فرمان 1892
فرمان 1892، هو فرمان أصدره السلطان العثماني عبد الحميد الثاني لإعلان عباس حلمي الثاني خديوي على مصر.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أزمة فرمان 1892
كان تعيين والي مصر من الحقوق التي آلت للدولة العثمانية منذ عصر محمد علي، وذلك عندما اشتد الصراع بينه وبين الولة العثمانية، فتدخلت الدولة الاوروبية وأملت على الدولة العثمانية تسوية لندن عام 1840. كما أصدرت فرمانات أخرىا مكملة لهذه التسوية في أول يونيو 1841. وقد نظمت التسوية العلاقة بين السلطان وولاة مصر حيث تقرر فيها لأول مرة منح محمد علي وأسرته حكم مصر بالوراثة على أن يختار الباب العالي بنفسه من يتقلد منصب الولاية من أبناء محمد علي. هذا، وإذا انقرضت ذرية محمد علي يحق للباب العالي اختيار شخص لولاية مصر.
وقد تحقق للدولة العثمانية من خلال هذه التسوية ممارسة سيادتها على مصر. فقد أوجدت هذه الاتفاقية حلاً وسطاً التقت عنده أهداف الجميع، فحاكم مصر من أسرة محمد علي من أتباع السلطان ورعاياه. وقد كان عليه أن يتوجه في بداية حكمه إلى الأستانة لاستلام خلعة توليه بنفسه، وأن يسك النقود ويجبي الضرائب باسم السلطان، وجيشه لا يتجزأ عن جيوش الدولة العثمانية، ولا تتعدى قواته 18 ألف رجل في أوقات السلم وولايته تطبق القوانين والمعاهدات العثمانية، وتقدم خراجاً سنوياً للسلطان.[1]
وقد بقيت في أيدي الولاة السلطة المطلقة على المصريين في المسائل الادارية والضريبية والسلطة التشريعية. لذلك لم تعترض تركيا على حق الوراثة طالما ان مصر لم تفلت من قبضتها، كما كان من حقها أن تجعل مصر من جديد مجرد ولاية عثمانية. كذلك استطاعت الدول الاوروبية عن طريق هذه التسوية أن تفرض نفسها حكماً بين الطرفين متقاضية من تدخلها نفوذاً عريضاً يستمد حيويته طوراً من التسوية، وطوراً من الامتيازات الأجنبية وضعف تركيا. كما تسعى جاهدة إلى إبقاء الوضع على ما هو عليه حتى تستطيع بناء وتدعيم مصالحها الاقتصادية والثقافية في البلاد وولاة مصر يغريهم حق الوراثة ويحاولون التخلص النهائي من قبضة تركيا.
وفي النهاية ضمنت الدول الاوروبية عن طريق هذه التسوية سلامة الدولة العثمانية وتماسك أراضيها.
وبمقتضى هذه التسوية استطاع أبناء محمد علي أمثال ابراهيم باشا في أول الأمر، ثم عباس الأول وسعيد وإسماعيل، أن يصيروا حكام مصر، ثم بذل كل "نائب سلطان" غاية جهده للحصول على حق الوراثة المباشر لذريتهم حتى يستطيعوا الاستقلال أكثر عن الدولة العثمانية.
وقد استطاع إسماعيل الذي كان أكثر من سلفيه أملاً في التغيير وتعديل نظام الوراثة والاستقلال الداخلي، ومن ثم أخذ يمهد لتحقيق هذا المشروع منذ بداية عهده في يونيو 1862، عن طريق بذل المال والهدايا، واستطاع خلال الأعوام 1866، 1867، 1873، الحصول على تعديل نظام وراثة العرش بحيث يكون من أكبر أبناء الوالي فأصبح من الأب إلى الإبن الأكبر.
كما تحدد بنود تشكيل مجلس الوصاية في حالة خلو العرش أو كون الوارث الشرعي له قاصراً، ثم استطاع أن يحصل بعد محادثات طويلة على لقب خديوي، وقد منحه الباب العالي هذا اللقب لا لنفسه فقط بل لمن يلونه من ورثته المباشرين.
وبالرغم من جهود ولاة مصر لتعديل نظام الوراثة وتحقيق الاستقلال الداخلي لهم، إلا أن الدولة العثمانية حاولت أثناء خلع الخديوي إسماعيل وتولية توفيق عرش مصر القضاء على الحقوق التاي حصلت عليها مصر في وراثة العرش، لذلك حينما أصدر الباب العالي الارادة التي أعلنت خلع إسماعيل أردفها بأخرى تقضي بإلغاء فرمان عام 1883، الذي نظم ورثة الاعرش، والذي قيل أن لسلطان قد منحه بصفته الشخصية، وأن منح لفرمان وإلغاؤه من الادارة الداخلية التي لا تمس حقوق الدول الكبرى. بل لا يعدو أن يكون قراراً سلطانياً من الممكن تعديله أو إلغاؤه بحسب ما يراه السلطان دون أن يتضمن هذا خرقاً للالتزامات التي تهد بها بالنسبة لمصر. وأنه لا يجب على أوروبا ان تعترض على هذا الإلغاء الذي كان من شأنه أن يعيد مصر إلى ما كانت عليه طبقاً لفرمان عام 1841.
ولهذا اعترضت إنجلترا وفرنسا على سياسة الباب العالي لأن إلغاء الفرمان يعني المساس بمصالحها في مصر والمساس بهيبة الحاكم الجديد، توفيق، الذي وقع اختيارها عليه، ثم استطاعت الدولتان ارغام الباب العالي على إصدار فرمان يشبه فرمان عام 1873، في كل محتوياته، وأرسلته الدولة العثمانية إلى مصر في 17 أغسطس، كما بلغ لممثلي ألمانيا والنمسا وروسيا وإيطاليا وانتهت المشكلة بذلك. وكان هذا دلالة واضحة على محاولة إنجلترا وفرنسا إبعاد النفوذ التركي عن الهيمنة على مصر.
وقد حاولت الدولة العثمانية منذ تعيين الخديوي عباس حلمي الثاني مرة أخرى تأكيد سيادتها على مصر حينما أثارت أزمة حول تعيينه.
ظروف تولي الخديوي عباس العرش
عندما اشتدت وطأة المرض على الخديوي توفيق حتى السير إڤلن بارنگ (اللورد كرومر فيما بعد) تدخل السلطان في تعيين خديوي مصر المقبل، لذلك عقد كرومر اجتماعاً مع مصطفى فهمي باشا رئيس الوزراء وتيجران باشا ناظر الخارجية والسير إلوين بالمر المستشار المالي، وتباحثوا في الأمر فأجمعوا على وجوب اعلان الأمة المصرية في الحال بارتقاء عباس حلمي الثاني الذي يعتبر بمقتضى فرمان السلطان الصادر عام 1873 ولي العهد الشرعي.
وعندما توفى الخديوي توفيق في 7 يناير 1892 كان عباس لا يزال في فيينا يتلقى العلم فلما بلغه الخبر قرر العودة إلى مصر.
ثم ظهرت مشكلة كان من الضروري ألا يقل سن الأمير عن ثمانية عشرة عاماً، وحيث أن عباس وُلد في 14 يوليو عام 1874، فإنه لم يكن ليبلغ سن الرشد إلا في 14 يوليو 1892، ون ثم كانت وفاة والده في 7 يناير عام 1892 يترتب عليها تكوين مجلس وصاية ما دام الأمير لم يبلغ سن الرشد، وعندئذ إقترح أحمد العلماء أن يحسب سن الأمير وفقاً للتقويم الهجري وبهذا وصل سن الخديوي بالتقويم الهجري ثمانية عشر عاماً في يوم 4 ديسمبر 1891 أي قبل وفاة والده بأربعة عشرة يوماً. وقد تمسك كرومر بذلك رغبة منه في إبعاد تشكيل مجلس الوصاية وخشية تدخل السلطان، فأكدت بريطانيا بذلك أن لها السلطة المطلقة في شئون مصر.
كما اتخذت بريطانيا من حداثة سن الخديوي فرصة لبقاء الاحتلال، وقد اتضح ذلك من خلال لهجة صحفها، فذكرت صحيفة التايمز أن الجلاء عن مصر أصبح من المستحيل بعد وفاة الخديوي توفيق، ثم أكدت على أن ارتقاء الخديوي عباس عرش مصر قد يؤخر الجلاء.
قدوم عباس إلى مصر وتأخير فرمان التولية
عقب وفاة الخديوي توفيق تقرر عودة الخديوي عباس من فيينا، لذلك أرسل برقية في 8 يناير 1892 إلى مصطفى فهمي باشا رئيس النظار يوضح فيها نزوله إلى مصر وفي نفس الوقت طالب باستمرار أعمال الحكومة على أحسن حال. ثم وردت برقية من الصدر الأعظم بالأستانة إلى رئيس مجلس النظار بمصر أقر فيها تعيين عباس ، جاء فيها:
ومنذ البداية حاول السلطان العثماني ممارسة سيادته على مصر، ومن ثم تدخل السلطان العثماني صاحب السيادة الشرعية على مصر تسانده كل من فرنسا وروسيا في سباق مع إنجلترا المؤيدة بدول التحالف الثلاثي للسيطرة على الخديوي وقد بدأ السلطان هذا التدخل حينما طلب من عباس زيارته وهو لا يزال في أوروبا قبل أن يصل إلى مصر.
وقد حاول الخديوي عباس تجنب الضغط من السلطان، لذلك قرر السفر إلى مصر مباشرة فوصلها في 16 يناير 1892. ولتوثيق عرى الصداقة بينه وبين السلطان سارع الخديوي بمجرد وصوله إلى مصر إلى إرسال برقية شكر إلى السلطان العثماني متضمنة الدعاء بحفظ الخليفة الأعظم.
وقد أعلنت الصحف المصرية المؤيدة للدولة العثمانية تأييدها لتولية الخديوي عباس عرش مصر، وكان على رأس هذه الصحف صحيفة المؤيد التي أعربت عن تأييدها لهذه التولية، وطالبت المصريين بالوقوف جميعاً يداً احدة بجانب الخديوي مع الاجماع على أن تكون السيادة العامة للسلطان العثماني، وذلك لأن الدولة العثمانية هي الملجأ الوحيد لوحدتهم.
أما صحيفة الفلاح التي صدرت في مصر بمساعدة الدولة العثمانية أيدت اسناد السلطان العثماني عرش مصر إلى الخديوي عباس، كما أكدت أن هذا العمل يعد دلالة واضحة على حكمة السلطان ومحافظته على حقوق البلاد المصرية وحقوق الخديوي وطالبت المصريين أن يستبشروا بهذه التولية.
ثم أخذ الخديوي عباس حين وصوله مصر الاضطلاع بمهام منصبه انتظاراً لوصول الفرمان الشاهاني بتولية حكم مصر، إذ كان لابد من أن يرسل السلطان العثماني فرماناً شاهانياً مراعاة للشكل في تعيين الخديوي عباس وتأكيداً لتوليه العرش.
وبالرغم من ذلك، لم تسارع الدولة العثمانية بارسال الفرمان، مما أدى إلى شك سلطات الاحتلال في سياسة الدولة العثمانية تجاه مصر. فذكر صحيفة التايمز تعليقاً على تأخر ارسال الفرمان أن تأخر ارسال الفرمان أدى إلى زيادة شكوك بريطانيا والدول الأوروبية تجاه سياسة الدولة العثمانية. كذلك طالبت الصحف المصرية بسرعة ارسال الفرمان، فذكرت صحيفة المؤيد أن السلطان العثماني عندما سارع في تولية الخديوي عباس عرش مصر كان ذلك من أجل محافظته على حقوق مصر، ومن ثم يجب الاسراع في ارسال الفرمان، كما أعلنت عن رغبتها في عدم تدخل أي دولة بشأن تعيين الخديوي.
