الصحافة في عصر محمد علي
إن الكلام عن الطباعة يتصل بالنهضة العلمية، فهي من أهم أسباب هذه النهضة إذ هي الوسيلة العملية لنشر العلوم والمعارف، ولم يفت محمد علي باشا توجيه عنايته لها، فقد أرسل إلى روما وميلانو نقولا مسابكي افندي سنة 1816 للتخصص في فن الطباعة، وقد اعتزم من ذلك الحين انشاء مطبعة بولاق تلك المؤسسة الجليلة التي ما زالت قائمة إلى اليوم تشهد بما أداه محمد علي للنهضة العلمية من جليل الخدمات.
أسست مطبعة بولاق في نوفمبر سنة 1820 ، وجعل نقولا مسابكي افندي مديراً لها وأمدها محمد علي باشا بكل ما يلزمها من الحروف والمكابس والآلات حتى استوفت حظاً كبيراً من الإتقان، وأعدها لطبع لوائح الحكومة ومنشوراتها ولطبع الكتب العلمية في الطب والرياضيات والآداب والتاريخ والعلوم الفقهية وغيرها.
ومما يدل على شديد عنايته بها أنه اختار للقيام بتصحيح مطبوعاتها طائفة من علماء الأزهر، والتصحيح فن دقيق ينبني عليه اخراج الكتب والمؤلفات صحيحة خالية من الاغلاط المطبعية التي تشوهها، ولعلك تلاحظ في الكتب التي كانت تطبع في ذلك العصر خلوها من الأغلاط، وهذا راجع إلى حسن اختيار المصححين في مطبعة بولاق.
ففي هذه المطبعة ظهرت باكورة الكتب المترجمة والمؤلفة في بدء النهضة العلمية الحديثة، فلا غرو ان كانت من دعائم هذه النهضة، وقد عني خريجو المدارس والبعثات بنقل العلوم التي نقلوها الى اللغة العربية، ثم بالتاليف فيها، ومن هنا نشات نهضة الترجمة والتاليف التي ازدان بها عصر محمد علي، واخذت العلوم والمعارف تنتشر تدريجا بين طبقات الشعب، وكان لحسن تنشيط الحكومة لهذه النهضة اثر فعال في اظهارها، فان محمد علي كان يتحث العلماء والمؤلفين على الترجمة والتايف ويكافئهم مكافات سخية، ويستثير في نفوسهم روح الهمة والعمل ويامر بطبع مؤلفاتهم على نفقة الحكومة وتوزيعها في المدارس والدواوين.
ومما يروى عنه في هذا الصدد أنه لما عاد أعضاء البعثة الاولى الى مصر استقبلهم بديوانه بالقلعة وسلم كلا منهم كتابا بالفرنسية في المادة التي درسها باوروبا وطلب إليهم أن يترجموا تلك الكتب الى العربية، وأمر بإبقائهم في القلعة ولا يؤذن لهم بمغادرتها حتى يتموا ترجمة ما عهد به إليهم، فترجموها فعلا وأمر بطبعها في مطبعة بولاق وتوزيعها على المدارس التي وضعت لها تلك الكتب، ونظرا لان المترجمين في بدء النهضة كانوا في حاجة إلى من يراجع كتبهم قبل طبعها لضبط عباراتها، فقد اختار محمد علي طائفة من المحريين من علماء الأزهر مهمتهم مراجعة عبارات الكتب قبل طبعها وضبط الفاظها ومصطلحتها، وقد قام بهذا العمل وقتا ما أساتذة مدرسة الألسن وتلاميذها، ومن المحررين الذين مهروا في عملهم الشيخ محمد عمر التونسي صاحب "الشذور الذهبية في الالفاظ الطبية"، وهو معجم للمصطلحات الطبية، والشيخ محمد عمر الهراوي، والشيخ مصطفى حسن كساب وغيرهم.
وقد ذكرنا في تراجم اعضاء البعثات نموذجا من الكتب المعربة والمؤلفة التي طبع معظمها في مطبعة بولاق.
وعدا هذه المطبعة كان يوجد مطابع أخرى صغيرة، منها مطبعة بمدرسة المدفعية بطرة، وأخرى في أبي زعبل، وثالثة في مدرسة الفرسان بالجيزة، وكانت هذه المطابع تخرج لوائح ومطبوعات هذه المدارس وبعض مؤلفات تلاميذها.
وفي مطبعة بولاق كانت تطبع الوقائع المصرية وهي الجريدة الرسمية للحكومة، اسست سنة 1828 وصدر أول عدد منها في 25 جمادى الاولى سنة 1242 (3 ديسمبر سنة 1828) وكانت تصدر بالعربية والتركية ثم اقتصرت على اللغة العربية، وتنشر أخبار الحكومة ودواوينها ومصالحها وبعض الأنباء الخارجية، وهي أول جريدة عربية أسست في مصر، ولم يسبقها إلى الظهور جريدة أخرى في تاريخ مصر الحديث، إذ أن الجرائد التي ظهرت على عهد الحملة الفرنسية كانت تنشر باللغة الفرنسية، أما سلسلة التاريخ التي كانت يحررها السيد إسماعيل الخشاب فلم تكن جريدة وإن كان بعض المؤلفين يسميها خطا "جريدة الحوادث اليومية"، بل كانت سجلاً لمحاضر جلسات الديوان والحوادث الهامة، وكذلك صحيفة التنبيه التي اعتزم الجنرال منو اصدارها بالعربية لم تصدر فعلاً.
وقد ظلت الوقائع المصرية الجريدة الرسمية للحكومة المصرية حتى اليوم، فهي أقدم الصحف العربية وأطولها عمرا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .