فتح السودان 1820

(سنة 1820 – 1822)

السودان جزء لا يتجزأ من مصر، والحدود الجغرافية والقومية لمصر تشمل وادي النيل من منبعه الى مصبه، فمصر والسودان جزءان لا ينفصلان من وحدة سياسية واقتصادية لا تقبل التجزئة، تربطهما روابط الوطن والتاريخ واللغة والدين، وصلات الدم والنسب والمرافق المشتركة.

والسودان معدود منذ القرون الغابرة جزءا من مصر، ولقد أصبت ماسبرو وغيره من المؤرخين ما بين مصر والسودان من الروابط التاريخية القديمة، وثبت من النقوش الهيرغليفية ان الملك تحو تمس الأول توغل حتى الى منطقة البحيرات واحتل بعض النقط الحربية التي كانت على النهر، واذا كان السودان قد فصل عن مصر في بعض الازمنة قديما او حديثا فلم يكن ذلك الا خروجا على القاعدة الازلية وهي انه جزء لا يتجزأ من مصر.

ان ارتباط مصر والسودان ضرورة حيوية لهما، وخاصة لمصر، فانها تستمد حياتها من النيل، فهي هبة النيل كما قال هيردوت، او كما يقول المعاصرون: مصر هي النيل والنيل هو مصر، فلا تطمئن على حياتها اذا تملكت منابع النيل دولة اخرى، ولا يتحقق استقلال مصر التام الا اذا شمل وادي النيل من منبعه الى مصبه، وصارت هي والسودان وحدة سياسية تتألف منها الدولة المصرية المستقلة، ولا تمييز في ذلك لمصر على السودان في هذه الوحدة، فكلاهما جزء لا يتجزأ من هذا الوادي، وكلاهما يكمل الآخر ولا غنى له عنه، فمصر لا تستطيع ان تقف على قدميها منفصلة عن السودان والسودان ايضا لا يستطيع ان يقف على قدميه منفصلا عن مصر، واذا انفصلا يفقد كل منهما كيانه ويصبح كلاهما اقليما تنقصه مشخصات الدولة ومقوماتها.

هذه المبادئ وتلك الحقائق التي برهنت على صحتها عظات التاريخ على تعاقب العصور، ونطقت بها الحوادث السياسية في مدى مائة العام الأخيرة، قد عمل محمد علي باشا على تحقيقها، فلم يكد يوطد مركزه وينال الانتصارات العظيمة، التي فاز بها الجيش المصري في حرب الوهابيين حتى صحت عزيمته على فتح السودان ونشر علم مصر الخفاق في اصقاعه وربوعه.

ان فتح السودان هو ثالث الحروب التي خاضت مصر غمارها في عهد محمد علي لتأليف وحدتها السياسية، ولو لم تلح عليه تركيا في المبادرة الى تجريد الجيوش على شبه جزيرة العرب لكان فتح السودان اول حروبه بعد ان رد الغزوة الانجليزية، لأن محمد علي لم يكن ليغفل عن اهمية السودان الحيوية لمصر، لكن الضرورات السياسية هي التي شغلته ردحا من الزمن من فتحه وجعلته يبدأ بحرب الوهابيين.[1]


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أسباب فتح السودان

يذكر المؤرخون بواعث وأسبابا عدة لفتح السودان، فمنها رغبة محمد علعنوان وصلةي في اكتشاف مناجم الذهب والماس التي تناقل الناس انها موجودة في أصقاع السودان، وخاصة في سنار، ثم امكان تجنيد السودانيين في الجيش المصري النظامي لما اشتهر به الجنود السودانيون من الصبر والشجاعة والطاعة للرؤساء، ثم رغبته في التخلص من الفرق الباقية من عسكر الأرناءود الى مصر وظلوا على ما جبلوا عليه من النزوع الى العصيان والتمرد والاخلال بالنظام، فرأى محمد علي تخلصا منهم ان يجردهم على السودان، وخاصة لأنه شرع وقتئذ في تأسيس الجيش المصري النظامي كما سيجئ بيانه، ومن اغراضه ايضا القضاء على البقية الباقية من المماليك الذين كانوا لاجئين الى اقليم دنقلة، وهم على ما بلغوا اليه من الضعف كانوا مصدر قلق لمحمد علي، فاعتزم القضاء عليهم لكي لا يستردوا قوتهم يوما ما ويزحفوا على مصر، وكان يرمي كذلك الى توسيع ملك مصر من الجنوب، واكتشاف منابع النيل، وايجاد الروابط الاقتصادية بين مصر والسودان، وتوسيع نطاق المعاملات التجارية بينهما، اذ لم يكن يقصد السودان من المشتغلين بالتجارة سوى فئة قليلة من التجار المخاطرين بأنفسهم من سكان الوجه القبلي، وكانت اسفارهم في الغالب عرضة للخطر، وتحولت معظم متاجر السودان الى طريق سواكن ومصوع من ثغور البحر الاحمر وكاد ينقطع ورودها الى مصر، فراى محمد علي ان يبسط نفوذ مصر في السودان لتكون طريقا لمتاجرها، وادرك ان في توسيع نطاق التجارة بين مصر والسودان فائدة لعمران البلدين وتنمية لما تجبيه الحكومة من المكوس على المتاجر فيزداد دخلها، ويعوضها بعض ما فقدته من الاموال والنفقات في الحرب الوهابية.

هذه هي الاسباب والبواعث التي يذكرها جمهور المؤرخين لفتح السودان، وكلها كما ترى اسباب صحيحة ووجيهة، ولكن يلوح لنا ان ضمان سلامة مصر وتاليف وحدتها السياسية والاطمئنان على منابع النيل كانت من اهم البواعث التي حفزت محمد علي الى فتح السودان، فان ما اشتهر به ذلك الرجل العبقري من بعد النظر وصدق العزيمة لابد قد جعله يقدر اهمية السودان لمصر، ويدرك ان الاستقلال لا يتحقق الا اذا تملكت مصر مجرى النيل من منبعه الى مصبه.

قال في هذا الصدد سدني بيل احد نبلاء الانجليز في كتابه: كانت العوامل التي حملت محمد علي ان يفتح السودان كثيرة، ولكنه من المعتقدين في فوائد الري ومنافعه، فيرجح كثيرا ان الاطمئنان على سلامة النيل الاعلى احد اغراضه.

ويقول ابراهيم باشا فوزي في كتابه:

"قضى ساكن الجنان محمد علي باشا محيي الديار المصرية لبانتين من فتح السودان، بل تخلص من ورطتين كبيرتين، فقد علمت من شيخ ذي منصب معاصر لمحمد علي باشا ان دولة اوروبية كبيرة كانت تسعى لمعارضته باحتلال منابع النيل، فاهتم لهذا الخبر اكبر اهتمام واستشار كثيرا من المهندسين الاوروبيين الذين جاء بهم من بلادهم الى القطر، فأقروا بالاجماع أن وقوع منابع النيل تحت براثن هذه الدولة مما لا تحمد مغبته حيث تصير حياة مصر في يدها فصمم على انفاذ الحملة إلى السودان".

وغير خاف ان تلك الدولة التي يشير عليها فوزي باشا في كتابه هي انجلترا، فهي التي كانت تناوئ محمد علي وتدأب للسعي في احتلال مصر وبسط نفوذها عليها، وقد شرعت فعلا في احتلالها سنة 1807 وجردت عليها حملة الجنرال فريزر كما تقدم بيانه في الفصل الثاني وهزمت هذه الحملة في رشيد والحماد، مما اضطرها الى الجلاء عن البلاد، فارادت بعد ذلك ان تسيطر على مصر من الجنوب بعد ان اخفقت من الشمال.

ففتح السودان هو اذن حرب قومية بحتة، والغرض منها من أسمى اغراض الحروب وانبلها قصدا، اذ كانت الغاية منها تأليف وحدة وادي النيل، ولا يخفى ان مساحة السودان تزيد عن ضعف مساحة مصر اذ انه يبلغ مسطح القطر المصري مرتين ونصفا، ومساحته تضاهي ربع مساحة القارة الأوروبية، فبفتح السودان اتسعت رقعة الدولة المصرية فبلغت ثلاثة أميال ما كانت عليه، ووصلت الى معظم حدودها الطبيعية، فلا غرو ان نعد فتح السودان خير حروب مصر في عهد محمد علي.

وليس في فتح السودان اي غضاضة على أهله، فان الحروب كثيرا ما كانت دعامة للوحدة القومية، فقديما حارب انجلترا اسكتلندا (الجزء الشمالي للجزيرة البريطانية) حروبا متواصلة، وما زالت بها حتى اخضعتها وصارت جزءا من المملكة البريطانية بعد ان كانت منفصلة عنها، ولم يقل احد ان انجلترا كانت باغية على اسكتلندا، ولا كانت هذه الحروب سببا لدعاية انفصالية بين الاسكلتنديين بعد انضمامهم الى حظيرة الوطن البريطاني، بل صاروا مواطنين بريطانيين مخلصين على تعاقب السنين لا يفكر واحد مهم في الانفصال عن وطنهم.

وهل أتاك حديث الحرب الاهلية التي نشبت في الولايات المتحدة الأمريكية بين الولايات الشمالية والولايات الجنوبية في القرن التاسع عشر؟ ان سبب هذه الحرب ان ولايات الاتحاد الأمريكي، فحاربتها هذه حربا استمرت اربع سنوات من سنة 1861 الى سنة 1865، ولم تنته الا بعد ان قهرت حكومة الاتحاد جيوش الولايات الجنوبية في معارك هائلة استقرت وحدة الولايات المتحدة وصارت امة واحدة ودولة واحدة، ولم يقل احد من سكان الجنوب ان تجريد الولايات الشمالية جيوشها على الولايات الجنوبية قد اذلها واستثار فيها نزعة الانفصال ، بل بالعكس كانت هذه الحروب تأييدا وتدعيما للوحدة الامريكية، على ما بين الولايات الشمالية والجنوبية من الفوارق في الطبيعة والمناخ والاخلاق والعادات، والآن لا يفكر احد من سكان الجنوب في تسويغ نزعة الانفصال الت يجاشت بها وقتا ما نفوس أسلافهم، ولا يلوم احد منهم حكومة الاتحاد على حرب كان الغرض منها تأييد الوحدة القومية التي هي اساس عظمة الولايات المتحدة.

فيما يثيره بعض دعاة الانفصال من اتخاذ فتح السودان الاول ثم الثاني ذريعة لبث دعايتهم تدحضه الشواهد التاريخية والنواميس الطبيعية، وهم بهذه الدعاية انما يعملون بقصد او بغير قصد على فصم عرى الوحدة بين مصر والسودان، والتمكين للمطامع الاستعمارية من تحقيق اغراضها في وادي النيل، والحقيقة التي تخلص لك من تتبع الحوادث قديمها وحديثها ان لا امن ولا استقلال لسكان الشمال والجنوب من ابناء وادي النيل الا في ظل وحدة هذا الوادي العظيم.

اعتزم محمد علي اذن تجريد الحملة على السودان عقب انتهائه من حرب الوهابيين، وهذا يذلك على قوة ارادته ومضاء عزيمته ودأبه على توسيع ملك مصر، فانه لم يكد ينتهي من تلك الحرب الشاقة وبسط نفوذ مصر على جزيرة العرب حتى بادر الى خوض غمار حرب أخرى اعظم غاية، واكثر منفعة، واعود بالخير والرفاهية على مصر والسودان وعلى الحضارة والانسانية، كانت حرب الوسدان على كثرة ضحاياها اقل مشقة واقصر مدة من حرب الوهابيين، فقد كان الجيش المصري يواجه في جزيرة العرب قوما مدربين على القتال، اشتهروا بشدة الباس وعاشوا للكر والفر، وهم فوق ذلك معتزون بانتصاراتهم على الحملات العثمانية من قبل، أما الجيش الذي تحرك لفتح السودان فلم يلق امامه سوى قوات مشتتة عزلاء لا سلاح معها الا الرماح وما اليها من الأسلحة البائدة، وهي تجهل اساليب القتال وفنونه، ولم يلق الجيش المصري مقاومة تذكر الا في بلاد الشابقية، وهم قبائل يسكنون جنوبي دنقلة، وفي كردفان التي كانت تابعة لسلطنة دارفور، وفي مملكة سنار، والعقبة الكؤود التي اعترضت الجيش المصري في فتح السودان هي الحميات والامراض الوبيئة التي حصدت طوائف الجود، فكانت اشد خطرا على الجيش من القتال وخوض المعارك.


مقدمات الحملة

لجأ بقية المماليك بعد مذبحة القلعة الى جنوبي النوبة فيما يلي شلال أسوان، واتخذوا مديرية دنقلة معقلا لهم، فاوفد محمد علي اليهم بعض حاشيته تدعوهم الى العودة الى مصر والاقامة فيها على شروط اهمها الا يستوطنوا المدن المصرية الا باذن منه وان يحضروا العاصمة يخفرهم بعض ضباطه حتى لا ينهبوا شيئا من القرى والبلاد التي يمرون بها في طريقهم الى القاهرة، وان يتنازلوا عن امتيازاتهم القديمة ولا يطالبون بما اخذ منهم بعد مذبحة القلعة.

كان محمد علي يدرك ان المماليك لا يقبلون بهذه الشروط المهينة المذلة، وبذلك يجد المسوغ لتجريد الحملة للقضاء عليهم، وقد رفضوا فعلا قبولها، واخذوا يتوعدون بالدخول في حدود مصر، فلما جاء جوابهم محمد علي أمر من فوره بحشد جيش في مصر القديمة لفتح النوبة ودنقلة وعقد لواءه لثالث انجاله اسماعيل باشا.

وقبل ان يامر بالزحف ذهب بنفسه الى حدود مصر العليا في سبتمبر سنة 1819 يصحبه حسن باشا قائد الجنود الارناءود ومحمد لاظ اوغلي (كتخدا بك) ووصل الى ما وراء شلال أسوان ليرتاد تلك الجهات ويرتب مواقع جنوده ويرسم خطط الزحف، ثم عاد الى الجيزة في 15 نوفمبر سنة 1819 واخذ يتم معدات الحملة التي اعدها لفتح السودان.

معدات الحملة

تتالف الحملة عند بدء الزحف من 4000 مقاتل كما احصاهم المسيو فردريك كايو العالم الفرنسي الذي صحب الحملة، وقد تلقى هذا الاحصاء من عابدين بك رئيس اركان حرب اسماعيل باشا، من هؤلاء 1200 من الفرسان العثمانيين، و400 من فرسان العرب والمغاربة، و600 من المشاة، و300 من رجال المدفعية، و800 من المشاة العرب والمغاربة، و700 من عرب العبابدة، فيكون مجموعهم 4000 .

ثم تلقى اسماعيل باشا خلال الزحف ممدات من 1400 مقاتل فبلغ الجيش 5400 مجهزين بأربعة وعشرين مدفعا.

وافند محمد علي جيشا اخر بقيادة صهره محمد بك الدفتردار لفتح كردفان بلغ عدده 4000 جندي مجهزين بعشرة مدافع، فيكون مجموع الجيشين اللذين توليا فتح السودان نحو عشرة آلاف مقاتل.

وصحب الحملة ثلاثة من العلماء مهمتهم دعوة الاهلين في البلاد التي يبلغها الجيش الى الدخول في الطاعة والاعتراف بسلطة الحكومة حقنا للدماء، وهؤلاء العلماء هم الشيخ محمد الاسيوطي الحنفي، والسيد احمد البقلي الشافعي، والشيخ السلاوي المغربي.

وصحب الحملة أيضا بعد فتح دنقلة، المسيو فردريك كايو المتقدم ذكره بقصد الاكتشاف والبحث عن مناجم الذهب، وله في رحلته بالسودان كتاب ضخم يعد من اهم مراجع فتح السودان.

احتشد الجيش في مصر القديمة حيث اعد محمد علي باشا ثلاثة آلاف مركب لنقل الجنود والمهمات والذخائر والمؤن بطريق النيل، وامر باعداد نحو ثلاثة آلاف من الابل في اسنا للسير منها برا، وسار في خدمة الحملة الفان من الاتباع.

وقائع الحملة

ركب الجنود المشاة المراكب فاتحدوا في النيل، وسار الفرسان ورجال المدفعية بالبر الغربي، وتقدمت الجيش طليعة مؤلفة من خمسمائة من الفرسان، وتحركت الحملة قاصدة حدود دنقلة.

وتحرك اسماعيل باشا وحاشيته في 20 يوليه سنة 1820 بعد سفر الحملة بيومين فبلغوا اسوان، والتقوا فيها ببقية الجنود الذين سبقوهم اليها، فأقاموا بها ريثما تجتاز المراكب الشلال الأول. ثم تقدموا جنوبا، ففر المماليك الذين كانوا بالدر. ودانت البلاد لاسماعيل باشا.

فتح دنقلة

سارت الحملة من اسوان الى وادي حلفا على ظهور المراكب، اما الفرسان فقطعوا المسافة برا في اثنى عشر يوما، واقامت الحملة في وادي حلفا نحو عشرين يوما حتى اجتازت المراكب الشلال الثاني ثم زحفت على مديري دنقلة فسرت من وادي حلفا الى سكوت، ومن سكوت الى دنقلة، ولم تلق مقاومة تذكر من المماليك، فقد استسلم بعضهم، ورحل البعض الى شندي يريدون الالتجاء الى ملكها، ولكنه لم يقبل ايواءهم، فتشتتوا بين القبائل السودانية وسلبهم السوادنيون اسلحتهم حتى انقطع دابرهم وقضى على البقية الباقية من المماليك.

وسلمت البلاد التي مر بها الجيش كسكوت والمحس وارقو، فقدم اهلها وحكامها الطاعة، وكانوا يظنون ان الجيش المصري راجع الى مصر بعدتشتيت شمل المماليك اذ كان ظنهم انه جاء لمحاربتهم، فلم يعدوا لمقاومته فانتهز هذه الفرصة واحتل بلاد دنقلة كلها.

معركة كورتي

(4 نوفمبر سنة 1820)

ولما دخل الجيش البلاد (الشايقية) جنوبي دنقلة تجمعوا لقتال اسماعيل باشا بالقرب من كورتي الواقعة بالشاطئ الغربي للنيل، ولم يكن معه من الجنود سوى 800 فارس، اما بقية الحملة فقد ابطا قدومها لتاخر المراكب في اجتياز الشلالات، فانقض الشايقية على رهط من رجاله وقتلوا منهم 75 مقاتلا، فاشتبك اسماعيل والشايقية في معركة دامت ثلاث ساعات (4 نوفمبر سنة 1820) انتهت بهزيمة الشايقية حيث فتكت بهم نيران البنادق، فقتل منهم نحو 800 وقتل من جنود اسماعيل باشا نحو الثلاثين، وقد ابدى الشايقية بسالة كبرى في قتالهم، فاعجب بهم اسماعيل باشا، وعرض عليهم بعد انتهاء القتال ان ينتظموا في سلك الجيش المصري، فاستجابوا الى طلبه، وبذلوا ولاءهم للحكم المصري وظلوا محافظين على عهدهم على مدى السنين.

