الفلسفة البريطانية
الفلسفة البريطانية تشير إلى التقليد الفلسفي لشعب المملكة المتحدة ومواطنيها في الخارج.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفلسفة الإنجليزية 1648 - 1715
توماس هوبز 1588 - 1679
المؤثرات التي شكلت شخصيته
ولد هوبز في 5 إبريل 1588، ولما يكتمل المدة المقررة للحمل، وتعزو أمه ولادته المبتسرة قبل الأوان إلى فزعها من مجيء الأسطول الأسباني "الأرمادا"، ومن الخطر الذي يتهدد إنجلترا بغزو ساحق على أيدي الوثنيين السفاحين. أما الفيلسوف فينسب إلى خروجه غير المرتقب قبل الأوان إلى الحياة نزعة الجبن التي تملكته وغلبت عليه، ولكنه كان أجرأ الهراطقة في عصره. وربما ورث الوالد- وكان قسيساً أنجليكانياً في مامز بري في ولتشير- ابنه بعض نزوع إلى المشاكسة، فان هذا الوالد اشتبك يوماً في شجار على باب كنيسته ثم اختفى، تاركاً أبناءه الثلاثة ليتولى تربيتهم أخ له.
وأثرى هذا الخ وأيسر، والتحق توماس بكلية مجدلن في أكسفورد، هياباً جباناً، ولا ريب، مثله في ذلك مثل أي شاب يجرؤ على اقتحام المغارات المخصصة لأصنام العشيرة. ولم يجد في الفلسفة التي تدرس هناك إلا قليلاً مما يروقه، فتسلى بقراءات خارج المنهج المقرر، وتعرف بطريق مباشر على الآداب الإغريقية واللاتينية. ولما تخرج في سن العشرين أسعده الحظ ليكون معلماً خاصاً لوليم كافندش الذي أصبح أرل ديفو نشير الثاني. وقد ثبت أن الحماية التي بسطتها عليه هذه الأسرة كانت ذات قيمة كبيرة له أيام هرطقته. وفي 1610 طاف في صحبة تلميذه بأرجاء القارة. وعند عودته أشتغل لبعض الوقت سكرتير لفرنسيس بيكون، وربما أسهمت هذه الخبرة المثيرة في تكوين فلسفته التجريبية بكل ما في هذه الكلمة من معنى. ويروي أوبري أنه حوالي هذه الفترة "كان مستر بنجامين جونسون شاعر التاج صديقه الحميم الذي يكثر التردد عليه(1)وكان أغزر علماً من هوبز. ولم يكن قد أشتد عوده بعد، وسرعان ما عاد هوبز إلى أسرة كافندش، واحتفظ بصلته بها طيلة ثلاثة أجيال، ومن الجائز أن الفيلسوف اقتبس من هؤلاء الحماة الكرام ذوي المنعة والقوة الآراء المتعلقة بالنظام الملكي والكنيسة التقليدية، وتلك الآراء هي التي غفرت له ميتافيزيقيته المادية وخلصته من الموت حرقاً.
وكان اكتشافه لإقليدس نقطة تحول في حياته العقلية. ذلك أنه وهو في سن الأربعين، وقع بصره في مكتبة خاصة، على كتاب "العناصر" مفتوحاً على المسألة رقم 47 من القسم الأول. وما أن قرأها حتى صاح "يا إلهي، هذا مستحيل" وأشار شرحها إلى أنها برهان على مسألة سابقة، وهذه على أخرى، وهكذا، حتى رجع إلى التعاريف الأولية والبديهيات. وابتهج بهذا البناء المنطقي، وأغرم بعلم الهندسة(2)ولكن أوبري بضيف "أنه كان منصرفاً- إنصرافاً كبيراً إلى الموسيقى ومارس العزف على الكمان الكبير". وفي 1629 نشر ترجمة لتيوكيديدس (المؤرخ اليوناني في القرن الرابع ق.م) وكان غرضه السافر المزعوم من ذلك هو أن يحذر إنجلترا من أخطار الديموقراطية. وفي تلك السنة أستأنف رحلاته، معلماً آنذاك لأبن أول تلاميذه، أرل ديفونشير الثالث. وربما قوت زيارته لجاليليو (1636) من نزوعه إلى تفسير الكون على أسس ميكانيكية.
وعاد إلى إنجلترا في 1637، ولما أشتد الصراع بين البرلمان والملك شارل الأول، كتب رسالة بعنوان "مبادئ القانون الطبيعي والسياسي"، دافع فيها عن السلطة المطلقة للملك، بوصفها أمراً لا غنى عنه للنظام الاجتماعي والوحدة الوطنية. وجرى تداول هذه الرسالة مخطوطة، وربما- كانت تؤدي إلى القبض على المؤلف لولا أن شارل حل البرلمان. وعندما احتدم النزاع فقد رأى هوبز أنه من الحكمة أن يعود أدراجه إلى القارة (1640)، وبقى هناك، ومعظم وقته في باريس، طيلة الأحد عشر عاماً التالية. وفي باريس كسب صداقة مرسن وجاسندي، ولكن جلب على نفسه عداوة ديكارت. فإن مرسن دعاه إلى تدوين بعض التعليقات على "تأملات" ديكارت، فاستجاب هوبز في شيء من الكياسة ولكن في كثير من الحدة، ولم يغتفر له ديكارت هذا قط. وعندما نشبت الحرب الأهلية في إنجلترا (1642) أسس المهاجرون الملكيون لأنفسهم مستعمرة في فرنسا، وربما أخذ هوبز عنهم مزيداً من التعاطف مع الملكية، فإنه لمدة عامين (1646slash1748) اشتغل بتدريس الرياضيات لأمير ويلز المنفي، الملك شارل الثاني فيما بعد. وجاءت حركة الفروند ضد لويس الرابع عشر في فرنسا- وكانت مثل الثورة في إنجلترا، تهدف إلى الحد من سلطة الملك- فأكدت اقتناعه بأن الملكية المطلقة وحدها هي التي يمكن أن تحافظ على الاستقرار والأمن الداخلي.
وفي بطء شديد وصل هوبز إلى صياغة محددة واضحة لفلسفته. ويقول أوبري: "أنه سار طويلاً وأعمل الفكر وتأمل، وكان في رأس عصاه قلم ومحبرة، وكان يحمل في جيبه دائماً كراسة، حتى إذا عرضت له فكرة، فسرعان ما كان يدونها على الفور حتى لا تضيع(3)" وأصدر سلسلة من التأليف الأقل قيمة ، التي ليس لها الآن ذكر، ولكنه- في 1651 جمع كل أفكاره في كتاب يجمع بين طرافة الفكر والأسلوب وعدم المبالاة، هو "لواياثان" (التنين) أو "المادة والشكل"، و "سلطة الدولة دينية ومدنية" (التنين) أو "المادة في تاريخ الفلسفة، وجدير بنا أن نتوقف عنده في شيء من التروي.
المنطق وعلم النفس
يكاد أسلوب هوبز يقارب أسلوب بيكون في الجودة، ولكنه ليس غنياً بالصور الوضاءة مثله، ولكنه قوي متميز فعال صريح مثله تماماً، مع شيء من التهكم اللاذع بين الحين والحين. وليس فيه زخرف ولا تظاهر بالبلاغة والفصاحة، فما هو إلا تعبير واضح عن فكر واضح، مع اقتصاد حكيم في الوسائل اللفظية. يقول هوبز "إن الكلمات بالنسبة للعقلاء ليست سوى أنضاد "فيشات" أي وسائط للعد والحساب، ولكنها ثروة الأغبياء، التي تضفي قيمة وقدراً، استناداً إلى أرسطو شيشرون أو توما الأكويني(4)". وبهذا السلاح الجديد- قضي هوبز على كثير من الكلام الطنان الرنان الأجوف الذي لا يحمل معنى. وعندما وقع بصره على تعريف توما الأكويني "للأبدية" بأنها "الحاضر الخالد" هم كتفيه استهجاناً لهذا التعريف على أنه "من البسيط جداً أن يقال، ولكن على الرغم من أني قد أسر به، فأني لم أستطع أن أفهمه قط، وأولئك الذين يستطيعون فهمه أسعد مني حظاً". وعلى كذلك كان هوبز "اسمياً صريحاً" (مذهب الاسمين: مذهب فلسفي يقول بأن المفاهيم المجردة أو الكليات ليس لها وجود حقيقي، وأنها مجرد أسماء ليس غير): فالإنماء أو الأسماء المجردة مثل "الرجل، الفضيلة" هي مجرد أسماء لأفكار تعميمية، ولا تمثل شيئاً مدركاً بالحواس، فكل الأشياء لها وجود فردي- أعمال فاضلة فردية، ورجال فرديون....
إنه يحدد مصطلحاته وألفاظه تحديداً دقيقاً. وعلى الصفحة الأولى من كتابه يعرف "لواياثان" بأنه مصلحة مشتركة أو رابطة أو دولة. إنه وجد اللفظ في التوراة (سفر أيوب- الإصحاح 41) حيث استعملها الرب اسماً لحيوان بحري هائل غير ذي نوع محدد، رمزاً للقوة الإلهية، واقترح هوبز أن يجعل من الدولة نظاماً ضخماً عليه أن يستوعب كل النشاط الإنساني ويوجهه. ولكنه قبل أن يصل إلى قضيته الأساسية ألقى نظرة شاملة على المنطق وعلم النفس بيد لا ترحم.
إن هوبز فهم الفلسفة على أنها ما نسميه الآن علماً: "معرفة الآثار والظواهر المكتسبة من معرفة الأسباب، أو بالعكس معرفة العلل أو الأسباب الممكنة كما تدلنا عليها معرفة آثارها المعروفة لدينا(5)". وتبع بيكون في توقعه أن يجني من وراء هذه الدراسة أو هذا- المنهج فوائد عملية عظيمة للحياة الإنسانية. ولكنه تجاهل دعوة بيكون إلى التعليل الاستقرائي، وأخذ "بالاستدلال المنطقي" أي الاستنتاج من التجربة. وفي إعجابه بالرياضيات أضاف "أن الاستدلال المنطقي هو بعينه من الجمع والطرح" أي الجمع بين الصور والأفكار، أو الفصل بينهما. وذهب إلى أننا لا نفتقر إلى التجربة، ولكن الذي نفتقر إليه هو التعليل الصحيح لها، أننا إذا استطعنا أن نقضي على خبث الألفاظ الخالية من المعنى في الميتافيزيقا، وعلى التحيزات التي نقلناها بحكم العادة أو التعليم أو روح التشيع والتحزب، إننا إذا استطعنا هذا فأي عبء نطرحه على كواهلنا، والعقل على أية حال ليس معصوماً من الخطأ! ولا يمكن إلا في الرياضيات، أن يزودنا بالحقيقة اليقينية التي لا ريب فيها. "إن معرفة النتيجة، التي قلت من قبل أنها تسمى العلم، ليست مطلقة، بل هي مشروطة. ولا يستطيع أحد أن يعرف عن طريق التعليل أن هذا الشيء أو ذاك كان أو يكون أو سيكون، مما يعرف بشكل مطلق، بل يعرف أنه حين يكون هذا يكون ذاك، وإذا كان هذا كان ذاك، وحين سيكون هذا سيكون ذاك، أي أن هذا الشيء أو ذاك يعرف مشروطاً"(6).
وكما سبقت هذه العبارة حجة هيوم في أننا نعرف النتائج فقط دون الأسباب، فأن هوبز كذلك سبق لوك في علم النفس الحسي. أن كل المعرفة تبدأ بالحس "ليس ثمة فكرة في عقل الإنسان إلا تولدت بادئ ذي بدء، تامة أو على دفعات، في أعضاء الحس(7)". وهذا علن نفس مادي صريح: لا يوجد شيء خارجنا أو داخلنا- إلا المادة والحركة، وكل الصفات المحسوسة "أو حسية (الضوء، اللون، الشكل، الصلابة، النعومة، الصوت، الرائحة، الطعم، الحرارة، البرودة، هي في الشيء الذي يسببها أو يحدثها ليست إلا عدة حركات كثيرة للمادة تؤثر بها على أعضائنا بأشكال مختلفة، كما أنها، فينا نحن الذين تأثرنا بها، ليست إلا حركات مختلفة، لأن الحركة لا تنتج إلا حركة(8)"، فالحركة في شكل تغيير أمر ضروري للحس- إن إحساسك- بنفس الشيء دائماً يساوي أنك لا تحس بشيء مطلقاً(9). (وهكذا فأن الرجل الأبيض أو الرجل الملون لا يتنبه أي منهما إلى رائحته لأنها دائماً تحت أنفه).
ومن الحس يتابع هوبز سيره ليستخلص التصور والذاكرة عن طريق تطبيق فريد لما صار قانون الحركة الأول عند نيوتن: أنه إذا بقي جسم ساكناً ما لم يحركه شيء آخر، فإنه يظل ساكناً إلى الأبد، فتلك حقيقة لا يشك فيها أحد. أما إذا كان الجسم متحركاً، فإنه يظل إلى الأبد إلا إذا أوقفه شيء آخر، فإنه على الرغم من أن السبب واحد في الحالين (وهو على التحديد أن أي شيء لا يمكنه التغيير بذاته) فهذا أمر لا يمكن التسليم به بسهولة.
إذا تحرك الجسم مرة، فإنه يظل يتحرك إلى الأبد (إلا إذا عاق حركته شيء آخر(، وهذا الذي يعطل حركته، أياً كان، لا يستطيع أن يعطلها دفعة واحدة إنما يعطل حركته تماماً في الوقت المناسب وشيئاً فشيئاً. وكما نرى في الماء، فقد تسكن الريح ولكن الأمواج لا تهدأ إلا بعد فترة طويلة من سكون الريح. وهذا ما يحدث للحركة التي تتم داخل الأجزاء الداخلية في الإنسان، ثم حين يرى أو يحلم.... الخ، حيث أنه عندما يزول ويختفي الشيء أو تغلق العين، فإننا نظل نستبقي صورة الأشياء التي رأيت، ولو أنها تكون أكثر غموضاً منها حين كنا نراها. وهذا ما يسميه اللاتينيون "خيالاً".... وهو على هذا الأساس ليس إلا "حساً يضعف"، فإذا عبرنا عن هذا الضعف، فما يدل على أن الحس يتضاءل وأنه قديم، وأنه غابر، فإن هذا يسمى "الذاكرة"...... والذاكرة العامرة، أو تذكر أشياء كثيرة يسمى "الخبرة أو التجربة(10)".
والأفكار عبارة عن تصورات ينتجها الحس أو الذاكرة. والفكر هو نتيجة لمثل هذه التصورات. ولا تتحكم الإرادة الحرة في هذه النتيجة، بل إنها تخضع لقوانين ميكانيكية تحكم توارد الخواطر.
إن الأفكار أو الخواطر لا يعقب الواحد منها الآخر اعتباطاً، ولكن يحدث إننا لا يكون لدينا تصور لما لن نكن قد أحسسنا به جملة أو تفصيلاً من قبل، فإننا كذلك لن ننتقل من تصور إلى تصور ليس لدينا عهد به في حواسنا من قبل. وهذا هو السبب: إن كل التصورات (الأخيلة والأفكار) إنما هي حركات في داخلنا، وهي بقايا ما تم في حواسنا. وهذه الحركات التي تعاقبت الواحدة منها بعد الأخرى في الحس تستمر أيضاً مجتمعة بعد الحس.... ولكن بما أنه في الحس بالنسبة لشيء واحد بعينه يدرك، قد يأتي أحياناً شيء. وأحياناً يأتي شيء آخر، فقد يحدث عاجلاً أو آجلاً، في تصور شيء ما، ألا نكون على يقين من أننا سنتصور شيئاً بعده. وهذا مؤكداً فقط إذا كان ثمة شيء قد أعقب مثيلاً له من قبل في وقت من الأوقات(11).
وقد تكون هذه السلسة من الأفكار مشوشة أو غير موجهة، كما هو الحال في الأحلام، وقد تكون "مضبوطة أو محددة طبقاً لرغبة أو هدف أو خطة ما". وفي حالة الأحلام نجد أن الصور الساكنة الهاجعة في المخ "توقظها أو تهيجها أية إثارة في الأجزاء الداخلية في جسم الإنسان". لأن كل أجزاء الجسم مترابطة، بطريقة ما، بأجزاء معينة في المخ. "أعتقد أن هناك تبادلاً في الحركة من المخ إلى الأجزاء الحيوية، ومنها ثانية إلى المخ، بهذا لا يولد التصور حركة في تلك الأجزاء فحسب، بل أن الحركة في تلك الأجزاء كذلك تولد تصوراً شبيهاً بهذا الذي أنتجها(12)". وأحلامنا هي شكل معكوس لتصوراتنا في اليقظة: الحركة ونحن متيقظون بادئة بطرف، وبادئة بالطرف الآخر حين نحلم(13)" والتسلسل المنطقي للصور في الأحلام يرجع إلى عدم وجود أي إحساس خارجي يضبطها أو أي غرض يوجهها.
وليس للإرادة الحرة أي مكان في علم النفس عند هوبز. والإرادة نفسها ليست موهبة أو وجوداً مستقلاً، بل هي مجرد الرغبة الأخيرة أو النفور الأخير في عملية التدبر (حركتان جسميتان أساسيتان هما الاشتهاء أو الحركة نحو الأشياء والنفور أو الحركة بعيداً عن الأشياء)، والتدبر تناوب بين حالات الرغبة أو النفور، وهو ينتهي عندما يمكث أحد الدوافع وقتاً كافياً ليتحول إلى عمل أو تصرف ما. "في التدبر نجد أن الأشياء أو النفور الخير الذي يقترن في الحال بالعمل أو بالإغفال الناتج عنه (عن الاشتهاء أو النفور) هو ما نسميه الإرادة(14)" "إن الشهوة والخوف والأمل وغيرهما من الانفعالات لا تسمى اختيارية، لأنها لا تنبع من الإرادة، بل هي الإرادة نفسها، والإرادة ليست اختيارية(15)" "لأن كل فعل من أفعال إرادة الإنسان وكل رغبة وكل ميل، إنما ينتج عن سبب ما، وهذا السبب ينتج عن سبب آخر، وهكذا في سلسلة متصلة (حلقتها الأولى في يد الله أول كل الأسباب) وكلها تنبع من الضرورة. وعلى هذا فإن الذي يستطيع أن يدرك الصلة بين تلك الأسباب، قد تبدو له واضحة جلية "ضرورة" إلى كل أفعال الإنسان الاختيارية(16)". وهناك في الكون بأسره سلسلة متصلة الحلقات من الأسباب والنتائج أو الآثار. وليس هناك شيء طارئ غير متوقع، أو خارق معجز، أو من قبيل الصدفة.
والعالم كله آلة من المادة، متحركة طبقاً لقانون، والإنسان نفسه آلة شبيهة بهذه. والأحاسيس تدخل إليه كأنها حركات، وتولد صوراً وأفكاراً وكل فكرة هي بداية حركة، وتصبح فعلاً إذا لم تعقها فكرة أخرى(17). وكل فكرة، مهما تكن مجردة، تحرك الجسم بدرجة ما، مهما تكن غير منظورة. والجهاز العصبي عبارة عن تركيب آلي لتحويل الحركات الحسية إلى حركة عضلية. والأرواح موجودة ولكنها مجرد أشكال دقيقة للمادة(18). والنفس والعقل ليسا غير ماديين، ولكنهما اسمان للعمليات الحيوية للجسم ولأعمال المخ. ولا يحاول هوبز أن يفسر السبب في أن الوعي ينمو بمثل هذه العملية الميكانيكية من الحس إلى الفكرة إلى الاستجابة. إنه باختزال كل الصفات المدركة للأشياء إلى صور في "الذهن"، يقترب كثيراً من الموقف الذي اتخذه باركلي فيما بعد في دحض المادية- إن كل الحقيقة المعروفة لنا إدراك حسي، وذهني.
جـ - الأخلاق والسياسة
إن هوبز مثل ديكارت قبله، وسبينوزا بعده، تولى تحليل الانفعالات، لأنه يرى فيها مصدر كل أفعال الإنسان، ويستخدم الفلاسفة الثلاثة جميعهم لفظة "الانفعال" على نطاق واسع لتشمل أية غريزة أو وجدان أو عاطفة- وبصفة أساسية، الاشتهاء (الرغبة) والنفور، الحب والكراهية، الفزع والخوف، ووراء هذه كلها اللذة والألم- العمليات النفسية التي ترفع أو تخفض من حيوية الكائن الحي. والاشتهاء بداية حركة نحو شيء يبشر باللذة. والحب ضرب من الاشتهاء، موجه نحو شخص. وكل الإندفاعات (كما كان يقول لاروشفوكولد بعد ذلك بأربعة عشر عاماً) هي أشكال من حب الذات، وكلها تنبع من غريزة المحافظة على الذات. فالإشفاق هو تصور المصائب تنزل بنا في المستقبل، يثيره علمنا بمصائب الغير، والصدقة إرضاء للشعور بالقوة في مساعدتنا للآخرين. والاعتراف بالفضل ينطوي أحياناً على شيء من العداء "أن حصولنا ممن نرى أنه مساو لنا على فوائد أو منفعة أعظم مما كنا نأمل منه، ينزع بنا إلى التظاهر بالحب، والحق أنه بغض خفي، وهو يضع المرء في موقف المدين اليائس، حتى أنه في حالة تصنعه عن رؤية دائنه، إنما يرغب ضمناً في أن يذهب هذا الدائن إلى حيث لا يراه المدين أبداً . لأن المنفعة التي حصل عليها منه طوق بها عنقه، وفي هذه المنة أو الفضل عبودية(19)". والنفور الأساسي هو الخوف. والاشتهاء الأساسي هو اشتهاء السلطة. "إني أرى في البشر جميعاً نزعة عامة. هي الرغبة الدائمة التي لا تهدأ في السلطة فوق السلطة، وتلك الرغبة لا يخمد أوارها إلا عند الموت(20)". إننا نرغب في الثراء والمعرفة بوصفها وسائل للسلطة. وفي الأوسمة ومظاهر الحفاوة والتكريم، لأنها دليل على السلطة، ونحن نريد السلطة لأننا نخشى التعرض للخطر. والضحك تعبير على التفوق والسمو والسلطة.
إن الانفعال بالضحك ليس إلا تألقاً أو اعتزازاً مفاجئاً (رضي ذاتياً) ينشأ عن إدراك مفاجئ لبعض السمو والرفعة فينا، بالمقارنة بوهن الآخرين وعجزهم، أو بوهننا وعجزنا فيما مضى، لأن الناس يضحكون من حماقاتهم السابقة عندما تخطر ببالهم فجأة، إلا إذا استحضروا معها شيئاً من مواطن الخزي والعار في حاضرهم.... ويكون الضحك أكثر ما يكون عارضاً لأولئك الذين يكونون على وعي تام بقدراتهم البالغة الضآلة، الذين يضطرون إلى التماس شيء من الراحة في ملاحظة نقائص الآخرين. ومن ثم فإن كثرة الضحك من عيوب الناس دليل على ضعة النفس. فإن من أروع الأعمال التي ينهض بها ذوو العقول الكبيرة أن يساعدوا الآخرين ويحرروهم من الذل والازدراء، وألا يقارنوا أنفسهم إلا بأقدر الناس(21).
والخير والشر مصطلحان ذاتيان يختلفان في المضمون، لا من مكان إلى مكان، ومن زمان إلى زمان فحسب، بل من شخص إلى شخص أيضاً. "إن الإنسان يسمي موضوع شهوته أو رغبته خيراً، وموضوع كراهيته أو نفوره شراً، لأن هاتين الكلمتين تستعملان دائماً في ما يتعلق بالشخص الذي يستخدمها، لأنه ليس ثمة خير أو شر بسيط أو مطلق، وليس هناك قاعدة عامة للخير أو الشر يمكن استنباطها من طبيعة الأشياء ذاتها(22)". وقد تكون الانفعالات خيراً، وقد تؤدي إلى العظمة. "وهذا الذي ليس لديه رغبة قوية.... وفي السيطرة أو الثروة أو المعرفة أو الشرف والمهابة. لا يمكن أن يكون لديه خيال واسع أو عقل راجع". إن ضعف الانفعال غباء، وقوته بشكل غير طبيعي جنون وانعدام الرغبات موت(23).
إن بهجة هذه الحياة لا تكمن في هجوع الذهن في حالة من الرضي والاكتفاء. لأنه ليس هناك ما يسمونه "الغرض الأسمى" و "الخير الأسمى" كما تحدثت عنهما كتب الفلاسفة الأخلاقيين القدامى.... فالبهجة هي تقدم الرغبة المستمر من هدف إلى هدف، وتحقيق الهدف السابق يظل طريقاً لتحقيق ما بعده(24).
إن حكم رجال هكذا تكوينهم وميلهم إلى الكسب ، والمنافسة وحدة الأهواء والانفعالات فيهم، ونزعتهم إلى النضال والكفاح، نقول أن مثل هذا الحكم هو أشد مهام البشر تعقيداً ومشقة، ويجدر بنا أن نهيئ لمن يتولونه كل عون أو سلاح من علم النفس ومن القوة والسلطان. وعلى الرغم من أن إرادة الإنسان غير حرة فإن للمجتمع ما يبرر تشجيعه لبعض الأعمال ويطلق عليها "أعمالاً فاضلة" ويثيب عليها، على حين يندد بأعمال أخرى، ويقول بأنها "أعمال مرذولة" ويعاقب عليها. وليس ثمة تناقض هنا مع "الحتمية"، فإن هذه الاستحسانات والتنديدات الاجتماعية تضاف، من أجل خير الجماعة ومصالحها، إلى الدوافع الني تؤثر في السلوك. "إن العالم يحكمه الرأي(25)"، فالحكومة والدين والقانون الأخلاقي، هي إلى حد كبير تلاعب بالرأي، للتخفيف من الضرورة ونطاق القوة.
إن الحكومة ضرورية، لا لأن الإنسان شر بالطبيعة- لأن "الرغبات وسائر الانفعالات ليست آثمة في حد ذاتها(26)"- بل لأن الإنسان بطبيعته أكثر نزوعاً إلى الفردية منه إلى الروح الاجتماعية، إن هوبز هنا لم يتفق مع أرسطو في أن الإنسان "حيوان سياسي"، أي مخلوق مهيأ بالطبيعة للاجتماع. إنه على النقيض من ذلك أدرك "حالة طبيعية" أصلية (وهي على ذلك الطبيعة الأصلية للإنسان)، على أنها حالة تنافس وعدوان متبادلين لا يوقفهما إلا الخوف، لا القانون. ويمكننا (كما يقول هوبز) أن نتصور هذه الحالة الافتراضية إذا لاحظنا العلاقات الدولية في زمننا هذا، فإن الأمم لا تزال إلى حد كبير في "حالة من الطبيعة"، ولم تخضع بعد لقانون أو سلطة مفروضة عليها.
إن الملوك وأصحاب السلطان في كل الأزمان، بسبب استقلالهم، يعيشون وسط الأحقاد والحذر، يقفون وقفة المصارعين والمجادلين دائماً، أسلحتهم مشروعة، وعيونهم مثبتة كل منهم على الآخر- أي قلاعهم وحامياتهم ومدافعهم على حدود ممالكهم- يبثون العيون والأرصاد على جيرانهم، وتلك هي وقفة الحرب، لا توجد سلطة عامة، لا يوجد قانون ولا يوجد ظلم ولا جور. والقوة والخداع هما في الحرب فضيلتان أساسيتان(27).
وهكذا أعتقد هوبز أن الأفراد والأسرات كانت قبل ظهور التنظيم الاجتماعي، تعيش في حالة حرب دائمة، فعلية أو محتملة، "كل إنسان ضد الآخر(28)". ولا تقتصر الحرب على الالتحام في المعركة فقط، بل قد يأتي وقت يبدو فيه بشكل واضح، عزم الإنسان على الاشتباك في معركة(29). ونبذ نظرية فقهاء الرومان وفلاسفة المسيحية في أن هناك، أو كان هناك إطلاقاً، "قانون طبيعي" بمعنى قوانين الصواب والخطأ، مؤسسة على طبيعة الإنسان بوصفه "حيواناً عاقلاً". وسلم بأن الإنسان كان عقلانياً في بعض الأحيان، ولكنه أدرك أنه "مخلوق ذو انفعالات وأهواء- ورغبة السلطان والقوة فوق كل شيء- يستخدم العقل أداة للرغبة أو الاشتهاء، ولا يحكمه إلا الخوف من القوة. والحياة البدائية- أي الحياة قبل التنظيم الاجتماعي- كانت بلا قانون، عنيفة مخيفة، "قذرة كريهة وحشية فقيرة(30)".
وفي تصور هوبز أنه من "حالة طبيعية" المفترضة هذه، خرج الناس باتفاق ضمني بين بعضهم بعضاً، على أن يخضعوا جميعاً لسلطة عامة. وتلك هي نظرية "العقد الاجتماعي التي أصبحت مألوفة شائعة يفضل رسالة روسو التي تحمل هذا الاسم (1762). ولكنها كانت بالفعل قديمة مطروقة في أيام هوبز. فإن ملتون في رسالته "ولاية الملك والحكام" (1649) كان قد فسر العقد بأنه اتفاق بين ملك ورعاياه- على أنهم يطيعونه، وعلى أنه سيقوم بمهام منصبه على خير وجه، فإذا أخفق هذا، كما قال ملتون (مثل ما قال بوكانان وماريانا وكثيرون غيرهما)، كان للشعب الحق في خلعه. واعترض هوبز على النظرية بهذه الصيغة، على أساس أنها لم تؤسس سلطة مخولة أن تنفذ العقد، أو تحدد كيف ومتى نقض. وآثر القول بأن هذا الاتفاق مبرم، لا بين الحاكم والمحكومين، بل بين المحكومين الذين اتفقوا فيما بينهم:
إنهم منحوا كل سلطانهم وقوتهم (أي حقهم في استخدام القوة بعضهم ضد بعض) لرجل واحد أو لجماعة من الرجال.... فإذا تم هذا، أتحد الجميع في رجل واحد يسمى الدولة. وهذا هو منشأ اللواياثان الكبير.... بل على الأرجح منشأ "الرب الفاني" الذي ندين له، في ظل "الإله الحي الباقي" بسلامنا والدفاع عنا لأنه بمقتضى هذه السلطة التي خولها إياه كل فرد في الدولة، له الحق في أن يستخدم كثيراً من السلطات والقوة اللتين منحتا له، ومن ثم فإنه بالإرهاب يكون قادراً على تشكيل إرادة الناس جميعاً.... غايته من ذلك أن يستخدم كل قوتهم وكل ما يملكون من وسائل. كلما وجد الضرورة تدعو إلى ذلك، من أجل سلامهم والدفاع المشترك عنهم. وهذا الذي يمثل هذا "الشخص" ويحمل هذا العبء يسمى ملكاً، ويقال أن له سلطة ملكية، وكل من عداه من رعاياه(31). وفي شيء من الطيش افترضت النظرية ف هؤلاء الهمج "القذرين المتوحشين" الذين سبق ذكرهم، درجة من النظام والعقلانية والاتضاع، وهي درجة تسمح بتنازلهم عن سلطاتهم. وأجاز هوبز في شيء من الحكمة، أن تنشأ الدولة على أصول بديلة:
ويكمن الوصول إلى هذه السلطة الملكية الحاكمة عن طريقين، أولهما القوة الطبيعية، كما هو الحال حين يعمد رجل ما إلى إخضاع بنيه وذرياتهم لحكومته، لأنه قادر على تدميرهم والقضاء عليهم إذا أبو عليه ذلك، أو يخضع أعداءه لإرادته عن طريق الحرب. أما ثانيهما فهو حين يتفق الناس فيما بينهم على الخضوع طواعية واختياراً لرجل أو جماعة من الرجال، ثقة من الناس بأن هذا الرجل أو جماعة الرجال سيتولون حمايتهم ضد الآخرين. ويمكن أن يطلق على هذا "رابطة سياسية"(32) (الدولة).
ومهما كان الأساس الذي قام عليه الحاكم، فإنه لكي يكون حاكماً وملكاً حقاً، لا بد أن يكون ذا سلطة مطلقة، فإنه بدونها لا يستطيع أن يحقق أمن الفرد أو سلام الجماعة. ومقاومته إنما تعني نقض العقد الاجتماعي الذي أقره ضمناً كل فرد في الجماعة بقبوله حماية رأس الدولة له. وقد تسلم هذه "الاستبدادية المطلقة" النظرية ببعض قيود وحدود عملية. فيمكن مثلاً الوقوف في وجه الملك إذا أمر إنساناً بأن يقتل نفسه أو يبتر عضواً من جسمه ليعطله أو يشوهه، أو يعترف بجريمة لم يرتكبها، أو إذا لم يعد الحاكم قادراً على حماية رعاياه. "المفهوم إن التزام الرعايا نحو الملك يبقى ما بقيت سلطته التي يستطيع بها حمايتهم، ولا بقاء لهذا الالتزام إذا فقد السلطان(33)". والثورة دائماً جريمة إلا إذا حققت نجاحاً. إنها دائماً غير مشروعة وغير عادلة، لأن القانون والعدالة كلتيهما يحددهما ويحكمهما الملك، ولكن إذا أقامت الثورة حكومة مستقرة فعالة، فإن على المواطن أن يلتزم بطاعة السلطة الجديدة.
ولا يحكم هذا الملك بمقتضى الحق الإلهي، حيث أنه يستمد سلطته من الشعب، ولكن يجب أن تقيد سلطته جمعية شعبية أو قانون الكنيسة. ويجدر أن تمتد هذه السلطة إلى الملكية، فيجب على الملك أن يحدد حقوق الملكية (التملك)، وعليه أن يعيد توزيع الممتلكات الخاصة، حيثما يقدر أن هذا يحقق المصلحة العامة(34). "والحكم المطلق" ضروري، لأنه إذا كانت السلطة شركة، بين الملك والبرلمان مثلاً، فسرعان ما ينشب النزاع، ثم الحرب الإلهية، فتعم الفوضى وتتعرض الحياة والممتلكات للخطر. وحيث أن الأمن والسلام هما الضرورتان الأساسيتان للمجتمع، فإنه لا ينبغي أن يكون هناك فصل، بل وحدة كاملة وتركيز تام في السلطات الحكومية. وحيثما توزعت السلطات لا يكون هناك ملك، وحيثما لا يكون ملك، لا تكون هناك دولة(35).
وبناء على هذا يكون الشكل المنطقي للحكومة هو الملكية. ولا بد أن تكون وراثية، لأن حق اختيار الخلف جزء من سيادة الملك، ونكرر القول بأن البديل لهذا هو الفوضى(36). وقد تصلح الحكومة عن طريق الجمعية ولكن شريطة أن تكون سلطتها مطلقة، غير خاضعة لرغبات متقلبة لدى شعب غير متعلم. "إن الديموقراطية لا تعدو أن تكون أرستقراطية خطباء(37)" فما أسهل أن يهيج زعماء الدهماء مشاعر الشعب، ومن ثم كان لزاماً أن تمارس الحكومة الرقابة على الخطابة والصحافة، وينبغي أن تكون هناك رقابة صادقة على المطبوعات والواردات وقراءة الكتب(38). ولا يجوز أن يكون هناك جدل عقيم حول الحرية الفردية والآراء الخاصة والضمير. وينبغي أن يقتلع من الجذور كل ما يهدد سيادة الملك، ومن ثم السلام العام(39). فكيف يتسنى حكم دولة أو حماية علاقاتها الخارجية إذا بقى كل فرد حراً في طاعة القانون أو مخالفته وفقاً لرأيه الخاص؟
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
د - الدين والدولة
وكذلك يجب على الملك أن يحكم دين شعبه، لأن الدين يمكن أن يكون قوة مدمرة متفجرة إذا تشدد فيه الناس. ويقدم هوبز تعريفاً موجزاً: "إن الخوف من القوة الخفية التي يلفقها العقل أو تصورها الأقاصيص، إذا سمح بانتشاره فهو "الدين". وإذا لم يسمح فهو "الخرافة"(40). وهذا يهبط بالدين إلى مجرد الخوف والخيال والادعاء، ولكن في مواضع أخرى نرى هوبز يعزوه إلى التسائل الملهوف عن علل الأشياء والحوادث وبداياتها(41). وتقود ملاحقة الأسباب هذه في النهاية إلى الاعتقاد (كما أعترف الفلاسفة الوثنيون) "بأنه لا بد أن يكون هناك "محرك" واحد، أي سبب واحد لكل الأشياء، وهو ما يعنيه الناس بقولهم الله(42)" وذهب الناس بشكل طبيعي إلى أن هذا "السبب الأول" كان مثلهم: شخصاً ونفساً وإرادة، ولكنه فقط أقوى منهم بكثير. ونسبوا إلى هذا "السبب" كل الأحداث التي لم يستطيعوا تبين محدداتها الطبيعية بعد، ورأوا في الأحداث العجيبة معجزات ونبوءات للإرادة الإلهية.
في هذه الأشياء الأربعة: فكرة الأرواح، والجهل بالأسباب الثانوية، والتفاني فيما يخشاه الناس، وأخذ الأشياء الطارئة على أنها نذر أو بشائر، تنطوي البذور الطبيعية للدين، التي نمت بسبب مختلف أوهام الكثير من الناس وأحكامهم وأهوائهم، نقول نمت حتى أصبحت طقوساً متباينة إلى حد أن ما يقوم به فرد، يعتبر في معظم الأحوال سخيفاً مرذولاً عند الآخر(43). كان هوبز "ربوبياً" لا ملحداً. فأعترف "بكائن أسمى(44)" ذكي، ولكنه أضاف "قد يعرف الناس... بالطبيعة أن الله موجود، ولو أنهم لا يدركون ما هو(45). "ويجب ألا ندرك أن لله شكلاً، لأن كل شكل محدود، أوله أجزاء، أو له مكان ما هنا أو هناك، "لأن أي شيء له مكان، لا بد أن يكون مقيداً محدوداً"، أو أنه يتحرك أو يظل في مكانه، لأن هذا مكانه، لأن هذا ينسب له مكان، كما يجب ألا نقول إلا عن طريق المجاز بأنه يمارس الحزن والندم والغضب والرحمة والحاجة والشهوة والأمل أو أية رغبة أخرى(46). وخلص هوبز إلى أن "طبيعة الله خافية لا يمكن فهمها(47)" وقد لا يصفه هوبز بأنه روحي غير مادي، لأننا لا نستطيع أن ندرك شيئاً بلا جسم، ويحتمل أن كل "روح" جسدية ولكن بشكل دقيق(48).
وبعد أن حدد هوبز لكل من الدين والرب مكانه، عرض أن يستخدمهما أداتين للحكومة ليكونا في خدمتها، ومن أجل هذا أورد سوابق ذوات شأن خطير.
إن المؤسسين والمشرعين الأولين للدول بين "الأمميين (غير اليهود) الذين كانت غاياتهم الإبقاء على طاعة الناس وعلى السلام، عنوا في كل مكان:
أولاً: بأن يطبعوا في أذهان الناس أن تلك التعاليم التي جاءوا به بها فيما يتعلق بالدين، لا يجوز الظن بأنها جاءت من عندياتهم، بل أنها جاءت بأمر من بعض الآلهة أو الأرواح، وإلا كانوا (المؤسسون والمشرعون من الطبيعة أسمى وأرقى من مجرد بشر معرضين للفناء، حتى يمكن تقبل قوانينهم في كثير من اليسر. وهكذا زعم "توما بومبليوس" (ثاني كلوك روما) أنه تلقى الطقوس التي أقامها بين الرومان من الحورية اجريا، كما زعم مؤسس بيرو وأول ملوكها أنه وزوجته من أبناء الشمس.
ثانياً: أن يشيعوا الاعتقاد بأن الأشياء التي تغضب الآلهة هي نفسها الأشياء التي حرمها القانون(49). ولكيلا يستنتج أحد أن موسى أستخدم وسائل شبيهة بهذه في نسبة شرائعه لله، يضيف هوبز، في نفور خاص من النار، أن "الرب بنفسه، بوحي خارق، أقام الدين" بين اليهود. ولكنه يشعر بأنه على حق، بالأمثلة التاريخية، في أن يوصي بأن يصبح الدين أداة للحكومة، وبناء على هذا الغرض يفرض الملك مبادئ الدين وتعاليمه. وإذا كانت الكنيسة مستقلة فإنه يكون هناك ملكان، ومن ثم لا يكون ملك أبداً، وتكون الرعية موزعة بين السيدين.
إذا انتحلت السلطة الروحية حق الحكم بأن هذا أو تلك أثم، فإنها تنتحل، نتيجة لذلك، حق الحكم بأن هذا هو القانون (لأن الإثم ليس إلا مخالفة القانون).... وإذا كانت هاتان السلطتان (الكنيسة والدولة) تناوئ الواحدة منهما الأخرى فإن الدولة تتعرض لخطر كبير هو خطر الحرب الأهلية والتمزق(50).
وفي مثل هذا الصراع يكون للكنيسة اليد العليا "لأن أي إنسان وهو في كامل وعيه ورشده لا بد أن يدين في كل الأمور. بالطاعة المطلقة، للرجل الذي يعتقد أن حكمه عليه سينجيه أو يقضي عليه". وحين تثير السلطة الروحية نفوس الرعايا "بالخوف من العقاب أو الأمل في الثواب" من هذا النوع الخارق للطبيعة"، وتخنق تفكيرهم وتعطل عقولهم بالكلمات الغريبة القاسية، فلا بد أنها بذلك توقع الشعب في حيرة، وأما أن ترهق البلاد بالظلم والجور، وأما أن تلقي بها في أتون حرب أهلية(51). ويرى هوبز أن المخرج الوحيد من مثل هذا المأزق الحرج أن تكون الكنيسة خاضعة للدولة. ولما كانت الكنيسة الكاثوليكية ترى في هذا رأياً آخر، فإن هوبز، في الجزء الرابع من "لواياثان" يهاجمها على أنها ألد وأقوى عدو لفلسفته.
ثم يورد هوبز "نقداً أشد" للكتاب المقدس- يرتاب في تأليف موسى للأسفار الخمسة الأولى من التوراة، ويؤرخ "الأسفار التاريخية" في زمان متأخر عما هو وارد في النواميس التقليدية. ويرى ألا تتطلب المسيحية من معتنقيها إلا الإيمان "بيسوع المسيح" أما بالنسبة لبقية أركان العقيدة، فيجدر بها أن تجيز اختلاف الرأي بين الناي في نطاق الحدود الآمنة للنظام العام. ولمثل هذه العقيدة البسيطة المطهرة لا يوفر هوبز مجرد تأييد الحكومة فحسب. بل كل قوة الدولة لنشرها ما وسعها الجهد. ويتفق مع البابا في أن يكون للدولة دين واحد(52). ويشير على المواطنين بأن يتقبلوا لاهوت مليكهم دون تردد محرج، لأن هذا واجب أخلاقي، كما هو واجب الدولة. "لأن الحال بالنسبة لأسرار ديانتنا هي الحال بالنسبة للأقراص الصحية هند المرضى، إذا بلعت دفعة واحدة كان لها فضل الشفاء، أما إذا مضغت، فإنها في معظم الأحوال تلفظ ثانية ولا يكون لها أي تأثير(53)". وانتهى أشد هجوم شنه إنجليزي على المسيحية، بمسيحية قامت وكأنها قانون لا مفر منه لدولة استبدادية مطلقة.
هـ - اصطياد الدب
جاء في الفقرة الأخيرة من "لواياثان": "وهكذا أختم دون تحيز، حديثي عن الحكومة المدنية والدينية التي تضطرب بفوضى العصر الحاضر... وليس لي من هدف إلا أن أضع تحت أنظار الناس العلاقة المتبادلة بين الحماية والطاعة".
ولم يتحقق الناس من عدم التحيز على نطاق واسع. فإن المهاجرين الذين تجمعوا حول شارل الثاني في فرنسا رحبوا بدفاع هوبز من النظام الملكي، ولكنهم استنكروا ماديته على أنها حمق وطيش إن لم تكن تجديفاً، وعراهم الأسى والأسف لما استنفد فيلسوفهم العنيد من صفحات في مهاجمة الكنيسة الكاثوليكية، على حين كانوا لفورهم يلتمسون العون من ملك كاثوليكي. أما رجال الدين الأنجليكانيون الذين كانوا بين اللاجئين إلى فرنسا من وجه البيوريتانيين المنتصرين، فقد تعالت صيحاتهم ضد الكتاب إلى حد أن هوبز "أمر ألا يعود إلى بلاط شارل الثاني(54)". ولما ألفى هوبز أنه بات بلا صديق ولا صاحب، وبلا حماية في فرنسا، قرر أن يتصالح مع كرومول ويعود إلى إنجلترا. وطبقاً لما رواه الأسقف بيرنت، أدخل هوبز بعض تعديلات على نصوص اللواياثان "إرضاء للجمهوريين(55)" وليس هذا مؤكداً، ولكن المؤكد، على أية حال، أن نظرية الثورة غير ذات الأصل الشرعي، والتي بررها نجاحها، التأمت بشكل مبتور وكأنها ترقيع، مع نظرية الطاعة المطلقة لحاكم مطلق. إن كتاب "العرض والنتيجة" النهائيتان الذي يبدو وكأنه تفسير متأخر جاء بعد أوانه، شرح الظروف التي يمكن فيها لمواطن كان يدين بالولاء لملك من قبل، أن يخضع في الوقت المناسب، وفي لباقة، للنظام الجديد الذي كان قد أطاح بالملك. ونشر الكتاب في لندن في 1651 بينما كان هوبز في باريس. وفي آخر هذا العام، وسط شتاء قاس، عبر البحر إلى إنجلترا، حيث أوى إلى ملاذ طيب عند أرل ديفونشير الذي كان قد استسلم منذ أمد طويل لبرلمان الثورة. وأعلن هوبز ولاءه وخضوعه للحكم القائم، فلقي قبولاً، ومن ثم أنتقل الفيلسوف إلى دار في لندن، مستعيناً بمعاش ضئيل أجراه عليه أرل ديفونشير، "لأن الافتقار إلى حديث العلم والعلماء كان أشد ما يضايق الفيلسوف في الريف(56)". وكان آنذاك في الثالثة والستين من العمر.
وشيئاً فشيئاً، كلما وجد الكتاب قراء، تكاثر النقاد على المؤلف أسراباً. فإنبرى رجال الدين الواحد تلو الآخر للدفاع عن المسيحية، وتساءلوا: من هو "وحش مامزبري" الذي قام يتحدى أرسطو وأكسفورد والبرلمان والله؟. وكان هوبز جباناً ولكنه مقاتل، وفي 1655 أثبت من جديد في "أصول الفلسفة" آراءه في المادية والحتمية. وفي كتاب "اصطياد اللواياثان (1658) نصب جون برامهول، أسقف دري العلامة، شراكه لهوبز وسدد الضربات إليه جديداً، وقال أسقف آخر "أن هوبز لا يزال في الشرك(57)". واستمرت الهجمات في كل عام تقريباً حتى قضى الفيلسوف نحبه. ولما اعتزل أرل كلارندون منصبه (وكان قاضي القضاة) تسلي في منفاه بنشر "رأى وعرض موجزان للأخطاء الخطيرة المؤذية في الكنيسة والدولة في كتاب مستر هوبز- لواياثان" (1676). وفي 322 صحيفة تابع تقنين المجلدات بشكل منتظم، وهو يقرع الحجة بالحجة في نثر مشرق رفيع. وتحدث كلاوندون بوصفه رجلاً ذا خبرة طويلة في المناصب السياسية، وسخر من فلسفة هوبز على أنه رجل لم يسبق له أن تقلد مناصب ذات مسئولية، حتى يلطف من نظرياته عن طريق الممارسة والتجربة، وتمنى لو أن "مستر هوبز أتيح له أن يتبوأ مقعداً في البرلمان أو في المجلس، أو في دور القضاء أو أية وحكمة أخرى، حيث كان يحتمل أن يتبين أن تأملاته في عزلته، مهما تكن عميقة، واتزانه المتعجرف الزائد عن الحد ببعض أفكار فلسفية، بل حتى ببعض قواعد الهندسة، نقول يتبين أن هذا كله قد ضلله وحاد به عن جادة الصواب في بحثه في السياسة(58).
ولم تكن كل الحملات على هذا النسق من الهدوء والاعتدال. وفي 1666 أمر مجلس العموم إحدى لجانه "بكتابة تقارير عن الكتب التي تنزع إلى الإلحاد والتجديف وانتهاك حرمة المقدسات أو تتناول بالتعريض لسمة الله وصفاته. وبخاصة الكتاب الذي نشر باسم "هوايت" (قسيس كاثوليكي سابق إرتاب في خلود النفس)، وكتاب هوبز، "لواياثان(59)". يقول أوبري "كان هناك تقريراً (صحيح يقيناً) بأن بعض الأساقفة في البرلمان قدموا اقتراحاً بإحراق الرجل الطيب العجوز بجريمة الهرطقة(60)". وأعدم هوبز كل ما كان يمكن أن يورطه أو يدينه بعد ذلك من أبحاثه التي لم تنشر، ثم كتب ثلاث محاورات حاول فيها أن يبرهن بأسلوب العالم المتفقة على أن أية محكمة في إنجلترا لا تستطيع أن تحاكمه بتهمة الهرطقة.
وهك الملك الذي أستعاد عرشه لإنقاذ الفيلسوف. ذلك أن شارل الثاني بعد وصوله إلى لندن بزمن قصير، رأى هوبز في الشارع، وعرف فيه معلمه السابق، ورحب به في البلاط. وكان بلاط عودة الملكية ينزع بالفعل إلى شيء من التشكك الديني ويدافع عن الملكية المطلقة، ومن ثم وجد في فلسفة هوبز بعض العناصر التي تتمشى مع الأفكار السائدة في هذا البلاط. ولكن رأسه الأصلع وشعره الأشيب وزيه الشبيه بزي اللبيوريتانيين، كل أولئك مدعاة للسخرية. وأطلق عليه الملك شارل نفسه أسم الدب، وكلما اقترب منه قال: "ها قد جاء الدب لنقدم له الطعم ونغويه(61)". ومع ذلك استساغ الملك إجاباته البارعة وسرعة بديهيته، وأمر برسم صورة للفيلسوف العجوز، وتعليقها في حجراته الخاصة، وخصص له معاشاً سنوياً قدره مائة جنيه، ولم يكن الراتب يدفع بانتظام، ولكنه مع ذلك، بالإضافة إلى خمسين جنيهاً أخرى في السنة من أسرى كافندش، كان كافياً لسد حاجيات الفيلسوف البسيطة. وبصفة أوبري بأنه كان عليلاً في شبابه، موفور الصحة نشيطاً في شيخوخته، ومارس لعب التنس حتى بلغ الخامسة والسبعين. فإذا لم يتيسر ملعب التنس، عمد إلى المشي لفترة طويلة في خفة وسرعة، حتى "يتصبب منه العرق، وعندئذ ينقد الخادم بعض النقود لتدليكه". وكان معتدلاً في أكله وشربه، وامتنع عن أكل اللحم وشرب الخمر بعد السبعين. وكان يفاخر بأنه "كان قد أفرط في حياته مائة مرة" ولكن أوبري حسب أن هذا الإفراط لم يحدث لأكثر من مرة في كل عام، ولذلك لم يكن شيئاً فظيعاً. ولم يتزوج الفيلسوف قط، ولكن يبدو أنه كان له ابنة غير شرعية وفر لها سبل العيش الكريم بسخاء(62). وكان يقرأ قليلاً في سنيه الأخيرة، "وتعود أن يقول أنه إذا كان قد قرأ قدر الآخرون لما عرف أكثر مما عرفوا". وفي الليل عندما كان يأوي إلى الفراش، والأبواب موصدة، وهو واثق أن أحداً لا يسمعه، كان يغني بصوت عال (لا لأن صوته رخيم ولكن من أجل صحته)، حيث أعتقد بأن الغناء يفيد رئتيه ويؤدي إلى إطالة العمر(63). ومهما يكن من أمر، فإنه أصيب منذ 1650 بشلل ارتجافي في يديه، واشتدت به هذه العلة حتى كادت كتابته في 1666 أن تكون غير مقروءة.
وعلى الرغم من هذا استمر هوبز يكتب. وتحول من الفلسفة إلى الرياضيات، وهنا انزلق في غير ما حرص ولا حذر، إلى خلاف من عالم خبير هو جون واليس الذي انتقص من قيمة ادعاء الرجل العجوز بأنه كشف تربيع الدائرة. وفي 1670، وهو في الثانية بعد الثمانين نشر كتابه "بهيموث" وهو عبارة عن تاريخ الحرب الأهلية في إنجلترا، كما كتب عدة ردود على ناقديه، وترجم إلى اللاتينية كتابه "لواياثان" ترجمة رائعة. وفي 1675 كتب سيرة حياته نظماً باللاتينية، كما نظم في نفس العام الألياذة والأوديسية شعراً بالإنجليزية، حيث "لم أجد عملاً أؤديه أفضل من هذا".
وفي تلك السنة، حيث بلغ السابعة والثمانين، عاد من لندن إلى الريف حيث قضي أيام حياته في ضيعة آل كافندشي في دربيشير. وفي تلك الأثناء اشتد عليه الشلل، كما عانى من عسر البول. ولما انتقل أرل كافندشي آنذاك من تساتسورت إلى هاردويك هول أصر هوبز على مرافقته. وثبت أن الرحلة مرهقة، وبعدها بأسبوع انتشر الشلل في جسمه ولم يعد قادراً على الكلام. وفي 4 ديسمبر 1679 فاضت روحه بعد أن تناول الأسرار المقدسة، أنجليكانياً مخلصاً، وقد بلغ من العمر اثنين وتسعين عاماً إلا أربعة أشهر.
و - النتائج
كان علم النفس الذي جاء به هوبز رائعة الاستنتاج من مقدمات غير وافية، وقد يبدو منطقياً لأول وهلة، ولكنه مفكك الأوصال مهلهل بما فيه من فروض غير دقيقة وبما صوب منها مزيد من التحقيق والتمحيص والحتمية منطقية، ولكن قد يحددها طراز منطقناً ويشكلها معالجتنا للأشياء لا الأفكار. ووجد هوبز مشقة في أن يتصور أن أي شيء غير مادي، ويبدو أنه من الصعب بنفس القدر الذي نتصور أن الفكر والشعور ماديان، ومع ذلك فإن هذه هي الحقائق المعروفة لنا بطريق مباشر- وكل ما عداه فرضيات. وانتقل هوبز من الشيء المدرك بالحواس إلى الإحساس إلى الفكرة دون أن يلقي ضوءاً كافياً أو يوضح تماماً العملية الخفية التي يولد بها الشيء المادي ظاهرياً الفكر غير المادي ظاهرياً. إن علم النفس الميكانيكي يترنح أمام الوعي.
وعلى الرغم من ذلك فإنه في مجال علم النفس أسهم هوبز أكثر ما أسهم في تراثنا. فقضي على "الأرواح" الميتافيزيقية مثل "الملكات" التي جاءت بها المذاهب السكولاسية (مذاهب العصور الوسطى) ولو أن هذه يمكن على الفور تفسيرها، لا على أنها كيانات عقلية. بل مظاهر للنشاط العقلي. وأرسى قواعد المبادئ الأكثر وضوحاً في تداعي المعاني والخواطر، ولكنه انتقص من قيمة الفرض والانتباه في تحديد انتقاء الأفكار وتسلسلها وتشبثها. وأود وصفاً ناجحاً للتروي والاختيار. ولكن تحليله للانفعالات ودفاعه عنها خلاصة رائعة، ردت إلى سبينوزا الفضل الذي كانت مدينة به لديكارت. ويفضل أبحاث علم النفس هذه، طور لوك كتابه الأكثر دقة وتفصيلاً "رسالة في العقل البشري". وفي الرد على هوبز، (لافلمر)، كان تطوير لوك لرسالته عن الحكومة.
وأعادت فلسفة هوبز السياسية صياغة ميكيافللي بلغة شارل الأول، ونبعث هذه الفلسفة من الاستبدادية المطلقة الموفقة التي انتهجها هنري الثامن وإليزابث في إنجلترا، وهنري الرابع وريشيليو في فرنسا، كما أنه لا ريب في أنها استمدت بعض القوة من مخالطته لأصدقائه الأدواق والملكيين المهاجرين. ومن حيث الأثر المباشر بدا أن لهذه الفلسفة ما يبررها، في العودة السعيدة لملك من آل ستيوارت ما زال يدعى ويطالب بسلطان مطلق غير محدود، وينهي فترة من الفوضى المدمرة. ولكن بعض الإنجليز النابهين أحسوا بأنه إذا كانت موافق الهمجيين "القذرين المتوحشين" كافية لإقامة حكومة، فإنه موافقة الناس، وهم في حالة يفترض أنها أكثر تقدماً ورقياً، قد يكون من شانها أن تكبح جماح هذه الحكومة أو تطيح بها. وهكذا نجد في الثورة الجليلة 1688 أن فلسفة الحكم الاستبدادي المطلق سقطت أمام إعادة البرلمان توكيد سيادته، وسرعان ما حل مكانها تحررية "ليبرالية" لوك التي تدعو إلى تحديد السلطات والفصل بينها. وبعد ديمقراطية القرن التاسع عشر النسبية، التي نمت في إنجلترا التي يحرسها القنال، وفي أمريكا التي تحميها البحار، عادت استبدادية مطلقة معدلة في دول دكتاتورية تمارس رقابة حكومية على الحياة والممتلكات والصناعة والدين والتعليم والمطبوعات والفكر. وتخطت الاختراعات الجبال والخنادق، واختفت الحدود، وتلاشت العزلة القومية والأمن القومي. إن نظام الحكم المطلق ابن الحرب، والديمقراطية ترف السلم.
ولسنا ندري هل كان "لحالة الطبيعة" التي قال بها هوبز، وجود يوماً ما، فربما كان النظام الاجتماعي سابقاً للإنسان، فالقبيلة سبقت الدولة، والعرف أقدم وأوسع وأعمق من القانون. والأسرة هي أساس بيولوجي لا يثار ينمي الذات (الأنا) وولاداتها. وربما أصبح "علم الأخلاق" الذي جاء به هوبز أكثر ملائمة لو أنه عمد إلى تنشئة أسرة، أما أن يترك للدولة تحديد الأخلاقيات (ولو أن هذا انتقل إلى النظم الدكتاتورية) فمعناه تدخير إحدى القوى التي تعمل على تحسين الدولة والأخذ بيدها. إن الحس الخلقي يوسع في بعض الحيان دائرة التعاون أو الإخلاص والحب الشديد، ثم يستحث القانون على توسيع مجال حمايته تبعاً لذلك. وفي المستقبل البعيد قد يتسنى لدولة أن تكون مسيحية، كما كان الحال يوماً مع أشوكا الذي كان بوذياً.
وبرز أقوى تأثير لفلسفة هوبز في "ماديته". وسرت "أفكار هوبز" من الجماعات المفكرة إلى طبقات المهنيين ورجال الأعمال. وفي هذا قال بنتلي الغضوب 1693 "لقد زخرت بها الحانات والمقاهي بل وستمنسر هول (البرلمان) والكنائس ذاتها كذلك(64)". وتقبلها كثير من رجال الحكومة فيما بينهم وبين أنفسهم، ولكنهم في العلن حجبوها باحترام أبدوه للكنيسة الرسمية على أنها شكل مفيد للانضباط الاجتماعي لا يقوم على تدميره إلا الحمقى والأغبياء. وأثرت هذه الفلسفة المادية في فرنسا في تشكك بيل، وأتت عليها تطورات أشد جرأة عند لامتري ودي هولباخ وديدرو.
وكان بيل بعد هوبز من أعظم عباقرة القرن السابع عشر(65). ومهما أصاب من مدح أو قدح فقد اعترفوا بأنه أقوى فيلسوف أنجبنه إنجلترا منذ عهد بيكون، وأول إنجليزي يعرض بحثاً منهجياً أساسياً في النظرية السياسية. وإنا لندين له بفضل واضح، ذلك أنه صاغ فلسفته في ترتيب منطقي وف ينثر مشرق. وإننا إذ نقرأ هوبز وبيكون ولوك، أو فونتفل وبل وفلتير لندرك من جديد ما أنسانا الألمان إياه، من أنه ليس من الضروري أن يكون الغموض هو العلامة المميزة للفيلسوف، وأنه يجدر بكل فن أن يتقبل الالتزام الأدبي والأخلاقي واضحاً أو خامداً.
يوتوبيا هارنگتون
في الوقت الذي دافع فيه هوبز عن ملكية مزعجة موجعة، اقترح جيمس هارنجتون يوتوبيا ديموقراطية، والآن وقد كانت الكشوف الجغرافية والتجارة تفتح آفاقاً سحيقة من الكرة الأرضية، وجاءت الأساطير إلى أوربا مع كل بضاعة من وراء البحار، فقد كان من اليسير على أرباب الخيال والقلم أن يسبحوا في الخيال إلى ركن سعيد على الخريطة-إلى القمر أو إلى الشمس مثل سيرانو دي برجراك وتوماسو كمانللا-ركن قد تخزي أعرافه السياسية والاجتماعية طغيان الناس الذين تظلهم "المدنية" وبؤسهم. إن إعجاب عصر النهضة بالقديم قد أفسح المجال لقصص خيالية عن دول مثالية بشكل أو بآخر في أرض بعيدة لم يعتريها فساد. وهكذا قدم هارنجتون في 1656 إلى مقاهي لندن "الاقيانوسة".
ولد هارنجتون في بيت كريم، وكان طبيعياً أن ينحاز إلى فلسفة سياسية تناصر صغار مالكي الأرض في إنجلترا. وبعد تخرجه في أكسفورد طاف بإرجاء القارة، وأعجب بجمهورية الأراضي الوطيئة، وخدم في جيشها، وزار البندقية، وتأثر بنظمها الجمهورية، ورأى البابا وأبى أن يقبل إصبع قدمه، ولما عاد إلى إنجلترا اغتفرت له كل خطاياه حين ذكر لشارل الأول إنه لم يستطع أن يفكر تقبيل قدم أي سيد أجنبي بعد أن سبق له تقبيل يد ملك إنجلترا. وعندما شارل عين هارنجتون لملازمته. فأحب السجين البائس، ولكنه أوضح له أن "الجمهورية" أمر مرغوب فيه. ولازمه حتى النهاية، وكان على المنصة ساعة إعدام شارل، ويقولون أنه كاد يموت جزعاً وحزناً(66). وهدأ من روعه مولد "الجمهورية الإنجليزية"، فأنصرف إلى شرح آرائه الجمهورية في شكل روائي. ولكن بينما كان هرنجتون يكتب، غير كرومول الجمهورية الجديد إلى حامية شبه ملكية، وحين كانت "دولة الأوقيانوسة" في طريقها إلى طبع أمر "الحامي" بوقف العمل فيها. وهنا تدخلت ابنة كرومول الأثيرة لديه، السيدة كلايبول، من أجل الكتاب، وأهداه المؤلف إلى أبيها، وخرج إلى النور في 1656.
إن "الأوقيانوسة" هي إنجلترا بالشكل الذي كان المؤلف يأمل من كرومول أن يعيد تشكيلها فيه. إنه يضع مبدأ فصل تفصيلاً بعد قرنين من الزمان ليصبح التفسير الاقتصادي للتاريخ. ويقول هرنجتون بأن السيطرة السياسية تتبع، بشكل طبيعي وبحق، السيطرة الاقتصادية، وبهذا الانسجام وحده يمكن لأية دولة أن تنعم بالاستقرار. "على قدر ما يكون التناسب في ملكية الأرض تكون طبيعة الإمبراطورية- أي الحكومة(67)". فإذا امتلك فرد واحد الأرض كلها (كما هو أقلية لأصبحت الحكومة "ملكية مختلطة" تؤيدها كما تحد من سلطانها الأرستقراطية. "وإذا كان كل الناس ملاكاً للأرض، أو إذا وزعت الأرض بينهم، بحيث لا يطغى فرد أو مجموعة أفراد، فإن الإمبراطورية أي الحكومة (دون فرض بالقوة) تكون دولة جمهورية(68)" ورد هانجتون على هوبز الذي ذهب إلى أن كل الحكومات تستند إلى القوة، رد عليه بأنه لا بد من إطعام الجيوش وتسليحها، ومن ثم تنتقل السلطة إلى أولئك الذين يوفرون المال اللازم لهذا وذاك(69). أن أي تغيير في توزيع الملكية. وعلى هذا الأساس فسر هارنجتون انتصار البرلمان الطويل، حيث كان يمثل صغار الملاك على الملك الذي كان يمثل كبارهم.
وللحيلولة دون أن تصبح الحكومة أوليجاركية من ذوي الضياع الكبير، اقترح هارنجتون قانوناً "لإعادة توزيع الأراضي توزيعاً عادلاً" يحدد للفرد الواحد أرضاً لا تدر أكثر من ألفي جنيه في العام. إن الديموقراطية الفعلية تتطلب التوسع في توزيع الملكية، وخير ديموقراطية هي التي يكون فيها لكل مالك أرض دورة عمل في الحكومة وفي الجمهورية الإنجليزية الحقة يمكن للمواطنين أن يرسلوا ملاك الأراضي ليعملوا في جمعية شعبية وسناتو (مجلس الشيوخ). والسناتو وحده يقترح القوانين، والجمعية وحدها تقرها أو ترفضها. ويسمى أعضاء السناتو المرشحين للوظائف العامة، وينتخب المواطنون من هذه القائمة الحكام بالاقتراع السري(70). وفي كل عام يحل محل ثلث أعضاء الجمعية والسناتو والحكام أفراد آخرون في انتخاب جديد. وفي هذه الدورة يتسنى لكل ملاك الأرض أن يكون لهم في النهاية دور للعمل في الحكومة. أن هذا الانتخاب الشعبي يحمي المجتمع من المحامين الذين يخدمون المصالح الخاصة، ومن رجال الدين-"وهم الأعداء السافرون الألداء لسلطة الشعب(71)". ولسوف يكون هناك تعليم عام شامل وفي مدارس وكليات وطنية، وحرية تامة مطلقة في العقيدة الدينية.
"وكانت النظرية أخاذة جذابة جداً. "كما قال أوبري. وسرعان ما وجدت مؤيدون متحمسين لها. وجمع هارنجتون بعضهم (ومن بينهم أوبري) في أحد نوادي "روتا" Rota (1659) حيث أهاجوا الشعور العام للمطالبة بتشريع برلماني يقر هذه الجمهورية الدورية التي أقترحها هارنجتون الذي نسب الانهيار الذي أصاب الدولة آنذاك إلى عجزها عن مصادرة الضياع الكبيرة وإعادة توزيع الأرض على بمساحات أصغر، وكان هذا سبباً في احتفاظ النبلاء بقوتهم وسلطانهم. وبقاء الشعب على حاله من الفقر والضعف، على أساس أن ملكية الأرض هي التي تفرض الحكومة، وأن عودة الملكية الأوليجاركية أمر لا مفر منه إذا لم يقر البرلمان قانون "إعادة توزيع الأراضي". ويقول أوبري: "ولكن القسم الأكبر من رجال البرلمان كانوا يمقتون كل المقت مشروع "دورة العمل بالاقتراع العام، لأنهم كانوا طغاة ملعونين مولعين بسلطتهم وقوتهم(72)"، وآثروا أن يستدعوا شارل الثاني. وحيث استمر هارنجتون بنشر دعوته، حتى بعد عودة الملكية، فإن الملك أمر بإيداعه برج لندن (السجن) بتهمة التآمر (1661). ولما بذلت المساعي لإخلاء سبيله بمقتضى "التحقيق في قانونية حبس المتهم"، نقلوه إلى معتقل أكثر تضييقاً وأحكاماً في جزيرة بعيدة عن بليموث، وهناك أصابته نوبات من الجنون. وأطلق سراحه ولكنه لم يسترد صحته قط. وكانت "اليوتوبيا" التي نادى بها هارنجتون عملية أكثر من معظم "المدن الفاضلة المثالية"، وتحقق قدر كبير منها. وربما كانت إحدى نقاط الضعف فيها أنها افترضت أن الأرض هي الشكل الوحيد للثروة. إن هارنجتون ذكر سلطان المال في التجارة والصناعة، ولكنه لم يتوقع أو لم ينبأ بتبوئه السلطة السياسية، وربما كان قد أحس بأنه حتى الثروة التجارية والصناعية لا بد خاضعة في خاتمة المطاف لملاك الأرض. وكان التوسع في حق الانتخاب وفي الاقتراع السري يتفق مع آماله المرجوة، وعلى الرغم من أن بريطانيا رفضت فكرته في "دورة العمل والوظائف"، على أنها تبديد سنوي للخبرة والتجربة فإن الولايات المتحدة أخذت في التجديد الدوري لجزء من الكونجرس الأمريكي، ووافق لوك ومنتسكيو وأمريكا على نظريته في الفصل بين السلطات في الحكومة. فلا تيأسوا أيها الحالمون، فلعل الزمان يفاجئكم بتحقيق أحلامكم ويحول شعركم إلى نثر، أو وهمكم إلى واقع ملموس.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الربوبيون
وكما أضرت الحروب الدينية بالعقيدة الدينية في فرنسا، فإن الحرب الأهلية في إنجلترا أسهمت في إثارة الشكوك اللاهوتية. وأشاعت ذكريات الحكم البيوريتاني الزندقة والمروق عن الدين حتى بات أمراً مألوفاً بين الملكيين المنتصرين، كما جعلت الإلحاد يقترن بالمرح الصاخب والبذاءة في بلاط الملكية العائدة. واشتبه في إلحاد أرل شافتسبري الول ودوق بكنجهام الثاني وأرل روشستر الثاني، كما أشتبه في إلحاد هاليفاكس وبولينيروك بعد ذلك.
وأدى اتساع دائرة المعارف الجغرافية والتاريخية والعلمية وانتشارها إلى ارتفاع موجة التشكك. وفي كل يوم، كان أحد السائحين أو المؤرخين يطلع على الناس بأنباء أمم عظيمة دياناتها وأخلاقها عن المسيحية بشكل مثير فظيع، ولكنها عادة فاضلة مستقيمة مثلها. ويندر أن كانت نزاعة إلى القتل متعطشة إلى سفك الدماء مثل المسيحية. كما بدا أن النظرة الميكانيكية إلى العالم التي رسمها ديكارت التقي الورع، ونيوتن العالم البصير، نقول بدا أن هذه النظرة تصرف النظر عن دور العناية الإلهية" في تسيير الكون، وكان اكتشاف القانون في الطبيعة يجعل من المعجزات أمراً غير مستساغ غير مقبول. وأسهم الانتصار البطيء الذي أحرزه كوبرنيكس، والمحاكمة المثير التي عانى منها جاليليو، في تزعزع الإيمان وتقويض أركانه. بل أن المحاولة الجريئة التي قام بها كثير من رجال اللاهوت المسيحيين لشرح العقيدة على أساس من العقل، أضعفت العقيدة. ويقول أنطوني كولنز: لم يكن ثمة أحد يشك في وجود الله، حتى جاءت "محاضرات بويل" وأخذت على عاتقها إثبات وجوده(73).
إن تفنيد الإلحاد كان شاهداً على انتشاره. وفي 1672 كتب سيروليم تمبل "عن أولئك الذين يبدون أنهم أذكياء لأنهم يذكرون أشياء قالها الجاهل في نفسه، كما جاء على لسان داود(74)" وفي نفس العام قال سير تشارلز ولزلي "إن المروق عن الدين كان أمراً واقعاً في كل عصر، ولكن يبدو أن الدفاع عنه صراحة وعلانية من خصائص هذا العصر(75)". ويقول رئيس الشمامسة صمويل باركر 1681:
...... إن الجهال وغير المتفقهين منا أصبحوا أكبر المتظاهرين بالتشكك والكفر... وأصبح الإلحاد والمرق عن الدين في النهاية شائعين شيوع الرذيلة والفسوق. وفلسف الأجلاف والميكانيكيون لأنفسهم مبادئ بعيدة عن التقوى، وقرأوا دروسهم في الإلحاد على الناس في الشوارع والطرقات العامة، وإنهم لقادرون على أن يستخلصوا من كتاب "لواياثان" أنه ليس هناك إله(76)".
وبين الطبقات المتعلمة التمس الشك حلاً وسطاً في التوحيد-الدين الطبيعي-والربوبية. وأرتاب التوحيديون في المساواة بين المسيح والأب، ولكنهم عادة ارتضوا الكتاب المقدس نصوصاً إلهية. وآثر المدافعون عن الدين الطبيعي عقيدة مستقلة عن الأسفار المقدسة ومحصورة في المعتقدات التي رأوا أنها شاملة كلية-في الله وفي الخلود. أما الربوبيون، الذين قاموا بحركتهم أساساً في إنجلترا، فإنهم طالبوا فقط بالإيمان بالله الذي اعتبره أحياناً مفهوماً تجريدياً غير مشخص، مرادفاً للطبيعة، أو "الدافع الأصلي" لإله الدنيا التي قال بها ديكارت ونيوتن. وبرزت لفظة "ربوبي" Deist في 1627 في "رسالة إلى ربوبي" لرئيس الشمامسة إدوارد ستللنجفليت، ولكن مطبوعات الربوبيين كانت قد بدأت لورد هربرت شربري "الحقيقة" 1624.
وتابع تشارلز بلونت، أحد مريدي لورد هربرت، رسالته في كتاب "النفس البشرية" (1679). وكانت حجته أن كل ديانة أسست إنما كانت من خلق أو ابتداع دجالين أفاكين سعوا إلى السلطة السياسية أو الكسب المادي، وأن الجنة والجحيم كانت من بين المخترعات البارعة التي اصطنعوها للتحكم في الأهالي واستغلالهم. إن الروح تموت مع الجسد. إن الإنسان والحيوان متشابهان إلى حد أنه "من رأى بعض الكتاب أن الإنسان ليس إلا قرداً مصقولاً". وفي "عظمة ديانا آلهة أهل أفسوس" أو "منشأ الوثنية" (1680) جعل بلونت من القساوسة أدوات في أيدي الطبقات الغنية التي سمنت واكتنزت بفضل كدح الشعب الصابر وسذاجته. وفي دقة ماكرة مؤذية ترجم بلونت كتاب فيلوستراتوسي "حياة أبوللنيوس أوف تيانا"، وحدد أوجه الشبه بين المعجزات المنسوبة إلى صانع الأعاجيب الوثني والمعجزات المنسوبة إلى المسيحيين، وأوحى برفق إلى التشكك فيها وعدم تصديقها جميعاً على حد سواء.وفي "بيان موجز عن ديانة الربوبيين-(1686) اقترح بلونت ديانة خالية من أي عبادة أو طقوس، اللهم إلا عبادة الله بحياة فاضلة قائمة على الأخلاق". وفي "وحي العقل"(1693) أوضح بلونت أن اللاهوت المسيحي قام أول الأمر على توقيع خاطئ لانتهاء العالم في وقت قريب أو مبكر، وسخر من قصص الكتاب المقدس عن الخليقة، ومن مولد حواء من ضلع آدم، ومن الخطيئة الأصلية، ومن إيقاف يشوع الشمس، على أنها جميعاً سخافات صبيانية. وأومأ إلى أن "الاعتقاد بأن أرضنا الحديثة (جسم مظلم تافه في الكون، أصغر شأناً من النجوم الثابتة في الحجم والمنزلة معاً) هي قلب هذا الكون الشاسع الهائل وأعظم أجزائه سمواً وحيوية، إنما هو اعتقاد غير منطقي وغير عقلاني، يتعارض مع طبيعة الأشياء". وحاول كتاب آخر غفل من اسم المؤلف، منسوب إلى بلونت بصفة غير مؤكدة، عنوانه "معجزات لا خرق لقوانين الطبيعة (1683)"، حاول تفسير كثير من قصص المعجزات بأنها أفكار خاطئة راودت العقول البسيطة عن الأسباب والأحداث الطبيعية، وأضاف الكتاب نفسه أن الكتاب المقدس إنما كتب "ليثير مشاعر التقى والورع"، لا ليعلم الفيزياء، وينبغي تفسيره على هذا الأساس: "إن كل ما هو مناف للعقل، وكل ما هو مناف للعقل سخيف يدعو إلى السخرية وينبغي رفضه(77)" على أن بلونت نفسه لم يعبد العقل إلى النهاية، إذا صدقنا ما يروى من أنه قتل نفسه (1693) لأن القانون الإنجليزي لم يكن ليجيز له الزواج من أخت زوجته المتوفاة.
وتابع جون تولاند الحملة. وبحكم مولده في إيرلندة نشأ كاثوليكياً، ولكنه أرتد إلى البروتستانتية في شبابه. ودرس في جلاسجو وليدن وأكسفورد. وفي سن السادسة والعشرين أصدر كتاباً غفلا من اسم المؤلف "المسيحية لا تكتنفها أسرار" (1696) وصفه بأنه "رسالة توضح أنه ليس في الإنجيل شيء ينافي العقل "أو يسمو فوق العقل". ومذ تقبل بقبول حسن كتاب لوك الحديث "بحث في العقل البشري" حيث أثبت أن الإحساس هو أصل كل المعرفة، فإنه أي جون تولاند، خرج منه بعقلانية متطرفة. أنا أعتقد أن "العقل" هو الأساس الوحيد لكل حقيقة يقينية، ولا يستثنى من مجال بحث هذا العقل أي وحي أكثر مما يستثنى الظواهر العادية للطبيعة "..... إن الاعتقاد بألوهية الأسفار المقدسة أو معنى أية قطعة فيها، دون برهان عقلاني أو حجة دامغة قوية، إنما هو سذاجة أو سرعة تصديق جديرة باللوم... ومن المألوف أن يميل بعض الناس إلى سرعة التصديق عن جهل وعن عمد، لكن الأكثر من هذا أن ما يتوقعون من نفع هو الذي يدفعهم إلى سرعة التصديق(78).
وكان هذا بمثابة إعلان للحرب. ولكن تولاند في سياق حديثه بعد ذلك رفع غصن الزيتون، حيث أردف أن المبادئ المسيحية الأساسية عقلانية باستثناء تحول خبز القربان والخمر إلى جسد المسيح ودمه. وعلى الرغم من ذلك لم يسكتوا على هذا التحدي، فقد اجتمع كبار المحلفين في مدلسكس ودبلن عبر بحر أيرلندة ليستنكروا الكتاب، فأحرق بصفة رسمية أمام أبواب البرلمان الأيرلندي، وحكم على تولاند بالسجن، ولكنه هرب إلى إنجلترا، ولما عجز عن إيجاد عمل له فيها، هاجر إلى القارة. ولبعض الوقت لقي ترحيباً لدى صوفيا هانوفر وابنتها صوفيا شارلوت ملكة بروسيا.
وإلى صوفيا شارلوت هذه وجه تولاند "رسائل إلى سيرينا" (1714). وفي إحداها حاول أن يتعقب أصل عقيدة الخلود ونموها، وكانت هذه إحدى المحاولات الأولى في التاريخ الطبيعي للمعتقدات الخارقة للطبيعة. وفي رسالة ثانية عارض تولاند الرأي القائل بأن المادة في حد ذاتها جامدة لا حركة فيها، وقال أن الحركة صفة أساسية للمادة ملازمة لها، وليس ثمة جسم في سكون مطلق. وكل الظواهر المدركة بالحواس إن هي إلا حركات في المادة، بما في ذلك الأفعال التي يأتيها الحيوان، وقد يصدق هذا على الإنسان كذلك(79). ومهما يكن من أمر فإن تولاند عرض نفسه هنا للخطر، فإن مثل هذه الأفكار ينبغي أن لا تنشر علانية، حيث يجب ترك الجمهور غير المتعلم على معتقداته التقليدية دون إزعاج أو تشويش، باعتبار أن هذا وسيلة للسيطرة عليه أو التحكم فيه من الناحيتين السياسية والاجتماعية. ويجدر أن يكون التفكير الحر واجب الأقلية المتعلمة وامتيازاً مقصوراً عليها، وينبغي ألا يكون ثمة رقابة على هذه الأقلية "فلندع كل الناس يتحدثون بما يفكرون فيه كما يحلو لهم، دون أن يوصموا بالعار أو يعاقبوا إلا على ما يأتون من أعمال سيئة ضارة(80)". وظاهر أن تولاني هو الذي ابتكر مصطلحي "المفكر الحر" و "المؤمن بوحدة الوجود"(81) (القائل بأن الله والطبيعة شيء واحد، وأن الكون المادي والإنسان ليسا إلا نظاهر للذات الإلهية).
ويوحي بحثه "ابن الناصرة" (1718) بأن المسيح لم يكن يقصد الفصل بين أتباعه وبين اليهودية، وأن المسيحيين اليهود الذين ظلوا يتبعون شريعة موسى وكانوا يمثلون "الخطة الأصلية الحقة للمسيحية" وهناك رسالة صغيرة "الإيمان بوحدة الوجود" شرح فيها مذهب وطقوس جمعية سرية وهمية. وربما كان تولاند عضواً في Mother Grand Dlodge الماسونيين الأحرار التي أسست في لندن 1717. إن هذه الجمعية كما وصفها تولاند نبذت كل الوحي الخارق للطبيعة، وقدمت ديناً جديداً يتفق مع الفلسفة، وقالت بالتماثل بين الله والكون، واستبدلت بالقديسين في التقويم المسيحي أبطال الحرية والفكر. وأجازت الجمعية لأعضائها القيام بالعبادات العامة المألوفة ما داموا، عن طريق نفوذهم السياسي يستطيعون الحيلولة دون أن يكون التعصب أمراً مؤذياً ضارياً(82).
وزاول تولاند أعمال مختلفة لفترات متقطعة، وركن تولاند إلى حياة الفقر والعوز، لم ينقذه منها من الموت جوعاً إلا لورد مولزورث والفيلسوف شافتسبري. واحتمل في صبر وجلد حملات التفنيد التي شنت على كتبه (54 مرة في ستين عاماً). وزعم أن الفلسفة أسبغت عليه "هدوءاً تاماً"، وحررته من "فزع الموت(83). وفي سن الثانية والخمسين أصيب بداء عضال يستعصي البرء منه (1722) وكتب بنفسه عبارة قصيرة ملؤها الزهو والفخر لتنقش على قبره:
هنا يرقد جون تولاند الذي ولد.. بالقرب من لندندري.... نهل من مختلف الآداب والمعارف، وكان ملماً بأكثر من عشر لغات، وكان نصير الحق والمدافع عن الحرية، لم يربط نفسه بإنسان، ولم يتملق إي إنسان، ولم يحد تحت تأثير التهديد أو تحت ضغط البؤس والفاقة عن نهجه المرسوم الذي سار عليه حتى النهاية، مضحياً بمصلحته في سبيل السعي وراء الخير العام، إن نفسه متحدة مع الأب الذي في السماء الذي جاء منه في البداية، وليس ثمة أدنى شك أنه سيحيا ثانية في الخلود، ومع ذلك فإنه لن يكون هناك تولاند آخر.... لأن سائر الناس سوف يسترشدون بكتاباته(84).
وحمل أنطوني كولنز أمانة مذهب الربوبية بعد تولاند، في براعة وتواضع أكثر. وكان خير عون له في مهمته أنه كان ثرياً، وأن له بيتاً في الريف وآخر في المدينة، فلم يكن لينبذ لأنه معدم يتضور جوعاً. وكان ذا سلوك قويم، وخلق ليس فيه مطعن. كتب إليه لوك الذي عرفه كل المعرفة: "إن حب الحق من أجل الحق وحده هو الجانب الأساسي في الكمال الإنساني في هذه الدنيا، ومنبت كل الفضائل، وإذا لم أكن مخطئاً، فإنك جمعت منها قدر ما وجدته في أي إنسان(85)". إن كتاب كولنز "بحث في التفكير الحر" (1713) أحسن شرح للربوبية في هذا العصر.
إنه عرف التفكير الحر بأنه "استخدم الفهم في إيجاد معنى لأية قضية أياً كانت، والتأمل في طبيعة الدليل، لها أو ضدها، والحكم عليها وفقاً لنقاط القوة أو الضعف الظاهرة في الدليل" "وليس ثمة وسيلة أخرى للكشف عن الحقيقة(86)". إن تباين المذاهب والتفسيرات المتناقضة لنصوص الكتاب المقدس لتضطرنا إلى قبول حكم العقل، فلمن نتحكم بعده اذن، اللهم إلا أن نحتكم إلى القوة؟. وكيف يتسنى إلا طريق البينة والتأمل والاستنتاج، أن نقرر أي الأسفار في الكتاب المقدس حجة موثوقة، وأيها يطرح جانباً على أنها مشكوك في صحتها. وينقلا كولنز عن أحد رجال الدين أن أحصي ثلاثين ألف قراءة مختلفة اقترحها العلماء لنصوص العهد الجديد (الإنجيل) وحده. ويشير إلى ريتشارد سيمون ونقده المتعلق بنصوص الأسفار المقدسة(87).
ويحاول كولنز أن يرد على الاعتراضات التي آثارها المحاذرون من الرجال ضد الفكر الحر: حيث ذهبوا إلى أن معظم الناس لم يؤتوا القدرة على أن يفكروا تفكيراً حراً لا يضر ولا يؤذي في أمهات المسائل الأساسية، وأن مثل هذه الحرية قد تؤدي إلى انقسامات لا نهاية لها في الرأي وفي الشيع والمذاهب، ومن ثم تؤدي إلى الخلل والاضطراب في المجتمع، وأن حرية التفكير قد تفضي إلى الإلحاد في الدين والفجور والخلاعة في الخلق. ويضرب كولنز اليونان القديمة وتركيا الحديثة مثلاً للنظام الاجتماعي الذي يحتفظان به على الرغم من حرية الرأي واختلاف الأديان. وينكر أن حرية الفكر تؤدي إلى الإلحاد. ويقتبس عن بيكون قوله المأثور بأن الفكر الضيق ينزع بنا إلى الإلحاد، وبأن التفكير الواسع يصرفنا عنه، ويؤيد كولنز حكمة بيكون، ثم يضيف في إخلاص واضح، أن الجهل "هو أساس الإلحاد، والتفكير الحر هو علاجه(88)". ويعدد المفكرون الأحرار الذين كانوا "أفضل الناس في كل العصور": سقراط، أفلاطون، أرسطو، ابيقور، بلوتارك، فارو، كاتو الوقيب، كاتو أوتيكا، شيشرون، سنكا، سليمان، الرسل، أوريجن ارازمز، مونتاني، بيكون، هوبز، ملتون، تللوستون، ولوك. وهنا وعند تولاند أيضاً، نجد نموذجاً لقائمة أوجست كونت عن أعلام مذهب الوضعية، ويرى كولنز أنه في الإمكان وضع قائمة أخرى تضم أعداء الأفكار الحرة الذين جلبوا الخزي والعار على الإنسانية بقساوتهم الوحشية بحجة تمجيد الله.
وأنيرت له المنابر والجامعات وأمطرته وابلاً من الردود، وقالت أن كولنز رأى أن التعقل يتطلب الترحال. أنه ربما تأثر أثناء إقامته في هولندا بآراء سبينوزا وبيل، ولدى عودته إلى إنجلترا أثار عاصفة أخرى بكتابه "بحث في الحرية الإنسانية" (1715) الذي بسط فيه ببيان قوي واضح موضوع "الجبرية" أو الإيمان بالقضاء والقدر، حيث وجد كولنز نفسه مفكراً حراً عباً لإرادة غير حرة. وبعد ذلك بتسع سنين أثار جو اللاهوت برسالته "بحث في أسس الدين المسيحي وتفسيره". واقتبس عن الرسل وعن بسكال ما بنوا به شرحهم للمسيحية على نبوءات العهد القديم التي حققتها الشريعة الجديدة فيما يبدو، وجادل في أن هذه النبوءات لم تتضمن أية إشارة إلى المسيحية والمسيح. ورد عليه خمسة وثلاثون من رجال اللاهوت في خمس وثلاثون رسالة. وكان الخلاف ما زال محتد ما حين وصل فولتير إلى إنجلترا 1726، وطابت به نفسه في عبث مزعج، ونقله إلى فرنسا حيث وجد طريقه إلى "الاستنارة" المتشككة.
وواصل حركة الربوبية في إنجلترا وليم هويستون، ماتيو تندال، توماس تشب وكونيرز مدلتون، وانتقلت عن طريق بولنريك والفيلسوف شافتسبري إلى جيبون وهيوم. ولم تعد مقبولة عند الطبقات الحاكمة مذ ارتابوا في إنها تشجع الأفكار الديموقراطية، ولكن أثرها المباشر كان ملموساً في تزعزع عابر في العقيدة الدينية. وفي 1711 رفع إلى مجلس اللوردات تقرير رسمي عن هذا الموضوع. من المجلس الكنسي والإنجيلي في مقاطعة كنتربري. ويصف التقرير سعة انتشار الكفر والدنس، والشكوك في الخلود، وانتقاص من قدرة القساوسة على أنهم دجالون(89). وفي مطلع القرن الثامن عشر في إنجلترا "هبط الدين إلى الربوبية(90)"، وهنا في هذه الأزمة هب نفر من ذوي العقول الجبارة في بريطانيا في قوة ونشاط للدفاع عن المسيحية.
المدافعون عن العقيدة
كان معظم هؤلاء المدافعين مستعدين لمواجهة مهاجميهم على أساس من العقل والعلم والتاريخ، وقد كشف هذا في حد ذاته عن روح العصر.
وقاد تشارلز لزلي الدفاع برسالته "منهج قصير سهل مع الربوبين" (1697) قصد به في الأصل أن يكون ردأ على بلونت. وحاول أن يدلل على أن شواهد صحة قصص الكتاب المقدس هي من نفس طبيعة الشواهد على أعمال الإسكندر وقيصر، وأنها مقنعة مثلها تماماً. كما أن المعجزات ثبتت ببيانات كثيرة موثوقة يعتد بها، قدر ما تعتبره المحاكم الإنجليزية أدلة كافية، وما كان الكهنة ليقنعوا الناس بمعجزات مثل "انشقاق ماء البحر الأحمر" لو لم يؤيدهم في ذلك كثير من شهود العيان. وأنهى لزلي بحثه بتصوير اليهودية بأنها ميثاق بدائي نسخه ظهور المسيح، والوثنية بأنها مجموعة من الخرافات الصبيانية إلى حد لا يقبله العقل. والمسيحية وحدها هي التي صمدت أمام البينات والعقل .
أما صمويل كلارك الذي ألم بقدر كبير من الرياضيات والفيزياء، يكفي للدفاع عن نيوتن ضد ليبنز، فإنه أخذ على عاتقه إثبات الدين المسيحي ببراهين في دقة الهندسة وقساوتها. وفي محاضرات بويل للدفاع عن المسيحية في 1704، صاغ كلارك سلسلة من اثنتي عشرة قضية تثبت، في تقديره، وجود الله في كل زمان ومكان، وأنه قدير عليم كريم. وأن سلسلة الكائنات والأسباب المحتملة أو المعتمدة على غيرها لتفرض علينا أن نعتبر أمراً مفروغاً منه وجود كائن مستقل لا غنى عنه هو السبب الأول لكل الأسباب. ولا بد أن يكون الله متحلياً بالذكاء لأن الذكاء من صفات المخلوقات، وأن يكون الخالق أعظم كمالاً من المخلوق، ولا بد أن يكون الله حراً، وإلا كان ذكاؤه عبودية لا معنى لها. كل هذا بطبيعة الحال، لم يضف جديداً إلى الفلسفة القديمة أو فلسفة العصور الوسطى. ولكن في السلسلة الثانية من محاضراته، عرض كلارك أن يثبت "صدق الوحي المسيحي وأنه حقيقة لا ريب فيها". فقال بأن المبادئ الأخلاقية مطلقة مثل قوانين الطبيعة، وأن طبيعة الإنسان المنحرفة يمكن على أية حال توجيهها إلى الامتثال لقواعد الأخلاق عن طريق واحد هو غرس المعتقدات الدينية، ومن ثم كان لزاماً أن ينزل الله علينا الكتاب المقدس وفكرة الجنة والنار. ويضيف التاريخ، بسخريته المألوفة أن الملكة آن فصلت كلارك، وكان الكاهن الخاص لها، بتهمة ارتيابه في التثليث. وفي العهد التالي لحكم آن، كما يقول الشيطان الماكر فولتير، حيل بين كلارك وبين الوصول إلى منصب رئيس أساقفة كنتربري لأن أحد الأساقفة وشي به عند الأميرة كارولين، حين قال بأن كلارك أعلم الرجال في إنجلترا، ولكن به عيباً واحداً، ذلك أنه غير مسيحي(91).
وكان بنتلي الأوسع علماً قد أوضح بالفعل "حماقة الإلحاد وبعده عن التعقل" في "محاضرات بويل" 1692slash1693. وبعد ذلك بعشرين عاماً أثاره كتاب كولنز فأصدر "بعض ملاحظات على البحث الأخير في حرية التفكير". وتضمن هذا الكتاب بالدرجة الأولى عرضاً لأخطاء في بحث كولنز. وبدت الحجة دامغة والجدل عنيفاً، وقرر مجلس جامعة كمبردج بالإجماع تقديم الشكر إلى بنتلي. ورأى جوناتان سويفت الذي كان آنذاك ملتحقاً بخدمة بولنبروك وهو "ربوبي"، أن كولنز يستحق مزيداً من العقاب لأنه كشف سراً يحتفظ به كل أفاضل الرجال لأنفسهم ووقع عليه هذا العقاب في مقال بعنوان "بحث مستر كولنز في حرية التفكير بسط في لغة إنجليزية سهلة... ليستخدمه الفقراء" وسخر من الحجج التي ساقها كولنز في مبالغات فكاهية، وأضاف قوله: حيث أن معظم الناس حمقى أغبياء فأنه لما يجلب الكوارث أن نتركهم أحراراً في التفكير، "إن معظم بني الإنسان مؤهلون للطيران قدر أهليتهم للتفكير(92)"-وتلك عملية متوقعة في أيامنا هذه أكثر مما كان يقصد سويفت. واتفق مع هوبز في أن الدكتاتورية حتى في الروحانيات هي البديل الوحيد عن الفوضى. وقد رأينا أن الأنجليكانيين الأيرلنديين ذهبوا إلى أن الكاهن العابس المكتئب يمكن أن يكون مطراناً ممتازاً إذا آمن بالله.
أما أفلاطونيو كمبردج فقد دافعوا عن المسيحية بأسلوب أقل براعة وأشد إخلاصاً. إنهم ارتدوا إلى أفلاطون وفلوطين يلتمسون جسراً بين العقل وبين الله، ولم يستعينوا على إيضاح إيمانهم والتعبير عنه بالحجج والجدل قدر استعانتهم بالنزاهة والتقوى في حياتهم. وغمرهم إحساس قوي بالفضيلة والقدسية في أسمى مراتبها، حتى بدا هذا لهم أبلغ دليل وأقربه على العقل. ومن ثم زعم أول زعمائهم بنجامين هوتشكوت "أن العقل صوت الله(93)".
ذهب هنري مور العضو البارز في هذه الجماعة التي ذاع صيتها حيناً، إلى ما رواء فلسفات أوربا، إلى فكرة هندية تقريباً عن الفراغ، أو التفاهة الواقعية للمعرفة الحسية، وعدم قدرتها على إشباع تطلع النفس المنفردة المنعزلة إلى بعض الرفقة أو المغزى في الكون. ولم يرتح هنري مور إلى ميكانيكة الكون التي قال بها ديكارت. ولكن أشبعت حاجته الأفلاطونية الحديثة والمتصوفون اليهود وجاكوب بوم. وتساءل "هل معرفة الأشياء هي حقاً أسمى مصدر لسعادة الإنسان، أي شيء آخر أعظم وأقدس، أو إذا افترضنا أنه كذلك، فهل تلتمس السعادة في التلهف والإقبال على قراءة الكتب، أو التأمل وإمعان النظر في الأشياء، أو في تطهير العقل من كل ألوان الرذيلة. أياً كانت(94)". وعقد العزم على تطهير نفسه من كل أنانية أو انشغال بأمور الدنيا، أو فضول عقلي. "فلما خمدت عندي هكذا هذه الرغبة الجامحة في معرفة الأشياء، ولم تتق نفسي إلا إلى هذه الطهارة والبساطة في العقل وحدها، أشرقت كل يوم بين جوانحي ثقة أعظم مما توقعت يوماً ما، حتى في الأشياء التي كنت أرغب أشد الرغبة في معرفتها من قبل(95)". ويقول هنري مور أنه مذ طهر نفسه جسماً وروحاً بهذا الشكل، فقد فاحت من جسمه في فصل الربيع رائحة زكية، وأن البول عنده كان له عبير البنفسج(96).
ومذ تطهير هنري على هذا النحو، فقدا بدا أنه يحس بحقيقة الروح في نفسه على أنها أعظم اختبار ممكن إقناعاً للإنسان، ومن هذا الاقتناع انتقل على الفور إلى الاعتقاد بأن العالم معمور بأرواح أخرى على درجات تصاعدية، من أدناها إلى الله سبحانه وتعالى. وذهب إلى أن كل حركة في المادة هي من عمل نوع من الأرواح. وبدلاً من الحيز المادي الذي قال به هوبز، جاء هنري مور بكون روحاني ليست المادة فيه إلا وسيلة أو أداة للروح. وانتشرت بين آن وآخر هذه "الروح" المفعمة بالحيوية فيما وراء مستقرها، وإلا كيف يمكن بغير هذا تفسير المغناطيسية والكهرباء والجاذبية؟ وتابع مور بحثه، وارتضى فكرة وجود الشياطين والسحرة والأشباح. وكان رجلاً لطيفاً غير أناني، رفض كل المناصب الرفيعة الدنيوية التي عرضت عليه، وظل على علاقته الودية بهوبز الذي يدين بالمادية، والذي قال أنه إذا وجد يوماً أن آراءه الخاصة يتعذر الدفاع عنها فإنها "لا بد أن يعتنق فلسفة الدكتور مور(97)".
أما رالف كودورث، أعلم الأفلاطونيين في كمبردج، فإنه أخذ على عاتقه أن يثبت أن آراء هوبز هشة يسهل دحضها. إن رسالة "الجهاز العقلي الحقيقي للكون" (1378) تحدث هوبز أن يفسر لماذا، بالإضافة إلى مختلف الحركات الحسية والعضلية التي اختزل إليها كل عمليات الذهن، هناك أيضاً، في أحوال كثيرة، إدراك لهذه الحركات، وكيف تجد أي فلسفة مادية مجالاً أو وظيفة للوعي أو الشعور؟ وإذا كان كل شيء مادة متحركة، فلماذا لا يخدم الجهاز العصبي كل شيء عن طريق الإحساس والاستجابة، كما هو الحال في الأفعال المنعكسة اللاإرادية، ولا يزعجه الشعور الزائد أو غير الضروري؟ كيف يمكن أن ننكر حقيقة الشعور وواقعه-بل أولويته وأهميته-وهو الذي لا يتسنى بدونه معرفة أية حقيقية كانت؟ ليست المعرفة وعاء سلبياً غير فعال للأحاسيس، إنها تحول نشيط فعال للأحاسيس إلى أفكار(98). وهنا في كلام كودورث نرى أنه يستبق بزمن طويل، رد باكلي وكانت على هوبز وهيوم.
ولم يكن جوسف گلانڤيل، كاهن شارل الثاني، من الناحية الجغرافية، واحداً من الأفلاطونيين في كمبردج، ولكنه أتفق معهم اتفاقاً قوياً. وفي "غرور الدوجماتية" (التمسك برأي دون دليل كاف) 13661 ألصق جوزيف جريمة الدوجماتية بالعلم والفلسفة، محتجاً بأنهما أقاماً نظماً تتسم بالتكلف والمبالغة الحمقاء لوضع النظريات والمبادئ، على أسس مزعزعة غير آمنة. وعلى هذا فإن فكرة العلة أو السبب (التي ظنها جلانفيل أساسية لا غنى عنها للعلوم) افتراض غير معقول ولا مبرر له. فنحن نعرف التعاقبات والعلاقات والمناسبات، ولكن ليست لنا أي فكرة عما هو الحال في شيء يحدث أثراً في نفسه أو في شيء آخر (هاجس آخر لهيوم). ويقول جلانفيل: تصور مدى جهلنا بالأشياء الأساسية جداً-طبيعة النفس ونشأتها، وعلاقتها بالجسم "كيف يتحد الفكر مع كومة من الطين؟ إن تجمد الكلمات في المناطق الشمالية، وحدوث هذا الاتحاد العجيب، أمران لا يمكن تخيلهما أو تصديقهما، سواء بسواء. إن تعليق بعض الأثقال في أجنحة الريح يبدو أمراً أيسر كثير أن يدركه العقل(99)".
واستبق جلانفيل برجسون في أنه يسم العقل بأنه ذو بنية مادية ألف التعامل مع المادة إلى حد فقدان القدرة على التفكير في حقائق أخرى لا "بالرجوع إلى الصور المادية(100)". إلى أي حد نجد حواسنا عرضة للخطأ: إنها تظهر الأرض وكأنما هي ساكنة في الفضاء، على حين يؤكد لنا العلماء المحدثون أنها مشوشة الذهن بمجموعة مختلفة من الحركات المتزامنة. وحتى من افتراض أن حواسنا قد خدعتنا، فما أكثر ما نخطئ في الاستنتاج من مقدمات صحيحة. إن مشاعرنا تضللنا المرة بعد المرة. "وما أسهل أن نؤمن بما ترغب فيه". وغالباً ما تسيطر بيئتنا العقلية على تفكيرنا:
إن للأفكار أجواءها وتنوعاتها الوطنية.... إن هؤلاء الذين لم يختلسوا النظر قط إلى ما وراء المعتقدات العامة التي أشرتها أفهامهم البسيطة منذ البداية، موقنون يقيناً راسخاً بصدق ما تلقوه وتفوقه نسبياً على غيره.... أما النفوس الكبيرة التي جاست خلال أجواء الفكر المختلفة (وهنا ولدت عبارة مشهورة) فإنهم أشد حرصاً وأكبر محاذرة فيما يتخذون من قرارات وأكثر اقتصاداً وتريثاً في الفصل في الأمور(101).
وعلى الرغم من هذه التحذيرات للعلوم، كان جلانفيل عضواً غيوراً في الجمعية الملكية ودافع عنها ضد اتهاماتها بالمرق عن الدين، وأثنى على منجزاتها، وتطلع إلى عالم زاخر بالأعاجيب يأتي به البحث العلمي:
لا يخامرني شك في أن أعقابنا سيجدون أشياء كثيرة هي الآن مجرد إشاعات قد تأكد لهم حقائق عملية. وبعد عدة أجيال من الآن، قد لا تبدو رحلة إلى الأقاليم الجنوبية المجهولة، لا بل إلى القمر، أشد غرابة من رحلة إلى أمريكا. وسوف يكون أمراً عادياً لمن يأتون بعدنا أن يشتروا جناحين ليطيروا إلى المناطق النائية مثلما نشتري اليوم حذاء عالي الساق للركوب في رحلة. كما يكون التشاور مع أقاليم الأنديز البعيدة بوسائل مريحة أمراً مألوفاً للأجيال القادمة مثلما هو مألوف لدينا الآن أن نتبادل الرسائل الأدبية. إن إعادة الشعر الأشيب لليافعين وتجديد الحيوية المستنزفة قد يكون من الميسور على مر الزمن تحقيقهما دون معجزة، كما أن ليس من المستبعد في زراعة المستقبل أن تتحول الأرض القفر الآن إلى جنة(102).
ويجدر بنا أن نضيف إلى ما سبق أن جلانفيل، مثل كودورث وهنري مور آمن بالسحرة. إن هؤلاء احتجوا بأنه إذا كان هناك عالم روحي وعالم مادي سواء بسواء، فلا بد من وجود الأرواح والأجسام في الكون. وبناء على الخطر الكامن في الأشياء فلا بد أن تكون بعض هذه الرواح شيطانية شريرة. وإذا كان الأتقياء الورعون يتصلون بالله أو القديسين أو الملائكة، فلماذا لا يتصل الأشرار بالشيطان وعفاريته؟ وقال جلانفيل إن آخر خدعة للشيطان أن ينشر الاعتقاد بعدم وجوده. "إن هؤلاء الذين لا يتجرأون على القول بصراحة بأنه لا يوجد إله، يقنعون (كخطوة مقبولة أو نقطة بداية) بأن ينكروا أن هناك أرواحاً وسحرة(103)" إن الشيطان يجب إنقاذه من أجل الله.
جون لوك 1632 - 1704
أ - سيرة حياته
ولد أعظم فلاسفة العصر أثراً في رنجتون بالقرب من برستول، في نفس العام الذي ولد في سبينوزا. ونشأ وترعرع في إنجلترا التي قامت فيها ثورة دامية وقتلت مليكها، وأصبح الصوت المنادي بثورة سلمية وعصر يسوده الاعتدال والتسامح، ومثل التسوية الإنجليزية في أحكم صورة وأفضلها. كان أبوه محامياً بيوريتانياً ناصر مع شيء من التضحية قضية البرلمان، وشرح لابنه نظريتي سيادة الشعب والحكومة النيابية، وبقي لوك مخلصاً لهذه الدروس مؤمناً بها، شاكراً معترفاً بفضل أبيه في تعويده على الرصانة الدروس مؤمناً بها، شاكراً معترفاً ليدي ماشام عن والد لوك أنه:- سلك معه في صغره نهجاً تحدث عنها الابن فيما بعد في استحسان بالغ. ذلك أنه كان قاسياً عليه بإبقائه في رعب شديد منه، وعلى أبعد منه، حين كان صبياً. ولكنه كان يخفف من هذه القسوة شيئاً فشيئاً حتى استوى جون رجلاً، آنس منه رشداً ومقدرة فعاش مع صديقاً حميماً(104).
ولم يقر لوك لمعلميه بمثل هذا الفضل. وفي مدرسة وستمنستر أرهق باللاتينية واليونانية والعبرية والعربية، ومن الجائز أنه لم يسمح له بشهود إعدام شارل الأول (1649) في ساحة قصر هويتهول القريب من المدرسة، ولكن هذه الحادثة تركت أثراً في فلسفته. وعوقت اضطرابات الحرب الأهلية التحاقه بكلية كريست في أكسفورد حتى بلغ العشرين من عمره. وهناك درس أرسطو مصوغاً في قوالب سكولاسية باللاتينية، كما درس مزيداً من اليونانية، وبعض الهندسة والبلاغة، وكثيراً من المنطق وعلم الأخلاق، لفظ معظمها فيما بعد، على انها عتيقة مهجورة موضوعاً. غير مستساغة ولا مقبولة شكلاً. وبعد حصوله على درجة الماجستير (1658) بقي بكليته باحثاً في الدراسة العليا، يدرس ويحاضر. ووقع لبعض الوقت في غرام "سلبني عقلي(105)"، ثم استرد عقله وخسر عشيقته. ولم يتزوج لوك قط، مثله في ذلك مثل كل فلاسفة هذا العصر تقريباً- ماليرانش، بل، فونتنل، هوبز، سبينوزا، ليبنتز. ونصحوه بالالتحاق بإحدى وظائف الكنيسة، ولكنه تردد وقال: "إذا رقيت إلى مكان قد لا أستطيع أن أملأ فراغه فإن الهبوط منه لن يكون إلا سقوطاً مروعاً يسمع له دوي شديد(106)".
وفي 1661 مات والده بالسل، تاركاً له ثروة ضئيلة ورئتين ضعيفتين. ودرس الطب ولكنه لم يحصل على درجة فيه إلا في 1674. وفي الوقت نفسه قرأ ديكارت، وأحس بسحر الفلسفة حين تحدثت في جلاء ووضوح. وساعد روبرت بويل في تجاربه المعملية، وملأه الإعجاب بالمنهج العلمي. وفي 1667 تلقى دعوة للحضور والإقامة في قصر أكستر ليكون طبيباً خاصاً لأنطوني آشيلي كوبر الذي سرعان ما أصبح أرل شافتسبري الأول، وعضو الوزارة أيام شارل الثاني، ومنذ هذا التاريخ إلى ما بعده، وعلى الرغم من احتفاظه رسمياً بمنصبه في أكسفورد حتى 1683، وجد لوك نفسه غارقاً في خضم السياسة الإنجليزية حيث شكلت أحداثها ورجالاتها أفكاره.
وأنقذ لوك، الطبيب، حياة شافتسبري حيث أجرى له عملية بارعة لاستئصال ورم خبيث (1668). وساعد في المفاوضات لإتمام زواج ابن شافتسبري، وسهر على زوجة ابنه أثناء الوضع، وأشرف على تعليم حفيده، خليفته في الفلسفة. ويذكر هذا الحفيد، أرل شافتسبري الثالث أن:
مستر لوك حظي بتقدير كبير لدى جدي، حتى وأنه وقد عرف بالتجربة أنه عظيم في الطب، رأى أن هذا جانب صغير من جوانب عظمته، وشجعه على الاتجاه بأفكاره إلى منحى آخر، ولم يسمح له بمزاولة الطب إلا في أسرته أو من قبيل العطف أو الرحمة بصديق حميم. وهيأه لدراسة المسائل الدينية والمدنية التي تهم البلاد، وكل مل يتصل بمهمة الوزير في الدولة. وقد أحرز في هذا نجاحاً كبيراً حدا بجدي إلى أن يتخذ منه صديقاً يسأله المشورة في أية قضية من هذا النوع(107). ولمدة عامين (1673- 1675) اشتغل لوك سكرتيراً لمجلس التجارة والزراعة (المستعمرات) الذي كان يرأسه شافتسبري. وساعده على وضع دستور لكارولينا التي أسسها شافتسبري وكان أكبر ملاك الأرض فيها. ولم تطبق هذه "النظم الأساسية" في المستعمرة بصفة عامة، ولكن حرية الضمير التي تضمنتها هذه النظم لقيت قبولاً حسناً إلى حد كبير لدى المستوطنين الجدد(108). ولما تخلى شافتسبري عن مهامه السياسية 1675 جال ولك ودرس في فرنسا حيث التقى هناك بفرانسوا برنييه الذي أظهره على فلسفة جاسندي التي وجد فيها رفضاً معقولاً "للأفكار الفطرية" وهي مقارنة عقل الطفل الذي لم يولد باللوح النظيف الخالي من أي شيء، والجملة المأثورة التي نقلت فيما بعد عبر القنال الإنجليزي: "ليس ثمة شيء موجود في العقل إلا كان موجوداً أولاً في الحواس".
وفي 1679 عاد لوك إلى إنجلترا وإلى شافتسبري، ولكن الأرل زج بنفسه أكثر فأكثر في غمار الثورة، فآوى لوك إلى أكسفورد حيث أستأنف الدرس والبحث. وأثار القبض على شافتسبري وهربه من السجن ثم فراره إلى هولندا شبهات الملكيين حول أصدقائه. وانبث الجواسيس في أكسفورد للقبض على لوك متلبساً بما يمكن أن يكون أساساً لتقديمه إلى المحاكمة(109). فلما أحس بالخطر وتنبأ باعتلاء عدوه جيمس الثاني عرش إنجلترا، فإنه كذلك لجأ إلى هولندا (1683). على أن ثورة دوق مونموث القصيرة الأجل التي ماتت في مهدها (1681) استنفرت الملك جيمس الثاني إلى أن يطلب من الحكومة الهولنديه تسليم خمسة وثمانين لاجئاً إنجليزياً بتهمة اشتراكهم في المؤامرة لقلب عرش الملك الجديد. وكان من بينهم لوك، فاختبأ وأتخذ اسماً زائفاً. وبعد سنة أرسل إليه جيمس عرضاً بالعفو عنه ولكنه آثر البقاء في هولندا. وأقام في أوترخت وامستردام وروتردام، حيث لم يستمتع بصداقة الإنجليز اللاجئين فحسب، بل سعد كذلك بصداقة العلماء الهولنديين مثل جين لي كلرك وفيليب فان لمبروخ، وكلاهما من زعماء اللاهوت الأرميني المتحرر. وفي هذا الوسط وجد لوك تشجيعاً كبيراً لآرائه في سيادة الشعب والحرية الدينية. وهناك كتب "بحث في العقل الإنساني"، والمسودات الأولى لأبحاثه في التعليم والتسامح الديني. وفي 1687 اشترك في مؤامرة لإحلال وليم الثالث محل جيمس الثاني على عرش إنجلترا(110). فلما نجحت حملة نائب الملك في هذه المغامرة أبحر لوك إلى إنجلترا (1689) على نفس السفينة التي أقلت الملكة المقبلة ماري(111). وقبل مغادرة هولندا كتب باللاتينية إلى لمبورخ رسالة تفيض بأحر العواطف. مما يدحض أو يصبح ما ظن من أن اعتداله المألوف نبع من برودة طبعه:
إني إذا أرحل عنكم، أكاد أشعر إني أفارق بلادي وعشيرتي وأهلي فإن كل شيء يتعلق بالقرابة والسنة الحسنة والحب والشفقة- كل ما يربط الناس بعضهم ببعض بوشائج قوى من رابطة الدم- وجدته بينكم موفوراً. إني أترك ورائي أصدقاء لا سبيل إلى نسيانهم أبداً. ولن أودع الرغبة في سنوح الفرصة لأستمتع ثانية بالرفقة الحقه لأصدقاء، لم اشعر وأنا بينهم بأي حنين أو رغبة، حيث كنت بعيداً عن ارتباطاتي الخاصة، وأعاني من أشياء كثيرة، أما أنت يا أفضل الرجال وأعزهم وأنبلهم، فإني حين أفكر في علمك وحكمتك وشفقتك وصراحتك وإخلاصك ورقتك ودماثة خلقك، يتضح لي إني وجدت في صداقتك أنت وحدك ما يجعلني أبتهج دوماً لأني أرغمت على قضاء هذا العديد من السنين في رحابك(112).
وفي إنجلترا التي تولى فيها أصدقاء لوك مقاليد الحكم، تقل الفيلسوف عدة مناصب رسمية. ففي 1690 كان مفوض الاستئناف، وفيما بين 1696- 1700 كان مفوض التجارة والزراعة، وكان صديقاً حميماً لجون سومرز النائب العام، وشارل مونتاجو أرل هاليفاكس الأول، وايزاك نيوتن الذي ساعده لوك في إصلاح العملة. وبعد 1691 قضى معظم وقته في أوتس مور في أسكس مع سير فرانسيس ماشام وقرينته ليدي داماريس ماشام إحدى بنات رالف كودورث. وظل في هذا الركن الهادئ يكتب وينقح ما كتب حتى وافته المنية.
ب - الحكومة والملكية
كان لوك قد بلغ السادسة والخمسين من العمر حيث عاد من منفاه. ولم يكن قد نشر سوى بعض مقالات قليلة الشأن، وخلاصة بالفرنسية "للمقال" في المكتبة العالمية التي كان يصدرها لي كلارك (1688) ولم يكن يعرف عن اشتغاله بالفلسفة إلا نفر قليل من أصدقائه. وما هي إلا سنة واحدة، هي "سنة العجائب" حتى دفع إلى المطبعة ثلاثة كتب سمت به إلى مصاف الشخصيات البارزة الكبرى في عالم الفكر في أوربا. وظهرت "رسالة عن التسامح" في مارس 1689، في هولندا، ثم ترجمت إلى الإنجليزية في الخريف. وأعقبتها في 1690 "برسالة ثانية عن التسامح". وفي فبراير 1690 أصدر مقاليه عن "الحكم المدني"، وهما حجر الزاوية في النظرية الحديثة للديموقراطية في إنجلترا وأمريكا، وبعد شهر واحد أخرج كتابه "بحث في العقل الإنساني"، وهو أعظم المؤلفات أثراً في علم النفس الحديث. وعلى الرغم من إتمامه هذا الكتاب الأخير قبل مغادرته هولندا فإنه عجل بطبع مقالي "الحكم المدني" قبله، لأنه كان تواقاً إلى تزويد "الثورة الجليلة 1688slash1689 بأساس فلسفي. وقد أثبت هذا الهدف صراحة في مقدمة المقال الأول "لتثبيت عرش منقذنا العظيم مليكنا الحالي وليم الثالث، وتدعيم حقه الشرعي أمام الناس.... وأبرز عمل الشعب الإنجليزي في نظر العالم، ذلك الشعب الذي أنقذ حبه لحقوقه الطبيعية العادلة وتصميمه على المحافظة عليها، أنقذ الأمة التي كانت شفا العبودية والدمار(113)".
وكان المقال الأول والأصغر رداً على "دفاع عن السلطة الطبيعية للملك" الذي كان سير روبرت فيلمر قد ألفه حوالي 1642 تدعيماً لحقوق شارل الإلهية، والذي لم يكن قد وصل إلى المطبعة إلا مؤخراً (1680) في ذروة حكم شارل الثاني المطلق المنتصر. ولم يكن هذا الكتاب أحسن ما دبج قلم سير روبرت، فإنه نشر في 1648 دون أن يذكر أسمه، "فوضى الحكم المختلط المحدد" الذي استبق به آراء هوبز. وعلى الرغم من إيداع فيلمر السجن لدفاعه عن قضية خاسرة فإنه دافع عنها ثانية في "ملاحظات على كتاب السياسية لأرسطو" الذي نشر غفلاً من اسم المؤلف في 1652، قبل وفاته بعام واحد.
صور فيلمر الحكومة بأنها امتداد للأسرة. وأودع الله السيادة في الأسرة الإنسانية الأولى، في آدم الذي أنحدر من الآباء. وعلى أولئك الذين (مثل خصوم فيلمر) يؤمنون بأن الكتاب المقدس منزل من عند الله، أن يسلموا بأن الأسرة الأبوية وسلطة الأب. أقرهما الله. وانتقلت هذه السيادة من الآباء إلى الملوك. وكان الملوك الأوائل آباء، وكان سلطانهم شكلاً من حكم الآباء، مشتقاً منه، فالملكية إذن ترجع إلى آدم، ومن ثم إلى الله. وسيادة الملوك، إلا إذا أمروا بخرق صريح للقانون الإلهي، مقدسة مطلقة. والتمرد عليها خطيئة وجريمة في وقت معاً(114).
وعلى نقيض النظرية التي تقول بأن الإنسان ولد حراً، يقول فيلمر بأن الإنسان ولد خاضعاً لعادات الجماعة وقوانينها، وللحقوق الطبيعية والشرعية للوالدين على أولادهم. "إن الحرية الطبيعية" خرافة رومانسية. وأنها لخرافة أيضاً أن الحكومة قامت برضا أفراد الشعب واتفاقهم. "والحكومة النيابية" خرافة أخرى. فالممثل لا يختاره إلا أقلية ضئيلة نشيطة في كل دائرة انتخابية(115). وكل حكومة هي من أغلبية عن طريق أقلية. ومن طبيعة الحكومة أن تكون فوق القانون. فللهيئة التشريعية، بمقتضى تعريفها، سلطة سن القوانين وتغييرها أو إلغائها. "وأنا لنخدع أنفسنا إذا راودنا الأمل يوماً في أن تحكمنا سلطة غير استبدادية(116)" وإذا كان للحكومة أن تعتمد على إرادة المحكومين، فسرعان ما ينتهي الأمر إلى عدم وجود حكومة البتة، فإن كل فرد أو مجموعة أفراد ستزعم لنفسها الحق في العصيان والتمرد وفقاً لما يمليه "الضمير". وتلك هي الفوضى أو حكم الرعاع". وليس هناك طغيان يمكن أن يقاس بطغيان الجماهير(117)".
وأحس لوك أن مهمته الأولى، وهو المدافع عن الثورة الجليلة أن يدحض حجج فيلمر. وقال "أنه لم يكن هناك يوماً مثل هذا الهراء المرتجل دون ترو بمثل هذه الكثرة في لغة إنجليزية رنانة" كما جاء في مقالات سير روبرت(118). ليس لي أن أتحدث بمثل هذه الصراحة على رجل لم يعد يستطيع أن يرد"، لو لم يعتنق المنبر السنين الخوالي علانية نظريته ويجعل منها عقيدة مقدسة رائجة في هذا العصر"- يعني لو لم يعتنق رجال الكنيسة الأنجليكانية نظرية حقوق الملوك الإلهية حتى في عهد الملك الكاثوليكي جيمس الثاني، وانتقل لوك، في تهكم هازل، لاذع أحياناً، ليفترض على أن فيلمر أرجع سلطة الملك إلى ما افترض من سلطة آدم وآباء التوراة، ولسنا في حاجة إلى تتبعه في طول دحضه للكتاب المقدس. ونحن اليوم نبرر خلافاتنا السياسية بوسائل أخرى غير الأسفار المقدسة أن شائناً من تفكير فليمر لا يزال باقياً بعد أن تناوله لوك بهذه الطريقة الخشنة- المحاولة مهما كانت خاطئة في تفصيلها لإلقاء الضوء على طبيعة الحكومة بالتماس أصولها في التاريخ، حتى في البيولوجيا. ومن المحتمل أن فليمر ولوك كليهما انتقصا من قدر الدور الذي لعبه الغزو والقوة في إقامة الدول.
وفي المقال الثاني من "الحكم المدني" تحول لوك إلى مهمة البحث لحكم وليم الثالث في إنجلترا عن سند أقوى من الحق الإلهي الذي يعيد لسوء الحظ السلطة إلى جيمس الثاني. إن لوك حين اسندج ارتقاء وليم العرش من رضا المحكومين افترض أكثر مما استطاع إثباته بالتاريخ: إن الشعب لم يكن قد أعلن قبوله غزو وليم لإنجلترا، كما أن النبلاء أو أبناء الطبقة الأرستقراطية الذين كانوا قد وضعوا الخطة لهذا الغزو لم يكونوا فكروا في الحصول على موافقة الشعب، ولم يفكروا إلا في تجنب مقاومته، ومع ذلك فإن لوك في التماسه سنداً من الفلسفة لسلطة وليم، أتى بدفاع مؤثر عن سيادة الشعب. وفي سبيل دفاعه عن الملك الحاكم بسط نظرية الحكومة النيابية، وفي سياق عرضه الأساسي المنطقي لحركة الأحرار (الهويجز) والمدافعين عن حق التملك، صاغ إنجيل الحرية السياسية، وأنهى هيمنة هوبز على الفلسفة السياسية الإنجليزية.
وحذا لوك حذو هوبز في افتراض "حالة طبيعية" بدائية. قبل نشوء الدول. وشكل- مثل هوبز وفليمر- التاريخ وفقاً لأغراضه ولكنه على عكس هوبز، تصور أن الأفراد في "الحالة الطبيعية" كانوا أحراراً متساوين، واستخدم هذه اللفظة، كما استخدمها جفرسون حين نسج من منواله، لتعني أنه ليس لأحد بالطبيعة "حقوق" أكثر مما لسواه، وهو يبيح للإنسان في "الحالة الطبيعية" غرائز معينة بمثابة إعداد سايكولوجي للمجتمع، ويأتي لوك أحياناً بافتراضات لطيفة "من حيث أن كل إنسان حر بالطبيعة، فليس في إمكان أي شيء أن يخضعه لأية سلطة دنيوية إلا برضاه وموافقته...(119)" ولم يكن "الطور الطبيعي" في هذه النظرية- كما صوره هوبز- حرباً بين الناس بعضهم بعضاً، لأن "سنة أو قانون الطبيعة" أيد حقوقهم بوصفهم حيوانات عاقلة. وذهب لوك إلى أنه بمقتضى العقل توصل الناس إلى اتفاق "عقد اجتماعي"، الواحد منهم مع الآخر تنازلوا فيه عن حقوقهم الفردية في القضاء والعقاب، لا لملك، بل للجماعة ككل. وعلى هذا تكون الجماعة هي السيد أو الحاكم الحقيقي، وهي تختار بأغلبية الأصوات رئيساً أعلى ينفذ مشيئتها(120). ويمكن أن يسمى ملكاً، ولكنه مثل أي مواطن آخر ملتزم بطاعة القوانين التي تسنها الجماعة. فإذا سعى (مثل جيمس الثاني) إلى خرقها أو المراوغة في تطبيقها، كان للجماعة الحق في سحب السلطة التي منحاه إياه.
والحق أن لوك لم يكن يدافع عن وليم ضد جيمس، بل عن البرلمان (المنتصر الآن) ضد أي ملك، إن أعلى سلطة في الدولة ينبغي أن تكون السلطة التشريعية، التي يجب أن تختارها الأصوات الحرة غير المشتراة. ويجدر أن توقع القوانين أشد العقوبة على كل محاولة لشراء أصوات المواطنين أو المشرعين. ولم يتنبأ لوك بأن وليم الثالث الذي أعجب الفيلسوف به قد يضطر إلى شراء أصوات أعضاء البرلمان، وأن الأسرات القوية قد تستمر لمائة وأربعين عاماً بعده تتحكم في أصوات "المدن الفاسدة القابلة للرشوة" أو تقرر مصيرها. وينبغي أن تكون السلطة التشريعية مستقلة تمام الاستقلال عن السلطة التنفيذية، وأن يكون كل من جهازي الحكومة هذين رقيباً على الآخر.
ويقول لوك "ليس للحكومة من هدف إلا صيانة الملكية (حق التملك)(121)" لقد كانت هناك شيوعية بدائية، حين نما الطعام دون زراعة، واستطاع الإنسان أن يعيش دون كد ولا كدح، ولكن عندما بدأ العمل انتهت الشيوعية، لأن الإنسان أخذ لنفسه، ملكاً خاصاً به، أي شيء ذا قيمة أضفاها عليه جهده هو. فالعمل إذن هو مصدر "99%" من كل القيم المادية(122). (وهنا قدم لوك للاشتراكية الحديثة على غير قصد منه إطلاقاً، أحد مبادئها الأساسية). إن المدنية تنمو عن طريق العمل، ومن ثم عن طريق نظم الملكية بوصفها نتاج العمل. ومن الناحية النظرية ليس لإنسان لأن يمتلك أكثر مما يستطيع استخدامه(123). ولكن اختراع النقود مكنه من بيع فائض نتاج عمله، مما لم يستطع الانتفاع به، وعن هذا الطريق ساد التفاوت الكبير أو عدم المساواة في الملكية بين الناس- وربما كنا نتوقع، عند هذه النقطة، من لوك أن ينتقد تركيز الثروة، ولكنه بدلاً من ذلك نظر إلى الملكية مهما كان سوء توزيعها، على أنها أمر طبيعي مقدس، فاستمرار النظام الاجتماعي والمدنية يستلزم أن تكون حماية الملكية أسمى غرض للدولة. "وليس في مقدور السلطة العليا أن تستولي على أي جزء من أملاك الإنسان إلا بموافقته ورضاه(124)".
وعلى هذا الأساس لم يقر أية ثورة تنطوي على التجريد من الملكية. ولكنه بوصفه نبي الثورة الجليلة وصوتها لم يستطع أن ينكر "الحق في قلب الحكومة(125)". إن الشعب في حل من الطاعة إذا كان ثمة محاولات غير مشروعة للاعتداء على حرياته وممتلكاته، "لأن" هدف الحكومة هو الصالح العام للبشر. وأيهما أفضل لبني الإنسان: تعرض الناس دائماً للرغبة الجامحة في الطغيان، أو أن يتعرض الحكام أحياناً للمقاومة إذا أسرفوا في استخدام سلطتهم واستغلالها في القضاء على ممتلكات الشعب، لا في المحافظة عليها(126)؟" وعلى حين أجاز بعض الهيجونوت والفلاسفة اليسوعيين الثورة لحماية الدين الحق الواحد، نجد لوك لا يقرها إلا لحماية الممتلكات. إن النزعة الدنيوية كانت تغير من مركز القداسة وتعريفها.
وظل تأثير لوك على الفكر السياسي مسيطراً حتى ظهور كارل ماركس. وكانت فلسفته عن الدولة ملائمة لحكم الأحرار (الهويجز) وللخلق الإنجليزي إلى حد تجاهل أخطائها طيلة قرن من الزمان باعتبارها هنات هينات في عهد أعظم (مجنا كارتا) جليل الشأن للبرجوازية. إنها لم تضف هالة على 1689 فحسب، بل، مع سبق مشهود، كذلك على 1776 و1789- أعني المراحل الثلاث لثورة العمل ضد المحتد. والمال ضد الأرض. ويسخر النقاد اليوم من لوك اشتقاقه للحكومة من رضا الأفراد الأحرار وموافقتهم في الطور الطبيعي، كما سخر هو من فليمر اشتقاقه الحكومة من الآباء ومن آدم ومن الله. إن "الحقوق الطبيعية" مشبوهة ونظرية، والحق الطبيعي الوحيد في المجتمع ليس فيه قانون هو القوة المتفوقة، كما هو حادث الآن بين الدول. أما في المدنية فالحق هو الحرية التي يرغب فيها الفرد ولا تكون ضارة بالجماعة "وقد يوجد حكم الأغلبية في الجماعات الصغيرة في الأمور غير الحيوية" وتمارس الحكم عادة أقلية منظمة. والحكومات الآن تضطلع بالتزامات أكبر من مجرد حماية الملكية.
ومع ذلك فإن تحقيق هذه الرسالة الثانية يظل إنجازاً عظيماً. إنه وسع من قيمة انتصار البرلمان و "الأحرار Whigs على "المحافظين" Tories، حتى صاغ من هذا الانتصار نظرية الحكومة النيابية المسئولة. تلك النظرية التي ألهبت مشاعر الشعوب الواحد منها بعد الآخر في تسلمها مراقي الحرية. ونبذت إنجلترا فكرة السلطات التي جاء بها لوك، وأخضعت الحكومة بأسرها للسلطة التشريعية، ولكن نظريته كانت تهدف إلى الحد من قوة السلطة التنفيذية. وقد تحقق هذا الهدف تحقيقاً كاملاً. أن كثيراً من ثقته في حصافة الناس ولباقتهم، واعتداله في تطبيق النظرية على الممارسة أو العلم على العمل، أصبح منهجاً قياسياً ذا قيمة معترف بها في السياسة الإنجليزية، جعل الثورة أمراً تدريجياً دقيقاً لا يكاد يدرك، بينما هي حقيقة واقعة.
وانتقلت آراء لوك من إنجلترا إلى فرنسا مع فولتير في 1729، واعتنقها مونتسكيو عند زيارته لإنجلترا 1729slash1731، وكان لها صدى عند روسو وغيره قبل الثورة الفرنسية وفي أثنائها، وبرزت باحلى معانيها في "إعلان حقوق الإنسان" الذي أصدرته الجمعية التأسيسية 1789. وعندما ثار مستعمرو أمريكا في وجه جورج الثالث حين استعاد قوة الملك وسلطانه، نراهم اقتبسوا آراء لوك وصيغه بل ألفاظه تقريباً في "إعلان الاستقلال" الذي أصدروه. كما أن الحقوق التي أثبتها لوك أصبحت "وثيقة الحقوق" في التنقيحات العشرة الأولى للدستور الأمريكي. أما نظريته في فصل السلطات، كما وسعها منتسكيو لتشمل السلطة القضائية، فقد أصبحت عنصراً أساسياً في شكل الحكومة الأمريكية، كما أخذت عنايته البالغة بالملكية طريقها إلى التشريع الأمريكي، وأثرت مقالاته عن التسامح في الآباء المؤسسين في فصل الكنيسة عن الدولة وإقرار الحرية الدينية ويندر أن نجد في تاريخ الفلسفة السياسية رجلاً بمفرده كان له مثل هذا الأثر الخالد الباقي.
جـ - الذهن والمادة
كان تأثير لوك شاملاً وعميقاً في علم النفس قدر تأثيره في نظرية الحكم المدني. وظل يكتب رسالته عن "العقل الإنساني" منذ 1670 ويتميز هذا البحث بأنه دفع به إلى المطبعة بعد عشرين عاماً قضاها في مراجعته وتنقيحه، ثم تسلم عن هذه التحفة الرائعة في علم نفس التحليلي ثلاثين جنيهاً. ويعزو لوك نفسه مشروعه في هذا البحث إلى مناقشة جرت في لندن 1670: اجتمع في حجرتي خمسة أو ستة من الأصدقاء، وكنا نناقش موضوعاً بعيداً عن هذا كل البعد، وسرعان ما وجدنا أنفسنا في مأزق نتيجة الصعوبات التي اعترضتنا من كل النواحي، وبعد أن تملكتنا الحيرة لبعض الوقت دون الوصول إلى حل قريب لهذه الشكوك... خطر ببالي أننا نهجنا نهجاً خاطئاً. وأننا قبل أن نشرع في التحقيق في طبيعة هذا الموضوع، كان لزاماً علينا أن نختبر قدراتنا نحن، ونرى أن "الموضوعات" تصلح، أو لا تصلح أفهامنا لمعالجتها، وعرضت هذا على الرفاق الذين وافقوا جميعاً من فورهم، ومن ثم اتفقنا على أن يكون هذا أول ما نبحث فيه. وكانت بعض الأفكار السريعة المهوشة التي عرضتها في اجتماعنا التالي، هي المدخل الأول لهذا المبحث(127).
ومن الواضح أن الذي حفز لوك إلى كتابة "مقال عن العقل الإنساني" هو الخلاف الذي نشب بين الأفلاطونيين في كمبردج من الذين حذوا هنا حذو الفلاسفة السكولاسيين- في أننا نستمد أفكارنا من الله ومن المثل الأخلاقية العليا، لا من التجربة والخبرة، بل من الاستبطان، وأن هذه الأفكار فطرية أصيلة فينا، وجزء من جهازنا العقلي، مهما كنا غير واعين عند الولادة. وهذه الفكرة، لا بيانات ديكارت الثانوية عن "الأفكار الفطرية"، هي التي أدت بلوك إلى النظر في مسألة هل هناك أية أفكار لم تكن وليدة تأثيرات العالم الخارجي(128). وخلص لوك إلى القول بأن كل المعرفة بما في ذلك أفكارنا عن الله وعن الصواب والخطأ مستمدة من الخبرة، وليست جزءاً من التركيب الفطري للعقل. وعرف أنه في محاولته للبرهنة على هذه النظرية التجريبية قد يسئ إلى كثير من معاصريه الذين أحسوا بأن الأخلاق تتطلب مساندة الدين لها، وأن الأخلاق والدين كليهما ينهار ويضعف إذا نبعت أفكارها الأساسية من منبع أقل شرفاً من الله سبحانه وتعالى. وطلب إلى قرائه أن يتجملوا بشيء من الصبر معه، أما هو من جانبه فقد كان قاب قوسين أو أدنى من منزلق المناقشة الخطيرة، في روح من الشك المتواضع. "أنا لا أزعم أني ألقي درساً، بل أنا أسأل(129)". وفي إيجاز، اعترف بأنه كان "كسولاً مشغولاً إلى حد بالغ(130)".
ولكنه على الأقل استطاع أن يحدد مصطلحاته، وهو يعترض على "الغموض المتكلف عند بعض الفلاسفة(131)". إن معرفتنا الدقيقة بما تدل عليه وتعنيه ألفاظنا قد ينهي.... النزاع... في كثير من الأحوال(132)". وينبغي التسليم بأن مذهب لوك في هذه النقطة يفضل ممارسته له. أنه يعرف "العقل" بأنه "قوة الإدراك الحسي"، ولكنه يستخدم الإدراك الحسي ليشمل: (1) إدراك الأفكار في عقولنا. (2) وإدراك معاني الألفاظ، (3) وإدراك التوافق أو التنافر بين الأفكار(133). ولكن ما هي الفكرة؟ إن لوك يستخدم هذا الاصطلاح ليعني: (1) تأثير الأشياء الخارجية على حواسنا(وهو ما يجب أن نسميه الإحساس)، أو (2) الوعي الداخلي بهذا التأثير (وهو ما يجب أن نسميه الإدراك الحسي)، أو (3) صورة الفكرة أو الذكرى المتصلة بها (وهو ما يجب أن نسميه الفكرة)، أو (4) "الحركة التي تجمع صوراً منفردة كثيرة لتكون مفهوماً عاماً أو مجرداً أو شاملاً لمجموعة من الأشياء المتشابهة. إن لوك لا يوضح دائماً في أي معنى يستخدم اصطلاحه المزعج ".
لكن لوك يبدأ بنبذ "المبادئ الفطرية". أن هناك رأياً ثابتاً لدى الناس بأن هناك في العقل بعض "مبادئ فطرية معينة، أو بعض مفاهيم غامضة أولية مطبوعة في ذهن الإنسان تتلقاها النفس منذ بداية نشأتها، وتأتي بها معها إلى الدنيا". ويأخذ في إيضاح "بطلان هذه الفرضية(135)". أنه لا ينكر "النزعات" الفطيرة0التي سميت فيما بعد الانتحاء (النزعة إلى الحركة استجابة لمنبه ما) أو الأفعال المنعكسة اللاإرادية أو الغرائز، ولكن هذه في رأيه عادات سيكولولجية، وليس أفكاراً. وحذا حذو هوبز فوصف مثل هذه العمليات بأنها "سلاسل من الحركات في روح الحيوانات، إذا انطلقت استمرت في الخطوات التي اعتادت عليها، والتي تصبح بعد كثرة ارتيادها طريقاً ممهداً، كما تصبح الحركة فيه سهلة، وكأنها طبيعية" أو فطرية(136).
وهو يميل إلى أن يجوز توارد الخواطر في أنها طرق سيكولوجية. وكان ديكارت فقد ذهب إلى أن فكرة الله فطرية أصيلة فينا، ولكن لوك ينكر هذا الرأي. فإن بعض القبائل وجدت دون أن تكون لديها فكرة عدالة، كما إن بعض الذين يعتنقونها تتباين لديهم المفاهيم أو الصور عن الآلهة إلى حد يكون معه من الحكمة أن نرفض فكرة "نشوئها بالفطرة أو بالسليقة"، وأن نبني إيماننا بالله على "لآيات البينات على كمال حكمته وقدرته... فيما خلق وأبدع(137)"- أعني الخبرة. وبالمثل ليس هناك "مبادئ عملية فطرية"- ليس هناك مفاهيم فطرية عما هو صواب وما هو خطأ. فالتاريخ يوضح لنا مجموعة متباينة، عظيمة أحياناً متناقضة أحياناً أخرى، من الأحكام الخلقية، مما لا يمكن معه اعتبارها جزءاً من التراث الطبيعي للإنسان، بل هي تراث اجتماعي يختلف من مكان إلى مكان، ومن زمان إلى زمان(138).
وبعد أن تخلى لوك عن "الأفكار الفطرية" جاء ليتساءل: كيف تولد أو تنشأ الأفكار؟ "فلنفترض أن العقل (عند الولادة)، كما يمكن أن يقال، صفحة بيضاء خالية من أي رسم أو نقش، ومن أية أفكار، فكيف يتأتى تزويده؟.... وعلى هذا السؤال نجيب بكلمة واحدة، من الخبرة، وعليها تبنى كل المعرفة، ومنها تستمد في النهاية(139)". فكل الأفكار مستمدة أما من الإحساس والانعكاس على نتاج إحساسنا. والأحاسيس كلها مادية، ونتائجها العقلية هي الإدراك الحسي، وهو "أولى مواهب العقل"(140).
ولم يجد لوك سبباً للارتياب في إمكان حصولنا على معرفة حقيقية صحيحة عن العالم الخارجي، ولكنه قبل الرأي الذي أستقر منذ أمد طويل، ألا وهو التمييز بين الصفات الأولية والصفات الثانوية للأشياء المدركة. أما الصفات الأولية "وهي التي لا يمكن فصلها عن الجسم إطلاقاً، في أية حالة مهما كانت" مثل: الصلابة، الامتداد، الشكل، العدد، والحركة أو السكون. أما الصفات الثانوية "فليست شيئاً في هذه الأشياء نفسها، بل مجرد قوى تحدث فينا إحساسات متعددة بصفاتها الأولية". فالألوان والأصوات والطعوم والروائح صفات ثانوية تحدث فينا بكتلة هذه الأشياء وشكلها ونسيجها أو حركتها. أما الأشياء نفسها فليس لها لون ولا وزن ولا طعم ولا رائحة ولا صوت ولا حرارة. وكان هذا التمييز قد ظهر منذ البرتوس ماجنوس وتوما الأكويني (القرن 13)، وقد قبله ديكارت وجاليليو وهوبز وبويل ونيوتن، ولكن عرض لوك لفكرة التمييز هذه وتوكيده لها هيأ لها انتشاراً واسعاً من جديد. فقد تصور العلم الآن أن العالم الخارجي محايد صامت غير متحيز، فقدت أزهاره وثماره عطرها ونكهتها. وربما هبط هذا المفهوم بالشعر إلى الشعر المنثور في "العصر الأوجستي"- أوائل القرن الثامن عشر في إنجلترا، عهد الملكة آن، ولكنه اكتشف في آخر الأمر أن الصفات المحسة حقيقة مثل الأجسام نفسها، وثارت الرومانسية لنفسها من الكلاسيكية حيث جعلت المشاعر أسمى حقيقة.
وأدى تحليل الشيء أو الجسم إلى صفات، على هذا النحو، إلى هذا السؤال: ما هو الجوهر الذي يبدو أن الصفات الأولية تلازمه باعتبارها جزءاً منه؟ وأعترف لوك بأننا لا نعرف من هذا الجوهر الخفي الغامض شيئاً إلا صفاته، فإذا نزعت هذه الصفات فإن الجوهر- أي الأساس الضمني أو المفهوم ضمنا لهذه الصفات- يفقد كل معنى له، وظاهراً أيضاً أنه يفقد وجوده(141). وهنا يتدخل باركلي: إذا كنا لا نعرف إلا صفات الأشياء أو الأجسام، ونعرف أن هذه الصفات هي مجرد أفكار، فكل الحقيقة اذن إدراك حسي، وعندئذ يصبح لوك، بطل التجريبية العظيم- الخبرة هي مصدر كل المعرفة- يصبح مثالياً يحيل المادة إلى فكرة: أضف إلى ذلك أن "العقل" افتراضي مثل الجوهر أو الجسم أو المادة تماماً. وفي فقرة مشهورة يتجاوز لزك باركلي ويسبق هيوم:
ونفس الشيء يحدث فيما يتعلق بعمليات الذهن، مثل التفكير والاستنتاج والخوف وغيرهما، التي لا نخلص إلى القول بأنها توجد من نفسها ولا نعي كيف تتبع الجسم أو كيف يمكن أن يحدثها الجسم، ولكنا نميل إلى الظن بأنها نشاط جوهر ما نسميه الروح، بواسطتها، ولو أنه من الواضح أنه ليس لدينا فكرة أو مفهوم آخر من المادة إلا أنها شيء توجد هذه الصفات المحسوسة التي تؤثر على حواسنا، فأنه كذلك بافتراض جوهر فيه التفكير والمعرفة والشك والقدرة على الحركة وغيرها، فيكون لدينا فكرة واضحة عن الروح كما هو الحال بالنسبة للجسم: الأولى يفترض (دون أن نعرف ماهيتها)، إنها جوهر لتلك الأفكار البسيطة التي نستمدها من الخارج، والآخر يفترض (مع نفس القدر من الجهل بماهيته) أنه جوهر لهذه العمليات التي نمارسها في داخل أنفسنا(142).
وحيث أقر حينئذ "بأن فكرتنا عن الجوهر غامضة، أو ليس لدينا فكرة إطلاقا عنه في "العالمين" (الخارجي والداخلي) كليهما، وأن الأمر لا يعدو" أن يكون افتراض الجهل بما يدعم هذه الأفكار التي نسميها أحداثاً، فإن لوك يخلص إلى أنه في كلتا الحالتين يسوغ لنا الاعتقاد بوجود جوهر، على الرغم من أننا لا يمكن أن نعرفه: في مادة وراء الصفات المحسوسة أو أنها تبعثها، وفي عقل وراء الأفكار أو يحتويها- عامل روحي يؤدي مختلف عمليات الإدراك والتفكير والشعور والإرادة(143).
ومهما يكن من أمر العقل، فإن عملياته كلها من نوع واحد- حركة الأفكار أو نشاطها. ويرفض لوك فكرة السكولاسية عن "المواهب" في العقل، مثل التفكير والشعور والإرادة. فالتفكير هو اتحاد الأفكار أو الجمع بينها، والشعور هو ترجيح فكرة سيكولوجية أو صداها، والإرادة فكرة تنطلق إلى العمل أو التصرف، مثلما تنزع كل الأفكار إلى العمل إلا إذا عوقتها فكرة أخرى .ولكن كيف يمكن أن تصبح العملية "الروحية" عملية فسيولوجية وحركة مادية؟ إن لوك يقبل كارهاً ثنائية الجسم المادي والعقل غير المادي، ولكنه في فترة من فترات الطيش يوحي بأن العقل يمكن أن يكون شكلاً من "المادة". وهناك في هذا الصدد عبارة مأثورة عن لوك:
من الممكن أنه لن يكون في مقدورنا أبداً أن نعرف أن مجرد كائن مادي يفكر أو لا يفكر، وحيث أنه يستحيل علينا، بالتأمل في أفكارنا نحن، دون وحي أو إلهام، أن نكتشف هل زودت القدرة الإلهية بعض أنواع المادة المالية بطبعها، بالقدرة على الإدراك والتفكير، أو أنها (أي القدرة الإلهية) ضمت إلى المادة الميالة على هذا النحو، أو ثبتت فيها جوهراً مفكراً غير مادي، فإنه بالنسبة لأفكارنا، ليس يبعد عن الفهم أن ندرك أن الله قادر إذا شاء أن يضيف إلى المادة "موهبة للتفكير"، أكثر من أنه سبحانه وتعالى يمكن أن يضيف إليها جوهراً آخر فيه موهبة للتفكير.. إن من يرى كيف أنه من الصعب، في أفكارنا، توافق الإحساس مع المادة الممتدة، أو توافق الوجود مع شيء ليس له امتداد إطلاقاً، سوف يقر ويعترف بأنه بعيد كل البعد عن معرفة ماهية نفسه على وجه اليقين... وهذا الذي يطلق لنفسه العنان ليتأمل في حرية... يندر أن يجد في عقله القدرة على تحديد موقفه تحديداً تاماً من "مادية النفس" سلباً أو إيجابياً(145).
وعلى الرغم من أن لوك كان قد تغلب بالفعل على الجانب المادي من المعضلة، فإن الإيحاء باحتمال صدقه أو حقيقته، بالنسبة لتيار الفكر في ذاك العصر، أساء إلى الدين القويم إلى حد أن مائة من المدافعين عن الديانة هاجموه بتهمة أنه أيد "في طيش وتهور" آراء الملحدين. ولم يلقوا بالاً لاحترامه وإجلاله للوحي، ولبيانه القديم "أن الرأي الأرجح والأكثر احتمالاً هو ان الشعور مرتبط بجوهر فرد غير مادي، وهو حب هذا الجوهر والتعلق به(146)"، وربما تنبأ هؤلاء المدافعون بأن لامتري وهولباخ وديدرو وغيرهم من فلاسفة المادية قد يرون في كلام لوك نزوعاً خفياً إلى وجهة نظرهم.. واتهمه الأسقف ستللنجفليت بمثل هذه النزعة المادية على وجه التحديد، وأنذره بأنها تعرض اللاهوت المسيحي كله للخطر. وتناسى لوك حرصه العهود، وأكد من جديد وبقوة، احتمال صدق الفرضية المادية وظل على خلاف بشأنها مع ستللنجفليت وغيره حتى 1697.
على أن مقال "العقل الإنساني "على الرغم من نقاده وما فيه من تناقضات وغموض وإبهام، وغير ذلك من الأخطاء، تزايدت قيمته وأهميته وأثره عاماً بعد عام. وتهافت الناس على طبعاته الأربع في الأربعة عشر عاماً التي انقضت بين ظهوره ووفاة مؤلفه لوك. وظهرت له الطبعة بالفرنسية في عام 1700 ، وتقبلوه هناك في إعجاب حماسي. وأصبح حديث الناس في قاعات الاستقبال في إنجلترا. وأكد ترسترام شاندي لسامعيه أن الرجوع إلى "المقال" يمكن أي إنسان من "الابتعاد بنفسه عن التفكير في الميتافيزقيا(147)". وكان تأثيره على باركلي وهيوم عظيماً إلى حد أننا نستطيع أن نؤرخ بظهوره تحول الفلسفة البريطانية من الميتافيزقيا إلى المعرفة. وربما كان لوك ماثلاً في ذهن بوب حين كتب "أن الدراسة الصحيحة للجنس البشري هي الإنسان".
وفي 1700 ظهرت طبعة بالفرنسية للمقال، ولقيت هناك ترحيباً حماسياً بالغاً. وكتب فولتير يقول: "بعد أن صاغ بعض السادة المفكرين أسطورة رومانسية عن النفس، ظهر رجل واحد حكيم حقاً، وأمدنا بتاريخها الصحيح في أعظم حالة من التواضع يمكن تصورها. إن مستر لوك قد كشف للإنسان تشريح النفس، كما لو أن بعض علماء التشريح يشرحون الجسم(148)". ونعود فنقول "إن لوك وحده" بسط العقل الإنساني في كتاب لا يضم إلا حقائق وهو كتاب بلغ حد الكمال والإتقان- لأن هذه الحقائق مبسوطة فيه بأحلى بيان(149)" وبات المقال الإنجيل السيكولوجي لعصر الاستنارة في فرنسا. وتبنى كونديللاك "المذهب الحسي الذي جاء به لوك وتوسع فيه وذهب إلى أن شيئاً لم يستجد في علم النفس فيما بين أرسطو ولوك(150)- وهذا إجحاف واضح بالفلاسفة السكولاسيين (العصور الوسطى) وهوبز وينسب دالمبرت، في "بحث تمهيدي في دائرة المعارف" إلى لوك الفضل في خلق الفلسفة العلمية، كما خلق (في رأيه) نيوتن الفيزياء العلمية. وعلى الرغم من مجاهرات المقال بالمعتقد القويم، فإنه مهد لتجريبية عقلانية، سرعان ما نبذت النفس باعتبارها فرضية غير ضرورية، وانطلقت إلى تطبيق نفس التفكير بالنسبة لله سبحانه وتعالى.
د - الدين والتسامح
لم يتعاطف لوك نفسه مع مثل هذا التطرف، ومهما يكن من أمر شكوكه الخاصة، فإنه أحس، كأي رجل إنجليزي مهذب، بأن السلوك القويم والخلق الكريم يتطلبان من الكنيسة المسيحية دعماً شاملاً. وإذا كانت الفلسفة تنزع عن الناس إيمانهم بعدل الهي كامن وراء جور الحياة وشقائها، فماذا عساها تقدم لتقوية آمال الناس والإبقاء على شجاعتهم؟ تقدم بطيء نحو يوتوبيا ديموقراطية؟ ولكن في مثل هذه اليوتوبيا هلا يبتدع الجشع الطبيعي في الناس وعدم المساواة بينهم وسائل جديدة ليستخدم الدهاة والأقوياء غيرهم من البسطاء والضعفاء أو يسيئوا استغلالهم؟.
وكان أول همه أن "يضع المقاييس والحدود بين العقيدة والعقل". وعمد إلى تحقيق هذا في الفصل الثامن عشر من الباب الرابع من المقال. "إني أجد كل شيعة تحاول جهدها، بقدر ما يسعفها العقل، أن تفيد منه عن طيب خاطر، وحيثما يخفق العقل تصرخ وتصيح بأعلى صوت: تلك مسألة إيمان وعقيدة فوق العقل(151)". إن كل ما أوحى به الله حق على وجه اليقين(152)". ولكن التأمل وحده في الدليل المتاح هو الذي ينبئنا إذا كانت الأسفار المقدسة هي كلمة الله، "وليس ثمة قضية يمكن تقبلها على أنها وحي إلهي، إذا كانت تناقض معرفتنا الأكيدة البديهية(153)". وإذا كان في مقدورنا تقرير مسألة ما بمثل هذه الملاحظة المباشرة، فإن معرفتنا تسمو على أي وحي مزعوم، لأنها أوضح وأكثر توكيداً من أي توكيد بأن هذا الوحي الذي نحن بصدده إلهي حقاً. ومهما يكن من أمر "فهناك أشياء كثيرة لدينا عنها أفكار غامضة ناقصة، أو ليس لدينا عنها أفكار البتة، وثمة أشياء أخرى لا نستطيع بالاستخدام الطبيعي لمواهبنا، الوصول إلى معرفة شيء عن وجودها في الماضي أو الحاضر أو المستقبل، مطلقاً، ولكزنها فوق العقل، فإنها إذا كشفت، تكون "المادة الصحيحة للعقيدة والإيمان(154)". ويخلص لوك إلى القول: "ليس هناك شيء يناقض أوامر العقل الواضحة البديهية أو لا يلتئم معها، يحق له أن يشجع أو يؤكد على أنه مسألة عقيدة لا دخل للعقل فيها(155)" "وثمة أمارة لا تخطئ" على حب الحق. "ألا نهلل ونرحب بأية قضية في توكيد أكبر مما تجيزه الأدلة التي تقوم عليها القضية(156)". "وينبغي أن يكون العقل أول حكم ومرشد لنا في كل شيء(157)".
ومن ثم نشر لوك في 1695 "معقولية المسيحية كما تنقلها الأسفار المقدسة". وأعاد قراءة العهد الجديد، كما يمكن أن يقرأ الإنسان كتاباً جديداً، طارحاً كل التعاليم والتعليقات جانباً (كما قال). وسيطر عليه نبل السيد المسيح المحبب إلى النفس، وجمال كل تعاليمه تقريباً، باعتبارها خير آمال الإنسان وأكثرها إشراقاً. وإذا كان ثمة شيء يمكن أن يكون رسالة إلهية فإن هذه القصص وذاك المذهب تبدو وكأنهما من عند الله. ورأى لوك أن يتقبلها جميعاً على أنها مقدسة، بل أن يقرها أيضاً، في كل أساسياتها، باعتبارها متفقة كل الاتفاق مع العقل.
ولكن بدا له أن هذه الأساسيات أكثر اعتدالاً وبساطة من اللاهوت المعقد في المواد التسع والثلاثين، أو اعتراف وستمنستر أو مذهب أثناسيوس. واقتبس من الإنجيل فقرة بعد فقرة، لا تطلب كلها من المسيحي إلا أن يؤمن بالله وبأن المسيح رسول من عند الله. وهنا- كما يقول لوك ديانة بسيطة صريحة واضحة، صالحة لكل إنسان، لا تعتمد على أي فقه أو لاهوت. وفيما يتعلق بوجود الله، فقد شعر لوك "بأن أعمال الطبيعة بكل دقائقها أوفى دليل على وجود الله(158)" وحاول لوك من وجوده هو نفسه أن يبرهن على "سبب أول"، وانتهى إلى أن مثل هذه الخصائص لا بد أن تنسب أيضاً إلى الله، والله "عقل سرمدي خالد(159)" وحينما شكا نقاد لوك من أنه أغفل بعض التعاليم الحيوية مثل خلود النفس والعذاب المقيم والنعيم المقيم، أجاب بأنه في الاعتراف بالمسيح ارتضى تعاليمه التي شملت تلك الآراء والتعاليم. ومن ثم خرج لوك من الباب الذي دخل منه.
ومهما يكن من أمر، فإن لوك ألح على أن تتمتع بالحرية الكاملة في إنجلترا كل المذاهب المسيحية فيما خلا الكثلكة. وكان قد كتب مقالاً عن التسامح في 1666. وعندما ارتحل إلى هولندا 1683 وجد هناك من حرية العبادة أكثر مما كان في إنجلترا. ولا بد أنه قرأ أثناء أقامته في هولندا دفاع بيل القوي عن التسامح الديني(1686). وحركت مشاعره هجرة الهيجونوت واضطهادهم (1685) فكتب إلى صديقه لمبروخ رسالة استحث نشرها. فطبعت باللاتينية 1689 تحت عنوان "رسالة في التسامح" وظهرت ترجمتها إلى الإنجليزية قبل نهاية العام. واستنكرها أحد أساتذة أكسفورد، فدافع عنها لوك، وكان آنذاك في إنجلترا، في رسالة ثانية وثالثة" عن التسامح في 1690slash1692. ولم يحقق قانون التسامح الذي صدر في 1689 من مقترحات لوك إلا قليلاً جداً، ذلك أن القانون استبعد الكاثوليك والتوحيديين واليهود والوثنيين وحظر تولي الشئون العامة على المخالفين. إن لوك أيضاً أتى باستثناءات فلم يكن ليتسامح مع الملحدين حيث رأى أنهم غير أهل للثقة ما داموا لا يخشون إلهاً ولا ديانة توقع عذاباً مادياً، بالتضحية بالإنسان مثلاً، ولم يتسامح مع مذهب يتطلب الولاء لسلطة أجنبية، ومفهوم أنه كان يعني الكثلكة(160). ودعا صراحة إلى التسامح مع المشيخيين والمستقلين، وأنصار تجديد العماد، والأرمينيين والكويكرز. ولم يتجاسر على القول بالتسامح مع التوحيديين ولو أن أرل شافتسبري الأول الذي قضي نحبه في أمستردام 1683 كان قد ذكر أنه قد استقى مذهب الأرمينيين والتوحيديين من سكرتيره لوك(161).
وقال لوك بأن القانون ينبغي أن يهتم فقط بالحافظة على النظام الاجتماعي. فإن القانون الحق في القضاء على كل ما من شأنه العمل على التخريب في الدولة، ولكن ليس له ولاية ولا سلطان على نفوس الناس، وليس لآية الكنيسة سلطة لإرغام الناس على مشايعتها.. فما أسخف أن يعاقب الناس في الدنمرك لأنهم غير لوثريين، أو في جنيف لأنهم لا يتبعون مذهب كلفن، أو في فيينا لأنهم لا يعتنقون المذهب الكاثوليكي. وفوق كل شيء، أي فرد أو أية جماعة أتيح لها إدراك الحقيقة كاملة عن حياة البشر ومصير الإنسان؟ ولحظ لوك أن معظم الديانات تنادي بالتسامح في أيان ضعفها، ولكنها تأباه في أيام قوتها.. ورأى أن الاضطهاد مصدره شهوة السلطان والسيطرة، والحقد المقنع في ثياب الغيرة الدينية. والاضطهاد يصنع المنافقين، أما التسامح فإنه يشجع المعرفة والحق، وكيف يعمد المسيحي إلى الاضطهاد والتعذيب والإساءة، وقد أخذ على نفسه عهداً بالبر والإحسان ومحبة الناس؟ وواصل لوك حملته من أجل التسامح حتى غابت شمس حياته.
وكان منهمكاً في كتابة رسالة رابعة في نفس الموضوع حين وافته المنية. وعاجله الموت 1704 بينما كان جالساً يصغي إلى ليدي ماشام تتلو المزامير.
وحتى قبل موته كان قد وصل في مجال الفلسفة إلى مكانة لم يسم عليها إلى نيوتن في ميدان العلوم. وتحدثت عنه بالفعل بأنه "الفيلسوف" وعلى حين ختم حياته على تقوى قوية تقليدية تقريباً، فإن كتبه التي لم تكن لتتغير مع الزمن، انتقلت عن طريق الطبعات والترجمات العديدة إلى فكر أوربا المتعلمة المثقفة. قال شبنجلر: "إن الاستنارة الغربية من أصل إنجليزي ونبعت كلا عقلانية القارة من لوك(162)". وليست كلها بطبيعة الحال. ولكن فيمن يمكن للمرء الآن أن يغامر بمثل هذه المبالغة أو الإغراق؟.
شافتسبري 1671-1713
كان أنطوني آشلي كوبر، أرل شافتسبري الثالث، تلميذ لوك. مفخرة معلمه. لا لأن لوك كان مسئولاً عن أسلوبه، فإن العالم النفساني البحاثة كتب نثراً مبتذلاً، بسيطاً واضحاً عادة (وهنا يكمن الخطر)، ولكنه قلما كان نثراً جميلاً، فإن شافتسبري ذا الفراغ والجدة، كتب في تهذيب واثق، ودعابة متسامحة، ورشاقة غالية (فرنسية) تقريباً-فقد تنازل السيد الإقطاعي الإنجليزي أن يكون فيلسوفاً. ويجدر بنا أن نقف عنده قليلاً لأنه يكون مؤسس علم الجمال في الفلسفة الحديثة، وبإنقاذه الوجدان والتعاطف من أيدي هوبز ولوك، غذى فيض العاطفة الذي بلاغ ذروته عند روسو.
وتحت إشراف لوك، وعلى نهجه في تعليم اللغة بالمحادثة، مكنت اليزابث بيرش التي كانت تحذق اليونانية واللاتينية، أنطوني من قراءة كلتا اللغتين بسهولة وهو في سن الحادية عشرة، ثم التحق بمدرسة ونشستر، وتجول لمدة ثلاثة أعوام تعلم في أثنائها الفرنسية وأساليب الحياة الفرنسية، ومال إلى الفن ميلاً لا بد أنه بدا غير لائق بلورد إنجليزي. ودخل البرلمان لمدة عام واحد-وهذا كاف جداً ليظهره على "جور وفساد الحزبين كليهما(163)". ولكن دخان لندن زاد من وطأة الربو عليه فعاد أدراجه إلى هولندا، حيث وجد الجو الفكري نابضاً بفلسفة سبينوزا وبيل، ومذ حصل على لقب أرل 1690 فإنه قضي بقية أيام حياته في ضيعته الريفية. وتزوج قبل وفاته بأربع سنوات، وكم كانت دهشته حين وجد أنه سعيد كما كان من قبل(164). وفي 1711 نشرة مجموعة مقالاته تحت عنوان شامل "خصائص الإنسان، العادات، الآراء، العصر الحاضر. ولم يمتد به الأجل لأكثر من اثنين وارعين عاماً، حيث فارق الحياة في 1713.
ولم يكن متوقعاً من رجل ورث هذا الثراء العريض على الأرض أن يعنى بأمر السماء أو يقلق باله من أجلها. إنه استنكر "الغيرة"-التي كان زمانه يعني بها التعصب-غيرة الإنجليز الذين ظنوا إنهم إنما ينطلقون بالوحي الإلهي. إن أية عاطفة جامحة أو كلام عنيف في رأي شافتسبري دلالة على سوء التربية، ولكنه رأى أنه من الحكمة أن يسخر منهم أكثر من أن يعذبهم. والحق أنه بدا له أن الظرف والدعابة اللتين جعلهما موضوع رسالته الأصلية الخلاقة، هما خير مدخل لأي شيء، حتى اللاهوت. واتفق مع بيل على أن الملحدين مواطنون مهذبون، وأنهم أساءوا إلى الدين والأخلاق أقل مما فعلت وحشية العقائد التي سيطرت واستغلت نفوذها. واعترض على "عبادة وحب اله قلب حول شديد الغيظ، عرضة للحنق والغضب، مهتاج محب للانتقام... يشجع الخداع والخيانة بين الناس، يرضى على قلة من الناس ويقسو على سائر الناس(166)". وعجب مما كان لمثل هذا المفهوم عن المعبود من أثر على خلق الإنسان وسلوكه. وذهب إلى أنه من الخسة والجبن ألا يتحلى الإنسان بالفضيلة إلا أملاً في الثواب أو خوفاً من العقاب. فالفضيلة لا تكون حقيقية صادقة إلا إذا تحلى بها المرء من أجلها هي. ومهما يكن من أمر، وما دام الإنسان هو على ما هو عليه، فمن الضروري أن يغرس في نفسه الإيمان بمثل هذا الثواب والعقاب في المستقبل(167). "إنه من صادق الإنسانية والشفقة إخفاء الحقائق الهامة عن القلوب الواهنة.... وقد يكون لزاماً ألا يتحدث العقلاء إلا رمزاً(168)"، وهكذا دافع شافتسبري عن الكنيسة رسمية، وحاول أن يوفق بين الإيمان بوجود إله واحد في الفلسفة متفائلة أوجزت الرذيلة في أنها هوى إنساني(169). ومع ذلك فإن الكساندر بوب رأى أن كتاب "خواص الإنسان" أساء إلى الديانة المنزلة في إنجلترا أكثر مما أساءت كل مؤلفات الكفار السافرين غير المتحفظين(170).
واتفق شافتسبري مع أرسطو ولوك على ان السعادة هي الهدف المشروع لأفعال الإنسان، وعرف الفلسفة بأنها "دراسة السعادة(171)". ولكنه عارض الهبوط بكل الدوافع الإنسانية إلى مجرد أنانية أو مصلحة شخصية، وطبقاً لهذا التحليل (الذي بسطه هوبز ولاروشفوكول حديثاً):
يكون التلطف والكرم الإنساني تجاه الغرباء أو الناس في وقت الشدة، مجرد أنانية أكثر تعمداً. والقلب المخلص الأمين قلب أشد مكراً، والأمانة والود مجرد حب للذات، ولكنه حب أحسن تنظيماً وضبطاً. وحب الأقارب والأبناء والذرية إنما هو حب خالص للنفس وللدم المباشر للإنسان... والشهامة والشجاعة، لا ريب، تكيف أو تعديل لحب النفس الشامل هذا(172). وعلى عكس هذا الرأي، زعم شافتسبري أن الطبيعة الإنسانية مزودة بشكل مضاعف بغرائز للنفع الشخصي، وغرائز للعيش في جماعة. وأتعقد أن المجتمع والدولة ما نشأتا عن العقد الاجتماعي. بل عن "مبدأ القطيع" أو نزعة التزامل... وهي نزعة طبيعية قوية في معظم البشر(173)وهناك "عواطف طبيعية قائمة في حب الجنس البشري. وفي محاولة إرضائه، والشعور الودي نحوه والتعاطف معه.... وتوافر هذه العواطف في بالغ قوتها معناه توافر الوسائل الأساسية للمتعة الذاتية، أما الافتقار إليها فهو التعاسة والسقم المحققان(174)". وكون المرء "طيباً صالحاً" معناه توجيه كل ميوله ونزعاته توجيهاً مستقيماً ثابتاً نحو خير الجماعة، وكلما كبرت الجماعة التي توحي بهذه المشاعر وتبثها، حسنت حال النسا فيها. والشعور بهذا التعاطف الاجتماعي هو الوعي الأخلاقي. وهذا شيء فطري، لا من حيث المتطلبات النوعية (التي تختلف من جماعة إلى جماعة) ولكن من حيث أساسه الغريزي، "الإحساس بالصواب والخطأ، وهو فنياً أمر طبيعي مثل الميل الطبيعي نفسه، وهو من أول المبادئ في تكويننا(175)".
وانتقل شافتسبري من علم الأخلاق إلى علم الجمال بالمطابقة بينهما. فالطيب والجميل شيء واحد، فالخلق الحسن "هو تذوق الجمال واستساغة كل ما هو مهذب محتشم"، ومن ثم نتحدث عن أعمال معادية لمصلحة المجتمع بأنها قبيحة، حيث أنها تسيء إلى هذا التناسق بين الجزء والكل، وهو صلاح وجمال معاً. ويستطيع المرء أن يجعل من حياته عملاً من أعمال الفن-من الوحدة والتناسق-بتنمية إحساس جمالي ستكون الأخلاقيات فيه أحد العناصر، والرجل "الذي نشأ خير تنشئة" (هكذا اعتقد الأرستقراطي شافتسبري) يفعل هذا. وهو بحكم تربيته وتدريبه "لا يقبل أن يأتي عملاً نكراً أو وحشياً(176)" إن ما تشكل لديه من ذوق طيب لا بد أن يوجهه في السلوك وفي الفن معاً. والحق أيضاً لون من الجمال فهو تناسق أجزاء المعرفة مع الكل. ومن هنا نحا شافتسبري نحو الكلاسيكية في الفن. وبدأ له الشكل والوحدة والتناسق أساسيات التفوق في الشعر والعمارة والنحت، وهي أقل ضرورة وامتياز في الرسم بالألوان منها في الرسم العادي. وكان في العصر الحديث أول من جعل الجمال مسألة أساسية في الفلسفة، وهو الذي بدأ البحث الذي بلغ ذروته، في أواخر القرن الثامن عشر بلورد كامس وبيرك.
كان هذا جانباً من تأثير شافتسبري، وهناك جوانب أخرى كثيرة. إن توكيده على الوجدان أثر على الحركة الرومانتيكية، وبخاصة في ألمانيا، عن طريق لسنج وشيلر وجوته وهردر-الذين أسموه "أفلاطون أوربا المحبوب(177)" وظهر هذا الأثر في فرنسا في ديدرو كما ظهر في روسو. أما تفسيره للدين بأنه ضعيف من الناحية النظرية، ولكنه أمر لا يستغني عنه من الناحية الأخلاقية، فقد كان له أثر في أفكار كانت العملية. وظهر توكيده على التعاطف مرة ثانية باعتباره أساس الأخلاق، عند هيوم وآدم سميث. وأسهمت أفكاره عن الفن في تشكيل نشوة ونكلمان الأصيلة الممتازة. إنه بدأ حياته تلميذاً لجون لوك المفكر والذي لم يعن كثيراً بالجماليات فأصبح (وربما بحكم المقاومة الطبيعية في كل جيل لمنشئه) فيلسوف الوجدان والعاطفة والجمال. وحيث كان يحب الأسلوب الكلاسيكي في الفن، فقد أصبح مصدر إحياء الرومانتيكية في قارة أوربا، ولو أن الشعر والعمارة في إنجلترا تبعتا نزعته الكلاسيكة. وكان له الفضل والفخر في أنه جعل الفلسفة تشرق برقة الأسلوب ورشاقته مما أعاد إلى الذاكرة أفلاطون، ولم ينافسه في هذا بعد ذلك إلا باركلي.
جورج بركلي 1685-1753
ولد في ديرت كاسل في مقاطعة كيلكني. وفي سن الخامسة عشرة التحق بكلية ترنتي في دبلن. وفي سن العشرين أسس نادياً لدراسة "الفلسفة الجديدة"، ويقصد بها لوك. وفي الحادية والعشرين بدأ في "الكتاب العادي" وتلك فكرة كان يأمل من ورائها أن يقضي على "المادية" إلى الأبد: أي أنه ليس ثمة شيء موجود إلا إذا كان مدركاً بالحواس، ومن ثم فإن العقل هو الحقيقة الواقعة، والمادة أسطورة أو خرافة:
كما كان مذهب المادة أو الجوهر المادي، السند والدعامة الأساسيتان للتشكك، فإنه على نفس الركيزة أقيمت المبادئ البعيدة عن التقى والورع في الإلحاد والمروق عن الدين.... وكم كان الجوهر المادي صديقاً حميماً للملحدين في كل العصور، ممن لسنا في حاجة لذكرهم. أن كل نظمهم الرهيبة البشعة تعتمد عليه اعتماداً سافراً أساسياً، حتى إذا ما انهارت يوماً هذه الركيزة، أو حجر الزاوية في مذهبهم، فإن كل الكيان لم يلبث أن أنهار، مما لا يستحق معه أن نلقي نظرة خاصة إلى حماقات كل شيعة من هؤلاء الملحدين(178).
وهكذا في السنين السبع التالية، وقبل أن يتم التاسعة والعشرين أصدر بارلكي أهم أعماله: "بحث عن نظرية جديدة للرؤية" (1709)، رسالة عن أصول العقل البشري (1710)، "ثلاث محاورات بين هيلاسي وفيلونوس في معارضة المتشككين والملحدين" (1713). وكانت الرسالة الأولى إضافة رائعة إلى علم النفس والبصريات، كما هزت الرسالتان الخيرتان الفلسفة من الأعماق.
ونبعث رسالة الرؤية من قطعة لجون لوك يروي فيها كيف أن وليم مولينكس (مدرس في كلية ترنتي، دبلن) أثار أمامه مسألة: هل يستطيع إنسان ولد أعمى، أن يميز بعد استرداد بصره، بالبصر وحده، بين جسم كروي وآخر مكعب إذا كان كلاهما من نفس المادة وفي نفس الحجم. واتفق رأي مولينكس ولوك سلباً. واتفق باركلي معهما وأضاف تحليله الخاص. إن البصر لا يهيئ لنا إدراكاً حسياً للبعد والحجم والمواقع أو الحركات النسبية للأجسام، إلا بعد التصحيحات التي تجريها حاسة اللمس، وعن طريق التجارب المتكررة يصبح هذا التصحيح لحظياً تقريباً، وعندئذ يزودنا البصر بمثل هذا الحكم على شكل الأجسام المرئية وبعدها ومكانها وحركتها، كما لو أننا لمسناها:
إن الإنسان الذي ولد أعمى، ثم أعيد إليه بصره، لن يكون لديه في أول الأمر فكرة عن البعد عن طريق البصر فإن الشمس والنجوم، وأبعد الأجسام وأقربها على حد سواء، تبدو في عينه، بل في عقله، فالأجسام التي تدخل عن طريق البصر، لا تبدو له (كما هي في الحقيقة) إلا مجرد طائفة جديدة من الأفكار والأحاسيس، كل منها قريب الإحساس بالألم واللذة أو أشد الأحاسيس الداخلية في النفس.. أما حكمنا على الأجسام المدركة بالبصر، على أي بعد، أو بدون العقل، فإنه حكم مبني تماماً على التجربة(180).
فالفضاء حينئذ تركيب عقلي، إنه أسلوب للعلاقات التي تبنى عن طريق الخبرة للتوفيق بين مدركاتنا بالبصر وباللمس. وأكدت العمليات التي وردت في تقارير الجمعية الملكية (1709-1728) وجهة النظر هذه: فإن فرداً مولوداً أعمى، أعيد إليه بصره عن طريق جراحة أجريت له، كان في أول الأمر "أبعد ما يكون عن الحكم على الأبعاد، إلى حد أنه ظن أن كل الأجسام أياً كانت لمست عينيه... ولم يدرك شكل أي شيء، ولم يميز بين الأشياء، مهما اختلفت في الشكل أو الحجم(181)".
وكان كتاب "أصول المعرفة الإنسانية" نتاجاً رائعاً جديراً بالذكر لفتى في الخامسة والعشرين. ومرة أخرى تعرض باركلي لمقال لوك. إذا كانت كل المعرفة تأتي عن طريق الحواس، وليس ثمة شيء له حقيقية واقعة لدينا إلا إذا كنا ندركه أو قد أدركناه إدراكاً حسياً، "موجود أي أنه مدرك". وكان لوك كان قد ذهب إلى أن المدركات قد أحدثتها أشياء خارجية تضغط على أعضاء الحس فينا. وهنا تساءل باركلي: كيف تعرف أن مثل هذه الأشياء (الخارجية) موجودة؟ ألسنا نرى في أحلامنا أفكاراً واضحة مشرقة. وضوح وإشراق ما نراه منها في اليقظة. أن لوك حاول أن ينقذ استقلال الحقيقة الواقعة للأشياء بالتمييز بين صفاتها الأولية والثانوية، فهذه الخيرة ذاتية "في العقل"، والصفات الأخرى-الامتداد، الصلابة، الشكل، العدد، الحركة، السكون-موضوعية، توجد في جوهر خفي غامض اعترف لوك بأنه لا يعرف عنه شيئاً، ولكنه، هو والعالم بأسره، جعلوه "والمادة" شيئاً واحداً. والآن أعلن باركلي أن الصفات الأولية ذاتية مثل الثانوية تماماً، وأننا لا نعرف امتداد الأشياء وصلابتها وشكلها وعددها وحركتها وسكونها، إلا عن طريق الإدراك الحسي، وأن الصفات الأولية، بناء على ذلك، ذاتي أيضاً، أي أنها أفكار. والعالم بالنسبة لنا طائفة من المدركات الحسية، "إن العقل هو الذي يشكل هذه المجموعة المتنوعة من الأجسام التي يتألف منها العالم المرئي، ولا يتأتى لأي منها أن يكون موجوداً لفترة أطول مما هو مدرك(182)انزع عن "المادة" صفاتها الأولية والثانوية معاً، تصبح المادة عدماً لا معنى له. وعندئذ يترك "المادي" ليلعق عدماً(183).
وكان باركلي على وعي تام بأن آخرين، فضلاً على الماديين قد يعترضون على تبخر العالم الخارجي بمثل هذه البراعة الخادعة. ولم يعجز عن الرد حين سئل: هل يتوقف وجود أثاث المنزل في حجراتنا إذا لم يوجد من يدركه أو يراه(184). إنه لم ينكر حقيقة عالم خارجي لمدركاتنا(185)، وكل ما أنكره هو "مادية" العالم. ويمكن أن تستمر الأشياء الخارجية موجودة ولو لم ندركها أو نراها، وما ذاك إلا لأنها موجودة باعتبارها مدركات في عقل الله(186)، واستطرد يقول إن احساساتنا في الحقيقة تسببها، لا المادة الخارجية، بل القوة الإلهية التي تؤثر في حواسنا. والروح فقط هي التي تؤثر في الروح. والله هو المصدر الوحيد لكل أحاسيسنا وأفكارنا(187).
وذهب معاصرو باركلي إلى أن هذا لهو إيرلندي، وكتب لورد تشسترفيلد إلى ابنه:-
أن الدكتور باركلي الرجل الفاضل العبقري العالم، ألف كتاباً ليثبت أنه ليس هناك شيء مما يسمونه المادة، وأنه لا يوجد شيء إلا فكرة... وحججه مفحمة، بكل معنى الكلمة، ولكني أبعد ما أكون عن الاقتناع بها، إلى حد أني مصمم على أن آكل وأشرب وأمشي وأركب، حتى أحفظ تلك "المادة" التي أتصور خطأ، في الوقت الحاضر، أن جسمي يتكون منها، على أحسن حالة ممكنة(188).
وكل العالم يعرف ما بذل دكتور جونسون من جهد عظيم في الرد على دكتور باركلي:
يقول بوزول: بعد خروجنا من الكنيسة، وقفنا لبعض الوقت معاً نتحدث عن سفسطة الأسقف باركلي أو مغالطته البارعة لإثبات عدم وجود المادة، وأن كل شيء في الكون مجرد أفكار، ولاحظت أنه على الرغم من أننا قانعون بأنها غير صحيحة، فإنه من المتعذ1ر دحضها. وأن أنسي لن أنسي اندفاع جونسون في الرد، وهو يضرب بقدمه وبقوة شديدة حجراً كبيراً حتى أزاحه فارتد وسمع له صوت، وقال: "إني أدحضها هكذا(189)".
وربما كان من الجائر بطبيعة الحال أن يوضح باركلي للرجل العظيم (دكتور جونسون) أن كل ما عرف عن الحجر، بما في ذلك الألم الذي أصاب إصبع قدمه، كان ذاتياً: مجموعة من المدركات الحسية تسمى حجراً، مختلطة مع طائفة أخرى من الأحاسيس السمعية تسمى بوزول، ومجموعة من الأفكار التي تعلمتها والتي أشرب بها تسمى فلسفة، ولدت كلها استجابة أنتجت طاقة أخرى من الأحاسيس. واتفق هيوم مع بوزول وتشسترفيلد في أن حجج باركلي "لا تدع مجالاً لأي رد، ولا تؤدي إلى اقتناع"(190). ورأى هيوم أن لغز باركلي ساحر، ولكنه استخلص منه نتيجة مدمرة. وسلم بأن "المادة" تتلاشى عندما نسلبها صفاتها التي تنسبها إليها مدركاتنا الحسية ولكنه أوحى بأن نفس الشيء قد يقال عن "العقل". ولقد رأينا عرض لوك المسبق لهذه النقطة. لكن باركلي تنبأ بها أيضاً. فإنه في المحاورة الثالثة جعل هيلاس يتحدى فيلونوس:
أنت تعرف، حقاً بأنك ليس لديك أية فكرة عن نفسك.... وتسلم مع ذلك بأن هناك جوهراً روحياً، وعلى الرغم من أنه ليس لديك أية فكرة عنه، بينما تنكر إمكان وجود جوهر مادي، لأنه ليس لديك أي مفهوم أو فكرة عنه. فهل هذا من الإنصاف في شيء؟.... أما أنا فيبدو لي، طبقاً لطريقة تفكيرك، وبناء على مبادئك، أن هذا يستتبع أنك مجرد جهاز من أفكار عائمة، دون جوهر يساندها. أن الكلمات لا يمكن استخدامها دون معنى وحيث أنه ليس في الجوهر الروحي معنى أكثر مما هو في الجوهر المادي، فيجب تسفيه كليهما سواء بسواء(191). ويرد فيلونوس (نصير العقل) على هيلاس (الذي يمثل المادة): كم من مرة يجب أن أعيد وأكرر أني اعرف أو أني أعي وجودي وجوهري، وإني أنا نفسي، لا أفكاري، بل شيء آخر عنصر مفكر فعال يدرك بالحواس، ويعرف، ويريد، ويعمل حول الأفكار. أنا أعرف أني بالذات، أدرك الألوان والأصوات، وأن اللون لا يدرك الصوت، ولا الصوت يدرك اللون، وأني لذلك عنصر فرد، متميز عن اللون والصوت(192).
ولم يقتنع هيوم بهذا الجواب، وانتهي إلى أن باركلي، طوعاً أو كرهاً، دمر المادة والروح كلتيهما، وأن كتابات الأسقف اللامع الذي تطلع إلى الدفاع عن الدين، "تشكل أحسن دروس التشكك التي يمكن العثور عليها عند الفلاسفة القدامى والمحدثين على حد سواء، ودون استثناء بيل(193)".
وعمر باركلي أربعين عاماً بعد نشر رسائله الثلاث. وفي 1724 عين رئيساً لكاتدرائية دري. وفي 1728 أبحر، بناء على وعد من الحكومة بإمداده بمعونة مالية، إلى برمودا لينشئ فيها كلية "لتقويم عادات الإنجليز في مزارعنا في الغرب-المستعمرات-، ونشر الإنجيل بين الأمريكيين الهمجيين-(194). ووصل إلى نيوبورت في رود أيلند ينتظر ورود المنحة الموعودة وقدرها عشرون ألفاً من الجنيهات التي لم يصل منها شيء. وهناك ألف كتاب "الفيلسوف الصغير" ليضع حداً لكل الشكوك الدينية. وترك بصماته على ذهن جوناثان ادواردز، وكتب بيتاً مشهوراً "أن الإمبراطورية تشق طريقهما غرباً". وبعد ثلاث سنوات من توقعات لا طائل تحتها عاد إلى إنجلترا. وفي 1734 عين أسقفاً في كلوين. وقد رأينا كيف أن فانيسا صديقة سوبفت جعلته أحد منفذي وصيتها وتركت له نصف ثروتها. وفي 1744 نشر رسالة غريبة "مزايا ماء القطران" الذي قدمه إليه هؤلاء الهمجيون الذين سبق ذكرهم، والذي أوصى به الآن علاجاً للجدري. وقضي نحيه في أكسفورد في 1753 بعد حياة دامت ثمانية وستين عاماً.
ولم يبزه أحد في إثبات عدم واقعية الواقع. وفي جهوده لاستعادة الإيمان الديني وتطهيره البلاد من مادية هوبز التي كانت تلوث إنجلترا وتفسدها، قلب الفلسفة رأساً على عقب، وجعل "كل طبقات السماء وكل ما على الأرض.... كل تلك الأجسام التي تؤلف هيكل الجبار للعالم بأسره(195)"، موجودة بالنسبة للإنسان، باعتبارها مجرد أفكار في عقله. وكانت مغامرة محفوظة بالمخاطر، وربما ارتاع باركلي نفسه إذا وجد هيوم وكانت يقتبسان من مبادئه التقية الورعة نقداً للعقل لم يترك أية تعاليم أساسية في صرح الدينة المسيحية العريقة الحبيبة إلا زعزع أركانها. أننا لنعجب بدقة نسيج العنكبوت الذي جاء به، ونسلم بأنه منذ أفلاطون لم يكتب أحد مثل هذا الهراء الخلاب. وسنرى أثره في كل مكان من بريطانيا وألمانيا في القرن الثامن عشر، وكان الأثر أقل في فرنسا، ولكنه تعاظم في تعويذة نظرية المعروفة غير المفهومة عند أتباع كانت في القرن التاسع عشر. وحتى في يومنا هذا لم تقرر الفلسفة الأوربية بعد قراراً حاسماً وجود العالم الخارجي. وحتى توطن هذه الفلسفة نفسها على أقصي احتمال في هذا المجال، وتواجه مشاكل الحياة والموت، فإن العالم سوف يغفلها ويتغاضى عنها.
أن هذه الفترة كانت في حقيقتها أزهى فترات الفلسفة الإنجليزية. أن الناقوس الذي كان فرانسيس بيكون قد دقه لدعوة المفكرين للعمل بعضهم مع بعض، كان قد سمع بعد أن خمد أوار الحرب الأهلية. وكان هوبز جسراً فوق هذا الفراغ الغبي، وكان نيوتن الرافعة التي حرك عليها نيوتن اللاهوت. وكان لوك القمة التي تحدرت منها مسائل الفلسفة الحديثة في رؤية صافية واضحة. ومن هذا الرباعي الإنجليزي الذي سرعان ما أغراه هيوم الحكيم الغريب بالإثم، دخل إلى فرنسا وألمانيا تأثير قوي. ولم يكن المفكرون الفرنسيون في تلك الفترة على نفس القدر من العمق والأصالة مثل الإنجليز، ولكنهم أكثر لمعاناً وإشراقاً، من ناحية لأنهم "غاليون"، ومن ناحية أخرى لأن الرقابة الأشد صرامة أرغمتهم على إفراغ همهم في الشكل، ووضع حكمتهم في الرقة والظرف. ثم جاء فولتير إلى إنجلترا 1726، فلما عاد حمل في جعبته أفكار نيوتن ولوك بعد ذلك علم إنجلترا وفلسفتها أسلحة لتمحو ضلالة الخرافة والغموض والجهل. إن قابلة إنجليزية سهرت على ولادة الاستنارة الفرنسية.
ديڤد هيوم
ديڤد هيوم (1711–1776) was a Scottish philosopher, economist, and historian. His major works, A Treatise of Human Nature (1739–1740), the An Enquiry concerning Human Understanding (1748), An Enquiry Concerning the Principles of Morals (1751), and Dialogues Concerning Natural Religion (1779) remain widely influential.[1] His ideas regarding free will and determinism, causation, personal identity, induction, and morality still inspire discussion.
Hume famously described the problem of induction. He argues that inductive reasoning cannot be rationally employed, since, in order to justify induction, one would either have to provide a sound deductive argument or an inductively strong argument. But there is no sound deductive argument for induction, and to ask for an inductive argument to justify induction would be to beg the question.
Hume's problem of causation is related to his problem of induction. He held that there is no empirical access to the supposed necessary connection between cause and effect. In seeking to justify the belief that A causes B, one would point out that, in the past, B has always closely followed A in both space and time. But the special necessary connection that is supposed to be causation is never given to us in experience. We only observe a constant conjunction of events, with no necessity whatsoever.
In personal identity, Hume was a bundle theorist. He said that there is no robust self to which properties adhere. Experience only shows us that there is only a bundle of perceptions.
أدم سميث
Adam Smith (1723–1790) was a Scottish moral philosopher and a pioneer of political economics. Smith wrote The Theory of Moral Sentiments and An Inquiry into the Nature and Causes of the Wealth of Nations. The latter, usually abbreviated as The Wealth of Nations, is considered his magnum opus and the first modern work of economics. Smith is widely cited as the father of modern economics.
Smith studied moral philosophy at the University of Glasgow and the University of Oxford. After graduating, he delivered a successful series of public lectures at Edinburgh, leading him to collaborate with David Hume during the Scottish Enlightenment. Smith obtained a professorship at Glasgow teaching moral philosophy, and during this time he wrote and published The Theory of Moral Sentiments.
القرن 19
جرمي بنتام
جرمي بنتام (1748–1832) is well known for beginning the tradition of classical utilitarianism in Britain. Utilitarianism is a consequentialist theory of normative ethics which holds that an act is morally right if and only if that act maximizes happiness or pleasure. Classical utilitarianism is said to be hedonistic because it regards pleasure as the only intrinsic good and pain as the only intrinsic evil.[2]
جون ستوارت مل
جون ستوارت مل (1806–1873) was an influential contributor to social theory, political theory, and political economy. His conception of liberty justified the freedom of the individual in opposition to unlimited state control.[3]
Mill also continued Bentham's tradition of advancing and defending utilitarianism. Mill's book Utilitarianism is a philosophical defense of utilitarianism. The essay first appeared as a series of three articles published in Fraser's Magazine in 1861; the articles were collected and reprinted as a single book in 1863.
هنري سدجويك
هنري سدجويك (1838–1900) also focused on utilitarian ethics and was one of the founders and first president of the Society for Psychical Research, was a member of the Metaphysical Society, and promoted the higher education of women. The Methods of Ethics is a book on utilitarianism written by Sidgwick that was first published in 1874.[4] The Stanford Encyclopedia of Philosophy indicates that The Methods of Ethics "in many ways marked the culmination of the classical utilitarian tradition." Well-known contemporary utilitarian philosopher Peter Singer has said that the Methods "is simply the best book on ethics ever written."[5]
المثالية البريطانية
As an area of absolute idealism, British idealism was a philosophical movement that was influential in Britain from the mid-nineteenth century to the early twentieth century. Important representatives included T.H. Green, F.H. Bradley, Bernard Bosanquet, J. M. E. McTaggart, H. H. Joachim, J. H. Muirhead, and G. R. G. Mure. Two British philosophers, G. E. Moore and Bertrand Russell, were brought up in this tradition and then reacted against it by pioneering analytic philosophy.
القرن العشرون وما بعده
الفلسفة التحليلية
Analytic philosophy was based on traditional British empiricism, updated to accommodate the new developments in logic pioneered by German mathematician Gottlob Frege. It has dominated philosophy in the English-speaking world since the early 20th century.
ج.إ. مور
George Edward Moore OM (1873–1958) was an English philosopher. One of the founders of the analytic tradition, he led the British 'revolt against idealism' at the turn of the twentieth century, along with Bertrand Russell - while Russell is better known, he stated that it was in fact Moore who "led the way".[6]
برتراند رسل
Bertrand Russell (1872–1970) led the British "revolt against idealism" in the early 1900s, along with G.E. Moore. He was influenced by Gottlob Frege, and was the mentor of Ludwig Wittgenstein. He is widely held to be one of the 20th century's premier logicians.[7] He co-authored, with Alfred North Whitehead, Principia Mathematica, an attempt to derive all mathematical truths from a set of axioms using rules of inference in symbolic logic. His philosophical essay "On Denoting" has been considered a "paradigm of philosophy."[8] Both works have had a considerable influence on logic, mathematics, set theory, linguistics, and philosophy.
Russell's theory of descriptions has been profoundly influential in the philosophy of language and the analysis of definite descriptions. His theory was first developed in his 1905 paper "On Denoting".
Russell was a prominent anti-war activist; he championed free trade and anti-imperialism.[9][10] Russell went to prison for his pacifist activism during World War I. Later, he campaigned against Adolf Hitler, then criticised Stalinist totalitarianism, attacked the United States of America's involvement in the حرب ڤيتنام, and finally became an outspoken proponent of nuclear disarmament.[11]
In 1950, Russell was awarded the Nobel Prize in Literature, "in recognition of his varied and significant writings in which he champions humanitarian ideals and freedom of thought."[12]
أ.ج. آير
Sir Alfred Jules Ayer (29 October 1910, London – 27 June 1989, London), better known as A. J. Ayer or "Freddie" to friends, was a British analytic philosopher known for his promotion of logical positivism, particularly in his books Language, Truth and Logic (1936) and The Problem of Knowledge (1956).
فلسفة اللغة العادية
Ordinary language philosophy is a philosophical school that approaches traditional philosophical problems as rooted in misunderstandings that philosophers develop by forgetting what words mean in their everyday use.
This approach typically involves eschewing philosophical theories in favour of close attention to the detail of everyday language. Sometimes also called "Oxford philosophy", it is generally associated with the work of a number of mid-century Oxford professors: mainly J.L. Austin, but also Gilbert Ryle, H.L.A. Hart, and Peter Strawson.
It was a major philosophic school between 1930 and 1970.
الأزمنة المعاصرة
Recent British philosophers particularly active in the philosophy of religion have included Antony Flew, C. S. Lewis, and John Hick.
Important moral and political philosophers have included R.M. Hare and Alasdair MacIntyre.
Other recent figures in the British analytic tradition include Derek Parfit, Karl Popper, Colin McGinn, Galen Strawson and his father P. F. Strawson, focusing on such fields as metaphysics, philosophy of mind, logic, and the philosophy of language.
انظر أيضاً
الهامش
- ^ "David Hume" at the Stanford Encyclopedia of Philosophy Retrieved May 15, 2010
- ^ "Consequentialism" at Stanford Encyclopedia of Philosophy Retrieved April 10, 2011
- ^ "John Stuart Mill's On Liberty". victorianweb. Retrieved 2009-07-23.
On Liberty is a rational justification of the freedom of the individual in opposition to the claims of the state to impose unlimited control and is thus a defence of the rights of the individual against the state.
- ^ "Henry Sidgwick, 1838-1900" at The History of Economic Thought Website Retrieved April 10, 2011
- ^ Peter Singer - Interview at NormativeEthics.com Retrieved April 10, 2011
- ^ Analytic Philosophy And Return Hegelian Thought :: Philosophy: general interest :: Cambridge University Press. Cambridge.org. Retrieved on 2013-07-29.
- ^ "Bertrand Russell" at the Stanford Encyclopedia of Philososophy Retrieved May 15, 2010
- ^ Ludlow, Peter, "Descriptions", The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Fall 2008 Edition), Edward N. Zalta (ed.), URL = [1].
- ^ Richard Rempel (1979). "From Imperialism to Free Trade: Couturat, Halevy and Russell's First Crusade". Journal of the History of Ideas. University of Pennsylvania Press. 40 (3): 423–443. doi:10.2307/2709246. JSTOR 2709246.
- ^ Bertrand Russell (1988) [1917]. Political Ideals. Routledge. ISBN 0-415-10907-8.
- ^ The Bertrand Russell Gallery
- ^ The Nobel Foundation (1950). Bertrand Russell: The Nobel Prize in Literature 1950. Retrieved on 11 June 2007.