وقد أيدت صحيفة الفلاح صحيفة المؤيد في المطالبة بشأن ارسال الفرمان لما في ذلك من دعم لسيادة الدولة العثمانية على مصر، كما ناشدت السلطان بعدم تدخل الدول الأوروبية بشأن مسألة تعيين الخديوي.
أيضاً ناشدت بعض الدول الأوروبية المؤيدة لسيادة الدولة العثمانية السلطان سرعة ارسال الفرمان، فألحت فرنسا على السلطان أن يسوي تعيين الخديوي دون تأخير، وذلك في ضوء التغيير الذي أوردته الدولة العثمانية على الفرمان عند نزوله مصر.
كما طلب المسيو رادويش سفير ألمانيا من السلطان العثماني سرعة تعيين خديوي مصر، لما في ذلك من تأكيد نفوذ السلطان في مصر.
وكان هذا التأييد من جانب الدول الأوروبية للدولة العثمانية قد جاء نظراً لتدعيم مصالحها في مصر، ومن ثم حاولت مناوأة النفوذ الإنجليزي في مصر بتأكيد الوجود العثماني فيها، غير أن الدولة العثمانية قد عمدت على تأخير نزول الفرمان لأنها حاولت أن تلحق بفرمان التولية اقتطاع جزء أصيل من مصر (شبه جزيرة سيناء)، نظراً لأهمية المنطقة بالنسبة للدولة العثمانية، فقد كانت شبه جزيرة سيناء كلها بموجب فرمان عام 1841 الصادر لمحمد علي بعد معاهدة لندن من أملاك مصر الممتازة، ثم أصبحت طريقاً مستمراً للحجاج المسلمين الذين يقصدون مكة.
ونظراً لأهمية هذه المنطقة أعطى السلطان العثماني لمحمد علي حكم بلاد سيناء وبعض قلاع الحجاز، ضمن حكم أرض سيناء لخلفائه من بعده ابراهيم وعباس الأول وسعيد وإسماعيل، الذي وضع حاميات من الجند في منطقة الوجه والمويلح وضبا والعقبة من أجل المحافظة على طريق الحج بين مصر والحجاز.
وظهرت مخاوف الدولة العثمانية تجاه حراسة هذا الطريق أثناء الاحتلال البريطاني نظراً لخروج الرقابة الفعلية على مصر من يد تركيا وخوف سلاطين الدولة العثمانية من مطامع إنجلترا على أملاكهم في الشام والحجاز، لذلك أرادت تأكيد سيادتها على مصر عن طريق اقتطاع شبه جزيرة سيناء وإلحاقها بأراضي الدولة العثمانية.
وقد ازداد اهتمام الدولة العثمانية بشبه جزيرة سيناء في عام 1890 عندما زار مصر رجل إسرائيلي يدى پول فريدمان الذي اتصل بسلطان الاحتلال البريطاني في البلاد، وأبلغها نيته على الهجرة على سواحل الخليج، ولم تمانع تلك السلطات، وفي أواخر العام التالي، 1891، عاد فريدمان مع عشرين من اليهود الألمان والروس ونزلواً جميعاً على سواحل الخليج.
ونتج عن ذلك أن نبهت الصحف المصرية إلى الخطر القادم من أوروبا، كما أن فريدمان وجماعته لم يحسنوا معاملة الأهالي هناك واشتروا أرضاً في ناحية المويلح، مع أن قوانين الدولة العثمانية كانت لا تبيح بيع الأرض للأجانب في شبه جزيرة سيناء.