ثم تقدم اسماعيل بعد المعركة وبلغ كورتي عاصمة الشايقية من اعمال مديرية دنقلة فأحرقها ، وانتظر بها ريثما تكامل جيشه ثم استأنف الزحف في 21 فبراير سنة 1821 مجتازا صحراء بيوضه يصحبه الفرسان حتى بلغ النيل تجاه بربر وكانت الرحلة اليها شاقة منهكة للقوى احتمل فيها الجند متاعب مضنية، أما المشاة فقد ساروا حذاء النيل.

من بربر الى ام درمان

فتح الجيش المصري بربر في 10 مارس سنة 1820، وقدم ملكها نصر الدين خضوعه، فاقره اسماعيل على بلده، ثم شندي يوم 8 بعد ان قدم ملكها الملك نمر ولاءه، وتابع الجيش زحفه جنوبا الى ان بلغ حلفاية الواقعة على مقربة من ملتقى النيل الازرق بالنيل الابيض فاحتلها، ثم احتل ام درمان الواقعة على النيل الابيض، واجتاز الجنود النيل فبلغوا مكان مدينة الخرطوم التي كانت قبل الفتح محلة صغيرة لا تحتوي اكثر من عشرة بيوت من الغاب، ثم انشئت بها مدينة الخرطوم التي صارت عاصمة السودان ومبعث الحضارة والعمران في انحائه.

وبعد ان وطد اسماعيل مركزه في الخرطوم ترك بها حامية عسكرية وسار بباقي جيشه لاتمام فتح مملكة سنار.

فتح سنار

ففتح مملكة سنار واحتل ودمدني من اهم مدنها، وقدم ملكها الملك نادي ولاءه، ثم دخل اسماعيل سنار عاصمة المملكة في 12 يونيه سنة 1821 ودانت البلاد للحكم المصري من جنوبي وادي حلفا الى سنار.

فتح كردفان

قلنا ان محمد علي عهد الى صهره محمد بك الدفتردار فتح كردفان، وكانت تلك البلاد تابعة لسلطان دارفور، فبينما كان اسماعيل باشا يزحف على سنار سار جيش الدفتردار الى وجهته بطريق دنقلة وابى قس، وكانت الرحلة الى كردفان شاقة مهلكة للجنود لانهم ساروا سبعة ايام متوالية يقطعون الفيافي في صحراء لا ماء فيها ولا زرع.

والتقى الدفتردار بجيش نائب السلطان محمد الفضل سلطان دارفور فاشتبك الفريقان في واقعة دموية ببلدة باره شمالي الابيض (ابريل سنة 1821) انتهت بانتصار جيش الدفتردار واحتلال الابيض عاصمة كردفان.

كانت معركة باره اشد معركة خاضها الجيش المصري في الفتح الاول، وقد ابدى فيها جيش كردفان شجاعة كبيرة، ولكن مدافع الجيش المصري غلبتهم على امرهم وحاول سلطان دارفور بعد المعركة ان يسترد كردفان واغار عليها لكنه عاد خائبا.

فتك الامراض بالجنود

اعترض الجيش المصري في فتح السودان خصم لدود اشد وطأة من الحرب واهوالها، وهو فتك الامراض وانتشارها، وخاصة امراض المناطق الحارة، ولم يكن يصحب الحملة الا قليل من الاطباء خالين من الكفاءة ففتكت الامراض بالجنود واجتاحت عددا عظيما منهم.

قال المسيو كايو الذي صحب الحملة في سنار ان الجيش الذي سار به اسماعيل باشا لفتح البلاد الواقعة على النيل الازرق مات منه لغاية سبتمبر سنة 1821 ستمائة مقاتل، ثم زاد عددهم الى 1500 في اكتوبر، وبلغ عدد مرضاه 2000 مريض، وكان عدد المرضى يزداد كل يوم، ولما ساءت حالة الجيش من هذه الناحية ارسل اسماعيل الى ابيه يشكو اليه سوء الحال، قال وكانت حالة الجنود من جهة المأكل والملبس وقلة العناية بهم تدعو الى الاشفاق ، فقد كانوا ياكلون نوعا رديئا من الذرة يضر بصحتهم، ثم ان ملابسهم بليت فلم يجدوا ما يقيهم جو تلك الاصقاع ورطوبتها وكثرة امطارها، وكانوا اذا ناموا يفترشون الارض فتصيبهم رطوبتها، ولم يكن بالجيش اطباء ولا ادوية، فكثر عدد المرضى وفشت العدوى واشتدت وطأة الامراض بالجنود في سنار حتى لم يبق لدى اسماعيل بااش من العسكر الصالحين للخدمة سوى خمسمائة. وتبرم الجند بهذه الحالة وظهرت بين الاهلين بوادر الانتقاض وراجت الاشاعات السيئة عن حالة الجيش في سنار وكردفان، فاخذ اسماعيل باشا بمنى الجنود بان مراكب المؤونة والعتاد قادمة عن قريب من جهة شندي.

مجئ ابراهيم باشا ثم عودته

بقى اسماعيل باشا متوقفا عن الزحف قلقا على مصير جيشه الى ان جاءه ابراهيم باشا بطل الحجاز يصحبه بعض الاطباء لمكافحة الامراض ومعه المؤونة والملابس للجنود، فانتعش الجيش لقدومه، ودبت فيه روح الامل والشجاعة، ولا غرو فان قدوم بطل الحجاز وقاهر الوهابيين جدير بان يرد الى الجنود قوتهم المعنوية، وقد وزع المؤونة والملابس على الجنود ودفع لهم رواتبهم المتأخرة وجاء على اثره مدد من الجند.

واخذ ابراهيم باشا يدبر مع اخيه اسماعيل خطة فتح ما بقى من السودان، فاتفقا على اقتسام الزحف كل منهما في ناحية وتوزيع الجيش الى فرقتين، فرقة بقيادة اسماعيل باشا لفتح البلاد الواقعة على النيل الازرق لغاية اقليم فازوغلي والاخرى بقيادة ابراهيم باشا ليخترق جزيرة سنار الى بلاد الدنكا على النيل الابيض ويمد فتوحات مصر الى اعالي النيل.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فتح فازوغلي

وبعد ان تمت معدات الزحف تركا حامية من الجنود في سنار واتخذ كل من الاميرين سبيله في الجهة التي اعتزم فتحها، ولكن ابراهيم باشا مرض بالدوزنتاريا اثناء الفتح، ولم يتجاوز في حملته جبل القربين في وسط الجزيرة، ثم عاد الى سنار ، ومنها الى مصر.

ووصل اسماعيل باشا في زحفه الى بلاد فازوغلي فدانت له يناير سنة 1822 وقدم له ملكها الملك حسن ولاءه وخضوعه.

وقد تكبد الجيش متاعب هائلة في تلك الحملات البعيد’ن ونالت منه الجهود والاوصاب ، وبعث اسماعيل الى ان ابيه يطلب يطلب الاذن له بالعودة الى مصر، ولكنه ارسل يلومه على هذا الطلب وكلفه البقاء في السودان الى ان يتم مهمته، وقد اذعن وبقى زمنا يوكد دعائم السيادة المصرية في تلك الاصفاع، ثم اشفق محمد علي على صحة ابنه فارسل ياذن له بالرجوع الى مصر ولكن هذا الاذن لم ينجه من الردى.

البحث عن مناجم الذهب

وبعد ان فتح اسماعيل باشا بلاد فازوغلي سار الى جبل بني شنقول جنوبي فازوغلي للبحث عن مناجم الذهب يصحبه المسيو كايو، فحفر اماكن عدة، لكنه لم يعثر على ضالته وفي غيبته طارت اشاعات السوء عن جيشه، وارجف المرجفون ان قد احيط به وبرجاله فبدت بوادر التمرد في بعض البلاد، وقتل بعض الضباط في القرى، فاضطر اسماعيل ان يعود الى سنار ليوطد سلطته بها (فبراير سنة 1822).

وفشت الحميات بين الجنود في سنار لكثرة هطول الامطار، فانتقل بجنده الى ودمدني لاعتدال مناخها، وبنى بها قشلاقا كبيرا من الطوب بقيت آثاره الى عصرنا الحاضر.

مقتل اسماعيل باشا

مكث اسماعيل زمنا في سنار يدبر امر الحكومة التي أسسها، ثم ارسل افواجا من الاسرى السودانيين يصحبهم رهط من الجنود الى اسوان لتجنيدهم في الجيش المصري النظامي الذي كان محمد علي جادا في تأسيسه، واستعد هو ايضا للعودة الى مصر مصعدا في النيل.

وعلم في غضون ذلك ان اهالي حلفاية وشندي وما حولهما ثاروا في وجه السلطة المصرية، وكانت مساوئ الجنود وخاصة الارناءود من اسباب هياج الاهلين وثورتهم، فاحتشد الثوار حول حلفاية وشندي وهجموا على قوافل الارقاء السودانيين وانتزعوهم من ايدي الجنود الموكلين بهم، ورجعوا الى شندي فرحين بهذا النصر المبين.

علم اسماعيل باشا بهذا النبأ، فقام من فوره قاصدا شندي ومعه بقية الجيش، وكان الملك نمر ملك شندي هو المدبر لهذه الثورة، فجاء اسماعيل المدينة فجأة في أواخر أكتوبر سنة 1822، وامر باحضار ملك شندي أمامه، فلما مثل بين يديه اخذ يقرعه ويسرف في تأنيبه، ثم تمادي فلطمه على وجهه بالشبك، فلم يجب الملك على هذه الاهانة البالغة، ولكنه اسرها في نفسه وعزم على ان يغسلها بانتقام ذريع.

