعة قصفات مدفعية لمستوطنات الجليل القريبة على مذهب إبراء الذمة وتسجيل الموقف. ومع نهاية الخميس الثامن من حزيران/يونيو كان قادة النيو- بعث في دمشق يدعون للباري أن تقف المسائل عند حد احتلال سيناء والقطاع والضفة مع تركهم جانبا في حالهم وظنوا أن ذلك هو البلسم المشتق من السم. أي أن عبد الناصر خرج من الساحة حكما بفعل هزيمته المنكرة أما حسين فهو مشهور السيرة وخاسر لباقي فلسطين ولا يبقى في الميدان إلا النيو-بعث سالما غانما ومتأهبا لتصدر الساحة العربية باسم الناجين من الهزيمة. أحلام الظهيرة هذه تلاشت مع صباح الجمعة 9 حزيران/يونيو.
عشية هذا اليوم كان عبد الناصر قد أرسل برقية لأتاسي دمشق يخبره فيها رسميا بخروج مصر من الحرب مهزومة للنخاع وناصحا إياه بالاستمرار في وقفة دفاعية تبتعد عن الاشتباك التعرضي مع المنتصر الإسرائيلي.[1]
انظر أيضاً
المصادر
- ^ أ ب
كمال خلف الطويل (6 مايو 2005). "قصة اللجنة العسكرية للبعث السوري (أربعة أجزاء)". ملتقيات اللجنة السورية لحقوق الإنسان. Retrieved 25 مارس 2007.
{{cite web}}
: Check date values in:|accessdate=
(help) خطأ استشهاد: وسم<ref>
غير صالح؛ الاسم "Taweel" معرف أكثر من مرة بمحتويات مختلفة. - ^ "Chapter 3, Baath". Ropes of Sand, America's Failure in the Middle East (1st ed edition, Hardcover ed.). Boca Raton, Florida: W W Norton & Co Inc. June 1980.