نظام الاحتكار في عصر محمد علي

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

احتكار الحاصلات الزراعية

ان الكلام عن نظام الملكية والضرائب يستتبع الكلام عن الاحتكار للارتباط بينهما، ذلك انه كان مالوفا من عهد المماليك ان تجنى الضرائب نوعا من حاصلات الارض، ولم يكن الفلاحون الذين خولهم محمد علي حق الانتفاع بالاراضي من اليسار بحيث يستطيعون اداء الضريبة نقدا في موعدها، كما ان الحكومة من جهة اخرى كانت تعطي الفلاحين ادوات الزراعة والمواشي والبذور التي يحتاجون اليها قرضا، فكانت قيمتها دينا عليهم يجب ان يؤدوه مع الضرائب، وهم كما قدمنا عاجزون عن ادائها نقدا لما كانوا عليه من الفقر والفاقة، لذلك اذن محمد علي باشا للفلاحين ان يؤدوا الضريبة صنفا من حاصلات أراضيهم، وانشأ في المديريات شونا (جمع شونة) لتحفظ فيها الحاصلات التي تجنى من الفلاحين، ومن هنا صارت الحكومة تتوىل بيعها للاهالي ولتجار الجملة من الاجانب الذين يصدرونها للخارج، وتتولى هي ايضا تصديرها لحسابها وبيعها في ثغور فرنسا وايطاليا والنمسا وانجلترا، فربحت من هذا العمل ارباحا طائلة، فكانت هذه الارباح مغرية لها باحتكار حاصلات القطر المصري والاتجار بها.[1]

وذلك ان محمد علي قرر ان تحتكر الحكومة جمع الحاصلات الزراعية بحيث يهظر على الفلاحين أن يبيعوها الى التجار، وفرض عليهم ان يبيعوها للحكومة باثمان تقررها هي، فصارت الحكومة محتكرة لتجارة حاصلات القطر المصري باكملها، وهكذا تسلسل نظام الاحتكار، فبعد ان تملكت الحكومة معظم الاراضي الزراعية واحتكرتها بالغاء نظام الالتزام واسترداد املاك المتلزمين والغاء معظم الاوقاف، احتكرت كذلك الحاصلات الزراعية، أي ان الحكومة صارت المالكة للاراضي الزراعية ثم المحتكرة لحاصلات جميعا، فلم يكن للفلاح ملكية لا على الارض ولا على ما تنتجه!

قررت الحكومة اذن شراء الحاصلات من الفلاحين باثمان تحددها هي، وكانت تخصم من الثمن ما عليهم من الضريبة وتدفع لهم الباقي نقدا وصارت هي التي تتولى التصرف في الحاصلات وبيعها والاتجار بها وتصديرها وشمل الاحتكار حاصلات القطر المصري باجمعها كالقطن والارز والغلال والقمح والنيلة والسكر والافيون الخ.

وصار الفلاحون اذا احتاجوا للغلال للقوت يضطرون الى شرائها من الحكومة ثانية، وكثيرا ما يحدث ان ترفع الحكومة سعر البيع لتربخ من ثمن البيع، فتشتد الضائقة بالناس وترتفع اسعار الغلال في الوقت الذي تفيش بها مخازنها.

ولا جرم ان هذه الوسيلة وان كانت تعود على الحكومة بالمكاسب (زمنا ما) الا انها من الوجهتين الاقتصادية والاجتماعية تشل حركة التقدم الاقتصادي، لان اجبار الفلاحين على بيع حاصلات اراضيهم للحكومة وتحديدها على سعر البيع، عمل ينطوي على الظلم والارهاق، وفيه مصادرة لحق الملكية وحرمان المالك من الاستمتاع بحقه، ومن الانتفاع من تزاحم التجار على الشراء، ذلك التزاحم الذي ينجم عنه مضاعفة الثمرة للبائع، كما أن العمل بمثل هذا النظام يقتل كل همة فردية ويقبض ايدي الناس عن العمل، ومن ثم يحول دون تقدم البلاد ادبيا وماديا، ويضرب على الشعب حجابا من الفقر والجمود.