اما اسماعيل باشا فقد عفا عنه مقابل غرامة مالية جسيمة يوفيها في خمسة أيام والف من الرقيق، واظهر الملك نمر الاذعان وقبل ان يحتمل الغرامة، ثم دعا اسماعيل باشا وبطانته الى وليمة في قصره بشندي، وكان من الفش، فأجابوا الدعوة وذهبوا الى القصر واستووا فيه، ورحب بهم الملك ترحيبا عظيما، وامر اعوانه ان يجمعوا ما استطاعوا من الحطب والقش والتبن حول القصر بحجة العلف لخيل الباشا، ولم يدر بخلد الضيوف ان ثمة مؤامرة رهيبة تدبر لهم، فلما فرغوا من الطعام واكثروا من شرب المريسة اخذوا يتأهبون للعودة الى معسكرهم، فاذا النار قد طارت في اكوام الحطب والقش المحيطة بالقصر، واذا هي قد عمتها واندلعت فيما حولها، فجعلت القصر شعلة من الجحيم، وحصرت النيران اسماعيل باشا وحاشيته فلم يستطيعوا الافلات من هذا الحصار الجهنمي لهول النار المشتغلة ولاحاطة جنود الملك بهم يرمونهم بالنبل والسهام من كل ناحية. فسدت المسالك في وجوههم حتى ماتوا عن آخرهم، ولم يستطع الجند نجدتهم اذ كانوا في معسكرهم بعدين عن مكان المأساة، ولما وقعت الكارثة انقش عليهم رجال الملك نمر ففتكوا بهم، ولم ينج منهم الا من هرب به العمر.

كانت هذه النازلة كارثة كبرى اثرت تأثيرا سيئا في مركز الجيش المصري، وتصدعت لها هيبته، فان مقتل قائد الجيش بهذه الطريقة الجهنمية من شأنه ان يبعث اليأس والرعب في نفوس الجنود.

فلما بلغ الخبر محمد علي باشا حزن حزنا شديدا لقتل ابنه اسماعيل وخاصة بعد ان فقط منذ اعوام معدودة ابنه طوسون، على انه تلقى المصيبة بالجلد واعتزم المضي في سبيله.

وكان محمد بك الدفتردار وقت هذه الكارثة في كردفان، فلماء جاءه نبؤها بادر من فوره بالزحف على شندي للثأر والتنكيل بمن اشتركوا في الواقع’ن وقد خرب شندي ، واسرف في التنكيل والقسوة بما جعله مضرب الامثال في الميل الى القتل وسفك الدماء، وقتل آلافا من النسا ليأثر لصهره، وسبى من الصبيان والنساء آلافا أخرى ارسلهم الى القاهرة، وتعقب الملك نمر لكنه لم يدركه لفراره الى حدود الحبشة.

ماذكره الجبرتي عن فتح السودان

دون الجبرتي في كتابه حوادث مصر لغاية سنة 1821، اي انه ادرك ابتداء فتح السودان، وذكر عنه شذرات متفرقة خلال يومياته، تناول فيها الكلام عن مقدمات الحملة وبعض وقائعها، وانتهى الى ذكر فتح سنار، وقد رأينا تقديرا لهذا المرجع التاريخي القومي الجليل ان نورد هنا ما ذكره في هذا الصدد.

قال في حوادث ذي الحجة سنة 1234 (سبتمبر سنة 1819) ما يأتي:

"وفي منتصف سافر الباشا محمد علي الى الصعيد، وسافر صحبته حسن باشا طاهر ومحمد أغا لاظ (لاظ أوغلي) المنفصل عن الكتخدائية، وحسن أغا ازرجانلي وغيرهم من اعيان الدولة.

وهذه هي الرحلة التي سافر اليها محمد علي باشا قبل فتح السودان ليرتاد حدود مصر ويرسم الخطط للزحف على النوبة ودنقلة.

وقال في حوادث محرم سنة 1235:

"وفي 27 (15 نوفمبر سنة 1819) حضر الباشا من الصعيد بعد أن وصل في سرحته الى الشلال، وكان الناس تقولوا على ذهابه الى قبلي أقاويل، منها انه يريد التجريد على بواقي المصريين المماليك المنقطعين في دنقلة، فانهم استفحل امرهم، واستكثروا من شراء العبيد، وصنعوا البارود والمدافع وغير ذلك، ومنها انه يريد التجريد ايضا واخذ بلاد دارفور والنوبة ويمهد طريق الوصول اليها، ومنها أنهم قالوا انه ظهر بتلك البلاد معدن الذهب والفضة والرصاص والزمرد، وان ذهابه للكشف على ذلك وامتحانه وعمل معدله ومقدار ما يصرف عليها حتى يستخرج صافيه، وبطل كل ما توهموه وخمنوه برجوعه".

فالجبرتي في هذه النبذة يذكر عودة محمد علي من رحلته الى اسوان، ويذكر أقاويل الناس في البواعث لهذه الرحلة، ومنها (أخذ بلاد دارفور والنوبة) أي فتح السودان، والبحث عن مناجم الذهب والمعادن الاخرى، ثم يقوم ان ما توهمه الناس وخمنوه بطل برجوعه، والواقع ان الجبرتي كان واهما فيما يقول، فان محمد علي انما رجع لتجهيز الحملة على السودان، وان ما توهمه الناس كان صحيحا.

ثم قال في حوادث ربيع الثاني سنة 1235 (يناير سنة 1820): "في أوله عزل الباشا محمد بك الدفتردار عن امارة الصعيد وقلد عوضه احمد باشا بن طاهر باشا وسافر في خامسه".

ويلوح لنا ان لهذا النبأ علاقة بفتح السودان، لان محمد علي فصل الدفتردار عن حكم الصعيد لينضم الى الحملة ويعاون اسماعيل باشا في فتح السودان.

وقال عن تعيين اسماعيل بن محمد علي لقيادة الحملة وتجهيز معداتها:

"وفي (جمادى الاولى سنة 1235 – فبراير سنة 1820) قوى عزم الباشا على الاغارة على السودان، فمن قائل ، انه متوجه الى سنار، ومن قائل الى دارفور، وساري العسكر (القائد العام) ابنه اسماعيل باشا وخلافه، ووجه الكثير من اللوازم الى الجهة القبلية، وعمل البقسماط والذخيرة ببلاد قبلي والشرقية، واهتم اهتماما عظيما، وارسل ايضا باحضار مشايخ العربان والقبائل".

نقول واستدعاء المشايخ والقبائل كان الغرض منه تجنيد العربان والحملة، ومن المعلوم انها كانت تضم في صفوفها كثيرا من فرسان العرب المصريين كما ذكرناه آنفا.

وقال في حوادث رجب سنة 1235 (أبريل سنة 1820): "وفي عشرينه سافر محمد أغا لاظ (لاظ أوغلي) وهو المنفصل عن الكتخدائية الى قبلي، بمعنى انه في مقدمة الجردة يتقدمها الى الشلال".

ثم قال في حوادث رمضان 1235 (يونيه سنة 1820): "واستهل شهر رمضان بيوم الاثنني والاهتمام حاصل، وكل قليل يخرج عساكر ومغاربة مسافرين الى بلاد السودان، ومن جملة الطلب ثلاثة من طلبة العلم يذهبون صحبة التجريدة، فوقع الاختيار على محمد افندي الاسيوطي قاضي اسيوط، والسيد احمد البقلي الشافعيين والشيخ احمد السلاوي المغربي المالكي".

وقال عن تشتيت شمل المماليك في دنقلة وتسليم بعضهم:

"وفي هذا الشهر (شوال سنة 1235 – يوليه سنة 1820) حضرت طائفة من بواقي الامراء المصريين (المماليك) من دنقلة الى بر الجيزة، وهم نحو الخمسة والعشرين شخصا وملابسهم قمصان بيض لا غير. فأقاموا في خيمة ينتظرون الاذن وقد تقدم الارسال بطلب الامان عندما بلغهم خروج التجاريد، وحضر ابن علي بك ايوب وطلب امانا لابيه، فاجيبوا الى ذلك وارسل لهم امانا لاجمعهم ما عدا عبد الرحمن بك الذي يقال له المنفوخ، فلا يعطيهم امانا، لما حضرت مراسلة الامان لعلي بك ايوب وتاهب للرحيل حقدوا عليه (أي المماليك) وقتلوه".

وقال ايضا في هذا الصدد: "في أوائل ربيع الأول سنة 1236 (ديسمبر سنة 1820) حضر نحو العشرة أشخاص من الامراء المصرية (المماليك) البواقي في حالة رثة وضعف وضيم واحتياج، وكانوا ارسلوا وطلبوا الأمان فأجيبوا لذلك".

وقال: "وفي أواخر رجب سنة 1236 (أبريل سنة 1821) حضر جماعة من المماليك المصرية الذين كانوا بدنقلة فيهم ثلاثة سناجق احدهم احمد بك الالفي زوج عديلة هانم بنت ابراهيم بك الكبير".

وقال عن سفر اسماعيل باشا قائد الحملة ومحمد بك الدفترادر ثم ابراهيم باشا: "وفيه (ذي القعدة سنة 1235 – أغسطس سنة 1820) سافر اسماعيل باشا الى جهة قبلي، وهو امير العسكر المعين لبلاد النوبة، كل ذلك والباشا الكبير (محمد علي باشا) على حاله بالاسكندرية".

"وفي 17 رجب سنة 1236 (ابريل سنة 1821) ارتحل محمد بك الدفتردار مسافرا الى دارفور ببلاد السودان بعد ان تقدم طوائف كثيرة عساكر اتراك ومغاربة".

وذكر عن سفر ابراهيم باشا في حوادث ذي القعدة سنة 1236 (أغسطس سنة 1821):

"وبعد سفر الباشا الى الاسكندرية سافر ايضا ابراهيم باك الى ناحية قبلي قاصدا بلاد النوبة".

وقال عن وقائع الحملة:

" واستهل شهر ذي الحجة سنة 1236 (30 أغسطس سنة 1821) وفيه خرجت عساكر كثيرة ومعهم رؤساؤهم وفيهم محو بك ومغاربة وآلات الحرب كالمدافع وجبخانات البارود واللغمجية وجميع اللوازم قاصدين بلاد النوبة وما جاورها من بلاد السودان، وفيه سافر محمد كتخدا لاظ (لاظ أوغلي) المنفصل عن الكتخدائية الى اسنا ليلتقي القادمين ويشيع الذاهبين، وفيه وصلت بشائر من جهة قبلي باستيلاء اسماعيل باشا على سنار بغير حرب ودخول اهلها تحت الطاعة، فضربت لتلك الاخبار مدافع من القلعة".

نظام الحكم في السودان

جعل محمدعلي باشا على الوسدان حاكما يسمى (حكمدار السودان) يجمع في يده السلطة العسكرية والمدنية ويرجع في ادارته الى ديوان (وزارة) الداخلية بمصر، ولبعد المسافة بين البلدين وصعوبة المواصلات كان لحكمدار السودان سلطة مطلقة في ادارته، وجعلت مدينة الخرطوم التي انشئت في عهده عاصمة السودان ومقر الحاكم العام، ومع الزمن قسمت البلاد الى مديريات لكل منها مدير يحكمها تحت ادارة حكمدار السودان ويتولى قيادة الجند فيها،


{{{صورة}}}} 172 وقسمت المديريات الى اقسام لكل قسم ناظر، وكانت الادارة تتبع نظام الادارة المصرية، وصار عدد المديريات في أواخر عهد محمد علي سبعا، وهي دنقلة ، وبربر، والخرطوم، وكردفان، وكسله، وسنار، وفازوغلي.

وجعل لكل مدير وكيلا، ومعاونين وكتابا، وبجانبه القاضي والمفتي ومجلس أهلي وضبطية، وأبقى حكام البلاد الأقدمين من الأهلين في مراكزهم كمشايخ النوبة ودنقلة وبربر والحلفاوية والرصيرص وفازوغلي، وملك سنار.

وكان المديريون ومن اليهم من الموظفين تحت رقابة الحكمدار (الحاكم العام) ومما لا نزاع فيه ان كثيرا من اولئك الموظفين كانوا ينزعون الى الظلم والضعف ، مما ادى الى تبرم الاهلين، وقد ظهر عسفهم على الاخص في حمايتهم لتجار الرقيق الذين كانوا ينتزعون الاهلين من قواهم ويبيعونهم في اسواق النخاسة.

الجيش المصري بالسودان

يقول المسيو دارنوا المهندس الفرنسي الذي اقام بالسودان من سنة 1828 الى سنة 1842 ان الجيش المصري المرابط هناك كان يبلغ سنة 1828 م 6800 جندي، منهم 6000 من الجنود النظامية يتالف منهم الايان، و400 من الشايقية من سكان البلاد المعروفة باسمهم و400 من المغاربة.

وقد زاد بعد تلك السنة حتى بلغ 1800 احصاؤهم كما يأتي:

16000 خمس آلايات من الجنود النظامية المصرية 1000 فرسان من الترك 400 مغاربة 400 شايقية من اهل البلاد 200 مدفعية ____________ 18000 المجموع


ويقول الدكترو بيرون ان الجيش المرابط بالسودانة سنة 1843 بلغ خمس آليات، كل آلاي مؤلف من 3000 مقاتل، أي ان عددهم 15000 ، وهو قريب من احصاء المسيو دارنو.

وكانت وحدات الجيش المصري موزعة على العواصم والمدن المهمة مثل الخرطوم والابيض وبارة وودمدني وسنار وكسلا.

وقد دخل في هذا الجيش عدد كبير من السودانيين اخذ يزداد مع الزمن، وأثبتت التجارب كفايتهم وولاءهم وحسن أدائهم للخدمة العسكرية، وصار السودانيون ينتظمون في الجيش المصري كالمصريين، تظلهم راية واحدة هي الراية المصرية، ويدينون بالولاء لدولة واحدة هي الدولة المصرية.

حكمدار السودان في عهد محمد علي

بقى محمد بك الدفتردار بعد مقتل اسماعيل باشا يتولى حكم السودان، الى ان جاءه الامر فرجع الى مصر، وتعاقب بعده الحكمدارون الذين عهد اليهم محمد علي حكم تلك البلاد، واستمر ولاة السودان (الحكمدارون) في عهده وعهد خلفائه يتولون حكمه على اعتبار انه جزء لا يتجزأ من مصر الى ان فصلته عنها السياسة الاستعمارية الانجليزية سنة 1884 بعد شبوب الثورة المهدية.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

عثمان بك

ففي سنة 1823 جعل لأميرالاي عثمان بك حكمدارا للسودان ولم يكن عهده عهد اصلاح وعمران، فانه عسف الاهلين بما فرضه من الضرائب الفادحة، وجرد عليهم الجنود لجبايتها، فأسرفوا في القسوة والقتل والتنكيل مما ادى الى هجرة الكثير من الاهلين ونقص عدد السكان، وما عثمان بك قبل ان تمضي على ولاياته سنتان فكان عهده وعهد الدفتردار من أسوأ أزمنة الحكم في السودان.

محو بك

واقيم في مكانه محو بك، فكان عادلا رحيما، احسن السيرة بين الاهلين، وكف اعتداء الجنود عليهم، وحبب فيه مشايخ البلاد واهلها لما اشتهر عنه من العدل، وبنى بالخرطوم ثكنة لاقامة الجنود، واحتفر في الطريق البعيدة عن النيل آبارا يستقي منها الناس والقوافل تعرف الى عصرنا الحاضر بآبار محو بك.


خورشيد باشا

هو اعظم ولاة السودان شأنا، وأنبههم ذكرا، وأحسنهم سيرة، وأطولهم عهدا، خلف محو بك في ولاية السودان سنة 1826، فسار سيرة عدل واستقامة وعنى باصلاح ما افسده الدفتردار وعثمان بك، فبذل همة في تعمير البلاد وتأمين الاهالي على اموالهم فعادوا واطمأن الأهلون الى حكمه، وعمر مدينة الخرطوم كما سيجئ بيانه، وهو الذي أدخل في السودان صناعة بناء الدور بالطوب بعد أن كان الأهالي يقيمونها بالغاب والجلود، وقد امدهم بالطوب والاخشاب والألواح تيسيرا عليهم وترغيبا لهم في العمران، ونظم الدواوين، ووطد الأمن في البلاد وأنشأ مسجدا في الخرطوم وآخر في سنار، وعنى بالزراعة، وطلب من محمد علي مساعدته في أسبابها، فأرسل اليه طائفة من المزارعين المصريين منهم بعض مشايخ البلاد وبعض الخولة لتمرين الاهالي على الزراعة.

وقد وسع فتوحات مصر فاحتل القلابات شرقي السودان، وكان موقعها هاما من الوجهة الحربية والاقتصادية لوقوعها بالقرب من حدود الحبشة، فجعل بها حامية عسكرية ثابتة، واخضع جبال قلى وغزا قبائل الشلك وقبائل سبدرات.

وقد أثنى عليه محمد علي وأنعم عليه برتبة الباشوية سنة 1835 جزاء ما بذله من الهمة في تنظيم شئون السودان وبقى في منصبه الى سنة 1837 حيث اعتزله وخلفه أحمد باشا أبو ودان.

أحمد باشا أبو ودان

حذا أحمد باشا أبو ودان حذو خورشيد باشا فأحسن السيرة بين الأهالي، وحبب فيه الأمراء ورؤساء القبائل من السودانيين، وأتم عمل خورشيد باشا في تعمير مدينة الخرطوم وتنظيم المديريات، وضم اليها العرب الرحل الضاربين في أوديتها، وبذلك انتظمت اداراتها، وجلب من مصر كثيرا من الحيوانات المستأنسة والنباتات النافعة وبذورها فتحسنت الزراعة وارتقت شئونها ونشطت الصناعة في ترسانة الخرطوم، واستكثر من السفن الأميرية في النيل وزاد من طرق المواصلات، فاتسعت حركة التجارة والمعاملات بين مصر والسودان والبلاد القاصية من أواسط أفريقية، وصارت الخرطوم متلقى المتاجر، وكثر ورود التبر وريش النعام والعاج والصمغ اليها، وفي عهده فتح اقليم التاكا (كسلا) الواقع بين نهر عطبرة والبحر الاحمر سنة 1840، وأسست مدينة كسلا وجعلت عاصمة له، وتوفى ودفن بالخرطوم.

أحمد باشا المنكلي ثم خالد باشا

واقيم في مكانه احمد باشا المنكلي فاخمد الثورة التي نشبت في بلاد التاكا والتي أثارها سوء ادارة الموظفين، وبقى حكمدارا للسودان الى ان عاد الى مصر سنة 1845 وخلفه خالد باشا وهو اخر من عين حكمدارا للسودان في عصر محمد علي.

رحلة محمد علي في السودان

(15 أكتوبر سنة 1838 – 15 مارس 1839)

اعتزم محمد علي ان يرود بنفسه اصقاع السودان ليتعهد شئون الادارة المصرية فيها، وليبحث عن مناجم الذهب، فسار اليها في اكتوبر سنة 1838 عن طريق دنقلة. ثم قصد الخرطوم مارا بطريق صحراء بيضوة، فبلغها يوم 23 نوفمبر واقام بها 22 يوما قابل فيها الاعيان وتفقد احوال البلاد وشئون الادارة، ثم زار سنار وقصد الى جبال فازوغلي للبحث عن معدن الذهب، ولكن البحث لم يفض الى نتيجة يرضاها، فقفل الى الخرطوم واقام بها ايام قليلة ثم عاد الى مصر عن طريق صحراء النوبة من أبو أحمد الى وادي حلفا مارس سنة 1839 وقضى في رحلته خمسة أشهر.

