كلمنت السابع
| ||||||||||||||||||||||
- إذا أردت البابا الدجال (1378-1394) انظر البابا الدجال كلمنت السابع.
البابا كلمنت السابع Pope Clement VII (عاش 26 مايو 1478 - 25 سبتمبر 1534)، ولد جوليو دي جوليانو ده مديتشي، وكان كاردينالاً من 1513 حتى 1523 وكان بابا من 1523 حتى 1534.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفترة الأولى من حياته
ظل المجمع المقدس الذي اجتمع في أول أكتوبر سنة 1522 سبعة أسابيع في نزاع دائم حول اختيار من يخلف أدريان، ثم انتهى أخيرا بترشيح رجل كان بإجماع الآراء خير من يصلح لهاذ المنصب. كان جويليو ده ميديتشي ابنا غير شرعي للرجل الظريف جوليانو الذي خر ضحية مؤامرة باتسي من عشيقة له تدعى فيورنا ما لبثت أن اختفت من صفحات التاريخ. وأخذ لورندسو الغلام إلى بيته بين أسرته ورباه مع أبنائه؛ وكان منهم ليو الذي أعفي وهو باباجوليو من العقبة القائمة في سبيله، وهي أنه ابن غير شرعي، ثم عينه كبير الأساقفة في فلورنس، ثم رقاه كردنالا، ثم كان المدير الحازم لمدينة روما، وكبير وزراء حكومته البابوية. ولما بلغ كلمنت الخامسة والأربعين كان طويل القامة، وسيم الخلق، عظيم الثراء غزير العلم، حسن الآداب، طيب السيرة، يعجب بالآداب، والعلوم، والموسيقى، والفن، ويناصرها. ورحبت روما بارتقائه الكرسي البابوي بالفرح والابتهاج ورأت فيه دعوة إلى عهد ليو الذهبي، وتنبأ بمبو بأن كلمنت السابع سيكون خير من عرفتهم الكنيسة من حكامها وأعظمهم حكمة(33).
وبدأ عهده أحسن بداية، فوزع على الكرادلة جميع المناصب الدينية التي كانت له، والتي كانت تدر عليه دخلاً سنوياً مقداره 60.000 دوقة. وقد جمع حوله قلوب العلماء والنساخين باجتذابهم إلى خدمته، أو نفحهم بالهبات، ووزع العدالة بين الناس بالقسطاس المستقيم، واستمع إلى كل من له شكاية، ومنح الصدقات بسخاء، إذا كان أقل من سخاء ليو فإنه كان أكثر منه حكمة، وسحر جميع القلوب بمجاملته كل إنسان وكل طبقة. وقصارى القول أن بابا من البابوات لم يبدأ حكمه بداية طيبة مثل بدايته ولم يختتمه بأسوأ من خاتمته.
أساليب {{{papal name}}} | |
أسلوب الإشارة إليه | His Holiness |
نمط الحديث | Your Holiness |
النمط الديني | Holy Father |
أسلوب بعد الوفاة | None |
وكان العمل الذي يواجه كلمنت وهو قيادة سفينة البابوية السياسية، الطريق المأمون بين فرانسس وشارل في حرب تكاد تكون حرب حياة أو موت، في الوقت الذي كان الأتراك يجتاحون فيه بلاد المجر، وكانت الثورة تشتعل نارها في ثلث أوربا ضد الكنيسة، كان هذا العمل أكثر مما تستطيعه مقدرة كلمنت كما كان أكثر مما تستطيعه مقدرة ليو. وخليق بنا أن نقول إن الصفات التي تبرزها الصورة الفخمة التي رسمها سبستيانو دل بيومبو لكلمنت في بداية حكمه صورة خادعة. ذلك أنه لم يظهر في أعماله تلك العزيمة الماضية التي تبدو واضحة في ملامح وجهه، وحتى في هذه الصورة يبدو شيء من الملل والضعف في الجفون المتعبة المنسدلة فوق العينين الضجرتين. والحق أن كلمنت قد اتخذ ضعف العزيمة خطة له وسياسة مرسومة. وكان يسرف في التفكير ويظنه خطأ بديلا من العمل، بدل أن يكون هادياً له ومرشداً. ولقد كان في وسعه أن يجد مائة سبب وسبب لاتخاذ قرار بإبرام أمر من الأمور، ومائة سبب وسبب مثلها تبرر عدم إبرامه، وكأنما أغبى المخلوقات طُراً يجلس على عرش البابوية. وقد هجاه بيرني في أبيات مريرة تتنبأ بحكم الحلف عليه فقال:
بابوية تتألف من التحيات، والمناقشات، والاعتبارات، والمجاملات ومن عبارات أكثر من هذا، ومن ثم، ونعم، وحسن، وربما، وقد يكون، وما إليها من الألفاظ المتناقضة... ومن قدمين ثقيلتين كالرصاص، وحياد بارد خامل... وإن شئت الحق الصريح، فإنك ستعيش لترى. البابا أدريان وقد نودي به قديساً بفضل هذه البابوية(24). |
واتخذ له من المستشارين جيان ماتيو جيرتى Gianmatteo Giberti الذي كان يميل إلى فرنسا، ونيقولوس فون اسكونبرج Nikolaus von Segonberg الذي كان يميل إلى الإمبراطورية، وترك عقله مشتتاً بين الرجلين، ولما أن قرر الانحياز إلى فرنسا- قبل أسابيع قليلة من الكارثة التي حلت بها في بافيا- استنزل على رأسه وعلى بلده كل ما يتصف به شارل من مكر ودهاء، وكل ماله من قوة، وكل ما يثور في قلوب الجيش البروتستنتي من غضب دفين صبه على روما.
وكانت الحجة التي يبرر بها كلمنت موقفه أنه يخشى قوة الإمبراطور وفي يده لمباردي ونابلي؛ ويرجو بانحيازه إلى فرنسا أن يحصل على صوتها حين يعرض شارل فكرته التي تراوده وتقلق خاطره وهي تأليف مجلس عام في أمور الكنيسة. ولما عبر فرانسس جبال الألب بجيش جديد قوامه 26.000 من الفرنسيين، والإيطاليين، والسويسريين، والألمان، واستولى على ميلان، وحاصر بافيا، وقع كلمنت سراً شروط حلف مع فرانسس (12 ديسمبر سنة 1524) في الوقت الذي كان يؤكد فيه لشارل وفاءه ومودته؛ ثم ضم فلورنس والبندقية إلى هذا الحلف، وأجاز لفرانسس المنتصر على كره منه أن يجمع الجند من الولايات البابوية. وأن يرسل جيشاً ليحارب نابلي مخترقاً أراضي البابا. ولم يغفر له شارل قط هذه الخديعة، وأقسم قائلاً: "لأذهبن إلى إيطاليا، وأثأر لنفسي ممن أساءوا إلي، وعلى رأسهم البابا الجبان النذل. ولعل مارتن لوثر سيصبح رجلا ذا شأن في يوم من الأيام"(25). وفكر بعض الناس وقتئذ في اختيار لوثر بابا، وأشار عدد ممن يحيطون بالإمبراطور أن يطعن في اختيار كلمنت بحجة أنه ابن غير شرعي(26).