وأثار هذا الأمر الحكومة العثمنية التي لم تكتفي بطرد فريدمان وجماعته من المنطقة، وإنما انتهز السلطان عبد الحميد الثاني فرصة وفاة الخديوي توفيق في أوائل عام 1892 لاقتطاع شبه جزيرة سيناء وضمها إلى الأراضي العثمانية، ودارت مفاوضات عديدة في هذا الشأن بين مصر وتركيا بواسطة أحمد مختار پاشا المندوب العثماني في مصر، ومن المقربين للخديوي عباس، ما استجاب الخديوي عباس لمطالب الدولة العثمانية. فصدر قرار في 16 فبراير 1892 من مجلس الوزراء المصرية يقضي بالتخلي عن العقبة وما حولها جنوباً من شبه جزيرة سيناء إلى الدولة العثمانية.
وبالرغم من أن هذه المنطقة كانت داخلة في دائرة نفوذ الخديوي وضمن الامتيازات التي لحقت بمصر إلا أنه كان يخشى السيطرة العثمانية على مصر خصوصاً أن للسلطان قوة روحية يعتد بها.
وبالرغم من أن المصريين كانوا حريصين على ما نالوه من استقلال محدود وضد أي عودة إلى الحكم التركي المباشر مع ذلك كانت عواطفهم تجاه السلطان باعتباره خليفة المسلمين ورئيساً لأكبر دولة إسلامية، كما أن وجود مختار باشا في مصر والصحف الداعية للسلطان كانت تعمل على تقوية هذا الشعور فاتجهوا إلى الدولة العثمانية طالبين منها العون ضد الاحتلال البريطاني. كما رأى الخديوي أيضاً أن من الحكمة عدم الصدام مع الباب العالي في بداية حكمه في الوقت الذي اعتزم فيه مواجهة الاحتلال البريطاني بالاستناد إلى تبعية مصر للدولة العثمانية ومساعدة السلطان له.
ثم جاءت الأخبار من الأستانة في 24 فبراير بقدوم أحمد أيوب باشا إلى القاهرة حاملاً فرمان تولية الخديوي عباس، لذلك أعربت الصحف المصرية عن فرحتها بنزول الفرمان فذكرت صحيفة المؤيد أن ارسال تركيا الفرمان الشاهاني، ومسارعتها في تعيين الخديوي عباس على عرش مصر الذي يعتبر الوارث الشرعي لمصر مثالاً حسناً، كما كان يعني مجابهة الذين يرغبون التعدي على حقوق غيرهم السياسية في مصر، كما أشادت بهذا التعيين وعدته اعتراضاً على ما افترته الصحف الإنجليزية في فصل مصر عن السلطة العثمانية إلى الاستقلال والبعث بالامتيازات نحو الخديوي، وبهذه السياسة الحكيمة من جانب الدولة العثمانية فقد أنهت محاولات التدخل من جانب الدول الأوروبية.
نزول الفرمان إلى مصر وتأخير تلاوته
وصل المشير أحمد أيوب باش حامل الفرمان إلى مصر في 14 أبريل 1892 وكان الفرمان الذي يحمله مطابقاً لفرمان 17 أغسطس عام 1879 الصادر لودله الخديوي محمد توفيق فيما عدا نقطة واحدة وهي أن عين أملاك مصر وفقاً للفرمان الصادر إلى محمد علي في يونيو عام 1841، منتزعاً منها جيوب شبه جزيرة سيناء بما في ذلك العقبة والطور التي كانت قد ضمت إلى الادارة المصرية في عهد الخديوي إسماعيل وبهذا تصبح حدود مصر ممتدة من العريش إلى السويس.