وكان يصحبه في رحلته هذه طائفة من المهندسين والباحثين منهم المسيو ليففر والمسيو دارنو والمسيو لامبير وقد قضى الاول نحبه اثناء الرحلة بحمى اصابته، وظل الآخران يبحثان وينقبان.

ولمناسبة زيارة محمد علي للوسدان امر بالغاء تجارة الرقيق لما رآه من فظاعة النخاسين (تجار الرقيق) وما يرتكبونه من القسوة في جلب الارقاء وترحيلهم الى مختلف الامصار، وانفذ ارسلا يعلنون هذا الامر في جميع البلاد، ولكن رغم هذه الاوامر بقى الاتجار بالرقيق ذائعا الى ان ابطله الخديوي اسماعيل.

عمران السودان في ظل الحكم المصري

يطيب لبعض الكتاب السياسيين دعاة الاستعمار الانجليزي ان يرموا الحكم المصري في السودان بكل نقيصة، وينسبوا الحضارة التي دخلت ربوعه الى الادارة الانجليزية، وهي دعوة باطلة تقوم على اساس الارجاف وتشويه الحقائق.

وفي الحق ان الفضل في حضارة السودان منذ الفتح الاول، ثم الفتح الثاني يرجع الى الحكم المصري، والى الدماء المصرية، والسواعد المصرية والجهود والأموال المصرية.

فلنبين في هذه الحالة ما أفاده السودان من الحكم المصري في عهد الفتح الاول، اي عهد محمد علي حيث يقتصر موضوع الفصل السادس.

ضحى المصريون بأرواحهم ودمائهم في سبيل فتح السودان اقرار سلطة الامن في ربوعه، فقد بلغ عدد من فقدهم الجيش المصري في الفتح الاول سواء ممن قتلوا في المعارك أو الرحلات البعيدة الشاقة أو من اجتاحتهم الامراض نحو ثلاثة آلاف رجل.

لقد حقق الفتح المصري الوحدة القومية لمصر والسودان، ثم انه نشر لواء الحضارة والعمران في اصقاعه، فقد أسس في البلاد حكومة منتظمة كان لها الفضل الكبير في بسط رواق الامن واقامة قواعد العمران في السودان، ولم ينظر المصري الى السودان كمستعمرة للاستغلال، بل نظر اليه كجزء لا يتجزأ من مصر، فغنى بعمرانة كما يعني بعمران الغربية او الدقهلية وسائر مديريات القطر المصري.

تأسيس المدن

كانت تأسيس المدن من اول ما عنى به الحكم المصري في السودان، فأنشأ مدنا زاهرة صارت مبعث الحضارة والتقدم في انحائه.

الخرطوم

يقول المسيو ديهبران في كتابه: ان المصريين حينما فتحوا السودان لم يختاروا بلدة من بلاده القائمة مثل بربر أو سنار أو الأبيض عاصمة لأملاكهم، بل أنشأوا عاصمة جديدة وهي الخرطوم، ولم يكن في مكانها قبل الفتح المصري سوى محلة صغيرة للصيادين ، ففي سنة 1822 أسس بها معسكر ثابت للجنود، وفي سنة 1839 اتخذها خورشيد باشا حكمدار المصريون هذا الموقع لاهميته حيث يلتقي النيل الازرق بالنيل الابيض وسميت الخرطوم لان ملتقى النيلين شبه راس خرطوم الفيل. قال وقد اقيمت فيها المباني والعمائر منذ انشائها، واهمها سراي الحكومة وكانت مبنية بالطوب الاحمر، ومؤلفة من دورين، وكان منظرها فخما، وسراي مديري الخرطوم مقر مدير المديرية والموظفين ، ومسجدان أحدهما كبير بناه خورشيد باشا، والآخر صغير أقيم من بعده، ودار لاحدى البعثات الدينية المسيحية أنشئت سنة 1848 أي في أواخر عهد محمد علي وأنشئت بها أيضا ثكنة كبيرة للجنود شرقي المدينة، ومستشفى ، ومعمل للبارود تصنع في ذخائر الجيش، ومخازن للمؤن والمهمات، ثم ترسانة كبيرة كانت تشمل مسبكا للحديد ومعملا للنجارة، وفيها بنيت السفن النيلية التي اخذت تنقل الجنود والمتاجر على النيل، ويتخلل تلك العمائر الكبيرة بيوت للسكن، وقد أكسب المدينة موقعها على النيل روعة وجمالا، وزادتها الحدائق التي أنشأها المصريون حواليها رونقا ونضرة، وكانت هذه الحدائق تشغل مساحات واسعة من الاراضي كما أنها موضع عناية القائمين بها، ولها منظر بديع، وكان معظمها يحاذي النيل الازرق ولا يفصلها عنه الا رصيف ضيق، وفيها كل ما تنبت الارض من الخضر والتين والبرتقال والليمون والموز والنخيل والدوم، ويتألف من مجموعها منظر بهيج يدخل السرور في نفوس القادمين.

وبعد أن أسست المدينة صارت ملتقى المتاجر القادمة من انحاء السودان وباطن أفريقية أو الواردة اليها من مصر والخارج، فازدهر العمران فيها. وصارت محطة من أعظم المدن التجارية في أفريقية، كما أنها صارت مركزا للرحلات والاكتشافات الجغرافية والعلمية، ومرسى للسفن النيلية التي تنتقل في انحاء النيل الازرق والنيل الابيض.

وتزايد مع الزمن عدد سكانها ، فقد جاءها الناس من مختلف انحاء السودان كسنار وبربر ودنقلة وشندي وغيرها، وقدموا اليها للمتاجرة، واقام فيها الموظفون ورجال الجهادية، فبلغ عدد سكانها في عصر محمد علاى ثلاثين ألف نسمة كما قدرهم المسيو مانجان في كتابه واستمر عددهم يطرد في عهد خلفائه، فبلغوا اربعين ألفا سنة 1854، وخمسين ألفا سنة 1856، وقدرهم الكولونيل ستوارت من 50 إلى 55 ألفا سنة 1883، ثم جاءت الفتنة المهدية فدكت معالم العمران فيها وفي انحاء السودان.

مدينة كسلا

وأنشئت مدينة كسلا أيضا التي صارت عاصمة اقليم التاكا من اهم اقاليم السودان بل عاصمة السودان الشرقي، ذكر ابراهيم باشا فوزي في كتابه ان احمد باشا أبو ودان حكمدار السودان أسس مدينة كسلا وحصنها، وقال في موضع آخر أن كسله اسم مدينة هي عاصمة اقليم التاكا الذي بين محافظتي مصوع وسواكن وحدود الحبشة، وأغلب سكانها مصريون مثل سائر مدن السودان، وكانت محصنة بسور منيع من الحجارة، وفيه أبراج، ومعدات الدفاع متوفرة فيها منذ دخلت في املاك الخديوية المصرية على عهد ساكن الجنان محمد علي باشا.

ويقول المسيو ديهيران ان مدينة كسلا انشئت على عهد احمد بااش ابو ودان ،وذلك انه اثناء فتح التاكا اتحد معسكره على نهر الجاش بسفح جبل كسلا، ولما غادرها ترك فيها حامية ثابتة من الجنود، فاقبل عليها الاهالي المجاورون واتخذوها موطنا لهم، وبذلك تأسست كسلا التي صارت من اهم مدن السودان.

فامكه

وكذلك انشئت مدينة فامكه على النيل الازرق سنة 1840 في اقليم سنار على بعد 25 ميلا من الرصيرص جنوبا، وجعلت عاصمة مديرية فازوغلي، وقد بنى محمد علي باشا على نحو خمسة أميال منها جنوبا قصرا ومعملا لاستخراج الذهب بقيت آثارهما الى عصرنا الحاضر.

توطيد دعائم الأمن

مهما اختلف الكتاب الافرنج في تقديرهم للحكم المصري في السودان على عهد محمد علي فانهم مجمعون على امتداحه والاعتراف له بالفضل في بسط رواق الامن في اصقاعه النائية، كانت الرحلة اليه قبل الفتح المصري محفوفة بالاخطار اذ كانت الطرق مقطوعة، والامن فيها مضطرب، وسلطة الرؤساء ضعيفة، وكانت قوافل التجار والحجاج تستهدف في كل وقت للسلب والنهب، ولكن الحكم المصري قد قضى على الفوضى الضاربة أطنابها في البلاد وبسط رواق الأمن عليها.