وقد ذكر الجبرتي احتكار الحكومة للغلال والسكر في حوادث سنة 1227 هـ (1812) وسنة 1230 هـ (1815) وذكر في حوادث ذي القعدة سنة 1231 هـ (1816) احتكارها حاصلات الكتان والسمسم والعصفر والنيلة والقطن والقرطم والقمح والفول والشعير والارز، وذكر في حوادث جمادى الاولى سنة 1222 هـ (مارس 1817) اشتداد أزمة الاقوات بسبب الاحتكار.

ولم يفت معظم كتاب الافرنج انتقاد هذا النظام فيما كتبوه عنه، فقد قال المسيو مورييه: "ان هذا الاحتكار هو الجانب السئ في تاريخ محمد علي"، وقال المسيو مريو: "لا حاجة بنا الى الاطالة في عيوب نظام الاحتكار كما وضعه محمد علي، لقد ربح الباشا منه ارباحا طائلة، لكنه افضى الى فقر الفلاحين المدقع وكاد يهوي بهم الى المجاعة لولا ما اعتادوه من القناعة وشظف العيش".


احتكار الصناعة

سرى مبدا الاحتكار من الزراعة والتجارة الى الصناعة. فبعد ان صار محمد علي المالك الوحيد لاراضي مصر، ثم التاجر الوحيد لحاصلاتها، صار الصانع الوحيد لصنائعها، والظاهر انه راى الاحتكار مما يزيد ايراد الحكومة لانه فتح بابا جديدا للربح، فعمد الى احتكار الصناعة، لكن هذه الطريقة اضرت بالحالة الاقتصادية في مصر ضررا بليغا.

قال المسيو مانجان في هذا الصدد: "كان في البلاد صناعات يتولاها الافراد، ويربحون منها ما يبيعونه من مصنوعاتهم الى اهل البلاد، وما يصدرونه منها للخارج، كنسيج اقمشة الكتان والقطن والحرير وصناعة الحصر والجلود واستقطار ماء الورد وصبغ النيلة وغير ذلك. وكانت هذه الصناعات تشغل عددا من السكان يربحون منها نحو ثلاثين الف كيس كل سنة (150000 جنيه) ولكن محمد علي احتكر هذه الصناعات واضاف ارباحها الى حسابه وبعد ان كان الصناع يستثمرون هذه الصناعات صاروا يعملون فيها لحساب الحكومة، ويقبضون رواتب معلومة، كعمال مأجورين، وقال ان من النتائج المترتبة على هذا النظام ان كثيرا من صناع النسيج فضلوا ترك صناعاتهم واشتغالهم بالزراعة وآثروها على الاشتغال عمالا لحساب الحكومة والاستهداف لسوء معاملة موظفيها، وان المصنوعات في نظام الاحتكار قد هبطت جودتها عما كانت عليه حين كانت الصناعة حرة ولا غرور فان الصانع الذي لا يعمل لحسابه لا يتقن العمل كما يتقنه لو كان ربحه عائدا اليه، وقال ان احتكار الصناعات قد اضرب الاهالي، لان الاحتكار من طبيعته ان يتلف مصادر الثروة، ويحرم الصانع نتيجة كده وتعبه".

وقد ذكر الجبرتي في حوادث سنة 1231 و1232 هـ (1816 و1817) احتكار الحكومة صناعة الغزل والنسيج وما احدثه من الضيق وارتفاع اسعار المنسوجات وكيف انه شمل "كل ما يصنع بالمكوك وما ينسج على نول او نحوه من جميع الاصناف من ابريسم وحرير وكتان الى الخيش والفل والحصير في سائر الاقليم المصري طولا وعرضا من الاسكندرية ودمياط الى اقصى بلاد الصعيد".

وذكر ايضا في حوادث ذي الحكة سنة 1235 (سبتمبر سنة 1820) احتكار الحكومة للصابون وتجارته والبلح بانواعه والعسل وصناعة الخيش والقصب والتلي الذي ينسج من اسلاك الذهب والفضة للتطريز والمقصبات والمناديل والمحارم خلافها من الملابس.


المصادر

  1. ^ الرافعي, عبد الرحمن (2009). عصر محمد علي. القاهرة، مصر: دار المعارف. {{cite book}}: Cite has empty unknown parameter: |coauthors= (help)
الكلمات الدالة: