العصر المذهب
في تاريخ الولايات المتحدة، العصر المذهـَّب Gilded Age هو فترة تمتد تقريباً من ع1870 إلى مطلع القرن العشرين. هذه المقالة تركز على التاريخ الاجتماعي. للتاريخ السياسي، انظر أيضاً تاريخ الولايات المتحدة (1865–1918)
التعبير صاغه الكاتبان مارك توين وتشارلز ددلي وارنر في The Gilded Age: A Tale of Today (1873), satirizing what they believed to be an era of serious social problems disguised by a thin gold gilding.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
التقدم الصناعي والتكنولوجي
كان الفولاذ السمة المميزة لاقتصاد أواخر القرن التاسع عشر في العالم الغربي . فقد أصبح انتاجه مقياسا للقوة الصناعية للبلد ، وكانت استخداماته لا تحصى إذا جاز القول. أما تأثيره فكان كبيرا في القطاعات الاقتصادية الأخرى كالسكك الحديد والعقارات. لكن الفولاذ لم يكن ابتكار ذلك الزمان. إذ أنه ظهر في الواقع قبل ثلاثة آلاف عام ، ولم يكن ثمة جديد الآن سوى تكلفة إنتاجه.
ذلك أن تماسيح الحديد - وهي أول مرحلة إنتاج الفولاذ والحديد – تحول إلى سبائك حديد بإعادة صهرها ومزجها مع الجير الأرضي لإزالة الشوائب الباقية. ويصنع الحدي الصلب بعد ذلك بصبع في قوالب لانتاج أدوات مثل القلايات ومواقد الطبخ وقضبان البناء. ولقد استخدم الحديد الصلب كثيرا في عمليات الانشاء في المدن في فترة ما قبل الحرب ، لكنه كان يعاني نواحي قصور حادة. فبفضل قوته الهائلة عند ضغطه كان الحديد الصلب يستخدم في إنتاج أعمدة محكمة القوة. لكن ولأنه سريع الانكسار ولا تيحمل التوتر فإنه لم يكن يصلح لصناعة العوارض ، التي يناسبها الحديد المطاوع.
يستخرج الحديد المطاوع بصهر تماسيح الحديد ، وتحريكها باستمرار إلى أن تعطي مركبا عجينيا متجانسا بعد تطاير معظم الشوائب منها. ولقك كان العمال الذين اشتغلوا على أفران الصهر يعرفون "بالمسوطين Puddlers". كان المسوط على قدر عالي من المهارة ويتقاضى أجورا مرتفعة. وبعد إزالة المعدن من فرن التسويط كان يخضغ للضغط ثم يلف ثم يطوى مرات عدة – كان في الواقع يعجن كعجينة الخبز – إلى أن يكتسب خاصية التليف (التحول إلى خيوط) التي تجعل الحدي المطاوع أقل تهشما من الحديد الصلب ، وبالتالي أكثر تماسكا وصلابة في حالات الضغط والتوتر. ويعتبر الحدي المطاوع لدنا تماما بالمقارنة مع الحديد الصلب ، لكنه بالمقابل يتمتع بقالبلية للسحب والطرق فيأخذ أشكالا عدة ، تماما كالنحاس.
كان الحديد المطاوع – بطبيعة الحال – أعلى تكلفة في الانتاج من الحديد الصلب ، لكنه كان صالحا لصنع العوارض والجسور والسفن وأكثر غنى لاقتصاد القرن التاسع عشر بعد العام 1830 ، وبالتحدي لقطاع السكك الحديد . إذا لم تكن الثورة الصناعية لتبلغ ذروتها من دور توافر الحديد المطاوع بكميات كبيرة.
إن للفولاذ – الذي هو عبارة عن حديد مؤشب بكمية مناسبة من الكربون تحت شروط مناسبة – خصائص جيدة تجمع بين خصائص الحديد الصلب والحديد المطاوع. فهو يتمتع بالصلابة والقوة كالحديد الصلب وقابل للطرق والسحب ويتحمل الصدمات كالحديد المطاوع. وهو أشد كثيرا في ظروف الشد والتوتر من كلا هذين النوعين من الحديد ، لذلك فإنه يمثل مادة للبناء لا تضاهى.
لكنه وحتى منتصف القرن التاسع عشر كانت السبيل الوحيدة لصناعة الفولاذ هي الحصول على أكباش أو قطع صغيرة من الحديد المطاوع ومزجها بالكربون وتسخين المزيج لبضعة أيام. لذلك كان استخدامه محصورا في صناعة الأدوات ذات القيمة العالية كنصول السيوف والشفرات والعدد ، حيث كانت قابليته لامتصاص الصدماء وإمكان شحذه والحصول على أطراف حادة مسوغا لتكلفته العالية . وفي منتصف القرن كانت اوروبا تصنع ما يقارب من 250 ألف طن من الحديد بالطرق التقليدية ، بينما لا يصنع منه سوى 10 آلاف طن في الولايات المتحدة.
ومن ثم وفي العام 1856 ابتكر انجليزي يدعى هنري بسمر (السير هنري فيما بعد) محول بيسمبر الذي ساعد على صناعة الفولاذ مباشرة من تماسيح الحديد. وكما هي الحال غالبا في تاريخ التطور التكنولوجي ، فقد كانت اللمعة الأولى وليد الملاحظة العرضية. فقد طور بيسمير شكلا جديدا من قذيفة المدفعية ، لكن المدافع المصنوعة من الحديد الصلب في تلك الأيام لم تكن بالقوة الكافية لاستيعات تلك القذائف . وبدأت التجارب تجرى أملا في الخروح بمعدن أوقى وأشد. وذات يوم اتفق أن تيارا من الهواء هب على حديد مصهور ، وقد عمل الأكسجين الموجود في الهواء – بعد أن تفاعل مع الحديد والكربون في المعدن المنصهر – على رفع درجة حرارة المعدن وتطاير الشوائب منه. كما طر معظم الكربون ، ولم يبق إلا الفولاذ.
وهكذا انكب بسمر – بعد أن أدرك ما حدث – على تطوير عملية صناعية تحاكي مشاهداته العرضية. كان المحول الذي ابتكره عبارة عن وعاء كبير بعرض عشر أقدام وارتفاع عشر أقدام مزود بمرتكزات للدورات (مبارم) تسمح بتفريغ محتوياته إلى الخارج. كان مصنوعا من الفولاذ وينتظمه آجر حراري.وفي القاعدة يمكن نفخ الخواء عبر الثقوب في الآجر الحراري إلى "الحشوة" أو كتلة المعدن المنصهر في البوتقة ، ليتحول إلى فولاذ في تيار هوائي شديد قوامه اللهب والحرارة. وبفضل محول بيسمير أمكن تحويل ما بين عشرة أطنان وثلاثين طنا من تماسيح الحديد إلى فولاذ كل إثنتي عشرة دقيقة إلى خمس عشرة دقيقة في واحدة من أشهر العمليات الصناعية على الإطلاق.
وكتب الناشط العمالي جون إي فيتش في العام 1910 أن "ثمة إعجابا شديدا بآلية صناعة الفولاذ. إذ أن الحجم الهائل للأدوات ونطاق الانتاج يشده العقل بحس غامر من القوة. لقد فغرت أفران النفخ الشرهة أفواهها – وكانت تبلغ ثمانين أو تسعين أو مائة قدم ارتفاعا – دائما لابتلاع طن إثر آخر من فلز الحديد والوقود والحجارة. لقد بهرت محولات بيسمبر العين بألسنة اللهب المتطايرة منها. كانت قوالب الفولاذ بحرارتها التي وصلت إلى درجة الإبيضاض ووزنها البالغ آلاف الأرطال ، كانت تحمل من مكان إلى آخر وتلقى جانبا كأنها دمى خفيفة. وكانت الرافعات تلتقط عوارض الفولاذ بطول خمسين قدما بخفة ورشاقة كأن أطنانها كانت أرطالا ليس إلا. وهذه هو ما يسحر عين الزائر لورش فولكان Vulcan".
النمو الاقتصادي
كان أحد زوار ورش صناعة الفولاذ التي يملكها هنري بسمر في شفيلد بانجلترا العام 1872 شاب اسكتلندي هاجر إلى أمريكا اسمه أندرو كارنيجي. لقد تاثر كثيرا – إلى درجة أنه في السنوات الثلاثين التالية سيركب موجة الطلب المتصاعد على الفولاذ ليصبح أحد أغنى أثرياء أمريكا.
لقد ولد كارنيجي في دنفرملاين على بعد بضعة أميال شمال غرب إدنبرة في منطقة فيرث أوف فورث في العام 1835 ، كان والده حائكا يدويا يملك نوله الخاص وينسج عليه الدمقس بتطاريز آية في الروعة والجمال. وكانت دنفيرملاين مركزا لتجارة الدمقس ، حيث كان الحاجة المهرة من أمثال ويليام كارنيجي يكسبون دخلا جيدا من أعمالهم.
لكن الثورة الصناعية قضت على مصدر رزق وليام كارينجي. إذ مع حلول أربعينيات القرن التاسع عشر أصبحت الأنوال الآلية نتج الأقمشة والمنسوجات كالمدقس بتكلفة تقل كثيرا عن تكلفة الأنوال اليديوة. ومع أن عدد الحاكة الأنوال اليدوية بلغ 84.560 في اسكتلندا في العام 1840 فإن هذا القرم سيتراجع بعد عشر سنوات إلى 25 ألفا. ولن يكون ويليام كارنيجي واحدا من هؤلاء.
وانتهى كارنيجي الأب إلى شفير اليأس والقنوط وهبت زوجته – وكانت أكثر تصميما وعنادا – لمواجهة الأزمة بنفسها. لقد تلقت رسالة من أختها – التي هاجرت إلى أمريكا منذ زمن – واستقرت في بتسبرة. وجاء في رسالتها: "هذا البلد أفضل كثيرا للعامل الحرفي من بلدنا الأم وثمة متسع كاف وزيادة ، على الرغم من الألوف التي تقاطرت على عتباته". وفي العام 1847 عندما كان أندرو في عمر الثانية عشرة انتقلت عائلة كارينجي إلى بتسبرة.
كانت عائلة كارنيجي من العائلات التي واكبت أكبر أكبر موجة من الهجرة الجماعية في تاريخ البشرية ، وعرفت باسم هجرة الأطلسي. في البدء كان معظم المهاجرين ينحدرون من الجزر البريطانية ، خصوصا إيرلندا بعد بداية المجاعة العظيمة في أربعينيات القرن التاسع عشر. وفيما بعد قدمت ألمانيا وايطاليا وأوروبا الشرقية أعدادا هائلة من المهاجرين تجاوزت المليونين في العام 1900 وحده.
إن الهجرة الأطلسية تضاهي بحجمها وأهميتها هجرات البربر في العصور الكلاسيكية المتأخرة التي أفضت إلى نهاية الإمبراطورية الرومانية . لكن ، على الرغم من أن كثيرا من القابئل البربرية قد دفعت إلى الهجرة بضغط من القبائل التي استولت على أراضيها ، فإن المهاجرين الذين ربا عددهم على ثلاثين مليونا وعبروا المحيط الأطلسي للاستقرار في أمريكا بين العامين 1820 – 1914 إنما شدهم إلى هناك بريق الفرص الاقتصادية.
وقد انتقل كثير من المهاجرين – كالاسكندنافيين الذين ضاقت عليهم الارض واستقروا في الغرب الأوسط الأعلى – إلى المناطق الريفية وأقاموا لهم مزارع فيها. لكن معظمهم – على الأقل في بادئ الأمر – استقر في المندن الأمريكية المزدهرة ، في الضواحي المتسارعة انتشارا وقد باتت تعرف "بأحياء الفقراء" (ظهرت هذه الكلمة في بريطانيا وأمريكا نحو العام 1925). ولأول مرة في التاريخ الأمريكي ، كان جزء كبير من السكان في عداد الفقراء . لكن معظم فقراء المناطق الحضرية لم يظلوا في براثن الفقر طويلا.
أحياء الفقراء تلك كانت – بالمعايير الحالية – مروعة لا يمكن تصورها .. بمساكنها التي تعشش فيها الجريمة والهوام والحشرات .. والتي لا تعرف الشمس إليها سبيلا. كانت تؤوي كثيرا من الناس وأحيانا عائلات عدة في غرفة واحدة. وكانت كنفها (مراحيضها) مشتركة خلف الأبنية. وفي إحصاء العام 1900 عندما تحسنت ظروف الحياة في الأحياء الفقيرة كثيرا عما كانت عليه في منتصف القرن ، بلغ عدد سكان إحدى الضواحي في الطرف الشرقي الأدنى من نيويورك أكثر من خمسين ألفا ، ومع ذلك فلم يكن فيها إلا نحو خمسمائية حمام فقط.
هذه السكنى لم تكن – على الرغم من هذا – أسوأ ، بل كانت أحيانا أفضل من تلك التي خلفها وراءهم المهاجرون المعدمون من أوروبا. وعلى حد تعبير شقيقة السيدة كارنيجي – وملايين من أمثالها – في رسالتها إلى موطنها الأصلي ، فقد كانت الفرص الاقتصادية أعظم كثيرا. ولم يتراجع نقص الأيدي العالمة وهو مسة ملازمة للاقتصاد الأمريكي منذ أيامه الأولى. لذلك فإن العائلة المهاجرة لم تقم في أسوأ أحياء الفقراء أكثر من خمس عشرة سنة بالمتوسط ، قبل أن يتسنى لها الانتقال إلى سكن أفضل في أحياء أفضل حالا ، والبدء بالارتقاء إلى مراتب الطبقة الوسطى الأمريكية.
إن الهجرة إلى الولايات المتحدة بحثا عن الفرص الاقتصادية لم تتوقف ، على الرغم من وضع ضوابط قانونية لهذه الهجرة في مطلقع عشرينيات القرن العشرين. وساعدت هذه الهجرة السريعة على توفير اليد العاملة اللازمة لتشغيل الاقتصاد الأمريكي . وقد أكسبت الولايات المتحدة تركيبة سكانية كانت الأكثر تنوعا في العالم أجمع. وبفضل هذا ، فقد وفرت لها روابط وعلاقات شخصية وثيقة مع كل دول العالم تقريبا ، وهذا يعد ميزة اقتصادية وسياسية عظيمة.
وانتقلت عائلة كارنيجي إلى حجرتين تعلوان إحدى الورش التي تقع مقابل زقاق موحل خلف منزل شقيقة السيدة كارنيجي في مدينة أليجني وهي من ضواحي بتسبرة. وعثرت السيدة كارنيجي على عمل لها في صناعة الأحذية واشتغل السيد كارنيجي في محلج للقطن. كما حصل أندرو عناك على وظيفة عامل بكرة لقاء 1.2 دولار في الأسبوع. وكا نيعمل إثنتي عشرة ساعة في اليوم ، ستة أيام في الأسبوع.
ولا حاجة إلى القول إن أندرو كارنيجي المشتعل حماسة وطموحا لم ينتظر أكثر من خمسة عشر عاما لارتقاء ذلك السلم. ففي العام 1849 كان يعمل مراسل تلغراف لقاء 2.5 دولار في الأسبوع . وهذا ما وفر له الفرصة للتعرف على بتسبرة ومؤسساتها التجارية ، وأفاد كارنيجي من معظم تلك افرص وعلى الفور حصل على وظيفة عامل مقسم (هاتف) فكان يشتغل على التلغراف بنفسه وتعلم تفسير رموزه سماعا فكان يكتب الرسائل من دون إبطاء ، وارتفع راتبه إلى 25 دولار في الشهر.
وفي العام 1853 – وتجسيدا للقول المأثور عن لويس باستور "الفرصة تخدم العقل المهيأ لها" كان توماس إي سكوت – وكان مشرفا عاما على خط حديد بنسلفانيا ، وكان دائم التردد على مكتب التلغراف حيث عمل كارينجي – يبحث عن عامل تلغراف متخصص للعمل على النظام الذي كانت الشركة قد اعتمدته آنذاك. ووقع اختياره على كارينيج – الذي لم يبلغ حينذاك الثامنة عشرة بعد. وعندما بلغ كارينجي الثالثة والثلاثين – في العام 1868 وصل دخله السنوي إلى 50 ألف دولار بفضل رعاية وإرشاد توماس سكوت وعدد من الاستثمارات الناجحة في عربات النوم المهاج التابعة للسكك الحديد ، والنفط وخطوط التلغراف وصناعة الحديد. لكنه بعد زيارة ورشات بيسمير في شيفلد ، قرر أن يوجه اهتمامه إلى صناعة الفولاذ. لقد حملت المصادفة المحضة عائلة كارينجي إلى بتسبر ، لكن الميزات النسبية التي تمتعت بها ستجعلها مركز صناعة الفولاذ في الولايات المتحدة.
لقد تأسست بتسبرة – كالكثير من المدن غرب الجبال – مركزا تجارية ، وهي قائمة في نقطة التقاء نهري أليجني وموناجاهيلا حيث يتشكل نهر أوهايو ، ما ييسر سبل النقل عبر مساحات شائعة. وفي فترة وجيزة بعد الثورة ، بدأت بتسبرة تشتغل ماكمن فلز الذهب والفحم الغنية التي تقع في جوارها ، وشرعت في التخصص في المجالات الصناعية. وفي وقت كانت المناطق الأخرى في البلاد تعتمد على الخشب مصدرا للطاقة صار الفحم المصدر المهيمن للطاقة في بتسبرة ، فأمد المعامل التي كانت تنتج الزجاج والحديد والمنتجات الآخرى التي يتطلب إنتاجها كثيرا من الطاقة . لقد كان ثمة 250 معملا في زمن كان عدد السكان لا يتجاوز ستة آلاف ، في العام 1817، وكانت المدينة الناشئة – وقد غمرتها روح الحماسة الأمريكية – تطلق على نفسها اسم "برمنجهام الأمريكية" . وبفضل الفحم الرخيص أفادت بتسبرة من المحرك البخاري قبل فترة طويلة من استخدامه بدل قوة الماء في المناطق الأخرى ، وكان معظم مصانعها يعمل بطاقة البخار في العام 1830.
ومع ذلك كانت للفحم الرخيض عواقبه الحتمية ، إذ أنه يولد دخانا من الاحتراق يفوق ذلك الذي يطلقه الخشب. وفي نحو العام 1820 عندمات كانت بتسبر بلدة صغيرة نسبيا ، كتب أحد زوارها أن الدخان شكل "غمامة بحجم الليل غطت بتسبرة بجناح من الكآبة والسوداوية". وفي ستنينات القرن التاسع عشر كان أنطوني ترولوب نفسه - وهو المولود في لندن وعلى معرفة بدخان الفحم – مأخوذا من سحب الدخان الكثيفة . وروي عن ترولوب – بعد أن ألقى نظرة إلى الهضاب المحيطة – أن بعض قمم الكنائس تمكن رؤيتها " لكن المدينة نفسها كانت مدفونة في سحابة كثيفة. لم أكن مشدوها من الدخان والسخام بقدر ما كنت كذلك حينما وقفت هنا وراقبت ظلام الليل يلف السخام الطافي على أسطح المنازل في المدينة". ومع اشتداد عود الثورة الصناعية عم التلوث بدخان الفخم وسخامه المدن الأمريكية الأخرى ، لكن أيام منها لم تبلغ درجة الانحدار التي وصلت إليها بتسبرة.
كانت أهم مكامن الفحم في منطقة بتسبرة تلك الواقعة في محيط بلدة كونيسلفيلد على مبعدة ثلاثين ميلا جنوب شرق المدينة . وما يميز فحم كونيسلفيلد كان قابليته التامة تقريبا للتحول إلى فحم الكوك. وهو في الحقيقة أفضل أنواع الفحم المتحول إلى كوك في العالم.
ويمثل الكوك مقارنة بالفحم العادي ما يمثله الفحم النباتي مقارنة بالخشب. إذ أن تسخينه من دون هواء للتخلص من الشوائب ، يحوله إلى كربون خالص يحترف عند درجة حرارة معتدلة ويمكن ضبطها بيسر وسهولة. ولا يمكن الاستغناء عن الفحم النباتي وفحم الكوك في إنتاج الحديد والفولاذ. ومع تنامي صناعة الحديد في بتسبرة تحولت تدريجيا إلى فحم الكوك الذي كان الانتقال بإنتاجه إلى النطاق الصناعي أسهل كثيرا من الإنتقال بالفحم النباتي.
وعندما بدأ أندرو كارنيجي بالتحول إلى صناعة الفولاذ كان هنري كلاي فريك – المولود في وست ڤرنون، پنسلڤانيا في العام 1849 – يتحول إلى استخدام فحم الكوك . ومثل كارنيجي كان فريك رجل أعمال صلب العزيمة مقبلا على تحمل مخاطر عظيمة لتحقيق مكاسب عظيمة. وعلى غرار كارنيجي أيضا ، أصبح مليونيرا لدى بلوغه سن الثلاثين. لكنه على عكس كارنيجي ، مع ذلك ، لم يكن يلقى بالا كثيرا إلى الرأي العام أو الأحداث الاجتماعية البارزة في ذلك الزمن. لقد اراد كارنيجي أن يحظى بإعجاب المجتمع جميعه. أما فريك فكان يسعى كثيرا إلى اكتساب احترام المجتمع. ولم يظهر إلا نادرا – على عكس كارنيجي – في مقابلات صحفية ، ولم يكتب مقالات لها إطلاقا.
وفي ثمانينات القرن التاسع عشر ، هيمنت شركة كارينجي للفولاذ وشكرة إتش سي فريك على القطاعات الصناعية التي عملت فيها. وأصبح كارنيجي أكبر عملاء فريك على الإطلاق. وفي أواخر العام 1881 ، وبينما كان فريك يمضي شهر العسل في نيويورك، تقدم كارنيجي – وهو عاشق للمفاجآت – باقتراح مفاجئ بدمج الشركتين في جلسة غداء العائلة ذات يوم ، ولأن فريك لم يكن يعلم البتة بهذا الاقتراح فقد أصابه الذهول ، وكذلك كانت والدة كارنيجي – وهي إمرأة شديدة الحذر – وقد بلغت آناذاك السبعينات من العمر.
وقطع الصمت محادثة ربما هي أبرز الأمثلة على حرص الأمهات في تاريخ الأعمال والتجارة الامريكية . إذ بدر عن السيدة كارنيجي بلكنتها الاسكتلندية العريضة: "آه" أندرا ، إن هذا لشئ رائع بالنسبة إلى السيد فرييك ، لكن م الذين سنفيده منه"؟.
بالطبع ، قد فكر كارنيجي جيدا بما يمكن أن يفيده من ذلك. أولا ، ستحصل شركة كارنيجي للفولاذ على توريدات مضمونة من فحم الكوك وبأفضل الأسعاء. ثانيا ، سيكون ذلك فرصة لتعلم المهارات الإدارية المتطورة التي يتمتع بها هنري كلاي فريك . ثالثا ، سيعزز ذلك التكامل العمودي لنصاعة الفولاذ عامة ولشركته بوجه الخصوص.
إن التكامل العمودي هو أن تضع شركة واحدة يدها على بعض مراحل الإنتاج – أو كلها – من مرحلة تأمين المواد الأولية إلى مرحلة التوزيع. وقد كان هذا التكامل معروفا منذ فجر الثورة الصناعية – كان فرانسسيس كابو لويل أول من جمع أعمال الغزل والحياكة تحت سقف واحد – لكنه شهد تسارعا عظيما في الربع الأخير من القرن التاسع عشر عندما سعى الصناعيون إلى تحقيق وفورات الحجم وتخفيض التكاليف.
لقد اشترك كارنيجي وفريك في فلسفة إدارية بسيطة:
1- الابتكار الدائم والاستثمار بكثافة في أحدث المعدات والتقنيات بغية خلفض التكاليف التشغيلية.
2- حرص الصناعي على أن يكون أقل المنتجين تلكفة للمحافظة على مركز رابح عندما تسوء الظروف الاقتصادية.
3- استبقاء معظم الأرباح في الفترات المواتية للاستفادة من الفرص المتاحة في الفترات غير المواتية حينما ينتهي المنافسون الأقل كفاءة إلى الفشل.
وقد ظهرت إحدى هذه الفرص في العام 1889 ، وكان فريك آنذاك رئيس مجلس إدارة شركات كارنيجي للفولاذ (لم يشغل كارنيجي نفسه أي منصب إداري في الشركات التي خضعت لسيطرته ، لكنه بفضل حيازته أغلبية كافية تماما في ملكية الأسهم ، ظل دائما مسيطرا على مقاليد القيادة والمسئولية). وفي ذلك العام اقتنص فريك شركة ورش فولاذ دوكيسني – وكانت تعاني صعابا مالية – ودفع قيمتها مليون دولار من سندات شركة كارنيجي مستحقة الأداء بعد خمس سنوات ، وفي موعد استحقاق السندات كان المصنع قد حقق لنفسه خمسة أضعاف ذلك المبلغة.
وقد جاء كثير من الابتكارات التقنية التي سارع كارنيجي إلى توظيفها من صناعات الفولاذ الأوروبية الأقدم والأعرق ، تماما كصناعة الملابس الأمريكية قبل قرن مضى تقريبا حين نهضت على ركب التقدم التقني الذي حققته بريطانيا ، وقد بين العقيد دبليو إم جونز – وهو من أعضاء طاقم كارينجي الأساسييين- أمام المعهد البريطاني للحديد والفولاذ في العام 1881: " في وقت كان فيه عملاء المعادن في بلادكم إلى جانب أولئك الذين في فرنسا وألمانيا يكرسون وقتهم وخبراتهم لاكتشاف معالجات جديدة فقد تلقفنا المعلومات التي أوردتها التقارير الصادرة عن المعهد وكرسنا أنفسنا – تدفعنا الأنانية وحب الذات – إلى أن نتفوق عليكم في الإنتاج".
وبالفعل فقد تفوقوا عليهم. ففي العام 1867 وحده انتج 1643 طنا من حديد بيسمير في الولايات المتحدة. وبعد ثلاثين عاما – في العام 1897 – بلغ الحديد المنتج 7.156.957 طنا ، أي ما يتجاوز إنتاج بريطانيا وألمانيا مجتمعتين. ومع نهاية القرن سيفوق إنتاج شركة كارنيجي للفولاذ وحدها إنتاج بريطانيا. وستحقق أرباحا طائلة أيضا. إذ بلغت أرباح الشركة – وهي أقل منتجي الفولاذ تكلفة في السوق الأمريكية الرائجة والخاضعة لضوابط حمائية صارمة – 21 مليون دولار. وفي العام التالي تضاعف الرح. ولا عجب ان هتف أندرو كارنيجي بحماسة ذات مرة : " هل كان ثمة عمل مثل هذا Was there ever such a business".
كان الفولاذ يغير أيضا وجه الحياة الحضرية في الولايات المتحدة ففي وقت كان فيه الحجر مادة البناء الأساسية في المباني الضخمة لم يتسن الإرتفاع بها لأكثر من ستة طوابق ، حتى عندما صر المصعد قيد الاستخدام في خمسينيات القرن التاسع عشر بسبب الحاجة إلى زيادة سماكة الجدران. ولم تجاوز الأبنية المجاورة ارتفاعا إلا أبراج الكنائس التي اخترقت أفق السماء في المدن.ولكن التراجع المطرد في سعر الفولاذ بفضل ارتفاع كفاءة الصناعة – حيث كانت تكلفة قضبان السكك الحديد المصنوعة من الفولاذ الأطول عمرا تقل في ثمانينات القرن التاسع عشر عن تكلفة قضبان الحديد المطاوع القديمة – أدى إلى زيادة مطردة في عدد المباني التي أقيمت على هياكل فولاذية ، وكانت قادرة على بلوغ عنان السماء . وفي الفترة الفاصلة بين ثمانينيات القرن التاسع عشر والعام 1913 كان القرم القياسي لارتفاع المباني يحطم كل عام تقريبا مع هيمنة ناطحات السحاب على سماء المدن الأمريكية في استعراض مهيب لقوة الفولاذ.
إن لكل من رأس المال والعمل أهميته في الانتاج الصناعي واسع النطاق كصناعة الفولاذ. وذلك أنه لا يمكن لأي من عنصري الإنتاج هذين خلق الثروة من دون وجود الآخر. لكن المشكلة كانت تتمثل دائما في تحديد نصيب كل منهما من الثروة المخلقة. قبل الثورة الصناعية ، كان رأس المال والعمل في علاقة حميمة. بل كانا يعدان من العائلة نفسها. وكان قدر كبير من العمل يوفره المتدربون (الصناع) الذين لم يحصلوا إلا على النذر اليسير ، علاوة على ما كان يوفر لهم من مسكن وطعام ، لكنهم اكتسبوا الخبرات التي سيفيدون منها لاحقا عندما يبلغون سن الرشد.
بزوغ نقابات العمال
أما العمل الذي كان ثمة طلب عليه في السوق المفتوحة فكان العمل عالي المهارة ، القادر على المطالبة بأجور جيدة ، لكن هذا لم يعن بالتأكيد أنه لم تكن ثمة حالات من عدم التوافق والاتفاق. إذ أن أول إضراب سجل فيما يعرف اليوم بالولايات المتحدة إنما وقع في العام 1768 عندما تظاهر الخياطون المياومون في مدينة نيويورك . وفي العام 1798 تأسست أول نقابة عمالية – وهي الجمعية الاتحادية لصناع الأحذية المياومين في فيلادلفيا (المياومين كما ينم معناها تشير إلى أوليك الذين يتقاضون أجورهم على أساس يومي). وفي عشرينات القرن التاسع عشر كانت هذه النقابات تتجمع في اتحادات مهنية تمثل كل – أو بعض – العمال المهرة في حرفة أو مهنة معينة . وفي خمسينيات القرن التاسع عشر – ومع انشاء اتحاد الطباعة اليدوية الدولية ، الذي كان يمثل عمال الطباعة في الولايات المتحدة وكندا معا – بدأت منظمات العمال ، سواء الوطنية أم الدولية ، في الظهور.
لكن مع انتشار نظام المصانع والتعمق في تقسيم العمل ، بدأت أعداد متزايدة من العمال غير المهرة البحث عن عمل لها في المصانع ، أولا في صناعت كالغزل والحياكة ومن ثم في صناعة الفولاذ وغيره من الصناعات الثقيلة مع توسعها الهائل في الحجم بعد الحرب الأهلية. وعلى عكس العمال المهرة كالمسوطين لم يكن لدى أولئك – الرجال والنساء العاملين في صناعة الملابس – إلا القليل من القدرة التفاوضية كأفراد.
كان ذلك لأمد طويل أصل المشكلة في الحرب العوان الدائرة بين رأس المال والعمل في الاقتصاد الأمريكي . إذ يتحدث راس المال بصوت واحد (بصوت جماعي) ، إما لأن شخصا واحدا يهمين على الشركة – من أمثال أندرو كارنيجي – أو يستأجر حملة الأسهم إدارة تتكلم بصوتهم . أما العمل فهو في المقام الأول مشتت ، وليس للعمال كافراد الخيار إلا بقبول ما هو مقدم لهم.
وحتى بعد تأسيس اتحادات العمل المهنية فإنها لم تفعل كثيرا لمساعدة العمال غير المهرة. وقد نظر العمال المهرة بعين التعالي والتباهي إلى العمال غير المهرة – وكثير منهم كانون من المهاجرين الجدد – فلم يروهم فقط حلفاء ضد الإدارة ، بل عبئا على الشركة قد ينعكس سلبا على أجورهم . وقد ولد هذا انقساما عميقا بين فئات العمال لن يتم رأبه حتى خسيمينات القرن العشرين.
كانت ثمة محاولات عدة لتأسيس منظمات تمثل العامل جميعا – على غرار اتحاد العمل الوطني ، الذي تأسس في العام 1866 ، والاتحاد ذائع الصيت : فرسان العمل Knight if Labor الذي تأسس بعد ثلاث سنوات وكان يضم أكثر من سبعمائة ألف عضو في ثمانينات القرن التاسع عشر . وقد قبل في عضويته عمالا من كل مستويات الخبرة ومن مختلف المنطاق ، لا بل إنه قبل في عضويته أيضا العمال السود. إن اتحاد عمال العالم الصناعيين الذي تأسس في العام 105 لم تتعد عضويته مئات الآلاف ، لكنه كان ذا نفوذ عظيم بفضل تكتيكاته المتقنة واقتراحاته التقدمية. ولسوء الطالع كان اللكثير من منظمات العمل ذات القاعدة الواسعة أجندات أخرى تهدف إلى تحسين أجور أعضائها وظروف عملهم. لقد اعتنقوا بأعداد متزايدة الأفكار الاشتراكية المستوردة من اوروبا التي وجدت – ولا عجب في ذلك – القليل من الدعم من مواطني بلد تاسس وأنشئ بفضل أجيال من دعة المصلحة الشخصية (الفرادنيين) الذين انكبوا على تحقيق مصالحهم الاقتصادية.
إن الإشتراكية في شتى صورها تقوم على مفهوم الطبقات ، وعلى فكرة أن طبقات المجتمع المختلفة ثابتة لا حراك بها ، وبالتالي فإن أفراد كل طبقة لديهم مصالح اقتصادية مشتركة تتعارض مع مصالح الطبقات الأخرى . لكن الطبقات كما هي في الدول الديموقراطية ليست في الواقع أكثر من خطوط يرسمها المفكرون من خلال ما يعد في الواقع صيرورة اقتصادية مستمرة. لقد عد أكثر من 90 في المائة من الأمريكيين – طوال أجيال خلت – من أبناء الطبقة الوسطى.
ولم يوجد بلد – على مر التاريخ – هيكلا اجتماعيا أكثر مكافأة للنجاح الاقتصادي للفرد كذلك الذي خلقته الولايات المتحدة. ويصف الانتماء إلى تلك الجماعة وارد مالك إكستر – الذي عين نفسه حكما على مجتمع نيويورك في العصر الذهبي ، كان أول من نحت عبارة "الأربعمائة" The Four Hundred. وهي تضم وفق ما جاء في كتاباته: "أولئك الذين هم في المقدمة بكامل البهاء والمجد .. الذين لديهم وسائل الحفظ على موقعهم سواء بالذهب أو بالفكر او بالجمال ، وإن الذهب هو دائما مفتاح ما استغلق ، يليه الجمال أهمية أما الفكر والتفاخر بالحسب والنسب فلا شأن لهما". ولا عجب أن كثيرا من المفكرين كانوا ساخطين دائما على المجتمع الأمريكي.
كان أندرو كارنيجي نفسه – بالطبع – مثالا ساطعا عما كان يأمل ملايين المهجرين أن يحققوه هم وأولادهم . لقد سلك مهاجر آخر من جيل كارنيجي طريقا مختلفا جعلته في زمرة الخالدين. لقد ولد صموئيل جومبرز في العام 1850 لأسة بريطانية فقيرة ، كحال كارنيجي تماما. كان والده يهوديين ، وعمل والده صانعا للسيجار ، وكان عضوا نشطا في الاتحاد والحركات الاشتراكية في بريطانيا. وفي العام 1863 هاجرت العائلة إلى نيويورك حيث بدأ جومبرز على الفور مزاولة أعمال صناعة السيجار بنفسه ، وانخرط سريعا في شئون الاتحاد ، وفي ثمانينات القرن التاسع عشر صار رئيس الاتحاد الدولي لمصنعي السيجار.
كان جومبرز يؤمن بانشاء الاتحادات وفق المهنة معطيا الاولوية للمنظمات الوطنية – على حساب المحلية – ولبلوغ أهداف العمال عن طريق الفعل الاقتصادي (الاضرابات والمقاطعات والاعتصامات وما سواها) وليس العمل السياسي. كان على اقتناع بأن العمل الاتحادي "المحض والبسيط" هو سبيل النجاح و"الانعتاق الاقتصادي". كان جومبرز اشتراكيا – في عقيدته – لكنه أدرك أن السبيل الوحيدة لبلوغ ذلك الهدف البعيد هي أن يرى جانب العمل يزداد قوة تكفي للتفاوض الندي مع الإدارة في المقام الأول.
وفي العام 1886 أخرج عمال السيجار من فرسان العمل وأسس الاتحاد الأمريكي للعمل وهو منظمة تضم النقابات المهنية. وسيصبح رئيس الاتحاد الأمريكي للعمل بقية حياته (باستثناء العام 1895) وسيصبح أشهر قائد عمالي في البلاد. ومع حلول العام 1900 كان نحو 10 في المائة من العمال الأمريكيين أعضاء في الاتحادات ، وهي نسبة تفوق ما نجده في القطاع الخاص في يومنا هذا.
ولاأنه لم تكن ثمة قواعد للتعامل مع الصراع الحتمي بين العمال والإدارة ، فقد كانت الصدمات التي تحولت إلى عنف أمرا محتوما ايضا. ولأن الإدارة كانت في وضع أفضل كثيرا للتاثير في الحكومة في ذلك الوقت ، فقد كانت الحكومة دائما في صف الشركات في كل الأزمات. وفي العام 1877 ، عندما بلغ كساد سبعينيات القرن أشده ، سعت إدارات معظم خطوط السكك الحديد الشرقية فيما بينها إلى خفض الأجور بنسبة 10 في المائة على كل العمال على نحو مفجائ ومن دون سابق إنذار. واضرب عمال السكك الحديد في بالتيمور وأوهايو واغتصبوا ممتلكات حظائر السكك ورفضوا السماح لقطارات الشحن بالمغادرة.
وانتشر الاضراب سريعا إلى خطوط الحديد الأخرى ، ومنها ثلاثة خطوط رئيسية كبرة ربطت الساحل الشرقي بالغرب الاوسط. وعندما استدعي حاكم ينسلفانيا قوات الولاية فرقت تلك القوات المضربين في سكك حديد بنسلفانيا في بتسبرة ، بعد أن قتلت ستة وعشرين منهم. وعندما أجبرت الجشود الغاضبة هذه القوات على الاحتماء في أحد مباني القاطرات في حظيرة قطارات بنسلفانيا وأضرمت النار فيه. وتدبرت القوات الخروج من مخبئها وغادرت مدينة بتسبرة وقد وقعت بين أيدي المضربين والنهابين ، الذين دمروا ما تزيد قيمته على خمسة ملايين دولار من أملاك شركة السكك الحديد. وشعر الرئيس هايس بأن لا خيار أمامه سوى إرسال قوات نظامية لإعادة النظام المدني.
وبسبب هذا العنف – وبالطبع حرصا على مصالحهم الشخصية – خشى كثير من المواطنين الموسرين تلك الاتحادات واعتبروا قادتها – وكثير منهم مهاجرين من أمثال جومبرز – أجانب يحملون أفكار خطرة تنافي المصلحة الأمريكية. أما أندرو كارنيجي – على الرغم من ذلك – فقد دافع عن حقوق العمال في مقالاته مستمرا في كتباتها ونشرها. لكن تلك المقالات تطرقت إلى الجوانب المجردة في السياسات الاجتماعية والاقتصادية. وحيثا كانت مصالح كارنيجي الشخصية مهددة ، فإنه لم يتردد في معارضة اتحادات العمال وتقويضها بمكره وخداعه ، مع أنه لم يلوق يديه "بالأعمال القذرة" وإنما ترك إنجازها للآخرين.
وفي العام 1889 أدى إضراب في مواجهة الطلب الكبير على الفولاذ في اقتصاد يمر بطور ازدهار ، وحالة الهلع التي أصابت أحد إداريي شركة كارنيجي وكان مكلفا بالتفاوض ، إلى إبرام إتفاقية تلبي كثيرا من مصالح الاتحاد الممثل للعمال في ورش هومستيد قرب بتسبرة ، وكان كارنيجي مصمما على أن يحل الاتحاد قبل أن يحين موعد تجدي الاتفاقية في العام 1892. إن كارنيجي المشغول أبدا بسمتعته – قد أعطى هنري كلاي فريك تفويضا مطلقا بأن يتخذ كل ما يلزم – ثم غادر إلى اسكتلندا.
وأقام فريك سياجا بإرتفاع إحدى عشرة قدما وطول ثلاثة أميال حول المصنع وجهزه بأبراج مراقبة وأضواء كاشفة وأسلاك شائكة ، وأطلق عليه اسم "حصن فريك For Frick" ، وأجرى ترتيبات مع وكالة تحقيقات بنكرتون لتوفير ثلاثمائة رجل لحراسة المصنع في وقت الإغلاق التعجيزي للمصنع.
وعندما رفض الاتحاد عرض فريك – وهذا ما أمله فريك وتوقعه – أعلن فريك أن المصنع لن يتفاوض مع العمال إلا كل بمفرده ، وليس عبر الاتحاد ، وشرع في إغلاق المصنع. وأضرب العمال وحاول ان يتسلل بنوظفي وكالة تحقيق بنكرتون إلى المصنع على ظهور زوارق تجر إلى أعال نهر مونوجاهيلا ، لكن العمال علموا بالأمر فاخترقوا السياج فورا واحتلوا المصنع (ياله من حصن حصن فريك هذا) . وإندلعت معركة استغرقت سحابة اليوم عندما حاول رجال بنكرتون الرسو ، ووقع ضحايا من الجانبين.وأخيرا أبرمت هدنه تسمح لرجال بنكرتون بالانسحاب. مع ذلك فقد ثلاثة منهم في أثناء الانسحاب ، وأرسل حاكم بنسلفانيا قوة من ستة آلاف رجل لإعادة النظام . وتحت حماية تلك القوت استطاع فريك أن يوظف عمالا غير منضمين في اتحادات عمالية.
لقد قوض سيل من الدعايا سمعة كارنيجي كنصير للعمال ، وكان قد بنى تلك المسعة بالحرص والاهتمام. ولكن عندما تعرض فريك لهجوم بعد بضعة أيام في مكتبه من قبل قاتل مأجور اسمه ألكساندر بيركمان كسب تعاطف الامة وإعجابتها أيضا. فعلى الرغم من إصابته بعياريين نارييين في الرقبة وثلاث طعنات ، فقد قاوم فريك ببسالة واستطاع أن يسطير على المهجم بمساعدة معاونيه في المكتب. ثم رفض أن يخضع للمخدر عندما كان الطبيب يحاول إزالة الطلقات وأصر على متابعة عمله في ذلك اليوم.
ولم يكن للقاتل المأجور علاقة بالخلاف العمالي لكنه ربط به – بطبيعة الحال – وانحسر التعاطف العام مع الاتحاد ، وذكر قائد الإضراب هيو أودونيل: "يبدو أن الطلقة التي خرجت من مسدس بيركمان وأخطأت هدفها اللعين قد استقرت في قلب إضراب هومستريد". وفي نوفمبر انتهى الاضراب وحققت الشركة نصرا مبينا من الناحية الاقتصادية.
ومع نهاية القرن التاسع عشر تراجعت حالات العنف في الخلافات العمالية. لكن توفير الحكومة ضمانا كاملا لحقوق العمال وامتلاك العمال القدرة على التفاوض مع الإدارة على اساس الند للند لن يتسنيا إلى بعد مرور جيل ، وتحديدا في ثلاثينيات القرن العشرين.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
النفط
ومع أن الاقتصاد الأمريكي في أواخر القرن التاسع عشر كن يرتكز أساسا على صناعة الفولاذ ، فإن النفط كان الدم الذي يجري في عروقه. ففي العام 1859 حينما حفر أدوين دريك أول بئر للنفط ارتفع إنتاج الولايات المتحدة إلى ألفي برميل فقط. وبعد عشر سنوات وصل الإنتاج إلى 4.25 مليون برميل ، وفي العام 1900 سيبلغ قرابة 60 مليون برميل. لكن بينما كان الإنتاج يحقق زيادة مطردة ، ظل سعر النفط يعاني تقلبات شديدة ، فكان يهبط إلى مستويات متدنية عند 10 سنتات للبرميل – وهذا يقل كثيرا عن تكلفة إنتاج البرميل أصلا – ويرتفع إلى مستويات عالية عند 13075 دولار في ستينيات القنر التاسع عشر . واحد من أسباب ذلك هو العدد الكبير من مصافي النفط التي كانت تعمل آنذاك . ففي كليفلاند وحدها كان ثمة ما يزيد على ثلاثين مصفاة كثير منها صغير الحجم وآيل للسقوط.
كان كثيرون – على الرغم من سعادتهم بالإفادة من تجارة النفط حديثة العهد – غير مستعدين لبذل إلتزامات مالية كبيرة في هذه الصناعة خوفا من أن ينضب النفط على حين غرة. وظل الحقل الذي يقع في شمال غرب بنسلفانيا الوحيد تقريبا في العالم حتى سبعينيات القرن التاسع عشر ، عندما فتح حقل باكو فيما يعرف حينها بجنوب روسيا. ولن يظهر حقل كبير آخر في الولايات المتحدة حتى تبدأ أعمال الحفر في بئر سبندل توب الأسطوري في تكساس لأول مرة في العام 102.
لكن شركة روكفلر وفلاجر وأندرو – التي أسست لاستغلال سوق المشتقات النفطية المزدهرة خصوصا الكيروسين – قامرت ببناس مصافي نفط متطورة. وعلى غرار شركة كارنيجي كانت تلك الشركة تعتزم الإفادة من انخفاض التكاليف فيها وكل المزايا التي تقترن بذلك ، وشرعت أيضا في شراء مصاف أخرى كلما سنحت الفرصة.
لقد أدركت الشركة أنه ليس ثمة ما يتحكم في سعر النفط الخام ، لكنه يمكن أن تتحكم – جزئيا على الأقل – بأحد العناصر المهمة الأخرى في سعر المشتقات النفطية ألا وهو النقل. فبدأت مفاوضات جريئة مع خطوط السكك الحديد للحصول على تخفيضات في أسعار النقل لقاء مستويات عالية ومضمونة من الشحنات . كانت هذه الاتفاقية هي ما سمح للشركة بالبيع بأسعار تقل عن أسعار منافسيها والحصول مع ذلك على أرباح وفيرة ، مما ساهم في تقوية مركز الشركة التنافسي الذي كان قويا في الأساس.
وفي العام 1870 أقنع أحد الشركاء – وهو هنري فلاجلر – شركاؤه بتغيير الشكل القانوني من شراكة إلى شركة ذات شخصية اعتبارية ، مما يسهل على الشركاء الاستمرار في تأمين رؤوس الأموال اللازمة لتمويل توسيعهم الدؤوب والحفاظ على زمام السيطرة بأيديهم في الوقت نفسه ، وقد بلغ راسمال الشركة الجديدة – وحملت اسم ستاندرد أويل – مليون دولار وكانت تملك آنذاك 10 في المائة من طاقة مصافي النفط في البلاد. وفي العام 1880 سيطرت على 80 في المائة من هذه الصناعة التي تحققت زيادات كبيرة في الحجم.
لقد صار توسع ستنادرد أويل من القصص الأسطورية التي تروى عن أمريكا أواخر القرن التاسع عشر حينما حقق حملة أسهمها الثراء الذي لا يدركه الخيال وازداد تأثيرها ونفوذها في الاقتصاد الأمريكي بصورة كبيرة. وبالفعل فإن ردة فعل وسائل الإعلام على ستاندرد أويل وجون دي روكفلر في العصر الذهبي مشابهة – وياللغرابة – لرد الفعل الذي قوبل به ارتقاء شركة مايكروسوفت وبيل جيتس بعد مائة عامة . ولربما كان من قبيل المصادفة أن روكفلر وجيتس كانا في العمر نفسه تقريبا – في مطلع الأربيعنيات – عندما صار اسمهما يترددان في كل مكان ورمزين خالدين لهيكل اقتصادي جديد، يحمل في طياته تهديدا للبعض.
لقد كانت الصورة العالقة اليوم عن ستاندرد أويل في الذاكرة الشعبية الأمريكية نتاج عمل الكتاب ورسامي الكاريكاتورات الافتتاحية الذين حمل أغلبهم أجندة سياسية غايتها التقدم والارتقاء أولا وقبل كل شيء . كان ألمع أولئك الكتاب أيدا تاربيل الذي صور كتابع "تاريخ شركة ستنادرد أويل" – الذي نشر أول مرة في مجلة مكلو McClure's في العام 1902 – تصويرا حيا شركة تتوسع من دون هوادة على حساب كيانات الشركات المنافسة فالتهمت موجوداتها بينما كانت ساعية في طريقها.
لكن ذلك من دون ريب تصوير زائف ، ولنقل أنه إلى درجة ما مضلل. فمن ناحية أولى ، ومع اشتداد قبضة ستاندرد أويل الرهيبة على صناعة النفط بدأت أسعار المشتقات النفطية تتراجع بإطراد ، فهبطت بنحو الثلثين في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن التاسع عشر. إنها بموجز القول لمن ضروب الأسطورة القول بأن الاحتكارات تعمل على رفع الأسعار عندما يتسمى لها ذلك ، فالاحتكارات – كغيرها – تسعى إلى تعظيم أرباحها ، وليس أسعارها ، فالأسعار المتدنية – التي ترفع الطلب وبالتالي كفاءة العمل ، التي بدورها تخفض التكلفة – هي في العادة أفضل السبل لتحقيق أعلى مستويات الأرباح . أما ما يجعل الاحتكارات شرا كبيرا على الاقتصاد (وأغلبها اليوم وكالات حكومية من مكاتب السيارات إلى المدارس العامة) فهو حقيقة أن غياب الضغوط التنافسية يجعلها تحجم عن تحمل المخاطر وبالتالي تقلع عن الابتكار ولا تكترث براحة العملاء.
إلى ذلك فقد استخدمت ستاندرد أويل مركزها كأكبر مصافي النفط في البلاد ليس فقط لانتزاع أعلى التخفيضات من خطوط السكك الحديد ، ولكن أيضا لحثها على إمساك هذه التخفيضات عن المصافي التي أرادت ستاندرد اويل استحواذها. لقد أجبرت أحيانا سكك الحديد أن تكشف عن تخفيضاتها السرية ليس فقط على شحناتها الخاصة من النفط ، لكن على شحنات الشركات المنافسة ايضا ، وذلك جزاء لها على منافسة ستنادرد أويل (وهذا يشابه أفعال اللصوص النبلاء) . وهكذا كانت النصيحة المبطنة التي قدمتها لهذه المصافي اختياريا قسريا: إما أن تقبل أن تستحوذ على سعر تحدده ستنادرد أويل أو أن تنتهي إلى الإفلاس بسبب ارتفاع تكاليف النقل.
لقد حسب سعر الإستحواذ – الذي اعتبر مع ذلك سعرا عادلا – على اساس صيغة وضعها هنري فلاجلر وطبقها مرارا وتكرارا. وفي بعض الأحيان التي يكون فيها لدى أصحاب المصفاة المستحوذة خبرات إدارية مميزة ورغبت ستنادرد أويل الإفادة منها ، كان سعر الإستحواذ سخيا. كما أن للبائع خيار قبض السعر نقدا أو على شكل أسهم في ستاندرد أويل. وأصبح أولئك الذين اختاروا العرض الثاني – وعدوا بالمئات – مليونيرات بفضل أسهم شركة ستنادرد أويل الذي حملهم على أجنحة المجد الرأسمالي. أما أولئك الذين اختاروا القبض نقدا فانتهت بهم الحال إلى أن يشكوا سوء طالعهم إلى إيدا تاربيل.
ولم يكن في هذا بالطبع ما ينافي القنون ، وهنا تكمن المشكلة الحقيقية. ففي أواخر القرن التاسع عشر كان أشخاص من أمثال روكفلر وفلاجلر وكارنيجي وجي بي مورجان يؤسسون بسرعة فائقة اقتصاد الشركات الحديثة. وبالنتيجة عالما اقتصاديا جديدا تماما. كانوا يمضون بوقع أسرع مما يتخيله المجتمع. كان لزاما – في ظل العملية السياسية البطيئة – أن تسن قوانين تحكم هذا العالم الوليد بروح الحكمة والعدل. لكن هذا هو دين الرأسمالية الديموقراطية دائما ، حيث يمكن للأفراد – بسرعتهم وحركتهم – أن يسبقوا المجتمع برمته. وإلى أن صيغت القواعد القانونية كتابة – وأغلبها وضعت في العقود الأولى من القرن العشرين – كان الوضع (كما عبر عنه السير والتر سكوت) مسالة:
القواعد القديمة المثلى .. الخطط البسيطة .. هذا ما يجب أن ينتهجه كل ذوي سلطان .. لأنها ستصون من يصونها..
كان بعض المشكلة يتمثل في الجمود الكبير المتأصل في أي نظام سياسية ، والديموقراطية ليست مستثناة من ذلك. فالسياسيون لا هم لهم سوى إعادة انتخابهم. وأن يحجم المرء عن أي تصرف أو سلوك لهو أفضل من الإساءة إلى جماعة أو أخرى. لذلك وبنيما طرأت تغيرات جذرية على الاقتصاد الأمريكي منذ منتصف القرن التاسع عشر فإن قوانين تأسيس الشركات في الولايات – لم يسمح لستاندرد أويل بالتملك في ولايات اخرى أو حيازة أسهم الشركات الأخرى. ومع توسعها عبر الشمال الشرقي وفي البلد برمته ، ومن ثم في العالم أجمع ، حازت سستناندر أويل – بواقع الحال – أملاكا في ولايات أخرى واستحوذت على مؤسسات أخرى.
ولم تعد قوانين تاسيس الشركات- و أكثرها وضع في حقبة سابقة لتلك التي جعلت فيها السكك والتلغراف قيام اقتصاد ونطني حقيقة ممكنة التطبيق – كافية لتلبية متطلبات الاقتصاد الجديد. وللالتفاف حول القانون القديم عين هنري فلاجلر – بصفته أمين سر ستاندرد أويل – أمينا وكيلا تسجل باسمه الأملاك والأسهم التي لا يحق لستاندرد أويل نفسها أن تمتلكها. وفي نهاية سبعينيات القرن التاسع عشر – مع ذلك – حازت ستاندرد أويل عشرات الأملاك والشركات في الولايات الأخرى ، كان كل منها مسجلا – وإن صوريا – باسم الأمين الوكيل ، الذي كان أحيانا هو فلاجلر نفسه أو أشخاصا يعينهم. كان ذلك هيكلا مؤسسسيا يفتقد الصفة العملية تماما.
وكما كان فلاجلر دائما – وهو الإداري الفذ – هو من خرج بحل المشكلة . فبدلا من أن يعين أمينا وكيلا لكل شركة تابعة ، حيث كان أولئك الأمناء متناثرين في أرجاء إمبراطورية ستاندرد أويل – فقد عين الرجال الثلاثة أنفهسم – وكل منهم باقي في مقرالشركة في كليفلاند – أمناء للشركات التابعة كلها. كانوا صوريا يسيطرون على كل موجودات شركة ستاندرد أويل خارج أوهايو ، لكنهم في الواقع كانوا ينفذوا ما يملى عليهم بحذافيره.
العهدة
وهكذا ولدت العهدة Trust ، وهي شكل قانوني تبنته سريعا الشركات الأخرى التي بدأت تعمل على النطاق الوطني. وسيصبح الأمناء بعبعا عظيما في أروقة السياسة الأمريكية في الأعوام المائة التالية ، ولكن فلاجلر لم يكتب له الإستمرار بعد العام 1889 ، ففي ذلك العام أصبحت نيوجرسي – وكانت تسعى إلى تأمين مصدر جديد للإيرادات الضريبية – أول ولاية تخرج بقوانين تأسيس الشركات فيها وتوائمها مع الوقائع الاقتصادية الجديدة. فقد أجازت نيوجيرسي آنذاك الشركات القابضة ومزاولة العمل التجاري بين الولايات ، فسعت الشركات إليها لتؤسس مقار لها على أراضيها ، كما أنها ستقصد – فيما بعد – ديلوار للإفادة من مزايا المناخ القانوني المواتي لعمل الشركات. واحتلت شركة ستاندر أويل النيوجيرسية سريعا نقطة المركز في مصالح روكفلر ، أما ستاندرد أويل ترست (العهدة ) فلم يعد لها وجود بالمعنى القانوني.
ومع النمو الذي حققته الصناعة الأمريكية طرأ تغيير جذري على جوهر التجارة الخارجية الأمريكية فقد ظلت الولايات المتحدة – كما هي اليوم – مصدرا رئيسيا للمنتجات الزراعية والمعدنية . كما أضيفت منتجان جديدان في الحقبة التي تلك الحروب الأهلية:البترول ، والنحاس. لكنها باتت أيضا مصدرا رئيسيا للسلع المصنعة التي دابت على استيرادها في الماضيز وفي العام 1865 لم تشكل تلك الصادرات إلا نسبة 22.78 في المائة من الصادرات الأمريكية. وفي نهاية القرن العشرين بلغت 31.65 في المائة من تجارة وصل حجمها إلى مستويات هائلة . إن نسبة مساهمة أمريكا في التجارة الدولية تضافعت في تلك السنوات إلى نحو 12 في المائة من حجم التجارة الإجمالية.
ولقد تجلى ذلك خصوصا في منتجات الحديد والفولاذ ، وهما آخر ما بلغته التكنولوجيا في أواخر القرن التاسع عشر. فقبل الحرب الأهلية لم تتجاوز صادرات الولايات المتحدة من منتجات الحديد والفولاذ ستة ملايين دولار سنويات. وفي العام 1900 صدرت الولايات المتحدة ما قيمته 121.914 مليون دولار من القاطرات والمحركات وخطوط السكك الحديد والآلات الكهربائية والأسلاك والأنابيب وآلات التشغيل المعدنية والمراجل وغيرها. حتى آلات الخياطة والآلات الكاتبة كانت تصدر بكميات كبيرة.
وقد خلق الاقتصاد الأمريكي ثروات شخصية هائلة ، وبمعدلات لم تكن في الحسبان. وبالفعل لم يميز الاقتصاد الأمريكي عبر تاريخه شيء كنزعة الثروات الجديدة لتأخذ مكان سابقاتها. فعندما توفي جون جاكون آستور ، وكان أغنى رجل في أمريكا في العام 1848 ، خلف ثروة بلغت 25 مليون دولار. وخلف الكومودور فاندربلت 105 ملايين دولار في اقل من ثلاثين سنة مقبلة. وبيعت ممتلكات أندرو كارنيجي في العام 1901 بملبلغ 480 مليون دولار. وبعد ثلاثين سنة أخرى ، قدرت ثروة جون دي روكفر بملياري دولار.
ووقف مارك توين على هذه النزعة أول مرة العام 1867 عندما ذكر أن "أبناء الطبقة الأرستقراطية النيويوركية من مهاجري إيرلندا يجدون من يفوقهم ثراء من الأمراء فاحشي الثراء المفاخرين بثرواتهم ، المبتذلين الذين لا تعرف لهم أصول. إن دخولهم – التي كانت مادة لعامة الشعب ليفغروا عليها أفواههم ويطلقوا الاشاعات حولها – لهي اليوم دراهم معدودات لا تكفي المبتذلين سداد إيجارات قصورهم". ولم يتغير ذلك الواقع. وبستثناء روكفلر وهيرست لم يحقق شخص آخر ثورة إسطورية في العصر الذهبي – وهم أمراء الإبتذال كما أطلق عليهم توين – ذلك أن الثروة في ذلك العصر نجدها اليوم على قائمة مجلة فوربس للأغنياء الأربعمائة الكبار – وأن ثروة روكفلر – مع أنها تظل ثروة طائلة – لا تشكل إلا عشر الثروة التي تحققت لبيل جيتس في فترة لا تتجاوز عشرين سنة.
لم تنشأ في هذه البلاد طبقة أرستقراطية لأن مفهوم حق البكورة ، حيث يرث الإبن الأكبر كل ثروة أبيه ، لم يكن مطبقا. ذلك أن الثروات العظيمة كانت تتبدد بين الورثة في بضعة أجيال فقط. لذلك فإن أثرى أثرياء أمريكا هم دائما محدثوا الثراء ويتحدد سلوكهم بموجبات ذلك ، وبالتالي فإن عبارة "الاستهلاك التفاخري Conspicuouc Consumpition" ، تأخذ معنى جديدا في كل جيل. وفي العصر الذهبي ، كان هؤلاء يسعون إلى الزواج من ثريات أوروبا. لكن الأكواخ الصيفية الكبيرة والمعتزلات الشتوية التي كلفت ملايين الدولارات لم تسكن إلا أسابيع معدودة في السنة.
كانت مساكنهم الدائمة فاخرة ومترفة. وبينما كان لكل بلدة ومدينة أمريكية أحياؤها (حيث أنشئت أبنية المليونيرات) وحيث سكن المصرفيون وأرباب المصانع فلا مجال للمقارنة بما أنجبته نيويورك – وهي أغنى مدن البلاد وأكثرها شغفا بالمال. ومع مطلق القرن العشرين زحفت سلسلة من العزب (البيوت أو القصور العظيمة) وكل منها يفوق تاليه حجما وعظمة ، على مسافة ثلاثة أميال على طول الجادة الخامسة . كان ذلك إحدى عجائب العصر التي أنتجتها واستقطبت زوارا من كل أنحاء العالم ليحدثوا منشدهين إلى رمز الثراء الأمريكي الذي لا حدود له. واليوم ، كما كانت حال الثروات التي شيدتها فإن كل المنازل قد زالت إلا قليلا. أما تلك التي كتب لها البقاء فقد تحولت اليوم إلى قنصليات ومدارس ومتاحف.
وكل ما بقي قائما النصب العامة التي أقاهما الأثريا أيضا لتخليد ذكرهم وإثبات مشروعية ثرواتهم. إن تبرع الأثرياء بالأموال الطائلة للمؤسسات الخيرية هو صنيع يميز الأمريكين ، فالطبقات العليا في اوروبا لم تعتد ذلك. لقد بدأت في مطلع القرن التاسع عشر على أيدي أشخاص مثل جورج بيبودي (وهذا يذكرنا بمتاحف بيبودي في هارفارد وييل ، من جملة كثير غيرها) وبيتر كوبر (اتحاد كوبر ، ولا تزال الجامعة الرئيسية الوحيدة في الولايات المتحدة التي لا تفرض رسوما تعليمية) وجون جاكون آستور ، الذي تعد مكتبته (آستور ليبراري) اليوم نواة مكتبة نيويورك العامة ، ثانية كبرى المكتبات في الولايات المتحدة وكبرى المكتبات الممولة من مصادر خاصة في العالم أجمع.
وعندما شارف القرن التاسع عشر على نهايته ، بدأ الأشخاص الذين كانوا يصنعون ثروات عظيمة بتاسيس المتاحف وقاعات الموسيقى والأوركسترات والكليات والمشافي أو وقف أموالهم عليها ، وذلك بأعداد مذهلة في كل مدينة كبرى. لقد كتب كارنيجي أن "الرجل الذي يموت غنيا ، يموت مسربلا بالخزي والعار". فتبرع بكامل ثروته تقريبا لبناء ما يربو على خمسة آلاف مكتبة في المدن الصغيرة. إلى جانب كثير من الأعمال الخيرية الآخرى. وقد تبرع هنري كلارك فريك بمجموعته الفنية النادرة إلى مدينة نيويورك ، وكذلك فعل بعزبته في الجادة الخامسة لإيواء تلك المجموعة إضافة إلى 16 مليون دولار لصيانتها والاهتمام بها ، كما وهب جون دي روكفلر – وكان معمدانيا ملتزما دأب على الصدق بعشر دخله قبل أن يصبح أغنى رجل في العالم – الملايين من دون حساب خدمة لقضايا جليلة في جميع أنحاء العالم ، ومجموعة جي بي مورجان الفنية – وهي أكبر مجموعة فردية في العالم – باتت اليوم في معظمها في متحف المتروبوليتان وفي مكتبة وادسورث العامة في هارتفورد ومكتبة مورجان التي تضم أيضا واحدة من أعظم مجموعات المخطوطات والكتب النادرة في العالم.
لقد كانت الولايات المتحدة في أول عهدها في مرتبة ثقافية متردية. فكان الفنانون والكتاب يقصدون أوروبا – عادة – للدراسة. ومع نهاية القرن العشرين حققت الولايات المتحدة مكانة ثقافية وفكرية تضاهي قوتها الاقتصادية ، والفضل في ذلك أساسا يعود إلى الرجال الذين لم ينالوا قسطا وافيا من التعليم والذيني يذكرون اليوم باسم اللصوص النبلاء.
إن الإمبرطوريات الصناعية التي أقامها "اللصوص النبلاء" كانت تبدو أكثر خطرا على مراكزهم الاقتصادية مع تحولها إلى شركات تزداد حجما. وفي الشطر الثاني من تسعينيات القرن التاسع عشر تسارعت النزعة نحو اندماج الشركات.
وفي العام 1897 جرت 69 حالة اندماج بين الشركات ، وفي العام 1898 ارتفع العدد إلى 303 ، وفي العام التالي إلى 1208 . ومن أصل الاحتكارات (الترسانات) الثلاثة والسبعين التي تجاوزت قيمتها الرأسمالية 10 ملايين دولار في العام 1900 ، فإن ثلثها أقيم في السنوات الثلاث السابقة.
وفي العام 1901 أسس جي بي مورجان كبرى الشركات على الإطلاق وهي فولاذ الولايات المتحدة U.S. Steel بعد دمج إمبراطورية شركات أندرو كارنيجي بعدد من شركات الفولاذ الأخرى في شركة جديدة بلغ رأسمالها 1.4 مليار دولار. كانت عائدات الحكومة الفدرالية ذلك العام لا تتجاوز 586 مليون دولار. وأذهل حجم المشروع في حد ذاته العالم. فأقرت وول ستريت جورنال بأن "حجم المشروع مثير للقلق" ، وتساءلت إن كانت الشركة الجديدة يتؤذن ببداية "موجة كبيرة من الرأسمالية الصناعية" ، وتناقل الناس دعابة تقول إن معلما سأل تلميذا: "من خلق العالم؟ فأجاب التلميذ: "خلق الله العالم في العام 4004 قبل الميلاد .. وأعاد جي بو مورجان تنظيمه في العام 1901".
ولكن عندما دخل ثيودور ورزفلت الأبيض في سبتمبر 1901 بدأ اتجاه الحكومة الفدرالية نحو الحرية الاقتصادية (دعه يعمل) في التغير. وفي العام 1904 أعلنت الحكومة أنها ستتخذ الخطوات القانونية بموجب قانون شيرمان لمكافحة الاحتكار Anti-trust – وكان ثمة اعتقاد أن هذا القانون صار في طي الماضي – لتفكيك أحد اندماجات مورجان الجديدة وشركة الاوراق المالية الشمالية Northern Securities Corporation. وهرع مورجان إلى واشنطن لتسوية المسألة. وهناك أخبر الرئيس موجزا له فكرته عن آلية عمل العالم التجاري: "إذا كنا قد أخطأنا في شيء .. فأرسل محاميك إلى محامي ليعملا على إصلاح الخطأ".
وأجاب روزفلت: " لا يمكن ذلك". وبين فيلاندر نوكس المحامي العام المسألة: "إننا لا نريد إصلاح الخطأ . بل نرغب في استئصاله". ومنذ تلك اللحظة ستكون الحكومة الفدرالية حكما فاعلا في السوق ، في سعيها – وإن لم تفلح دائما – إلى الموازنة بين متطلبات الكفاءة واقتصاديات الحكم في مواجهة تهديد القوة المتعجرفة للشركات المدينة بالولاء لحملة أسهمها وليس للمجتمع.
وفي العام 1907 وضعت الحكومة الفدرالية يدها على أكبر "الاحتكارات" على الإطلاق ، ستنادرد أويل . وبلغت القضية المحكمة العليا في العام 1910. وفصل فيها في العام التالي ، حيث قضت المحكمة بالإجماع أن ستاندرد أويل كانت "تكتلا" يعيق التجارة. وأمرت بتفكيك ستاندرد أويل إلى أكثر من ثلاثين شركة مستقلة.
ورحب الجناج الليبرالي في أروقة السياسة الأمريكية بالحكم ، بكل تأكيد ، ولكن في واحدة من أغرب المفارقات في التاريخ الاقتصادي الأمريكي ، كان أثر الحكم الصادر على أكبر تكتل للثروة في العالم اجمع هو أن زاد تلك الثروة. ففي العامين اللذين أعقبا تفكيد ستاندرد أويل تضاعفت قيمة أسهم الشركات التي انبثقت عنها ، مما زاد من ثروة جون دي روكفلر إلى ضعف ما كانت عليه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
السياسة
السياسة العرقية الثقافية: الجمهوريون الورعون مقابل الديمقراطيون الطقوس
Voting Behavior by Religion, Northern USA Late 19th century[1] | ||
% Dem | % GOP | |
مجموعات المهاجرين | ||
Irish Catholics | 80 | 20 |
All Catholics | 70 | 30 |
Confessional German Lutherans | 65 | 35 |
German Reformed | 60 | 40 |
French Canadian Catholics | 50 | 50 |
Less Confessional German Lutherans | 45 | 55 |
English Canadians | 40 | 60 |
British Stock | 35 | 65 |
German Sectarians | 30 | 70 |
Norwegian Lutherans | 20 | 80 |
Swedish Lutherans | 15 | 85 |
Haugean Norwegians | 5 | 95 |
Natives: Northern Stock | ||
Quakers | 5 | 95 |
Free Will Baptists | 20 | 80 |
Congregational | 25 | 75 |
Methodists | 25 | 75 |
Regular Baptists | 35 | 65 |
Blacks | 40 | 60 |
Presbyterians | 40 | 60 |
Episcopalians | 45 | 55 |
Natives: Southern Stock (living in North) | ||
Disciples | 50 | 50 |
Presbyterians | 70 | 30 |
Baptists | 75 | 25 |
Methodists | 90 | 10 |
Immigration
المهاجرون الصينيون
الحياة الريفية
الحياة الحضرية
الجنوب والغرب
South
Agriculture's Share of the Labor Force by Region, 1890
Northeast | 15% |
Middle Atlantic | 17% |
Midwest | 43% |
South Atlantic | 63% |
South Central | 67% |
West | 29% |
Source[3] |
الغرب
اندماج الهنود
الزراعة
حياة العائلة
الفن
Some well-known painters of the Gilded Age include: وينسلو هومر, توماس إيكنز، جون سنگر سارجنت, ماري كاسات, James Abbott McNeill Whistler, Childe Hassam, جون هنري تواكتمان and Maurice Prendergast.[4]
أدوار المرأة
الدين
انظر أيضاً
- American Frontier
- Belle Époque in France
- Gay Nineties
- History of the United States (1865–1918)
- Nadir of American race relations
- Presidency of Ulysses S. Grant
- Ventfort Hall (Gilded Age Museum)
الهامش
- ^ Paul Kleppner, The Third Electoral System 1853-1892 (1979) p 182
- ^ U.S. Census Bureau, [www.census.gov/geo/www/us_regdiv.pdf "Census Regions and Divisions of the United States"]
- ^ David O. Whitten, "The Depression of 1893" (2010) online
- ^ Griffin, Randall C. Homer, Eakins, and Anshutz: The Search for American Identity in the Gilded Age. University Park, Pa: Pennsylvania State University, 2004.