قال المسيو ديهيران في هذا الصدد: ان ما قام به محمد علي من بسط رواق الامن في مصر هو من اجل اعماله كما يرى المستر بورنج في تقريره عن مصر، وهذا الرأي يجب تعميمه ليشمل كل بلد حكمها محمد علي، فحيثما بسط نفوذه وحكمه نهض بالأمن ووطد دعائمه وصانه بعين رعايته، وعلى العكس اذا تقلص نفوذه عادت البلاد الى الفوضى واختل الأمن فيها، خذ لذلك مثلا أنه لما انسحب قواته من الحجاز سنة 1841 واستردها سلطان تركيا شعر التجار بأنهم لم يعودوا آمنين على متاجرهم هناك، وكذلك لما جلا ابراهيم باشا عن سورية اضطرب فيها حبل الأمن وعادت الفتنة بين المسلمين والمسيحين، أما البلاد التي يسود فيها حكم محمد علي فان الانسان يأمن على نفسه ان يذهب الى اي ناحية بها، ويقول الكونت بنديتي قنصل فرنسا في مصر ان الأهالي والأجانب على السواء يستطيعون ان يذهبوا ان شاءوا في البلاد التي يحكمها محمد علي سواء اكان ذلك في وادي النيل الى أقاصي حدود السودان، أم في سورية وجزيرة العرب، فان صرامة العدل الذي أقام ميزانه في كل ناحية لا تقبل هوادة ولا ضعفا، فالسودان قد ساده الأمن كما ساده غيره من البلاد التي حكمها. ففي كردفان مثلا حيث لم يكن اي تاجر يأمن على نفسه أن يسير منفردا استطاع الرحالة بالم ان يجتاز البلاد من غير ان يصحبه الا خادم واحد، ولم يقع عليه أي اعتداء أو أذى، كذلك ساح فيه الرحالة كوتشي مطمئنا سنة 1839، وساح الأمير الألماني بكلر موسكو في السودان الى الخرطوم دون أن يناله سوء، وجاءت عائلة الميو ملي الى الخرطوم سنة 1859 للنزهة كما لو ساحت في ربوع إيطاليا.

وقد كان من نتائج بسط الأمن في السودان وتأمين طرقه نشاط المعاملات التجارية في أنحائه وبينه وبين مصر وباطن أفريقية.

ومن نتائجه تنظيم البريد، وقد جعلت الخرطوم مركزا له، وكان ينقل في السفن ثم يحمل على الهجن فيرسل إلى مصر وجميع مديريات السودان، وله في الطريق محطات تستريح فيها الهجن وتبدل، وكانت الرسائل تصل من مصر إلى الخرطوم مرتين في الشهر وتقطع المسافة في خمسة وعشرين أو ثمانية وعشرين يوما، وكان البريد يروح ويغدو ويجتاز تلك المراحل الشاسعة دون أن تنقطع عليه الرحلة، قال المسيو جومار في هذا الصدد: "من ذا الذي كان يظن قبل أربعين عاما قبل خمسة عشرة عاما فقد أن تصلنا الرسائل من ضفاف النيل الأبيض الى ضفاف السين (النهر الذي يمر بباريس) في اثنين وثلاثين يوما، وتصلنا من قزنفور (جنوبي فازوغلي) عند الدرجة العاشرة من خط الاستواء في خمسين يوما؟".

الزراعات وأعمال العمران الأخرى

وادخل المصريون في السودان الزراعات المصرية كالقمح والخضر، وغرسوا فيها أشجار الفاكهة المختلفة أنواعها كالبرتقال والليمون والرمان والعنب، ونسقوا الحدائق الغناء.


{{{خريطة}}}} 183

قال الكولونيل ستوارت في هذا الصدد: "ان المصري يميل بطبعة ميلا شديدا الى الزراعة، ففي السودان، وفي أي مكان يعسكر الجنود المصريون، لا يمضي على اقامتهم ستة أشهر حتى يكون من المحقق أن ينبت فيه الزرع والخضر".

ومن أعمال العمران التي تمت في عهد محمد علي بناء ديوان للمديرية في مدينة سنار وثكنة للجنود وجامع بها، وما قام به خورشيد من أعمال الاصلاح التي تقدم الكلام عنها.

وقد أمر محمد علي باحتفار الآبار في الطريق بين كروسكو وأبو حمد، وهو طريق شاق يخترق صحراء النوبة ويجتازه المسافر في تسعة أيام، فأمر باصلاحه وحفر الآبار فيه تسهيلا للمواصلات بين مصر والسودان.

عنوان وصلةعنوان وصلة===الحملات والبعثات الجغرافية=== ان للفتح المصري فضلا كبيرا على العلم والعمران بما شجع العلماء ورواد الكشف والاستطلاع على الرحلات العلمية لاكتشاف اصقاع السودان النائية، وخاصة منابع النيل، وقد كان لمحمد علي عناية كبيرة بتعضيد الاكتشاف وتشجيع الباحثين والعلماء على الرحلة اليها، وشملهم برعاية الحكومة وعهد الى جنده حمايتهم في رحلاتهم، ولولا تلك المساعدات لما استطاعوا ان يسيروا خطوة في تلك الجهات، وقد صارت مدينة الخرطومة مركزا للرحلات الجغرافية التي سارت منها لاكتشاف منابع النيل وأواسط أفريقية، ولعلك تلحظ دلائل عناية محمد علي بأعمال الكشف والتنقيب مما رأيته من اصطحاب ابنه اسماعيل باشا بعض المهندسين مثل المسيو فردريك كايو أثناء فتح السودان كما تقدم بيانه، ومن أن محمد علي ذاته قد رحل الى السودان يجوب أنحاءه ويتفقه معادنه، وقد اصطحب في رحلته بعض المهندسين والباحثين، ثم انه لما عاد من رحلته تولى بنفسه تنظيم البعثات والحملات الجغرافية البعيدة المدى للكشف التي تمت في عهده وبإرادته، وهذه الاكتشافات ذاتها قد مهدت السبيل للرحلات التي جاءت من بعده الى أن تم اكتشاف منابع النيل بأكملها، ولئن كان تمام اكتشافها في سنة 1858 و1869 و1862 حينما انتهى الرحالتان اسبيك وجرانت الى بحيرة فيكتوريا نيانزا وشلالات ريبون، فلا نزاع ان الرحلات والتجاريد في عهد محمد علي قد عبدت الطريق للمكتشفين وأنارت لهم السبل وفتحت بلادا ومناطق لم يكن في مقدورهم ان يجوبها لو لم يبسط الحكم المصري رواق الأمن في أنحائها، فالفتح المصري فضلا عن نتائجه القومية قد ساعد العلم والحضارة مساعدة كبرى من تلك الناحية، وقد كان العامل الأول في الرحلات التي تمت في عهد محمد علي اتجاه فكره وفكر أبنائه الى اكتشاف منابعه التي كانت الى ذلك العهد مجهولة لعلماء الجغرافية.

قال المسيو ديهبران في هذا الصدد: ان محمد علي بانفاذه الرحلات والبعثات لاكتشاف منابع النيل قد حقق الأمل الذي كان يطمح اليه علماء الجغرافية وكافة رجال العلم في عصر.

وقال عن ابراهيم باشا انه كان شديد التطلع الى تحقيق هذه الغاية، وقد أفضى برنامج الى المسيو كايو حينما قابله يوم 24 أكتوبر سنة 1821 فقال له: "اننا سنكشف النيل الأبيض في حملة من مراكب مسلحة وعدد كبير من القوارب الخفيفة التي تستطيع ان تمضي في النهر بسهولة دون ان تعترضها الشلالات وستكون وجهة هذه العمارة النيلية ان تنحدر في النهر، وروافده حتى تصل الى منابعه".

وكان اسماعيل باشا ابن محمد علي يطمح أيضا الى ما كان يفكر فيه اخوه ابراهيم، فقد قال للمسيو كايو حينما، استأذنه في العودة الى مصر (8 فبراير سنة 1822) : "اذا ذهبت الى فرنسا فانشر ما وصلت اليه من المعلومات، ثم عد الى مصر فانك ستجد أبي لا يقنع بالاكتشافات الضئيلة التي وصلنا اليها، بل سنبذل جهدا أخرى، وسأصحبك بنفسي الى منابع النيل الابيض".

وقد شجع محمد علي الرحلات الجغرافية في حوض النيل من يوم أن بسط نفوذه في السودان، فساح فيه الرحالتان هاي وهوشت ووصلا سنة 1824 الى ما يلي رأس الخرطوم جنوبا، وفي سن 1827 اندر المسيو لينان دي بلفون (لبنان باشا) في النيل الى ما يلي الخرطوم، وفيما بين سنة 1828 و1831 ساح فيه ابراهيم كاشف ونزل النيل الأبيض ووصل الى بلاد الشلوك والدنكا قريبا من بحر الغزال.

حملات البكباشي سليم بك قبطان

ولما ساح محمد علي في السودان كان معتزما ان ينفذ الحملات والتجاريد لاكتشاف منابع النيل الأبيض، فعهد بهذه المهمة الى البكباشي المصري سليم بك قبطان أحد ضباط البحرية المصرية، وجعل تحت تصرفه قوة من الجنود وعمارة نيلية من المراكب.

فاضطلع البكباشي سليم قبطان بهذه المهمة، وقام بثلاث حملات متعاقبة كانت موضع اعجاب علماء الجغرافية ورواد الاكتشاف.

الحملة الأولى

تحركت الحملة الأولى من الخرطوم يوم 16 نوفمبر سنة 1839 برئاسة سليم بك قبطان يصحبه سليمان كاشف احد ضباط الجيش المصري ورجل فرنسي اسمه المسيو تيبو كان يتمسى باسم ابراهيم أفندي، وتتألف قوة الحملة من 400 جندي اختيروا من جنود الآلاي والآلاي الثامن المرابطين وقتئذ في سنار، وكانت العمارة التي أقلت الحملة مؤلفة كما يقول سليم بك من ثماني ذهبيات مسلحة كل واحدة بها مدفعان، ومركبين آخرين و15 قاربا، وبها من الذهائر والمؤونة ما يكفي الحملة لمدة ثمانية أشهر، وقد وصلت الحملة الى بلدة العبي جنوبي الخرطوم.

ثم حالت الموانع في النهر دون تقدم العمارة، فعادت الى الخرطوم ، وفي عودتها عرجت بنهر السوباط احد روافد النيل لاكتشافه وانحدرت فيه (16 فبراير – 6 مارس سنة 1849) الى أن حالت قلة المياه دون تقدمها، فرجعت الى الخرطوم وبلغتها يوم 30 مارس سنة 1840 بعد أن دامت رحلتها 135 يوما.

وقد وضع البكباشي سليم قبطان رسالة ضمنها تفاصيل هذه الحملة، والحق بها جدولا بالارصاد الجوية التي قيدها، فكانت هذه الرسالة اول مرجع رجع اليه العلماء في اكتشاف باطن افريقية، وقدمت هذه الرسالة الى الجمعية الجغرافية الفرنسية بباريس بواسطة المسيو جومار رئيس البعثة المصرية بفرنسا، ونشرت في مجلة الجمعية الجغرافية (أعداد يوليه وأغسطس وسبتمبر سنة 1842) ، فحازت اعجاب علماء الجغرافية بفرنسا، ومهد لها المسيو جومار بمقدمة اثنى فيها على همة سليم بك قبطان وقال فيها:

"أن هذه الحملة المؤلفة من 400 رجل بقيادة ضابط مصري وغايتها الاكتشافات الجغرافية هي اول حملة من نوعها، والتقرير المدون به يوميات الحملة محرر بالاوضاع التي يحررها الرحالة الأوروبيون، ولا جرم ان هذه الحملة هي احدى ثمرات الحضارة التي دخلت مصر منذ ربع قرن".

الحملة الثانية

تحركت الحملة الثانية من الخرطوم يوم 23 نوفمبر سنة 1849 بقيادة سليم قبطان يصحبه ايضا سليمان كاشف قائد القوة البرية، وصحبه من الاوروبيون المهندسان الفرنسيان دارنو وساباتيه والرحالة الالماني فرن والمسيو تيبو المتقدم ذكره.

وقد سارت الحملة في النيل الابيض، وتخطت الجهة التي بلغتها الحملة الأولى، ثم مضت في سبيلها حتى بلغة يوم 25 يناير سنة 1841 جزيرة جونكر الواقعة على الخط الخامس من خطوط العرض، فتكون الحملة قد اجتازت نهاية الحملة الأولى بمراحل شاسعة. والمعلوم أن جزيرة جونكر تقع تجاه غندكرو التي تبعد عن الخرطوم نحو 1080 ميلا جنوبا، فهي قريبة من البحيرات التي ينبع منها النيل، وقد صارت غندكرو وقتا ما عاصمة مديرية خط الاستواء في عهد الخديوي اسماعيل.

ولم يبق بين الحملة وبلوغ منابع النيل الى مرحلة وجيزة بالنسبة لما قطعته من المراحل، ولكنها لم تستطع متابعة سيرها لهبوط مياه النيل جنوبي هذه الجهة، ولوجود الجنادل والشلالات التي تحول دون تقدم السفن في ذلك الجزء من النيل، ولا تزال هذه العقبات تعطل المواصلات النيلية في هذه الجهة الى عصرنا الحاضر، فاستقر الراي على العودة الى الخرطوم، وفي عودتها عرجت ايضا بنهر السوباط، فسارت فيه الى ان تعذر المسير فرجعت وتابعت سيرها الى الخرطوم فبلغتها في 18 أبريل سنة 1841.

وللمسيو دارنو رسالة عن هذه الرحلة نشرت في مجلة الجمعية الجغرافية الفرنسية (عدد نوفمبر سنة 1841) ثم طبعت على حدة.

الحملة الثالثة

تحركت الحملة الثالثة من الخرطوم يوم 27 سبتمبر سنة 1841 بقيادة سليم قبطان ذاته وكان سيرها بطيئا لمعاكسة الريح، وأصيب بعض البحارة والجنود بالأمراض ومات بعضهم في الطريق، على أنها تابعت سيرها، ولكنها لم تتجاوز النقطة التي بلغتها الحملة السابقة وعادت الى الخرطوم يوم 6 مارس سنة 1842.

وكان محمد علي ماضيا في انفاذ فكرته معتزما ان يستأنف حملات الاستكشاف حتى يصل الى منابع النيل، ويبسط نفوذ مصر في تلك الأصقاع، ولكن المرض الذي انتابه في أواخر عهده بالحكم حال دون اتمام قصده، على أن هذه الحملات الثلاث قد أدرت نتائج عظيمة، ولو أن البكباشي سليم قبطان قام بهذه الجهود في بلد اوروبي ووصل الى هذه النتائج لقدرت له امته بطولته وخدماته حق قدرها، ولشادت بذكره، وعاونته، وكافأته، وشجعته بمختلف وسائل التعضيد، وبذلك تشحذ الأمم عزائم أبنائها، ويكثر فيهم العلماء والمكتشفون والنوابغ في كل علم وفن، أما في مصر فقلما تحفل بهم الأمم والحكومة، فلا جرم أن تضمحل العزائم ويتعثر التقدم القومي في سيره.

اكتشفت هذه الرحلات بلادا ومناطق كانت الى ذلك الحين مجهولة، ولم يطرقها من قبل سائح او مكتشف، ودرست جغرافيتها ، وعرفت احوال سكانها ونباتها واشجارها ومناخها وحيوانها، فأفادت الحضارة والعلم فوائد جمة، ثم انها بسطت في طريقها نفوذ مصر، فخفقت الراية المصرية لاول مرة في تلك الاصقاع النائية، تحمل في طياتها رمز الحضارة والتقدم، فلا غرو أن كان لهذه الحملات فضل كبير من الوجهة القومية، ولقد مهدت السبيل للحملات التي نظمها الخديوي اسماعيل، فأكمل العمل الذي قام به محمد علي، ووصل بحدود مصر الى منابع النيل.

حدود السودان المصري في عهد محمد علي

ان حدود مصر الجنوبية قبل الفتح الاول للسودان كانت تنتهي الى جزيرة ساي جنوبي وادي حلفا، فرقعة مصر كانت اذن اوسع مما تقره الحدود الحالية، تلك الحدود الباطلة التي تجعل حدها الجنوبي شمالي وادي حلفا (أنظر الخريطة ص 171).

وبفتح السودان في عهد محمد علي انضمت الاقاليم السودانية الى حظيرة الوطن، ووصلت حدود السودان المصري شرقا الى البحر الاحمر، فقد فتحت الجنود المصرية سنة 1849 اقليم التاكا (كسلا) الواقع بين نهر عطبرة والبحر الاحمر اي السودان الشرقي، وجعلت مدينة كسلا عاصمة له كما تقدم بيان ذلك، وكان لفتح هذا الاقليم اهمية كبيرة لخصوبة أرضه وكثرة مراعيه ولكونه صلة الاتصال بين السودان وثغري سواكن ومصوع.

وفتحت الجنود المصرية أيضا القضارف بالقرب من حدود الحبشة والقلابات الواقعة على شاطئ نهر عطبرة بالقسم الجنوبي من اقليم التاكا فوصلت الى حدود الحبشة شرقا.

وكذلك دخلت سواكن ومصوع في حدود السودان المصري، فقد استأجرهما محمد علي باشا من سلطان تركيا، اذ كانتا من قبل من املاك السلطنة العثمانية القديمة، فلما رأى محمد علي ضرورتهما للسودان لأنهما منفذاه على البحر الأحمر وخاصة لاقليم التاكا استأجرهما من السلطان ايجارا دائما مقابل مبلغ سنوي قدره 5000 كيس أي 25000 جنيه، وبذلك دخلنا تحت ظل الحكم المصري منذ عهد محمد علي.

أما من جهة الجنوب فقد بلغت الحملات والتجاريد التي أنفذها محمد علي في النيل الأبيض الى جزيرة جونكر تجاه غوندكرو كما أسلفنا، فالى تلك النقطة ينتهي الفتح الأول للسودان، ولم يتعدها لعدم تخطي الاكتشافات الجغرافية هذه الجهة، فالفتح الأول قد قد جعل من النيل نهرا مصريا الى آخر نقطة وص إليها الاكتشاف الجغرافي في ذلك العصر.

أما ما يلي كونكر جنوبا وهو الاقليم المعروف بمديرية خط الاستواء واوغنده ويشمل منطقة البحيرات فقد فتحته مصر في عهد الخديوي اسماعيل.

ومن جهة الغرب قد شمل الحكم المصري كردفان، أما سلطنة دارفور فلم تفتح الا في عهد اسماعيل باشا، ولكنها دخلت رسميا في املاك مصر على عهد محمد علي وذلك بمقتضى فرمان 13 فبراير سنة 1841 الذي أسند اليه ولاية أقاليم السودان وهي كما وردت في الفرمان المذكور: "النوبة، ودارفور، وكردفان، وسنار وجميع توابعها وملحقاتها".

ولم تكن دارفور قد فتحت بعد ، فاصرار محمد علي باشا على دخولها في الفرمان دليل على انه يعدها من املاك مصر الطبيعية، وغير خاف ان هذا الفرمان قد صدر بتصديق الدول، فامتلاك مصر للسودان قد حاز الصفة الرسمية والدولية فضلا عن الحق الطبيعي والصبغة القومية.

ولو كان محمد علي ضاعف عنايته باكمال فتح السودان الى منابع النيل، وبذلك في تثبيت ملكه ونشر لواء الحضارة والعمران فيه ما بذله في حروب سورية والأناضول، لوطد دعائم الوحدة القومية بالوصول الى منابع النيل، فان الحدود الطبيعية لمصر والسودان هي وادي النيل وملحقاته من البحر الابيض شمالا ، الى البحر الاحمر شرقا، وصحراءليبيا غربا، والى منابع النيل والأقيانوس الهندي جنوبا.


{{{{خريطة}}} 188

المصادر

  1. ^ الرافعي, عبد الرحمن (2009). عصر محمد علي. القاهرة، مصر: دار المعارف. {{cite book}}: Cite has empty unknown parameter: |coauthors= (help)