وعندما قدم حامل الفرمان إلى مصر عمت الفرحة جميع المصريين، ومن ثم علقة صحيفة المؤيد على نزول الفرمان فذكرت أن نزول الفرمان دلالة واضحة على توفر المحبة والولاء بين السلطان والخديوي بعد زوال العقبات السياسية التي كانت في طريقه، ثم أشارت إلى ما لدى السلطان العثماني من الرغبة في تحسين الصلات الجامعة بينهما وطالبت الأمة المصرية بالاستبشار بقدوم حامل الفرمان إلى مصر.
وقد أدى نزول حامل الفرمان إلى تفجر أزمة تطورت إلى شك أشد وتأخرت بسببها تلاوة الفرمان. ذلك لأن السفير البريطاني في الأستانة، لم يطلع على فحوى الفرمان فلما علم به، أبرق إلى اللورد سولسبري، رئيس الوزراء الإنجليزي بفحواه، ومن ثم أرسل الأخير إلى كرومر المعتمد البريطاني في مصر بالمعارضة في تلاوة الفرمان قبل الاطلاع عليه.
وقد منعت بريطانيا تلاوة الفرمان لأنها اعتبرته اعتداء على تسوية لندن 1840، 1841 التي أقرتها الدول الكبرى.
وقد رفضت إنجلترا أن يكون لتركيا قوات مطلة على قناة السويس رغبة في تأمين مصالحها التي تقضي بحماية الطريق إلى الهند، ومن ثم طالبت إنجلترا تعطيل قراءة الفرمان حتى يصدر الأمر من السلطان بترك شبه جزيرة سيناء إلى مصر. مما أدى إلى ظهور أزمة بين إنجلترا والدولة العثمانية التي تناست الامتيازات والحقوق التي آلت لمصر، في سبيل ممارسة سيادتها على مصر واقتطاع جزء أصيل منها. أما إنجلترا فقد ظهرت من خلال الأزمة بموقف المدافع عن حقوق الخديوي لتأمين مصر وخاصة طريق قناة السويس من أي خطر تركي يهددها.
ومن ثم طالب كرومر من أيوب باش إعطائه الفرمان، فأجابه بأنه لم يكن لديه إلا النسخة الأصلية المختومة وقد أمر بعدم فض أختامها إلا عند تلاوتها رسمياً، فكتب كرومر بذلك إلى دولته فأمرته تلغرافياً بمنع تلاوة الفرمان ولو بالقوة.
وعندما تطورت المشكلة إلى هذا الحد رأى الخديوي ضرورة تأخير قراءة الفرمان حتى تتم المحادثات بين مصر والدولة العثمانية بشأن الخدود منعاً لأحداث أي مشاكل.
ولم يستطع الخديوي الوقوف ضد رغبة بريطانيا في ممارسة سياستها في مصر على الرغم من أنه الممثل الشرعي للسلطان العثماني في مصر.
وقد ساندت صحيفة المقطم الناطقة بلسان حال الاحتلال عدم قراءة الفرمان بهدف المحافظة على الامتيازات الممنوحة إلى مصر وذكرت أن شبه جزسيرة سيناء داخل حدود مصر ومن ثم يجب على كل مصري وعثماني في مصر المحافظة عليها، كما رأت أن هذه المسألة لو عرضت على القضاء لأجاب بالنفي للدولة العثمانية. ومن ثم حذرت المصريين من أعداء مصر الذين يوهمونهم بأن حكومة مصر معتدية على حقوق السلطان، وأن تأخير قراءة الفرمان يعتبر تمرداً على السلطان العثماين، ذلك لأن مصر تابعة للدولة العثمانية. غير أن لها امتيازات مقررة بفرمانات شاهانية تجيز لها حقوقاً لم تكن لسائر الولايات العثمانية الأخرى يجب الحفاظ عليها. كما دافعت عن اللورد كرور الذي ساند الخديوي عباس أثناء الأزمة عندما طلب منه التمسك بحقوق مصر التي نالها من خلال الفرمانات.
كما أيدت صحيفة التايمز شكوكها تجاه الفرمان، فذكرت أنه من الممكن أن يكون مناقضاً للفرمانات السابقة، ومن المحتمل أن تكون مصر من خلاله ولاية غير تابعة للخديوي، كما خشت أن تكون الدولة العثمانية نزعت بعض من اختصاصات وامتيازات كانت ممنوحة لمصر ومن ثم اشتدت في هجومها على الدولة العثمانية.
ولذلك انبرت صحيفة المؤيد للرد على التايمز فأشارت إلى أن مصر خديوية لا ولاية وحاكمها خديوي لا والي، وأن امتيازاتها القديمة التي تمنحها الاستقلال في شئونها محفوظة ولم تعبث بها الدولة العثمانية كما يزعمون، ومن ثم عارضت المؤيد في طلب الدولة العثمانية تعديل الحدود فرأت أن الوطنية تقتضي المحافظة لكل مصري على الامتيازات والحقوق الممنوحة لمصر عن طريق الاستقلال الاداري، وليس من حق الدولة العثمنية الاعتداء على هذه الحقوق لأي سبب من الأسباب.
أما صحيفة الفلاح فقد ساندت الدولة العثمانية، تجاه الأزمة حيث رأت أن تعديل الدولة العثمانية لحدود مصر هو لمنع خطر اعتداء إنجلتراة على طريق الحجاز.
نهاية الأزمة
على أثر اشتداد الأزمة تفاوض الخديوي عباس مع أيوب باشا حامل الفرمان والغازي مختار باشا المندوب العثماني في مصر في الأمر، ثم تحدث الخديوي مرة أخرى مع قنصل فرنسا وروسيا، وأجمعوا على إرسال برقية استرحام للسلطان طالبوا فيها ببقاء شبه جزيرة سيناء تحت ادارة مصر كما كانت من قبل، ومن ثم أرسل قنصلا كل من فرنسا وروسيا إلى سفيرهما في الأستانة للسعي لدى السلطان بحسم هذه المشكلة وتلبية مطالب مصر، كما ساندت صحيفتا المؤيد والمقطم موقف الخديوي في المحافظة على حقوق مصر.
وفي النهاية ونتيجة للضغط من جانب بريطانيا تجاه الأزماة والاصرار بشأن الحفاظ على الحقوق الممنوحة لمصر اضطر السلطان العثماني في النهاية إلى تلبية مطالب مصر في هذا الشأن وتقرر ذلك في البرقية التي أرسلها جواد باشا الصدر الأعظم إلى الخديوي عباس حلمي الثاني في 8 أبريل فجاء فيها:
ومن ثم استطاعت بريطانيا حرمان الدولة العثمانية من فرض سيادتها على مصر.
ولم يبقى سوى تحديد يوم لتلاوة الفرمان، وقد أشيع أن اللورد سولسبري وزير إنجلترا سيدد تلاوته، ذلك لأن إنجلترا أرادت أن تنتهز الفرصة لتظهر للمصريين أن نفوذها في مصر أقوى من نفوذ الدولة العثمانية نفسها.
وقد علقت الصحف المصرية على ذلك بأن تلك الاجراءات قد أخطأت المرمى لأنها زادت من ميل جميع الأهالي إلى الدولة العثمانية، وقد تحقق للجميع أطماع الإنجليز في مصر وعلم العام والخاص أن لاخلاص لمصر من استيلاء الإنجليز عليها إلا بتقوية عرى التبعية للدولة العثمانية، ويجعل مصر حرة مصونة من كافة الدول لاعلاء التأكيد على سيادة الدولة العثمانية.
