موقعة حمص 1832
(8 يوليه سنة 1832)
جزع الباب العالي لسقوط عكا في يد الجيش المصري، وكان يظن انها ترده خائبا كما ردت نابليون من قبل، فلما واجهته الحقائق خشى على مركزه ان يتزعزع امام انتصارات المصريين، وكان قد اعلن عصيان محمد علي اثناء حصار عكا وحشد جيشا مؤلفا من ستين ألف جندي لقتاله، واعد أسطولا من خمس وعشرين سفينة للاقلاع من الدردنيل ومحاربة الاسطول المصري.[1]
وعهد بقيادة جيش البر الى السر عسكر حسين باشا قاهر الإنكشارية ومنحه لقب سردار أكرم، وكان من أكفأ قواد تركيا، ووهب له ولاية مصر وكريت اذا هو قهر الجيش المصري، فلو كتب له الفوز لوقعت مصر في وهدة الفوضى التي كانت تتردى فيها في عصر الولاة الأتراك، ولقضي على الاستقلال المصري في مهده، ولكن بطولة الجيش المصري حالت دون وقوع الكارثة ومنعت عودة مصر الى فوضى الحكم التركي.
تقدم جيش حسين باشا ببطء، فلم يصل الى مضايق جبال طوروس الا في أوائل شهر يوليه سنة 1832، ولم يشأ قائده ان يتقدم بمجموع جيشه لملاقاة الجيش المصري، بل ظل على مقربة من أنطاية وأنفذ محمد باشا والي حلب وتحت امرته مقدمة الجيش وامره بالتحصن في حمص.
كان هذا التدبير خطأ حربيا كبيرا، لان انفصال المقدمة عن باقي قوات الجيش وتورطها في مقاتلة الجيش المصري يعرضها للهلاك المحتوم، فلما علم ابراهيم باشا بهذا الخطأ عزم على مواجهة مقدمة الجيش التركي وسحقها. ثم مهاجمة باقي الجيش بعد ذلك، فتقدم من دمشق زاحفا على حمص، واستعدى من بعلبك وطرابلس بقية جنده الذين كانوا بقيادة عباس حلمي باشا وحسن بك المانسترلي فصارت قوة الجيش عندما بلغ حمص نحو ثلاثين الف مقاتل، وصار أمام عسكر محمد باشا والي حلب، وهناك وقعت الواقعة المشهورة بمعركة حمص (8 يوليه 1832).
تقع مدينة حمص على الشاطئ الأيمن من نهر العاصي، وموقعها غاية في الأهمية، لأنها ملتقى عدة طرق، فهي على طريق بعلبك ودمشق جنوبا، وطريق أنطاكية وحلب شمالا.
وقد عسكر محمد باشا قائد الجيش التركي بجنوده على نهر العاصي، جنوبي حمص وتحت اسوارها، ورتب جيشه على صفوف ثلاثة، فوقف المشاة في الصف الاول، تمتد مسيرتهم على مقربة من ضيعة متهدمة على مسافة نصف فرسخ، والصف الثاني من خلفهم، ويتالف من ألايين من المشاة، وعن يمينهم وشمالهم ألايان من الفرسان، ويليهم الصف الثالث، ومعظمه من الجنود غير النظامية (الباشبوزق)، وتحمي المدفعية جناحه الأيمن، أما الصف الأول والثاني فلم يكن يسندهما سوى عدد ضئيل من المدافع، وهذا من سوء التدبير.
أما الجيش المصري فقد رابط في مواجهة الجيش التركي على ثلاثة صفوف، فوقف في الصف الاول فريق من المشاة يبلغ عددهم ثلاثة ألايات، وعن يمينهم وشمالهم ألايان من الفرسان، وفي الصف الثاني وقف جنود الحرس والمشاة، يشد أزرهم من الجانبين ألايان آخران من الفرسان ورابط الاحتياطي من الفرسان والمشاة في الصف الثالث.
ونصب ابراهيم باشا مدافعه على ترتيب بديع، فجعل امام الصف الاول ثلاث بطاريات ، واحدة في القلب، وأخرى في اليمين، والثالث على اليسار، ووضع بين الصف الثاني والصف الثالث ثلاث بطاريات أخرىآ، وفيها المدافع الثقيلة، وبينها وبين الاحتياطي مهمات الجيش وامتعته، وعلى جانبي الصف الثالث فرسان البدو من العرب الهنادي وغيرهم.
يدل هذا الترتيب وحده على دقة في التدبير وكفاية في القيادة، ولو تأملت في خريطة الواقعة (ص 233) لتبينت بداءة ذي بدء مبلغ الفرق بين قيادة الجيش المصري وقيادة الجيش التركي.
ولقد كان ابراهيم باشا اسرع من خصمه الى رسم خطط القتال، فبينما كان محمد باشا قائد الجيش العثماني مترددا في اي طريق يأخذه ، استقر رأي ابراهيم باشا بعد ان استشار خاصة اركان حربه على ان يكون البادئ بالهجوم.
فأمر كتائب الفرسان التي ترابط على ميمنة الصفوف الثلاثة بالزحف شرقا لتقوم بحركة التفاف حول ميسرة الترك، وتولى بنفسه قيادة هذه الحركة، لان على نجاحها يدور مصير المعركة.
فتحرك الفرسان وفقا لهذه الخطة، واجتازوا الضيعة المتهدمة المتقدم ذكرها بنحو ألفين الى ثلاثة الاف خطوة، وتقدموا لمهاجمة فرسان الترك من الجنود غير النظاميين الذين كانوا على مقربة من الضيعة، وكان الهجوم شديدا محكم الوضع، فتراجع الترك امام قوة الهجمة وشدة الضرب، وتفقروا بددا، واحتل المصريون الارض الواقعة بين الضيعة وحدائق حمص، ثم تقدم الفرسان الترك النظاميون الذين كانوا يرابطون في مسيرة الصف الثالث لصد هجمة المصريين، فامد ابراهيم باشا فرسانه بقوة من جنود الحرس والمشاة والمدافع، فأطلق المصريون مدافعهم وبنادقهم على فرسان الترك فاوقعوا بهم وفرقوا جمعهم، وتراجع هؤلاء الى حدائق حمص، وهجم مشاة المصريون من القلب هجمة صادقة فتقلقل الترك عن مراكزهم وتقهقروا الى الوراء وبذلك انهزم الجناح الايسر من الجيش التركي باكمله وتخلى عن مواقعه.
وقامت ميسرة الجيش المصري بحركة بديعة، ذلك ان فرقة منها زحفت غربا واجتازت الفتاة التي تتفرع عن نهر العاصي، تتبعها المدافع، واحتلت شاطئ القناة الايسر، وبذلك سدت الطريق امام ميمنة الترك، وصار من المتعذر عليهم ان يهموا بالهجوم من هذه الناحية.
تحرك مركز الجيش التركي امام هجمات المصريين، وزاد مركزه حرجا ان المدافع المصرية كانت تطلق قنابلها بمهارة واحكام، فتصيب الهدف وتحصد صفوف الترك حصد النبات، في حين ان المدافع التركية كانت منصوبة على غير هدى، وفي مواضع لا تصيب منها الهدف، فضلا عن قلة الخبرة والدرية في رماتها، وقد بقى الكثير منها منصوبا في مؤخرة الصف الثالث فلم يعمل عملا في صد هجمات المصريين.
ولما رأى محمد باشا قائد الجيش التركي حرج مركزه أمر صفوفه بالهجوم، ولكن المشاة المصريين من جنود الصف الاول قابلوهم برصاص بنادقهم ففتكت بهم النيران فتكا ذريعا، وارتدوا على اعقابهم، فوقع الذعر في صفوف الترك وولوا الادبار مدحورين.
ولقد كان مظنونا ان يعود الترك للقتال بعد ان يلموا شملهم، اذ كانت قلعة حمص تحمي ظهورهم، ومرت لحظة توقع المصريون ان يعاود الترك الكرة ويستأنفوا القتال، وزاد هذا الظن رجحانا ان مدافع القلعة كانت تطلق قنابلها، ولكن هذا الظن ما لبث ان تبدد، ولم يقوا الترك بل لم يفكروا في معاودة القتال، وتقدم ابراهيم باشا بجيشه الظافر، فاحتل المواقع التي كان الترك يرابطون بها، وصف جيشه على شكل مربع، ووضع المدافع على زواياه الاربع، فازداد مركزه قوة ومنعة، فتابع الترك تقهقرهم منهزمين، وبذلك انتهت واقعة حمص بانتصار الجيش المصري بعد ان دام القتال نحو اربع ساعات، اذ بدأت وقت العصر وانتهت عندما ارخى الليل سدوله، وبادر ابراهيم باشا فارسل الى ابيه ينبئه بهذا النصر المبين.
بلغت خسائر الجيش العثماني في واقعة حمص 2000 من القتلى و2500 من الاسرى، واستولى الجيش المصري على عشرين من مدافعه وعلى ذخائره وامتعته، واما خسائر المصريين فلم تزد عن 102 من القتلى و162 من الجرحى، ودخل المصريون في اليوم التالي مدينة حمص.
وتعد هذه الواقعة من اهم المعارك التي خاضها الجيش المصري، فقد كانت اول معركة كبيرة اقتتل فيها الجيشان المصري والتركي وجها لوجه،، وكلاهما يتبع بقدر استطاعته النظام الحربي الحديث، وكانت قوات الجيشين متعادلة، فكلاهما مؤلف من نحو ثلاثين ألف مقالت، ولكن الجيش المصري امتاز ببراعة القيادة وحسن النظام وبسالة جنوده والتفوق في المران العسكري ، فلا غرو أن كسب المعركة.
وكان لترتيب الخطط الحربية فضل كبير في انتصاره، وهنا تبدو كفاية ابراهيم باشا في القيادة ومهارته في الفنون الحربية.
وقد دلت معركة حمص على تفوق الجيش المصري على الجيش التركي في ميادين القتال، فكان لهذه الدلالة تأثير كبير في الاذهان، لان احدا لم يكن يتصور ان جيش السلطان ينهزم امام الجيش المصري الذي كان معدودا الى ذلك الحين جزءا من الجيش الشاهاني، وتلك اول مرة ظهر فيها الجيش المصري على الجيش التركي في معركة كبيرة، فمحت هذه المعركة ذكرى هزيمة الجيش المصري في معركة الريدانية امام جيوش السلطان سليم في بدء الفتح العثماني لمصر، اي منذ نيف وثلاثة قرون، وغسلت الذلة التي لحقتها في تلك الهزيمة، واذا كانت معركة الريدانية قد قضت على استقلال مصر وجعلتها ولاية تركية فلا ريب ان معركة حمص والوقائع التي تلتها ارجعت لمصر استقلالها وقضت على الحكم العثماني فيها، فلم تقم له بعد ذلك قائمة.
{{{خريطة}}} ص 235
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
موقع الجيش المصري
1و2و3 الصف الاول من المشاة مؤلفا من الألاي الثاني عشر (نمرة 1) والآلاي الثالث عشر (نمرة 2)، والألاي الثامن عشر (نمرة 3). 4و5و6 الصف الثاني من المشاة مؤلفا من الاي الحرس (نمرة 4)، والألاي الخامس من المشاة (نمرة 5) والالاي الحادي عشر (نمرة 6). 7و8 الصف الثالث (الاحتياطي) مؤلفا من الالاي الثامن من المشاة. 9 الاي من الفرسان عن يمين الصف الاول. 10 الاي من الفرسان عن يمين الصف الثاني. 11 الاي من الفرسان عن يسار الصف الاول. 12 ألاي من الفرسان عن يسار الصف الثاني. 13و14 الفرسان على جانبي الصف الثالث. 15 و16 كتيبتان من الرماة على جانبي الصف الثالث. 17و18و19و20و21و22 المدافع موزعة امام الصف الاول وبين الثاني والثالث. 23 مهما الجيش وامتعته.
موقع الجيش التركي
24 و25 الصف الاول من المشاة. 26 و27 الصف الثاني من المشاة. 28و29و30 فرسان الترك النظاميون. ، ، المدافع موزعة هنا وهناك. 31و31و31 الفرسان غير النظاميين (الباشبوزق) ومنهم يتألف معظم الصف الثالث.
حركات الجيشين
32 الضيعة المتهدمة التي اتجهت في طريقها ميمنة الجيش المصري. 33 الموقع الذي اتجه اليه الفرسان المصريون للالتفاف بميسرة الترك ومنه تقدموا وهاجموا الفرسان الباشبوزق (نمرة 31) قريبا من الضيعة. 34 الموقع الذي وصلوا اليه بعد الهجوم المتقدم. 35 الموقع الذي تقدمت اليه طوابير الحرس (نمرة 3). 20 وصول البطارية 20 الى يسار الضيعة واحتلال الرماة المصريين 15 و16 تلك الضيعة. 36 الموقع الذي اتجه اليه الالاي نمرة 1 لشد ازر جنود الحرس. 18 الموقع الذي اتجهت اليه البطارية 18 لمعاونة الالاي نمرة 1 وليشد ازر الالاي نمرة 2 في هجومه. 37 الموقع الذي اتجه اليه الالاي نمرة 6 لسد الطريق امام ميمنة الترك. 38 الموقع الذي اتجه اليه الالاي نمرة 12 ونمرة 14 (من الفرسان) لشد ازر الحركة المتقدمة. 22 انتقال البطارية نمرة 2 الى موقعها الجديد للغرض نفسه. 30 الموقع الذي تقدم اليه الفرسان الترك نمرة 30 بعد هزيمة الباشبوزق لصد هجمة الفرسان المصريين. 40 الموقع الذي وصل اليه جنود الحرس المصريين وعن يمينهم البطارية 20 وضربهم فرسان الترك يعاونهم الفرسان من الموقع 34. 41و41َو41ََِ تقهقر ميسرة الترك بعد هزيمتهم. 42 و42 و42ً تقهقر ميمنة الترك. 43 و43 و43َو43ً المربع الذي احتله الجيش المصري بعد هزيمة الترك.
الموقف الحربي بعد واقعة حمص
ارتد الجيش العثماني بعد هزيمته في واقعة حمص قاصدا حلب.
أما جيش حسين باشا فكان قد بلغ أنطاكية بينما كان جيش محمد باشا والي حلب والجيش المصري على وشط اللقاء في معركة حمص، وهكذا يتبين لك ان انفصال الجيشين العثمانيين بعضهما عن بعض مكن الجيش المصري من الانقضاض على كليهما واحدا بعد واحد، ولو كانت القيادة التركية على شئ من الكفاية لما تقدم جيش محمد باشا وحده، ولا ننتظر قدوم جيش حسين باشا قبل مواجهة الجيش المصري، ولكن عجز القيادة التركية وارتباك حكومة الاستانة كانا من الاسباب التي افضت الى هزيمة الجيش التركي.
بارح جيش حسين باشا انطاكية قاصدا الى حمص، فالتقى في طريقه بفلول الجنود المهزمة من جيش محمد باشا، وعرف منهم نبأ هزيمة حمص، فارتد الجميع الى حلب ليتخذوها قاعدة حربية قتال الجيش المصري، وطلب حسين باشا من اعيانها ان يمدوه بالمؤونة ليتخذوها قاعدة حربية قتال الجيش المصري، وطلب حسين باشا من اعيانا ان يمدوه بالمؤونة والرجال، ولكن اهالي حلب كانوا كارهين للحكم التركي واشفقوا على مدينتهم ان يحل بها الخراب اذا استهدفت للحرب، فأبوا على الجيش التركي ان يدخل احد من جنوده الى مدينتهم، ولم يسمحوا الا للجنود الجرحى والمرضى بالدخول، واغلقوا ابواب المدينة في وجه الجيش التركي.
وفي خلال ذلك كان ابراهيم باشا يتقدم بالجيش المصري نحو حلب، ولم يجد حسين باشا مكانا حصينا ياوى اليه، فانسحب شمالا الى مضيق بيلان جنوبي الاسكندرونة، وهو احد مفاتيح سورية من الجهة الشمالية وحصن فيه فيه مواقعه تحصينا منيعا وساعدته طبيعة تلك المواقع على الامتناع بها.
المصادر
- ^ الرافعي, عبد الرحمن (2009). عصر محمد علي. القاهرة، مصر: دار المعارف.
{{cite book}}
: Cite has empty unknown parameter:|coauthors=
(help)