وسير شارل جيشاً ألمانياً بقيادة جورج فن فرندسبرج Georg von Frundsberg وماركيز بيسكارا Marquis of Pescara ليهاجم الفرنسيين خارج بافيا. وعطلت الحركات العسكرية الضعيفة عمل المدفعية الفرنسية، في الوقت الذي كانت فيه نيران البنادق الأسبانية تهزأ برماح السويسريين؛ وكاد الجيش الفرنسي أن يفنى عن آخره في موقعة من أشد المواقع الحاسمة في التاريخ (24-25 من فبراير سنة 1525). وسلك فرانسس في هذه المحنة مسلك الشهامة والكرامة: فبينما كان جيشه يتقهقر إذا هو يقفز في وسط صفوف العدو ويقتل بيده منهم مقتلة عظيمة؛ ولما قتل جواده من تحته لم ينقطع عن القتال، حتى إذا خارت قواه آخر الأمر، ولم يعد يقوى على المقاومة، وقع في الأسر مع عدد من ضباطه. وكتب من خيمة بين المنتصرين إلى أمه رسالة كثيراً ما يقتبس نصف عباراتها المقتبسون، قال فيها "لقد خسرنا كل شيء إلا الشرف- وإلا بدني فهو سليم". وأمر شارل وكان وقتئذ في أسبانيا أن يرسل الملك ليسجن في قلعة قرب مدريد.
وانحازت ميلان إلى الإمبراطور، وشعرت إيطاليا كلها أنها أصبحت تحت رحمته، ونفحته دولة إيطالية في إثر دولة بالرشا المختلفة لكي يسمح لها بالبقاء. وخشي كلمنت أن يغزو جيش الإمبراطور بلاده، وأن يثور الشعب في فلورنس على آل ميديتشي، فخرج من حلفه مع فرنسا وأمضى (في أول أبريل سنة 1525) معاهدة مع شارل ده لانوى Charles de Lannoy عامل شارل على نابلي، تعهد فيها البابا والإمبراطور بأن يتعاونا فيما بينهما؛ فيحمي الإمبراطور آل ميديتشي في فلورنس ويرضى أن يقيم فرانتشيسكو ماريا اسفوردسا نائباً عنه في ميلان؛ على أن يدفع البابا لشارل مقابل إهاناته السابقة له، وضماناً لخدمات الإمبراطور المستقبلية، مائة ألف دوقة (1.250.000 دولار)(27)، كانت الجيوش الإمبراطورية في أشد الحاجة إليها، ولم يمض بعدئذ إلا قليل من الوقت حتى أغض كلمنت البصر عن مؤامرة دبرها جيرولومو موروني Girolomo Morone لتحرير ميلان من سيطرة الإمبراطور. وكشف مركيز إبيسكارا سر هذه المؤامرة لشارل، وزج موروني في السجن. وعامل شارل فرانسس الأسير بالمماطلة التي يعامل بها السنور الفأر الواقع في قبضته، ذلك أنه بعد أن خدر أعصابه بسجنه ومجاملته أحد عشر شهراً، وافق على أن يطلق سراحه مشترطاً عليه ذلك الشرط المستحيل التنفيذ، وهو أن يسلم الملك كل ما لفرنسا من الحقوق، ثابتة كانت أو مزعومة، على جنوى، وميلان، ونابلي، وفلاندرز، وآرتوا، وتورناي، وبرغندية، ونبره (نافار)؛ وأن يمد فرانسس شارل بما يحتاجه من السفن والرجال لتسيير حملة على روما أو على الأتراك، وأن يتزوج فرانسس إليانورا أخت شارل، وأن يسلم الملك أكبر ابنيه وهما فرانسس البالغ من العمر عشر سنين، وهنري البالغ تسعاً إلى شارل ليكونا رهينتين عنده ضماناً للوفاء بهذه الشروط. ووافق فرانسس على هذه الشروط كلها بمقتضى معاهدة مدريد (14 يناير سنة 1526). وأكد هذه الموافقة بأغلظ الأيمان، وإن كان ضميره ياجي ويوارب. وسمح له بعدئذ في السابع عشر من مارس أن يعود إلى فرنسا تاركاً ولديه سجينين في مكانه. فلما وصل إليها أعلن أنه لا ينوي الاستمساك بالوعود التي بذلها تحت الضغط والإرهاب، وأعفاه كلمنت مستعيناً بالقانون الكنسي من التمسك بإيمانه، وفي الثاني والعشرين من مايو وقع فرانسس، وكلمنت، والبندقية، وفلورنس، وفرانتشيسكو ماريا اسفوردسا حلف كنياك، وتعهدوا فيه بإرجاع آستي، وجنوي إلى فرنسا، وإعطاء اسفوردسا ميلان إقطاعية فرنسية، وأن ترد إلى كل ولاية إيطالية كل ما كان لها من أملاك قبل الحرب، وأن يُفتدى الأسرى الفرنسيون بمليو كرون، وان تمنح نابلي لأي أمير إيطالي يرضى أن يؤدي عنها إلى ملك فرنسا جزية سنوية مقدارها 75.000 دوقة. ووجهت دعوة رقيقة إلى الإمبراطور لتوقيع هذا الاتفاق؛ وقرر الحلف الجديد أنه إذا رفض الإمبراطور توقيع شروطه، حاربه حتى يطرد هو وجميع قواته من إيطاليا(28).
وندد شارل بالحلف وأعلن أنه يناقض الأيمان المقدس الذي أقسمه فرانسس، كما يناقض شروط المعاهدة التي وقعها كلمنت مع لانوى. وإذ كان هو غير قادر على الذهاب إلى إيطاليا في ذلك الوقت، فقد كلف هوجو ده منكادا Hugo de Moncada بأن يجتذب كلمنت إلى صفه بالوسائل الدبلوماسية، فإذا عجز أثار ثورة على البابا يقوم بها آل كولنا وسكان روما. وقام منكادا بهذه المهمة أحسن قيام، وأوثق صلات المودة بين كلمنت وآل كولنا، وأقنع البابا بأن يسرح الجنود الذين يقومونه بحراسته، وسمح لآل كولنا بأن يمضوا في تآمرهم للاستيلاء على روما. وبينما كانت المسيحية ماضية في الغدر والاقتتال على هذا النحو، كان الأتراك بقيادة سليمان القانوني يضربون أهل المجر الضربة القاسية في موهاكس Mohacs (29 أغسطس سنة 1526)، ويستولون على بودابست (10 سبتمبر). وارتاع كلمنت لخوفه من أن لا تصبح أوربا بروتستنتية فحسب، بل مسلمة أيضاً، فأعلن إلى الكرادلة أنه يفكر في الذهاب إلى برشلونة بنفسه ليطلب إلى شارل أن يعقد الصلح مع فرانسس، وأن يضم العاهلان قواتهما لمحاربة الأتراك. وكان شارل في ذلك الوقت يجهز أسطولاً، يقصد به كما قيل في روما، أن يغزو إيطاليا ويخلع البابا(29).
وفي العشرين من سبتمبر دخل آل كولنا روما ومعهم خمسة آلاف جندي، وتغلبوا على ما لقوا من مقاومة ضعيفة، ونهبوا قصر الفاتيكان، وكنيسة القديس بطرس، وبورجو فتشيو القريبة منها، وفر كلمنت إلى قلعة سانت أنجيلو. وجرد قصر البابا من كل ما فيه بما في ذلك الصور التي رسمها رافائيل على أقمشة الجدران وسرق تاج البابان فسه، والأواني المقدسة، والمخلفات المدخرة، والملابس البابوية الثمينة؛ وخرج جندي استخفه المرح فارتدى ثوب البابا الأبيض، وقلنسوته الحمراء، وأخذ يوزع البركات البابوية بوقار ساخر(30). وفي اليوم التالي رد منكادا لكلمنت التاج البابوي، وأكد له أن الإمبراطور لا يضمر للبابوية إلا الخير، وأرغم البابا المرتاع أن يوقع هدنة مع الإمبراطورية تدوم أربعة أشهر، وأن يعفو عن آل كولنا.
ولم يكد منكادا ينسحب إلى نابلي حتى حشد كلمنت قوة بابوية جديدة قوامها سبعة آلاف جندي، أمرها في آخر شهر أكتوبر بأن تزحف على حصون آل كولنا، وطلب في الوقت نفسه إلى فرانسس الأول وهنري الثامن أن يمداه بالعون، فأما فرانسس فقد بعث إليه يعتذر ويسوف، وأما هنري فقد كان منهمكا في الواجب الثقيل واجب إنجاب ابن يخلفه، ولهذا لم يرد بشيء. وكان ثمة جيش بابوي آخر في الجنوب أعجزته عن العمل سياسة التسويف الغادرة في ظاهرها التي جرى عليها فرانتشيسكو ماريا دلا روفيري دوق أربينو الذي لم ينس أن ليو العاشر أخرجه من دوقيته، ولم يكن يرى في سماح أدريان وكلمنت له بالعودة إليها والبقاء فيها فضلا لهما كبيراً يشكره لهما. وكان مع هذا الجيش قائد أعظم منه بسالة هو الشاب جيوفني ده ميديتشي الوسيم الخلق ابن كترينا اسفوردسا الذي ورث عنها روحها العالية والذي سمى جيوفني دلي باندي نيري- جيوفني ذا الرباط الأسود- لأنه هو وجنوده قد لبسوا شرائط سوداً حزناً على موت ليو(31). وكان جيوفني هذا يتحرق شوقاً إلى قتال ميلان، ولكن فرانتشيسكو ماريا تغلب عليه.
نهب روما
- مقالة مفصلة: نهب روما (1527)
وكان شارل لا يزال مقيماً في أسبانيا يحرك منها بيادقه التي يسيطر عليها سيطرة الساحر من بعيد. ومنها أمر عماله بأن يحشدوا جيشاً جديداً. فاتصل هؤلاء بجورج فن فرندنسبرج الزعيم التيرولي المغامر، الذي كانت جنوده الألمانية المرتزقة قد ذاعت شهرتها في الآفاق. ولم يكن في وسع شارل أن يعرض على هذا الزعيم المغامر وجنوده إلا القليل من المال، ولكن عماله منوهم بالنهب الكثير في إيطاليا. وكان فرندسبرج لا يزال كاثوليكيا بالاسم، ولكنه كان شديد العطف على لوثر، ويكره كلمنت لأنه في رأسه عدو الإمبراطورية اللدود. ورهن هذا الزعيم المغامر قصره وسائر أملاكه، وحتى حلى زوجته نظير مبلغ 38.000 جولدن . واستطاع بهذا المال أن يجمع عشرة آلاف من الرجال الراغبين أشد الرغبة في المغامرة والنهب، ليس منهم من يتردد أن يحطم حربته فوق رأس البابا؛ ويقال إن منهم من كان يحمل حبلا معقوداً ليشنقه به(32). وفي نوفمبر من عام 1526 عبر هذا الجيش المرتجل الجبال وزحف على بريشيا، وجازى ألفنسو دوق فيرارا البابوية على ما بذلته من جهود متكررة لخلعه، بأن أرسل إلى فراندسبرج أربعة من أقوى مدافعه. وحدثت مع الغزاة مناوشة بالقرب من بريشيا أصيب فيها جيوفني دلي باندي بالرصاص؛ ومات في مانتوا في 30 نوفمبر وهو في السادسة والعشرين من عمره. ولم يبق بعد وفاته من يمنع دوق أربينو من أن يفعل أي شيء يريد.
وعبر غوغاء فرندسبرج نهر ألبو كما فعل جوفني ونهبوا حقول لمباردى الغنية نهباً بلغ من شدته أن السفراء الإنجليز وصفوا أرضه بعد ثلاث سنين من ذلك الوقت بأنها "أشقى أرض وجدت في العالم المسيحي في وقت من الأوقات"(33). وكان قائد جيش الإمبراطور وقتئذ في ميلان هو شارل دوق بوربون، الذي عين وقتئذ قائداً أعلى للجيوش الفرنسية لما أظهره من البسالة في مارنيانو. وكان شارل هذا قد خرج على فرانسس حين حرمته أم الملك، حسب اعتقاده، من أراضيه الخاصة؛ فانحاز إلى الإمبراطور، وكان له نصيب في هزيمة فرانسس في بافيا، وعين دوقاً لميلان. وأراد وقتئذ أن يجند جيشاً لمساعدة شارل ويؤدي له مرتباته، ففرض من الضرائب على أهل ميلان ما كاد يقتلهم قتلا، وكتب إلى الإمبراطور يقول إنه استنزف دماء المدينة ؛ وكان جنوده الذين أسكنهم في بيوت أهلها لا يفتئون يضايقون بالسرقة، والمعاملة الوحشية، وهتك الأعراض، مما حمل كثيرين منهم على أن يشنقوا أنفسهم أو ينتحروا بإلقاء أنفسهم من الأماكن العالية في الشوارع(34) وفي أوائل شهر فبراير من عام 1527 خرج بوربون على رأس جيشه من ميلان، وضمه إلى جيش فرندسبرج بالقرب من بياتشندسا. واتجه هذا الجيش المختلط الذي بلغت عدته الآن 22.000 جهة الشرق متتبعاً طريق إيميليا، متجنباً المدن الحصينة، ولكنه ينهب كل ما يجده في طريقه ويترك البلاد وراءه قاعاً صفصفاً. ولما تبين كلمنت أن ليس لديه من الجنود ما يكفي لصد الغزاة، توسل إلى لانوي أن يعمل لعقد هدنة. وجاء هذا الحاكم من نابلي ووضع شروط هدنة مدتها ثمانية أشهر: وتتضمن أن يقف كلمنت وكولنا الحرب ويتبادلا ما فتحاه من الأرضين. ودفع البابا ستين ألف دوقة يرشو بها جيش فرندسبرج حتى يبقى خارج الولايات البابوية. ورأى كلمنت أنه أوشك على الإفلاس، وظن أن فرندسبرج وبوربون سيراعيان شروط الاتفاق الذي وقعه نائب الإمبراطور بشرف وأمانة، فخفض جيش روما إلى ثلاثمائة جندي لا أكثر. غير أن جنود بوربون السارقين النهابين ثاروا غضباً حين سمعوا بشروط الهدنة. ذلك أنهم ظلوا أربعة أشهر يقاسون آلاف الصعاب وكل ما يأملونه هو نهب روما؛ وكانت كثرتهم الغالبة ترتدي الآن أسمالا بالية، وتمشي حافية الاقدام؛ وكانوا كلهم جياعاً ولم يتناول منهم أحد مرتبه. ولهذا أبوا أن يُشتروا بمبلغ تافه لا يزيد على ستين ألف دوقة، يعرفون أنه لن يصل إلى جيوبهم منه إلا جزء قليل. وإذ كانوا يخشون أن يوقع بوربون شروط الهدنة، فقد حاصروا خيمته، ورفعوا عقيرتهم قائلين: "الأجور! الأجور!" واختفى بوربون في مكان آخر، ونهب الجند خيمته، وحاول فرندسبرج أن يهدئ ثورة غضبهم، ولكنه أصابته نوبة تشنجية في أثناء هذه المحاولة. ولم يشترك بعدها في الحملة حتى مات بعد عام واحد من ذلك الوقت. وتولى بوربون القيادة العليا على شرط أن يزحف على روما. وفي التاسع والعشرين من مارس بعث برسله إلى لانوي وكلمنت يبلغهما أنه لا يستطيع كبح جماح جنوده، ولهذا فهو مرغم على نقض الهدنة.
وأدركت روما أخيراً أنها هي الفريسة الضعيفة المقصودة. وفي يوم خميس الصعود (8 أبريل) بينما كان كلمنت يمنح بركته لجموع محتشدة تبلغ عشرة آلاف نفس أمام كنيسة القديس بطرس، إذ صعد شخص متعصب متهور، لا يلبس إلا ميدعة من الجلد، فوق تمثال القديس بولص وصاح في وجه البابا قائلا: "أيها النّغل اللائط! إن روما ستدمر بسبب خطاياك؛ فكفر عن ذنوبك وارجع عن غيك! وإذا لم تصدقني فسترى بعد أربعة أشهر ما يحل بها". وفي مساء يوم عيد الفصح أخذ هذا الزاهد الناسك- بارتولميو كاروسي Bartolommeo Carosi الذي يطلق عليه اسم براندانو Brandano- يطوف بالشوارع وهو يصيح: "روما، كفري عن ذنوبك! إنهم سيعاملونك كما عامل الله سدوم وعمورة"(35).
وأرسل بوربون إلى كلمنت يطلب 240.000 دوقة، ولعله كان يأمل أن يرضي جنوده بهذه الزيادة الكبيرة في ماله؛ فرد عليه كلمنت بأنه عاجز كل العجز عن جمع هذه الفدية الضخمة. وزحف الجحفل اللجب إلى فلورنس، ولكن جوتشارديني دوق أربينو. ومركيز سالتسو كانا قد حشدا من الجنود ما يكفي للدفاع عن حصونها دفاعاً قوياً؛ ولهذا ارتدت تلك الجحافل خاسرة، واتخذت طريقها إلى روما. ووجد كلمنت أن الهدنة غير كفيلة بنجاته، فانضم إلى حلف كنياك المناوئ لشارل، وطلب المعونة من فرنسا، ودعا أغنياء روما أن يسهموا في جمع المال اللازم للدفاع عنها، فكانوا أشحاء في الاستجابة إلى رغبته، واقترحوا عليه طريقة أجدى عنها، فكانوا أشحاء في الاستجابة إلى رغبته، واقترحوا عليه طريقة أجدى من هذه وهي بيع القلانس الحمر . ولم يكن كلمنت قد باع المناصب بالمال إلى جماعة الكرادلة، ولكنه أخذ بهذا الاقتراح حين وصل جيش بوربون إلى فيتربو التي لا تبعد عن روما بأكثر من اثنين وأربعين ميلا، وباع ستة من هذه المناصب. وقبل أن يؤدي المرشحون المال أبصر البابا من نوافذ الفاتيكان الجحافل الجياع تتقدم مجتازة حقول نيرون، وكان لديه في ذلك الوقت أربعة آلاف جندب يدفعون عن روما ضد عشرين ألفاً من المهاجمين.
وفي السادس من مايو اقتربت جموع بوربون من الأسوار مستترة بالضباب، ولكنها صدت عنها بوابل من الرصاص، وأصيب بوربون نفسه برصاصة قضت عليه لساعته تقريباً. ولكن هذا لم يمنع المهاجمين من أن يعاودوا الهجوم، لأنهم لم يكن أمامهم غير واحدة من اثنتين، فإما أن يستولوا على روما وإما أن يموتوا جوعاً. واتفق أن عثروا على موقع ضعيف في خط الدفاع، فاخترقوه عنوة، وتدفقوا إلى داخل المدينة، وحارب حرس رومة، والحرس السويسري ببسالة ، ولكنهما أبيدا عن آخرهما. وفر كلمنت، ومعظم الكرادلة المقيمين في المدينة ومئات من الموظفين إلى قلعة سانت أنجيلو حيث حاول تشيليني وغيره أن يوقفوا زحف الغزاة بنار المدفعية. ولكن الغزاة دخلوا المدينة من اتجاهات مختلفة أوقعت الارتباك في صفوف المدافعين، فمن المهاجمين من سترهم الضباب، ومنهم من اختلطوا بالفارين اختلاطاً لم تستطع معه مدافع القلعة أن تضربهم من غير أن تقتل معهم التي فقدت قوتها المعنوية، وما لبثت المدينة أن أصبحت تحت رحمة الغزاة.
ولما اندفع هؤلاء في شوارعها أخذوا يقتلون كل من واجهوه في طريقهم دون أن يفرقوا بين الرجال، والنساء، والأطفال. واشتد تعطشهم إلى سفك الدماء، فدخلوا مستشفى سانتو اسبيرتو (الروح القدس) وملجأ اليتامى فيه، وذبحوا كل من فيهما من المرضى كلهم تقريباً. ثم اتجهوا إلى كنيسة القديس بطرس، وذبحوا من لجأوا إلى هذا الحرم المقدس، ونهبوا بعدئذ كل ما استطاعوا أن يصلوا إليه من الكنائس والأديرة، وحولوا بعضها إلى إسطبلات لخيولهم، وقتلوا مئات من القساوسة، والرهبان، والأساقفة، ورؤساء الأساقفة، وجردت كنيسة القديس بطرس والفاتيكان من أعلاهما إلى أسفلهما من كل ما فيهما، وربطت الخيول في حجرة رافائيل(36). ونهب كل بيت في روما وحرق الكثير منها عجا اثنين لا أكثر هما قصر الكانتشيلريا Cancelleria الذي كان يشغله الكردنال كولنا، وقصر آل كولنا الذي لجأت إليه إزبلادست، ومعها بعض أغنياء التجار، ونفح هؤلاء زعماء الغوغاء بخمسين ألف دوقة لينجوهم من الهجوم، ثم سمحوا لألفين من اللاجئين أن يحتموا وراء الأسوار. وأدى كل قصر من القصور الفدية نظير حمايته، ولكن هذه القصور نفسها هاجمتها جماعات أخرى واضطرت أن تفتدي نفسها من جديد. وقد حدث في معظم البيوت أن اضطر من فيها جميعاً إلى افتداء أنفسهم بمبلغ محدد؛ فإذا لم يوفوا به كله تعرضوا لألوان من العذاب، وقتل منهم آلاف، وألقى بالأطفال من النوافذ العليا، لكي يضطر آباؤهم إلى إخراج ما اكتنزوه من المال وأخفوه، حتى غصت الشوارع بالقتل. وشهد الثرى دومينيكو صاحب الملايين بعينيه أبناؤه يقتلون، وابنته يهتك عرضها، وبيته يحرق، ثم انتهى الأمر بقتله هو نفسه. ويقول بعض الواصفين: "ولم تكن في المدينة كلها نفس فوق الثالثة من العمر لم تضطر إلى أن تبتاع سلامتها بالمال"(37).
وكان نصف الغوغاء المنتصرين من الألمان، لم يكن يشك معظمهم في أن البابوات والكرادلة لصوص، وأن ثروة الكنيسة في روما سرقة ونهب من الأمم، وفضيحة للعالم. وأرادوا هم أم يخففوا من هذه الفضيحة، فاستولوا على جميع ما في الكنائس من ثروة منقولة بما فيها الأواني المقدسة، والتحف الفنية، وخرجوا بها ليذيبوها أو يفتدوا بها أنفسهم، أو يبيعوها. أما المخلفات المقدسة فقد تركوها مبعثرة على الأرض. وارتدى أحد الجنود الأثواب البابوية، ولبس غيره قلانس الكرادلة، وقبلوا قدميه، ونادى جماعة من الغوغاء في الفاتيكان بلوثر بابا. وكان اتباع مذهب لوثر من الغزاة يجدون لذة خاصة في نهب أموال الكرادلة، وتقاضى فديات عالية منهم نظير تركهم أحياء، وتعليمهم مراسم دينية جديدة. ويقول جوتشارديني إن بعض الكرادلة "أركبوا دواب قذرة حقيرة، وأديرت وجوههم نحو ذيولها وعليهم ملابس مناصبهم وشاراتها، وطاف الغوغاء ببعضهم في شوارع المدينة معرضين لأقسى ضروب السخرية والاحتقار. وعذب بعض من لم يستطيعوا جمع كل ما طلب إليهم من مال الفداء تعذيباً قضى على حياتهم في التو والساعة أو بعد أيام قلائل"(38). وانزل أحد الكرادلة في قبر من القبور وهدد بأنه سيدفن حياً إن لم يأت بالفدية في زمن محدد؛ وجاء هذا المال في اللحظة الأخيرة(39). ولم يلق الكرادلة الألمان، الذين ظنوا أنفسهم بمنجاة من شر أبناء وطنهم، خيرا مما لقيه غيرهم. وهتكت أعراض الراهبات والمحصنات من النساء في بيوتهم أو في الأديرة نفسها، أو حملن ليشبع فيهم جماعات من الجند شهواتهم بوحشية في أماكنهم(40). وهوجمت النساء على أعين أزواجهن أو آبائهن؛ وأستبد اليأس بكثيرات من الفتيات بعد هتك أعراضهن فأغرقن أنفسهن في نهر التيبر(41).
وكان الدمار الذي حاق بالكتب، والمخطوطات، ونفائس الفن يجل عن الوصف. واستطاع فليبرت Philibert، أمير أورنج Prince of Orange الذي تولى وقتئذ قيادة هذه الحشود المختلة النظام، أو ما يشبه قيادتها، استطاع هذا الأمير أن ينقذ مكتبة الفاتيكان باتخاذها مقراً لقيادته، ولكن كثيرا من مكتبات الأديرة والمكتبات الخاصة التهمتها النيران، وضاعت بذلك كثير من المخطوطات القيمة. ونهبت كذلك جامعة روما وبدد شمل موظفيها. وشهد العالم كولوتشي بيته يحترق عن آخره هو وما جمعه فيه من المخطوطات وروائع الفن. وأبصر الأستاذ بالدوس تعليقاته الجديدة على كتاب بلني تتخذ لإشعال نار في معسكر الناهبين. وفقد الشاعر ماروني Marone قصائده، ولكنه كان أسعد حظاً من غيره؛ أما الشاعر باولو بمباتسي Paolo Bombatsi فقد قتل؛ وعذب العالم كرستوفور مارتشيلو Cristoforo Marcello بنزع أظافر يديه ظفراً بعد ظفر، أما الفنانان بيرينو دل فاجا Perino del Vaga، وماركنتوريو ريمندي Marcantorio Raimoudi وكثيرون غيرهما فقد عذبوا وجردوا من كل ما يمتلكون، وتفرق شمل مدرسة رافائيل فلم يبق لها وجود. وليس من المستطاع إحصاء عدد من قتلوا في هذه الكارثة المدلهمة؛ وكل ما نستطيع أن نقوله أن ألفي جثة ألقيت في نهر التيبر من شاطئه الذي تقع عليه الفاتيكان؛ وأن 9.800 من الموتى دفنوا؛ وما من شك في أن عدداً آخر كبيراً من الناس قد قتل. وتقدر قيمة المنهوبات تقديراً متواضعاً بأكثر من مليون دوقة، وقيمة ما دفع من مال الفداء بثلاثة ملايين، وقدر كلمنت مجموع الخسائر بعشرة ملايين (125.000.000 دولار)(43).
ودام السلب والنهب ثمانية أيام، كان كلمنت في خلالها يشاهده بعينيه من أبراج سانت أنجيلو؛ ويتوسل إلى الله كما توسل إليه أيوب المعذب: "فلماذا أخرجتني من الرحم، كنت قد أسلمت الروح ولم ترني عين"(44)! وامتنع وقتئذ عن حلق لحيته، فلم يحلقها بعد ذلك أبداً، وظل سجيناً في القلعة من 6 مايو إلى 7 ديسمبر سنة 1527، وهو يأمل أن تأتيه النجاة من جيش دوق أربينو، أو من فرانسس، أو هنري الثامن. وسر شارل، وكان لا يزال وقتئذ في أسبانيا، عند سماعه بسقوط روما، ولكنه روع حين ترامت إليه أنباء وحشية الناهبين، وتنصل من تبعة هذه المنكرات، ولكنه أفاد كل الإفادة من ضعف البابا وخذلانه. وفي السادس من شهر يونيه أرغم ممثلوه- وقد يكون ذلك على غير علم منه- كلمنت بأن يوقع شروط سلم مهينة، وافق البابا بمقتضاها على أن يؤدي لهم وللجيش الإمبراطوري 400.000 دوقة، وأن يسلم إلى شارل مدائن بياتشتدسا، وبارما، ومودينا، وقصور أستيا، وتشفيتا فيتشيا، وسانت أنجيلو نفسها؛ وأن يبقى سجيناً في هذه القلعة الأخيرة حتى يسلم المائة والخمسين ألفا الأولى من هذا المبلغ، ثم ينقل بعدئذ إلى جائيتا Gaeta أو نابلي، حتى يقرر شارل نفسه مصيره. وسمح لجميع من كانوا في قلعة سانت أنجيلو بمغادرتها ماعدا كلمنت وثلاثة عشر من الكرادلة، الذين صحبوه إليها، وعهد إلى الجنود الأسبان والألمان بحراسة الحصن، وأبقوا البابا على الدوام تقريباً محصوراً في جناح ضيق منه، وصفه جوتشيارديني في 21 يونيه بقوله: "إنهم لم يتركوا له فيه من المتاع ما يساوي عشرة اسكودوات . وأسلم كل ما كان قد أخذه معه في فراره من الفضة والذهب إلى آسريه ليوفي بذلك مائة ألف دوقة من مال الفداء.
وفي هذه الأثناء استولى ألفنسو صاحب فيرارا على رجيو ومودينا اللتين كان لفيرارا فيهما حقوق من أقدم الأزمنة، كما استولت البندقية على رافنا. وطردت فلورنس آل ميديتشي للمرة الثالثة وأعلنت يسوع المسيح ملكا على الجمهورية الجديدة، وبدا أن صرح البابوية كله مادياً وروحياً آخذ في الانهيار، وحركت مأساة هذا الخراب أسى الناس جميعاً حتى الذين كانوا يشعرون بأن خيانات كلمنت، وآثام البابوية، وشره حكومتها، وترف رجال الدين، ومظالم روما، كانت كلها خليقة ببعض العقاب. وسمع سادوليتو، وهو آمن مطمئن في كاربنتراس Carpentras بسقوط روما فروعه النبأ، وتحسر على مضي تلك الأوقات الحلوة الهادئة التي جعلها بمبو، وكستجليوني، وإزبلا، ومائة من العلماء، والشعراء، وأنصار العلم والفن، موطناً لهما حتى بلغا فيها ذروة مجدهما. وكتب إرازمس لسادوليتو يقول: "لم تكن كعبة الدين المسيحي، ومهد النفوس النبيلة، وموطن الآداب والعلوم والفنون فحسب، بل كانت أيضاً أم الأمم. وكم من الناس كانت أعز عليهم وأحلى لهم، وأعظم قيمة لديهم، من بلادهم نفسها!... ألا إن هذا الخراب لم يكن في الحقيقة خراب بلدة واحدة، بل كان خراب العالم أجمع"(46).
شارل المنتصر
بيد أن العاصفة المتجمعة تفجرت على رأس كلمنت السابع (1523-34). لقد كان من خيرة البابوات فكراً وخلقاً، رحيماً كريماً، دافع عن اليهود المطاردين، ولم يشارك في الانحلال الجنسي أو المالي المحيط به، وواصل غلى نهاية حياته المضطربة تغذية الفن والأدب الإيطاليين برعايته الذكية المميزة. ولعل ما حظي به من تعليم رفيع حال بينه وبين أن يكون إدارياً ناجحاً، وكان في ذكائه من الحدة ما أتاح له رؤية المبررات الحسنة لكل مسلك في كل أزمة؛ وأوهن علمه من شجاعته، وأغضبت ذبذباته الدولة تلو الدولة. على أننا لا نملك إلا التعاطف مع رجل توافر له حسن النية الشديد، رجل رأى روما تنهب تحت بصره، ورأى نفسه سجين غوغاء وإمبراطور؛ رجل منعه ذلك الإمبراطور من محاولة الوصول إلى صلح معقول مع هنري الثامن؛ رجل أكره على أن يختار بين أمرين أحلاهما مر، أن يخسر إما هنري وإنجلترا، وإما شارل وألمانيا؛ رجل قيل له حين احتج على تحالف فرانسوا مع العثمانيين، والقائل هو ذلك الملك. "المسيحي جداً"، إنه إذا بدر منه مزيد من الاحتجاج فإن فرنسا ستطلق البابوية. إن أحداً من البابوات لم يتجرع مثله كأس المنصب حتى هذه الثمالة المرة.
وكانت أخطاؤه وبيلة. فهو حين أساء تقدير خلق شارل وموارده، وبهذا شجع على "نهب روما" أصاب البابوية بلطمة شجعت شمال ألمانيا على نبذ الولاء لروما. وحين توج الرجل الذي أذن بذلك الهجوم فقد احترام العالم، حتى العالم الكاثوليكي. وقد أذعن لشارل من جهة لافتقاره إلى القوة المادية اللازمة للمقاومة، ومن جهة أخرى لخشيته من أن إمبراطوراً أقصاه البابا عن وده قد يدعو مجمعاً عاماً من العلمانيين ومن رجال الدين، ويمسك بزمام السلطتين الكنسية والزمنية جميعاً، ويتم إخضاع الكنيسة للدولة المتمردة، بل ربما يخلعه باعتباره ابناً غير شرعي(3). ولو أتيحت لكلمنت الشجاعة التي أبداها عمه لورنزو مديتشي في نابلي عام 1479، لبادر بدعوة مجمع قد يوفق تحت قيادته المتحررة في إصلاح أخلاقيات الكنيسة وتعاليمها، وفي إنقاذه وحدة العالم المسيحي الغربي.
ميكل أنجيلو وكلمنت السابع 1520 - 1534
مما يذكر في صحيفة الحسنات لكلمنت أنه ظل طوال أيام كوارثه يتحمل صابراً جميع نزوات ميكل أنجيلو وثوراته، ويعهد إليه بالمهمة تلو المهمة، ويمنحه من المزايا كل ما يليق بالعباقرة. ويقول في هذا: "إذا جاء بونارتي أمسكت بيدي على الدوام مقعداً وأمرته بالجلوس، لأني لا أشك في أنه سيجلس من تلقاء نفسه دون أن يستأذنني"(57). وحتى قبل أن يصبح بابا تقدم باقتراح تبين أنه اكبر عمل من أعمال النحت عهد به إلى ذلك الفنان، وهو أن يضيف إلى كنيسة سان لورندسو بفلورنس "غرفة مقدسات جديدة" لتكون قبراً لأشهر أفراد آل ميديتشي؛ وتصميم مقابر لهم، وتزيينها بما يليق بها من الصور. وكان كلمنت واثقاً كل الثقة من كفايات هذا الفنان الجبار المتعددة، ولهذا طلب إليه أن يضع عدداً من التصميمات الهندسية للمكتبة اللورنتية، تبلغ من السعة والمتانة ما تستطيع أن تقي كل المجموعات الأدبية للأسرة الميديتشية. وتم إنشاء السلم الفخم والدهليز ذي العمد في هذه المكتبة اللورنتية (1526-1527)، بإشراف أنجيلو، أما بقية ابناء فقد أقامها فيما بعد فاساري وغيره على أساس رسوم بونارتي.
أما بناء نوفا ساجرستيا Nuova Sagristia فلا يمكن أن يعد من روائع الفن المعماري. فقد وضع تصميمها على أن تكون مربوعة الجوانب تقسمها عمد مربوعة وتعلوها قبة متواضعة؛ وكان الغرض الأول من بنائها أن توضع التماثيل في الفجوات المتروكة في الجدران. وقد تم بناء "معبد آل ميديتشي" هذا في عام 1524؛ وفي عام 1525 بدأ أنجيلو العمل في القبور، وقد كتب إليه كلمنت في هذا العام الثاني خطاباً يستحثه في رقق يقول:
"إنك تعرف أن البابوات قصار الأجل، ونحن أشد ما نكون شوقاً إلى أن نرى المعبد وفيه قبور أقاربنا، أو أن نسمع في القليل أنه قد تم، ولا يقل عن هذا شوقنا إلى إتمام المكتبة ولهذا نعهد بهما جميعاً إلى همتك ونشاطك. وسنتذرع في هذه الأثناء (بناء على توصيتك) بالصبر الجميل، داعين الله أن يعينك على أن تدفع المشروع كله إلى الأمام. ولا تخش قط أن سوف تعوزك الأعمال أو الجزاء مادمنا على قيد الحياة. وداعاً على بركة الله وبركتنا- جيوليو"(58).
وكان المشروع يتضمن إنشاء ستة قبور: واحد لكل من لورندسو الأعظم، وأخيه جيوليانو الذي اغتيل، وليو العاشر، وكلمنت السابع، وجوليانو الأصغر الذي كان "أطيب من أن يستطيع حكم دولة" (والمتوفى عام 1516)، ولورندسو الأصغر دوق أربينو (المتوفى عام 1519). ولم يتم من هذه إلا قبرا الأخيرين، ولكنهما مع ذلك أرقى ما وصل إليه التصوير في ذلك العهد. ويظهر القبران شكل من يحتويان من الموتى كما كانا في عنفوان الشباب، ولم يحاول المثال إظهار شكلهما الصحيح أو ملاحمها الحقيقية: فقد أظهر جيوليانو في ثياب قائد روماني، ولورندسو في صورة الرجل المفكر il Penseroso. ولما أن لاحظ ملاحظ غير حذر هذا البعد عن الواقعية، رد عليه ميكل أنجيلو بألفاظ كشفت عن ثقته السامية الأكيدة بخلوده الفني فقال: "منذا الذي يعني بعد ألفي عام هل هذه ملامحهم وليست هي؟"(59). ويتكئ على تابوت جيوليانو شخصان عاريان: عن اليمين رجل يفترض فيه أنه يرمز إلى النهار، وعن اليسار امرأة يفترض أنها ترمز إلى الليل. ومثلهما صورتا شخصين متكئين على قبر لورندسو أطلق عليهما اسما الشفق والفجر. وهذه التسميات مجرد فروض ولعل للخيال فيها أكبر نصيب. وأغلب الظن أن هدف المثال هو أن ينحت مرة أخرى معبوده الخفي، أعني الجسم البشري، بكل ما فيه من روعة قوة الرجولة، والمحيط الخارجي الجميل لجسم المرأة بأكمله. ولقد كان نجاحه في تصوير جسم الرجل أعظم من نجاحه في تصوير جسم المرأة كما هي العادة، وإن صورة الشفق الناقصة التي تسلم اليوم النشيط المضني إلى الليل على مهل، لنضارع أنبل صور الآلهة في البانثيون.
وقامت الحرب فعطلت أعمال الفن إلى حين. ولما سقطت روما في أيدي الجيوش الإمبراطورية (1527)، لم يعد في وسع كلمنت أن يناصر الفنون، وانقطع معاش ميكل أنجيلو الذي كان يتقاضاه من البابا ومقداره خمسون كروناً (625 دولاراً) في الشهر واستمتعت فلورنس في هذه الايام بعامين من الحرية في ظل الحكم الجمهوري. ولما أن تصالح كلمنت مع شارل، وأرسل جيش ألماني- أسباني للقضاء على الجمهورية وإعادة آل مديتشي إلى الحكم، عينت فلورنسا أنجيلو (6 أبريل ستة 1529) عضواً في لجنة العشرة للدفاع عن المدينة، وبذلك أصبح فنان المديتشيين بحكم الظروف مهندساً يعمل ضد الميديتشيين، وشرع يشتغل كالمحموم في تخطيط الحصون والأسوار وتشييدها.
وبينما كانت هذه الأعمال قائمة على قدم وساق كان ميكل أنجيلو يزداد كل يوم اقتناعاً بأن المدينة لا يمكن الدفاع عنها دفاعاً ناجحاً. وهل تستطيع مدينة بمفردها منقسمة على نفسها في روحها وفي ولائها، أن تقاوم مدفعية الإمبراطورية والحرمان الديني البابوي مجتمعين؟ ومن أجل هذا حدث في الحادي والعشرين من سبتمبر سنة 1529، أثناء حالة عارضة من الذعر، أن فر الفنان من المدينة، وهو يأمل أن يهرب منها إلى فرنسا ويلجأ إلى مليكها الظريف الوديع. ولما وجد طريقه مسدوداً بأرض يحتلها الألمان لجأ مؤقتاً إلى فيرارا وكانت تابعة للبندقية، ومنها بعث برسالة إلى صديقه باتستا دلا پالا Battista della Palla العامل الفنان لفرانسس في فلورنس يسأله: هل ينضم إليه في الهرب إلى فرنسا(60)؟ ورفض باتستا أن يتخلى 'ن المنصب الذي عهد إليه في الدفاع عن المدينة؛ وكتب إلى أنجيلو بدلا من ذلك يدعوه دعوة حارة إلى العودة لواجبه، وينذره إذا لم يعد بأن الحكومة ستصادر أملاكه، وتترك أقاربه المعمدين في فقر مدقع. وبذلك عاد الفنان إلى عمله في حصون فلورنس حوالي اليوم العشرين من نوفمبر.
ويقول فاساري إنه حتى في هذه الشهور المضطربة وجد متسعاً من الوقت ليواصل العمل سراً في قبور آل ميديتشي، وليرسم لألفنسو دوق فيرارا صورة لا تعتبر قط عن طبائعه وهي صورة ليدا والبجع، وكانت في الحق صورة عجيبة يرسمها رجل قليل الميول الجنسية، متزمت إلى حد كبير، ولعلها كانت ثمرة اختلال مؤقت في عقله. ويظهر فيها البجع يضاجع ليدا، ويلوح أن ألفنسو لم يكن هو الذي اختار موضوعها وإن كان معروفاً بان كان رجلا شهوانياُ في الفترات التي بين الحروب. وأظهر الرسول الذي بعثه لإحضار الصورة الموعودة شدة امتعاضه منها حين رآها، ولم يزد على أن قال "إن هذا عبث" ولم يحاول أخذها للدوق، فما كان من أنجيلو إلا أن أعطى الصورة لخادمه أنطونيو ميني Antonio Mene الذي حملها إلى فرنسا حيث انتقلت إلى مجموعة فرانسس الأول النهم الذي لم يكن يفرق بين الطبيب منها والخبيث. وبقيت تلك الصورة في فنتينبلو إلى زمن لويس الثالث عشر حين أمر أحد كبار الموظفين بإتلافها لقبح موضوعها. ولسنا نعرف هل نفذ هذا الأمر أو لم ينفذ. وما هو تاريخ الصورة الأصلية بعد ذلك الوقت، ولكننا نعرف أن نسخة منها باقية في سراديب المعرض الأهلي بلندن(61).
ولما أن سقطت فلورنس في أيدي الميديتشيين العائدين إليها أعدم باتستا دلا بالا وغيره من الزعماء الجمهوريين، وأخفى ميكل أنجيلو نفسه مدة شهرين في بيت صديق له، كان في كل لحظة منهما يتوقع أن يلقى نفس المصير، ولكن كلمنت كان يظن أنه وهو حي أعظم قيمته منه وهو ميت، فكتب البابا إلى أقاربه الحاكمين في فلورنس يأمرهم بالبحث عن الفنان، ومعاملته بالحسنى. ووافق ميكل على هذا العرض؛ ولكن الصورة التي كانت في عقل الحبر والفنان كانت أكبر مما تستطيع اليد تنفيذه، كما حدث في قبر يوليوس؛ ولم تطل حياة البابا حتى يشهد تمام المشروع. فلما توفي كلمنت في عام 1534 خشى ميكل أنجيلو أن يصيبه ألسندرو ده ميديتشي بأذى بعد أن مات حاميه ونصيره، فاغتنم أول فرصة للهرب إلى روما.
وتبدو على القبور مسحة من الحزن المكتئب العميق كما تبدو على صورة عذراء ده ميديتشي التي نحتها أنجيلو لحجرة المخلفات المقدسة. ولقد افترض المؤرخون المولعون بالديمقراطية (والمغالون فيما كانت عليه من مدى في فلورنس) أن الصور المضطجعة ترمز إلى مدينة تندب استسلامها للاستبداد والظلم على الرغم منها. ولكن أكبر الظن أن هذا التفسير وهم خيال: فقد صممت هذه الصورة بينما كان الميديتشيون يحكمون فلورنس حكماً صالحاً إلى حد معقول؛ وقد نحتت لبابا من آل ميديتشي كان على الدوام رؤوفا بميكل أنجيلو، ونحتها فنان مدين لآل ميديتشي منذ شبابه. ولسنا نعرف أنه كان يبغي الإساءة إلى الأسرة التي كان يعد لها قبورها، وليس في تصويره لجيوليانو ولورندسو ما يدل على تحقيره إياهما. والحق أن هذه الرسوم تعبر عن شيء أعمق من حب لأن تستمتع الأقلية الثرية بحرية حكم الطبقات الفقيرة، دون أن تقف في سبيلها أسرة ميديتشي التي كانت في العادة محبوبة من الشعب عامة. إنها تعبر عن ملل ميكل أنجيلو من الحياة، وعن التعب الذي حل برجل كله أعصاب وأحلام هائلة لا يستطاع تحقيقها، وجد نفسه يصطدم بمئات المحن، ويعوق كل مشروع من مشروعاته تقريباً صلابة المادة التي يعمل بها وإباؤها عليه، وكلال قوته وضيق وقته. ولم يكن أنجيلو قد استمتع إلا بالقليل من مباهج الحياة، ولم يكن له أصدقاء لهم ماله من عقلية، أما النساء في رأيه أجساماً ناعمة تهدد السلام، وحتى أعظم انتصاراته كانت نتيجة الكد المنهك والألم، وائتلاف التفكير المحزن والهزيمة التي لا مفر منها.
ولما سقطت فلورنس في أيدي أسوأ المستبدين بها، وساد الرعب حيث كان لورندسو يحكم حكماً موفقاً سعيداً، أحس الفنان، الذي كان قد نحت في رخام أضرحة آل مديتشي نقداً للحياة لا مجرد نظرية في الحكم، إن هذه الأشكال المكتئبة الحزينة تعبر، فيما تعبر عنه، عن المجد الغابر للمدينة التي كانت مهد النهضة. ولما رفع الستار عن تمثال الليل كتب الشاعر جان باتستا استروتسي رباعية تعرض موضوعه عرضاً أدبياً قال فيها ما معناه:
إن الليلة التي تراها واقفة في رشاقة
يأخذ الكرى بمعاقد أجفانها، قد صاغها مَلَك
من الحجر الصلد، وسنانة، تسري فيها الحياة،
فأيقظها أيها المخلوق الذي لا تصدق' فإنها ستتحدث إليك.
وقد غفر ميكل للكاتب ما في العبارة من تورية هي في الوقت عينه تمجيد له، ولكنه لم يرض عن تفسير الكاتب لخصائص التمثال، وكتب هو تفسيراً لها في أربعة أسطر هي أكثر ما في شعره وضوحاً وإبانة عن مقصده قال:
ما أحَبَّ نومي، ولكن يزيده محبة أن يكون مجرد حجر
مادام الخراب والقدر سائدين.
إن أشد ما يؤلمني ألا أرى شيئاً وألا أشعر بشيء،
إذن فلا توقظني، وتحدث في همس(62)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المصادر
ديورانت, ول; ديورانت, أرييل. قصة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود.
- "Pope Clement VII" in the 1913 Catholic Encyclopedia.
- "That the world may believe: the development of Papal social thought on aboriginal rights", Michael Stogre S.J, Médiaspaul, 1992, ISBN 2890395499
الهامش
انظر أيضاً
للاستزادة
- Wilkie, William E. 1974. The cardinal protectors of England. Cambridge University Press. ISBN 0521203325.
وصلات خارجية
ألقاب الكنيسة الكاثوليكية | ||
---|---|---|
سبقه أدريان السادس |
Pope 1523-34 |
تبعه بولس الثالث |