ثم تقرر نشر الفرمان في يوم 14 أبريل 1892 وتجنباً للمشاكل أرسل بارنج مذكرة في 13 أبريل إلى تيجران باشا وزير الخارجية المصري أبلغه فيها بعدم تغيير الفرمانات المقررة التي تحدد العلاقة بين مصر والدولة العثمانية دون موافقة الحكومة البريطانية مع العلم أن شبه جزيرة سيناء هي الأراضي المحددة من الشرق بخط يمتد جنوب شرقي من شرق العريش إلى رأس خليج العقبة سوف يصبح تحت الادارة المصرية، وأن العقبة الواقعة شرقي من هذا الخط سوف تبقى قسماً من ولاية الحجاز، ونشرت تلك الملاحظة التي وافق عليها اللورد سولسبري وزير الخارجية ومعها مراسلة أخرى خاصة بفرمان التولية ونسخة من برقية الصدر الأعظم في الصحيفة الرسمية (الوقائع المصرية) وقد أرسلت جميعها إلى السفير البريطاني في أسطنبول في 14 أبريل 1892.
ولما كانت بريطانيا حريصة على ألا تظل المسألة المصرية محصورة بين السلطان وتابعه الخديوي، وإنما أرادت أن تدخل الدول الكبرى على أساس أن هذه المسألة خرق لتسوية 1840-1841 التي ضمنتها تلك الدول لهذا أرسلت نسخة من الفرمان والبرقية وخطاب بارنج إلى وزير الخارجية المصرية وإلى مختلف الدول وإلى ممثلي فرنسا وروسيا في القاهرة.
وقد ورد مكيل وقنصل عام فرنسا في القاهرة ريفوسو في 14 أبريل بأن حكومة الجمهورية كلفت سفيرها لدى الباب العالي باعتماد فرمان تولية الخديوي والفرمانات المتعلقة بشبه جزيرة سيناء، ورد القنصل الروسي المسيو كوياندر في نفس اليوم بأن سفير جلالة الامبراطور بالأستانة اعتمد فحوى هذين المحررين باسم الحكومة الامبراطورية.
كما تعاطفت صحف فرنسا مع الدولة العثمانية فعندما انتهت الأزمة ذكرت صحيفة الطان أن الدولة العثمانية اضطرت إلى تعديل الحدود حفاظاً على طريق الحجاز الإنجليزي. كما أن جلالة السلطان عبد الحميد لم يكن في نيته أن يمس حقوق مصر أو أن يتعرض لها بشئ لأن غرضه الوحيد بقاء رابطة التبعية التي تربط مصر بمقر الخلافة العثمانية على حالها وعدم امتداد الحماية الأجنبية على مصر. ولا تجهل مصر أن تبعيتها للدولة العثمانية ضرورية لها من الناحية الدينية بل ون جهة اعتمادها عليها لمعارضة إنجلترا بشأن مطامعها في مصر ورغبتها إطالة أجل الاحتلال.
وقد انتهى الأمر بالحفاظ على الامتيازات التي نالتها مصر عن طريق الفرمانات العثمانية. ومن ثم اشادت جميع الصحف بالدولة العثمانية نتيجة موافقتها على طلب الحكومة المصرية بشأن الحدود فقد أعربت صحيفة المؤيد عن فرحتها بنشر الفرمان وقراءته لما في ذلك من تأييد من الدولة العثمانية لامتيازات مصر.
أما صحيفة الفلاح، فقد أكدت على سيادة الدولة العثمانية على مصر وذكرت أن الدولة العثمانية لم تكن لديها أي أسباب للانتقاص من حقوق مصر التي منحتها لها من قبل.
أما صحيفة المقطم، فقد أبدت فرحتها لانتهاء الأزمة بالحفاظ على الأراضي المصرية، ومن ثم أشادت بموقف السلطان الذي أنهى الأزمة لصالح مصر، كما أشادت بموقف الخديوي عباس.
وفي النهاية استطاع بريطانيا التصدي لرغبة الدولة العثمانية في تأكيد سيادتها على مصر ومناوأة النفوذ البريطاني فيها، ومنذ ذلك الوقت ظلت الدولة العثمانية تنتظر الفرصة لاثارة تعديل الحدود مرة أخرى إلى أن واتتها الفرصة في عام 1906 لإثارة المسألة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .