سقوط الدولة العثمانية
جزء من سلسلة عن |
تاريخ الدولة العثمانية |
---|
البزوغ (1299–1453) |
ما بين السلاطين (1402–1413) |
النمو (1453–1606) |
الركود (1606–1699) |
سلطنة الحريم |
فترة كوپريلي (1656–1703) |
الاضمحلال (1699–1792) |
فترة التيوليپ (1718–1730) |
الانحلال (1792–1923) |
فترة التنظيمات (1839–1876) |
فترة المشروطية الأولى |
فترة المشروطية الثانية |
التقسيم |
بوابة الدولة العثمانية |
يرى بعض الباحثين أن قوة الدولة العثمانية بدأت في التراجع عام 1683، ومع عدم الاستحواذ على ثروات جديدة فقد بدأت الدولة العثمانية في الانحدار السريع.[1] إلا أن العلماء العثمانيين قد اعتمدوا في أبحاثهم على الأرشيفات التي تظهر سرد التراجع على أنه هشاً- يصف تأريخها امبراطورية نابضة بالحياة تنمو اقتصادياً في ظل قيادة سياسية متطورة وصلت إلى نهايتها قبل الأوان بعد الحرب العالمية الأولى.[2]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المفاهيم
عوامل الثورة
إن معظم الأوضاع التي كانت مثار اعتراض مسيحي البلقان كانت قائمة منذ سيطر العثمانيون على المنطقة وخاصة بعد أن أخذت الدولة في التدهور. ورغم اندلاع عدة تمردات في الماضي بشكل غير منتظم ومتفرق هنا وهناك, إلا أن القرن التاسع عشر كان قرن الثورات الوطنية ففي خلال المدة من 1804 إلى 1878 استطاعت الحركات الوطنية الكبرى أن تحقق قدراً كبيراً من النجاح نتج عنها قيام أربعة دول مستقلة هي: الصرب واليونان والجبل الأسود, ورومانيا، وحصلت بلغاريا على حكم ذاتي, واضطر الأبان إلى تنظيم أنفسهم عندما تعرضت بلادهم للتهديد بمعرفة مجموعات وطنية أخرى, وعندئذ طرح سؤال يقول: لماذا أصبحت شعوب البلقان بعد فترة طويلة من تحمل الحكم العثماني قادرة في فترة قصيرة نسبياً على استعادة السيطرة على مستقبلهما السياسي ومصيرها؟ وحيث أن هذا الكتاب سوف يتعامل مع هذا السؤال فينبغي أن نوجه عناية خاصة للأحوال التاريخية والأوضاع العامة التي كانت قائمة في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر. ويمكننا أن ناقش تلك الأحوال تحت عنوانين رئيسيين: أولهما تغير الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية، وثانيهما نمو المعارضة الداخلية والخارجية ضد السلطات العثمانية والحكومة العثمانية المركزية.
التغير الإجتماعي والإقتصادي (التأثيرات السياسية والثقافية)
بنهاية القرن الثامن عشر كانت شعوب البلقان قد تأثرت تأثراً قوياً بما كان يحدث في أوروبا فقد كان ذلك القرن عصر انتفاضة اقتصادية في بلاد غرب أوروبا ووسطها, وباعث على التنمية بالتقدم التكنولوجي التي كانت الثورة الصناعية وراءه. وآنذاك بدأ طلب الدول الصناعية على المواد الخام في البلقان يزيد وخاصة بالنسبة للقطن والقمح وأيضاً اللحوم والجلود والشمع والحرير والصوف والدخان والخشب ومنتجات أخرى. وقد تزامن مع هذا الطلب تغير في طبيعة ملكية الأراضي الزراعية في البلقان سمح بغنتاج الفائض الضرورى لإمداد السوق الأوروبي بما يحتاجه.
والحاصل أن العثمانيين عندما كانوا يدخلون بلداً وينتصرون على أهله يعتبرونها أرض الله, وبما أن السلطان يعتبر في عرفهم خليفة الله يصبح له حق التصرف في كيفية توزيع الغنائم. والحال كذلك تصبح الأرض "الجديدة" من نصيب السباهية (الفرسان) الذين لهم فضل تحقيق الإنتصارات العسكرية, حيث يحصل كل قائد عسكري أو مسئول إداري وغالباً ما يكون مسلماً على قطعة أرض تعرف ب"التعمار Timar"، منحة لا تورث. وكان على فلاح التيمار أن يزرع الأرض مقابل الوفاء ببعض الإلتزامات في مقدمتها توريد عشر المحصول (10%) لصاحب التيمار, ودفع الضرائب المقررة, وتقديم بعض الخدمات الإضافية حسب مقتضى الحال. وطالما أن الفلاح يؤدي ما عليه من إلتزامات فإنه يظل يزرع الأرض باستثناء حالات نادرة, فضلاً عن أنه لم يكن مرتبطأً بالأرض بصفة قانونية شأن الفلاح في النظام الإقطاعي.
ولقد ظل التعمار قائماً كوسيلة إقتصادية للقوة العسكرية العثمانية إلى أن بدأ استخدام البارود في الحروب وأصبح العسكري المشاة ببندقيته أكثر كفاءة في المعارك من الفارس (السباهي)، وعلى هذا أصبحت فوق الإنكشارية (المشاة) السلاح الرئيسي للدولة الذين يتم تجنيدهم أصلاً من بين المسيحيين بنظام الدفشرمة. وكان هؤلاء المجندون الذين يتم تحويلهم إلى الإسلام يضاهون أفضل القوات العسكرية في اوروبا. ورغم أن المشاة قد أصبحوا أكثر أهمية عسكرياً من السباهية إلا أن الدولة ظلت تحتفظ بنظام التيمار (الإقطاع) كمصدر للمواد الغذائية والإمدادات العسكرية والضرائب لإعانة الدولة في حروبها. ورغم إلغاء هذا النظام في عام 1831 إلا أن نظاماً جديداً إقطاعياً حل محله وساد المنطقة ألا وهو نظام الجفلك.
وفي ظل نظام التعمار كانت الأعباء المفروضة على استخدام الأرض محدودة وكذا الواجبات المفروضة على زراعها والخدمات المطلوبة منه. وكان بمقدور بعض أفراد معينيين حيازة أرض واسعة المساحة بطرق غير قانونية وبشروط قريبة عملياً من شروط ملكية الأراضي في مجتمعات أخرى بما فيه ذلك حق التوريث. والحاصل أن أرض التيمار تحولت إلى أرض جفلك من خلال عمليات مختلفة. فمالك [[چفتليك|الچفتليك Çiftlik (مزرعة)] قد يحوز أراضيه بالإستيلاء على عقود الإيجار من مختلف الفلاحين, وقد يكون ملتزماً (جامع ضرائب) ويستغل وظيفته لإكتساب أراضي. وقد يستخدم عناصر مرتزقة يرهب بها الفلاحين فيأخذ حيازتهم. وكانت الميزة الكبيرة لنظام الجفلك هذا بصرف النظر عن طريقة ملكيته إمكانية التكيف مع طريقة الزراعة الرأسمالية, ومن ثم إمكانية مواجهة الطلب الأوروبي المتزايد على المواد الغذائية والمواد الخام من بلاد البلقان .
ولقد جلب هذا التطور في نظام الأراضي من التعمار إلى الچفتليك Çiftlik (مزرعة) معه تغيرات اجتماعية وسياسية جوهرية وتحول في ميزان القوة بين الحكومة العثمانية وبين الولايات. ولعل أبرز هذه التحولات ذات المغزى صعود قيادات مسلمة محلية عرفوا بالأعيان إلى صفوف النخبة السياسية. والأعيان هم المقابل التام للنبلاء المسيحيين واستندت قوتهم على الثروة الإقتصادية الناتجة من ملكية الأرض أو التجارة, وعلى العلاقة بالحكومة المركزية, فقد كان الواحد من الأعيان شأن النبلاء المسيحيين يعمل وكيلاً للإدارة المركزية في محل إقامته حيث يتولى بعض المسئوليات مثل جمع الضرائب والإشراف على نظام الأرض والمحافظة على الأمن. وعندما ضعفت الحكومة المركزية بسبب كوارث حروب القرن الثامن عشر كان الأعيان قادرون على زيادة استقلالهم في قراهم. وقد زاد من قوتهم أنهم جمعوا قوات خاصة لهم وصل عددها في بعض الأحيان إلى آلاف من الخدم والأتباع استخدموها هذه ضد منافسيهم, وكذا ضد الحكومة, ولإبقاء فلاحي الجفلك تحت السيطرة.
على أن تغير الأحوال الإقتصادية لم يفد فقط الأعيان بل لقد أفاد أيضاً التجار المسيحيين, ففي القرن الثامن عشر كانت تجارة لنقل البري في انحاء الإمبراطورية في يد الأرثوذكس, وكانت التجارة البحرية في دي اليونانيين واليهود وقد شاركهم في فوائد كل من الصربيين والبلغار والفلاحين Vlachs. وكان هؤلاء يعيدون استثمار ثروتهم من التجارة في مشروعات تجارية أخرى أو تودع في البنوك أو تستخدم في الإقراض الربوي حسب مقتضى أحوال الإمبراطورية. ويلاحظ أن التجارة مع أوروبا وفرت ثروات متساوية لكل من التجار المسيحيين والأعيان المسلمين حيث استخدمت في تمويل العمليات الزراعية وحماية التجارة. وكان كل المسيحيين والمسلمين يريدون نظام تجاري حر ومفتوح بين بلاد الإمبراطورية ويعارضون الإشراف الحكومي على التجارة.
أما الفلاح فقد وجد أحواله تتدهور بسرعة ملحوظة على عكس التجار وأصحاب الإقطاعيات. ففي الجفلك تحول الفلاح إلى مشارك أو منتفع فزادت أعبائه وإلتزماته التي يقدمها تجاه صاحب الأرض زيادة حادة سواء أكانت عملاً (سخرة) أو عيناً (محاصيل). وبدلاً من أن يكون خاضعاً لالتزامات محددة أصبح تحت رحمة صاحب الجفلك الذي يسيطر بدوره على السلطة السياسية في المنطقة, ويستخدم حراس مسلحون لضبط أولئك الذين يعملون في الأرض. ولقد انتشر نظام القرية الجفلك (أو القرية المجفلكة) في بعض أجود الأراضي الزراعية مثل وادي مارتيزا وأجزاء من البوسنة. أما في المناطق الجبلية والبعيدة كانت عائلات الفلاحين تتمتع بقدر أكبر من السيطرة على الأرض وعلى المراعي وإن كانت عائلات الفلاحين تتمتع بقدر أكبر من السيطرة على الأرض وعلى المراعي وإن كانت الضرائب المفروضة عليها أعلى, وحيازتها غير مؤكدة في بعض الأحيان إذ كانوا بدورهم تحت رحمة أولئك الذين بيدهم السلطة السياسية والبوليسية في الأقليم. لقد كان لغضب الفلاحين الذي لا يمكن تجنبه أو تحاشيه عواقب سياسية في الوقت الذي كانت في قوة الحكومة المركزية تتآكل ولهذا سوف تكون مشكلة الأرض وعدم لإستقرار الفلاحين الموضوع الأساسي في الصفحات التالية.
ولأن أصحاب الجفالك كانوا مسلمون غالباً وإن لم يكونوا دائماً كذلك والفلاحون مسيحيون فقد اختلطت مواقف الفلاحين بمشاعر الكراهية الدينية. ولقد كانت الأوضاع السيئة للفلاحين تدفعهم للهروب من الأرض, أو العمل تحت قيادة أحد العسكريين الأقوياء وبهذا زاد عدد العصابات المسيحية المسلحة شأن أتباع الأعيان. وفي الوقت نفسه كانت هناك مجموعات أخرى خارجة على القانون تتمتع بشهرة رومانسية مثل الهايدوكيون Haiduks والكلفتيون Klephts, بل لقد زاد عدد الرجال المسلمون ومسيحيون الذين لديهم الإرادة والسلاح للدخول في معارك.
ولم يتوقف أمر الغضب على الفلاحين فقط بل لقد أصيب أصحاب الحرف في المدن بكثير من الأذى بسبب التطورات الإقتصادية، فلقد أدت زيادة المنتجات الأوروبية المستوردة ذات الجودة العالية والثمن الرخيص إلى الإضرار بمصالح الحرفيين من كل العقائد والقوميات في الوقت الذي فشلت فيه الحكومة العثمانية في اتخاذ إجراءات لحماية المنتجات المحلية. والحقيقة أنه في القرن الثامن عشر تبلورات عملية كانت قد بلغت ذروتها قبل قرن من الزمان ألا وهي أن الإمبراطورية العثمانية أصبحت مصدراً للمواد الخام وسوقاً لمنتجات الغرب وكان من تداعياتها تحطيم الطاقة الصناعية داخل الإمبراطورية.
ورغم أن التجار الأرثوذكس أفادوا كثيراً من تلك الأوضاع إلا أن اتصالاتهم المتزايدة مع بلاد غرب أوروبا ووسطها كان لها تأثير ثوري على عالم البلقان. وبسبب موقع بلاد اليونان الجغرافي ومصالح اليونانيين البحرية كان بعضهم على صلة وثيقة بالتطورات الثقافية في أوروبا. وفي القرن الثامن عشر أيضاً أتيحت فرص مشابهة لشعوب مسيحية أخرى في البلقان كما كان لأفكار التنوير ومبادئ الثورة الفرنسية فيما بعد تأثيرها على موقف بعض الرعايا ليس فقط ضد الحكومة العثمانية بل تجاه كنيستهم أيضاً. ورغم حقيقة أن الكنيسة الرثوذكسية كانت عنصراً أساسياً في المحافظة علفى الوعي بالذات المسيحية إلا أنها كانت أيضاً جزءً من النظام العثماني. ففي الماضي وقفت بشدة ضد النفوذ الغربي وكانت ترى في الكاثوليكية عدوها الرئيسي. وكان من شأن المذاهب الجديدة تقوية المعتقدات القومية لدى زعماء البلقان بل زودتهم بنظرية علمانية سائدة. ولقد قدر للكنيسة الأرثوذكسية وخاصة صغار رجالها أن يقوموا بدور مهم في الحركة الثورية وإن وقعت قيادتها في أيدي آخرين.
وعندما حدث الإحياء الثقافي احتل اليونانيين موقعاً ريادياً فيها, وكان التجار اليونانيين في السابق يرغبون في استثمار جانباً من أرباحهم في إنشاء المدارس حيث أدركوا قيمة إرسال أولاادهم للتعلم في أوروبا, ومن ثم فقد كانوا أول شعوب البلقان في تأسيس نظام التعليم العلماني على النموذج الغربي. ورغم أن سائر شعوب البلقان من العلمانيين أو من الكنسيين هاجموا اليونايين بسبب احتكارهم عملية التعليم, إلا أن المدارس اليونانية أتاحت لكل المسيحيين الفرصة لتوسيع معارفهم عن العالم رغم أن لتعليم كان يتم باليونانية. وهكذا مع نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر اشتركت شعوب البلقان الأخرى في اليقظة الثقافية القومية التي كان لها مغزى كبير للحركة الثورية في المستقبل. ورغم قلة عدد هؤلاء بشكل ملحوظ ومحدودية تأثيرهم المباشر على مجمل الأحوال إلا أن الباحثين والكتاب ودعاة القومية عبروا عن مصالح قوميتهم, واهتموا اهتماماً بالغاً بلغتهم القومية من تاريخهم كما كانوا على دراية جيدة بالتنوير. ويتعين التعريف بهؤلاء الرجال لأهمية كل منهم في الحركة الوطنية والإيدلوجية القومية فيما بعد.
وفي هذا المقام يأتي آدمانتيوس كورايس Adamantios Koraes, وريجاس فرايوس Rhigas Pheraios في المقدمة اليونانيين الذين لا نظير لهما. وقد ولد كورايس في 1748 وكتب معظم أعماله وهو في باريس ودخلت مؤلفاته الأراضي العثمانية. ولأنه كان متعاطفاً مع الملامح العقلية المعادية للكنيسة في حركة التنوير فقد سعى لإحياء التراث الكلاسيكي اليوناني في عقول اليونانيين وكذا الحضارة اليوناينى باعتبارها أصل اليونانيين المحدثين. وقد كان ناقداً متطرفاً للكنيسة الأرثوذكسية, ومن أعماله التي لها مغزاها بالنسبة للمستقبل "المقدمات" التي حررها للكتب اليونانية الكلاسيكية عند إعادة نشرها. وحيث أنه لم يكن يرضى عن لغة اليونانيين المعاصرين له نراه يحاول إيجاد لغة أدبية تتصل بأشكال اليونانية القديمة. وهكذا بدأ الرجل عملية الإنشقاق اللغوي بين لغة الكتابة كاثاريڤوزا Katharevousa ولغة الحديث الديموطيقية (العامية) لكنها كانت محاولة غير ناجحة. وعلى عكس كواريس الباحث كان ريجاس مهيجاً ثورياً وصحفياً يكتب في المشكلات الحيوية, ولقد في 1757 وسافر كثيراً, وترجم أعمالاً فرنسية إلى العامية اليونانية, واشترك بشكل دائم في مؤمرات كثيرة حتى اعتقلته حكومة النمسا وسلمته إلى السلطات العثمانية التي أعدمته في 1798 بسبب تصرفاته, فأصبح بطلاً يونانياً وشهيداً قومياً وانتشرت كتاباته الثورية بشكل هائل.
وفي الصرب قام الباحثان دوشيتي أوبرادوڤتش Dositej Obradovic, وڤوك كاردزيتش Vuk Karadzic بجهود مماثلة لما قام به كواريس في بلاد اليونان. وقد ولد أوبرادوفيتش عام 1743 في بانات Banat وقد بدأ حياته راهباً ثم سافر إلى عدة جهات وأصبح على دراية بالفكر الأوروبي. وقد اهتم اهتماماً عميقاً بمسألة اللغة وكان يرغب أن يكون للصرب أدب يكتب بلهجتهم, وهي رغبة نفذها كاردزيتش فيما بعد الذي يعتبر "أب" اللغة الصربية الحديثة. وقد اهتم شأن أوبرادوڤتش بالتراث الثقافي الصربي, وجمع الشعر الشعبي الصربي والقصص, والأكثر أهمية قيامه بتأليف قواعد وقاموس للهجة بلاد الهرسك التي كانت مفضلة لديه وقد أصبحت لغة الكتابة عند الصرب والكروات فيما بعد قريبة للغة الحديث بعكس اليونانية.
أما في ولاخيا ومولدافيا (إمارتا الدانوب-رومانيا) وبلغاريا فقد تأخر ظهور مثل هذه التطورات الثقافية اللغوية بسبب هيمنة اليونانيين على الحياة الثقافية هناك. فقد كانت اليونانية اللغة الرئيسية للثقافة والتعليم في ولاشيا ومولدافيا في القرن الثامن عشر بسبب خضوعهما ليسطرة الأمراء الفناريين (أي اليونانيون) حتى حلت الفرنسية محلها بدرجة ما فيما بعد. ومن خلال الفرنسية تسللت الأفكار الغربية وآدابها أمام تأخر تطور اللغة القومية في البلاد. أما إحياء الثقافة البلغارية فقد حدث فيما بعد وفي هذا الخصوص فإن المؤرخين البلغاريين المعاصرين يشيرون إلى أعمال رائدة لكاتبين بلغاريين وهما" الأب بايزي Paisii والأسقف صوفروني Sofronii من فراتزا Vartsa. ففي 1762 وكان بايزي راهباً في جبل آثور Athos كتب تاريخاً قومياً رائعاً لبلغاريا تم نسخه عدة نسخ فيما بعد وتداولها الناس. أما صوفروني فقد بدأ حياته معلماً مدرسياً في كوتل Kotel ثم انتقل في 1802 إلى بوخارست حيث المناخ أكثر حرية. وعندما أصبح يكتب أعماله باللهجة البلغاريةمن بينها مذكرات "حياة صوفروني" الآثم وآلامه", و"كتاب الأحد" وهو مجموعة مواعظ وعظات.
وهكذا ففي نهاية القرن الثامن عشر حدثت تغيرات إجتماعية وإقتصادية وفكرية في بلاد البلقان لصالح أقسام بعينها من المسيحيين على الأقل تزامن معها وقوع سلسلة من الأحداث هددت بتفكيك الحكومة العثمانية في المركز نفسه أي العاصمة استانبول, إذ تعرض الباب العالي للهجوم من جانبين: الأعيان (المسلمون) بما يملكونه في الريف من نفوذ وقوات خاصة, والقوى الدولية الكبرى التي كانت تواصل ضغطها على الممتلكات العثمانية.
التهديدات الداخلية والخارجية (الأعيان والقوى الكبرى)
الأعيان
ربما جاءت أكبر الأخطار التي تحدت الدولة العثمانية في ذلك الوقت من جانب الأعيان المسلمين في المقام الأول وليس من القوى الأوروبية أو من رعاياها المسيحيين الغاضبين. وبسبب الإضطرابات التي أحدثتها الحروب والغليان الداخلي في البلقان كان الناس في حاجة إلى من يحميهم. وأكثر من هذا ففي بعض الأماكن أصبح الأمراء المحليون زعماء شعبين لأنهم ظهروا بمظهر الذي يحول بين السكان وبين السلطة المركزية العثمانية التي اتسمكت آنذاك بالجشع غير المعقول. ولما عجزت الحكومة عن إخضاع هؤلاء الزعماء، اضطرت للإعتراف بهم وعينتهم في وظائف رسمية. بل لقد اضطر الباب العالي أمام ضغط الأزمات المدنية والعسكرية إلى استخدام القوات غير النظامية بل والعصابات المحلية حين ضعفت كفاءة الجيش النظامي, ومن هنا حصل الأمراء المحليون على وظائف عسكرية علياً. وأمام عجز الحكومة عن السيطرة على الأعيان بشكل مباشر وجدت أن أفضل وسيلة تأليب بعضهم على بعض حتى يحدث توازن في القوة. وتلك السياسة في أحسن الأحوال كانت لعبة خطرة ذلك أنه في المقابل كان أولئك الأعيان يقومون بمساندة القوى المعادية للحكومة مثل الإنكشارية المتمردة.
والحقيقة أن القيادات العثمانية ذاتها أدركت ضعفها العسكري, وكانوا منشغلين بتدهور قوة دولتهم قبل أن يدركها خصوم الدولة في الداخل والخارج. وبالتالي لم تعد المسألة هي الحاجة إلى الإصلاح التي كانت واضحة بقدر ما كانت البحث عن الطريق الذي ينبغي أن تسلكه الدولة لتحقيق الإصلاح. وكان البعض يرى أن مكمن الضعف في الإمبراطورية يعود إلى انحرافها عن الممارسات التقليدية, وأنه يجب استعادة الأوضاع السابقة. وعلى العكس من ذلك كان هناك تيار قوي رأى أصحابه وجوب أن تتخلى الدولة عن أساليب التقاليد القديمة في الحكم والأخذ بنظام الؤسسات الغربية.
لكن المحاولات الأولى للإصلاح أخفقت بسبب معارضة النبلاء المحليين رغبة منها في استغلال كوارث الفترة لصالحهم. وكان السلطان سليم الثالث الذي اعتلى السلطنة في 1789 هو أول سلطان يتجه لللإصلاح فقد أتاحت له فترة من الهدوء والسلام خلال عام 1792 من أن يقترب من مسألة إعادة تنظيم الجيش الذي كان تدريبه يتم بمعرفة الفرنسيين وكانت الحكومة الفرنسية ما تزال راغبة في استمرار تقديم هذه المساعدة والواقع أن الفرق الإنكشارية كانت هي مظهر ضعف القوات العثمانية حيث أصبحت جناحاً سياسياً منظماً له نفوذ في الحياة السياسية ويمثل خطراً محتملاً في الشؤون الداخلية أكثر من كونها مجرد قوة عسكرية تقوم بدورها إزاء التهديدات الحارجية. وعلى هذا استهدف سليم من الإصلاح تطوين قوة مشاة جديدة موازية لكي تنافس الإنكشارية عرفت باسم "النظام الجديد" تلقى أفرادها تدريباً على الأسس الغربية بما فيه إرتداء الزي العسكري. وقد شمل منهج الإصلاح عنده إرساء سياسات ضريبية وإدارية جديدة لكن الإصلاح العسكري كان أكثر أهمية.
ولكن من سوء حظ الدولة العثمانية أن سليم كان أضعف من أن يقوم بتنفيذ أفكاره الإصلاحية إذ لم يكن يملك تجهيزات مناسبة لما ينويه من إصلاحات, ولم تكن بجانبه مجموعة قوية من المؤيدين تتولى تنفيذ التغييرات المطلوبة التي تعارضها العناصر لها مصلحة في بقاء النظام القديم. وهكذا بقيت الإنكشارية تمثل خطراً سياسياً كبيراً يمكنها تهديد حكومة السلطان في الداخل وفي القوت نفسه تعجز عن هزيمة أعدائه في الخارج.
وأكثر من هذا ففي 1807 وقع صراع حاسم بين أنصار السلطان سليم الثالث ومعارضيه من المحافظين الإنكشارية والأعيان, وكانت الدولة في حرب مع روسيا وفي الوقت نفسه وقع تمرد في بلاد الصرب كما سوف نرى وانتهى الأمر بوقوع انتفاضة عسكرية في مايو 1807 أطاحت بالسلطان واعتلى العرش محله مصطفى الرابع في يولية من العام نفسه الذي أبقى على خياة سليم, ونشأ نظام جديد هيمنت على أركانه عناصر من المحافظين ومن الإنكشارية المسلمون بطبيعة الحال. لكن ما لبث أنصار سليم ومؤيدو الإصلاح أن تجمعوا في في روزيه Ruse تحت قيادة مصطفى باشا البيرقدار الذي هو نفسه من الأعيان, وتحرك بقواته تجاه استنبول فما كان من مصطفى الرابع إلا أن قتل سليم لكن الحركة نجحت في التخلص من مصطفى الرابع وتولية محمود الثاني ابن عم سليم الحكم, ومات مصطفى باشا البيرقدار في العام نفسه وظل محمود الثاني في الحكم حتى عام 1838 وكان أول سلطان ينجح في تحقيق الإصلاح.
لقد نجح تمرد 1807 في الإستيلاء على الحكومة المركزية وأما حركات التمرد الأخرى التي قام بها الأعيان والإنكشارية والغاضبون من المسلمين فقد هددت بتقطيع أوصال الدولة. ورغم أن هذا الكتاب معني أساساً بقوميات البلقان المسيحية, إلا أنه من الأهمية بمكان أن نستعرض نشاط ثلاثة حركات تمرد ضد سلطة الدولة قام بها كل من بشفان أوغلو عثمان باشا, وعلي باشا اليانيني نسبة إلى يانينا Janina, ومحمد علي باشا (والي مصر) لأن تمردهم تشابك مع ثورات مسيحي البلقان, بل إن تاريخ حياة كل منهم له أهميته من حيث تصوير مناخ الحياة في البلقان في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر الذي تمخض عن انتفاضة المسلمين والمسيحيين ضد الدولة. كما هو حال الزعماء القوميين عادة كان كل منهم يسعى لإقامة حكم مستقل لبلاده بالإنفصال عن الدولة العثمانية أو الفوز بحكم ذاتي على الأقل.
كان لتاريخ بشفان اوغلو عثمان باشا تأثيراً على بدايات ثورة بلاد الصرب وعلى التاريخ القومي لكل من بلغاريا ورومانيا, فعندما أعدمت الحكومة العثمانية والده فر هارباً وانضم إلى المجموعات الخارجة على القانون. ثم حارب إلى جانب الجيش العثماني فيما بعد في حرب 1787-1792. وقد أقام لنشاطه مركزاً في مدينة فيدين على الدانوب جمع فيه قوة كبيرة من قطاع الطرق والمارقين المرتدين. وفي 1795 أعلن استقلاله عن الحكومة العثمانية وظل في ثورة مستمرة ضدها كما سوف نرى عندما نتناول ثورة الصرب.
أما نشاط علي باشا اليانيني الذي يشبه نشاط بشفان اوغلو فكان هو الآخر شيئاً رائعاً فقد ولد في 1750 في تبلينه Teplene في ايبروس (المورة) وعندما مات والده لم يجد أمامه إلا أن يكون قاطع طريق. وبعد عدة مغامرات تتناسب مع شبتبيته استطاع أن يؤسس له قاعدة في يانينا, وتمكن من زيادة قوته وعدد أتباعه عن طريق المكائد والدسائس أحياناً والعنف أحياناً أخر. وفي بداية نشاطه عمل في خدمة الباب العالي واستخدم مواقعه الوظيفية في تقوية نفوذه الشخصي. وعلى هذا وفي 1788 أصبح حاكماً على يانينا حيث تمكن من مد سلطته على الإقليم وعلى الأراضي المحيطة بها في تساليا وإپيروس وألبانيا. ورغم أن المساحة التي كانت تحت سيطرته لم تكن ثابتة خلال السنوات التالية, إلا أنها كانت دائماً كافية لتكون مركز قوة لحكم شبه مستقل. وفي 1799 كان الباب العالي في حاجة ماسة لمساعدة من الرجل نراه يقدم على تعيينه حاكماً على روميليا وهو منصب تولاه أكثر من مرة وفقده أكثر من مرة أيضاً. أما المساعدة التي طلبها الباب العالي منه فكانت التصدي لحركة بشفان اوغلو وقطاع الطرق وزعماء الأعيان, ولما كان اليانيني مهتم بمصالحه الخاصة رأيناه يحتفظ بعلاقات وثيقة مع فرنسا بل لقد قدم مساعدة للباب العالي في 1809 أثناء الحرب ضد روسيا.
وبناء على المساعدات التي كان اليانيني يقدمها للحكم العثماني فقد كان يتصرف كحاكم مستقل من ايبروس له سيادة ومع ذلك تغاضى الباب العالي عن تصرفات الرجل ولم يحاول التخلص منه كما هو متوقع في مثل تلك الحالات. ولكن في عام 1820 وفي ظروف مواتية قام الباب العالي بالتحرك براً وبحراً ضد اليانيني الذي حصن نفسه بعقد اتفاقات مع نبلاء اليونان وأخذ يشجع شعوب البلقان الأخرى على الثورة. لكنه لم يتمكن من مواجهة القوات العثمانية فاضطر إلى الإنسحاب إلى يانينا قاعدته الأولى فحاصرته القوات العثمانية حتى مات في يناير 1822 أثناء الحصار.
أما محمد علي باشا في مصر فكان أكثر تلك الزعامات نجاحاً ورغم أنه أخفق في تحقيق أهدافه الطموحة, إلا أن أبناءه ظلوا يحكمون مصر حتى 1952. وقد ولد في مقدونيا في 1769 من عائلة تركية-ألبانية, وجاء إلى مصر على رأس فرقة ألبانية لإخراج الفرنسيين (1801), وبقى في مصر بعد خروج الفرنسيين ثم بزغ نجمه في الوظائف الإدارية والمهمام العسكرية. ولما كان أستاذا في الدسائس والمؤمرات التي كانت قد تفشت في أنحاء الإمبراطورية العثمانية فقد استطاع إبعاد منافسيه حتى أصبح والياً على مصر في 1805. وخلال الفترة الأولى من ولايته بقى في خدمة الباب العالي مثلما فعل علي باشا اليانيني وفي الوقت نفسه استخدم منصبه الرسمي في تأمين وضعه الشخصي وتقويته. وبفضل مساعدة إبنه إبراهيم باشا تمكن من ضم السودان وإخماد المتمردين في الجزيرة العربية (الحركة الوهابية).
وفي 1825 وعده الباب العالي بالحصول على جزيرة كريت وحصول إبنه إبراهيم على حكم المورة في مقابل القضاء على التمرد في بلاد اليونان الذي عجزت الدولة عن مواجهته. ورغم أن قوات محمد علي نجحت في القضاء على التمرد، إلا أن هزيمة العثمانيين في الحرب مع روسيا 1828-1829 حرمت محمد علي من المكافأة الموعودة. وبسبب هذه النكسة التي ألمت به ورغبته في ضم مزيد من المناطق تحت حكمه قام بغزو بلاد الشام في 1832 وتسبب في كثير من الأزمات لأوروبا. وآنذاك بدت نيته في إيجاد مملكة عربية عظمى مركزها البحر الأحمر وتضم مصر والسودان والجزيرة العربية. وباستثناء كريت والمورة لم يكن محمد علي يهدد بلاد البلقان حيث يقيم المسيحيين بشكل مباشر. على أن محمد علي شأن بشفان اوغلو, وعلي باشا اليانيني كان يمثل محاولة في تقطيع أوصال الإمبراطورية العثمانية وتفتيتها وذلك بتكوين دول منفصلة تحت حكم قادة عسكريون مسلمون. غير أن محمد علي بجيشه العرم الهائل وطبيعة حكمه كان يمثل تهديداً لوجود الدولة العثمانية أكثر مما كانت تمثله ثورات الصربيين واليونانيين.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
تحدي القوى العظمى
في الوقت الذي كان الباب العالي يواجه فيه التفكيك الداخلي كان عليه أن يواجه تجدد هجمات القوى الخارجية, فعندما اعتلى سليم الثالث العرش في 1789 كانت حكومته ما تزال في حرب مع النمسا التي كانت قد احتلت بلجراد ثم أعادتها بمقتضى معاهدة سيستوڤا Sistova في 1791 مقابل أن تأخذ النمسا البوسنة, والحرب مع روسيا التي كانت قواتها تتحرك بطول الدانوب إلى أن تم عقد صلح ياصي Jassy في 1792 وبمقتضاه مدت روسيا أرضيها حتى نهر الدنيستر Dinester وتنازلت عن مولدافيا وولاشيا التي كانت قد احتلتهما. وتعتبر هاتان المعاهدتان خاتمة لقرن من التعاون المتقطع بين النمسا وروسيا ضد العثمانيين, ولكن وبعد انقضاء ثمانين عاماً عليهما هاتين تعاونت الدولتان مرة أخرى للاتفاق على كيفية تقسيم أراضي الدولة العثمانية, وكانت ثمة ظروف قد حالت دون استمرار التعاون.
والحاصل أن القوى العظمى صرفت انتباها عما يحدث في بلاد الشرق الأوسط وركزت اهتمامها على بولندا ثم على فرنسا الثورة, وكانت بولندا قد تعرضت للتقسيم على ثلاث مراحل في 1772, 1793, 1795, واشتعلت الحرب في أوروبا عام 1792. وعلى هذا ظل التركيز الأساسي للعلاقات الأوروبية قائماً على ما يدور في القارة الأوروبية من أحداث كانت لها تداعيات واسعة في كل من البلقان وشرق البحر المتوسط. ففي 1779 وبمقتضى معاهدة كامبو فورميو Campo Formio ضمت فرنسا جزر أيونيا مما كان له تأثيره على ثورة اليونانيين, وحصلت النمسا على بقايا أراضي البندقية وبهذا تم وضع حد للقوى البحرية المستقلة (البندقية) التي كانت في السابق أكبر غريم للعثمانيين.
في يوليو 1798 بدأت فترة من التدخل الفرنسي المباشر في الولايات العثمانية عندما غزا بونابرت مصر وانهزمت أمام جيوشه عساكر المماليك بسرعة ملحوظة وأصبح الباب العالي طرفاً في الصراع ضد فرنسا مع بريطانيا التي ساءها انفراد فرنسا باحتلال مصر, وانتهى الأمر بمعاهدة صلح بين فرنسا وانجلترا في 1802 نصت فيما نصت على خروج الإنجليز من مصر وظلت تلك المعاهدة فاعلة حتى 1806.
على كل حال . . ففي فترة التدخل الفرنسي في شؤون الولايات العثمانية زاد نفوذ فرنسا زيادة ملحوظة في السياسة العثمانية حتى لقد ارتبطت الدولة العثمانية بفرنسا ضد كل من روسيا وبريطانيا. ورغم أن الفترة من 1806-1812 لم تشهد معارك مستمرة بين روسيا والدولة العثمانية إلا أن روسيا حاولت استغلال الفرصة لزيادة نفوذها في الصرب وإمارتي الدانوب (ولاخيا ومولدافيا-رومانيا فيما بعد). وقد انتهى الصراع بين الدولتين بمعاهدة بوخارست 1812 اكتفت فيها روسيا بتنازل الدولةالعثمانية عن بسارابيا والإنسحاب من إمارتي الدانوب برغم موقف العثمانيين الضعيف لأن روسيا كانت معنية آنذاك بأمر غزو بونابرت لأراضيها.وكانت خسائر العثمانيين في هذه التسوية يعد أول تغيير في حدودها نتيجة لحروب الثورة الفرنسية في أوروبا بقايدة بونابرت, وأكثر من هذا أن تسوية فيينا (1815) بعد هزيمة بونابرت والتي لم تحضرها الدولةالعثمانية قضت بمنح الجزر الأيونية لبريطانيا وساحل دلماشيا للنمسا فكانت بمثابة الإقتطاع الثاني من آفاق الدولة العثمانية.
لقد كان مؤتمر فيينا بداية فترة من السلام النسبي بين القوى العظمى في أوروبا دامت قرناً منالزمان فقدت خلاله الدولةالعثمانية معظم ممتلكاتها في أوروبا وأثبتت الأيام عجزها عن الدفاع عن وحدة ممتلكاتها أو حتى صيانة استقلالها السياسي دون مساعدة خارجية, ولم تبق دولة عثمانية قائمة إلا بسبب موقع أراضيها الإستراتيجي والحيوي لصالح توسع الدول اللإمبرالية. وفي هذا الخصوص احتلت روسيا وبريطاينا أهمية خاصة إذ أصبح صراعهما على الدولة العثمانية وعلى البلقان جزء من السباق الإمبريالي الكبير الذي اندلع بين هاتين الدولتين وامتدت ميادينه من شرق البحر المتوسط إلى الصين مروراً بأسيا الصغرى.
والحاصل أن بريطانيا كانت قد استمدت سيطرتها على الهند في القرن الثامن عشر واعتبرتها درة التاج البريطاني, وأصبحت الدولة التجارية والصناعية الأولى في العالم وسيدة البحار ومن ثم كانت تخشى أن ينتزع منها أحد تلك المكانة. وفي نهاية القرن الثامن عشر كانت ترى أن فرنسا زمن بونابرت هي منافستها الرئيسية في العالم بما في ذلك بلاد الشرق الأدنى, ثم أصبحت روسيا هي المنافس بعد القضاء على بونابرت وقبل إعلان دولة ألمانيا. وكانت أراضي الدولة العثمانية من وجهة نظر بريطانيا تمثل مفتاح توسعها الإمبرايالي تجارياً وبحرياً دفاعاً عن الهند ولهذا كانت تخشى دوماً أن تستولي روسيا على تلك الأراضي سواء بالغزو المباشر أو بالسيطرة على الحكومة العثمانية أو بإقامة دولة بلقانية تابعة لها. وبسبب هذا الخوف ظلت بريطانيا ترفع شعار وحدة الأراضي العثمانية وتكاملها طوال القرن التاسع عشر ويقوم سفيرها في استنبول بالضغط على الحكومة العثمانية لإصلاح نظام الحكم والإدارة فيها والسعي للتوفيق بينها وبين شعوب البلقان حفاظاً على الاستقرار.
أما وضع روسيا بالنسبة للدولة العثمانية فكان أكثر تعقيدأ فبعد أن ابتلعت روسيا بساربيا في 1812 كما راينا لم تضع في حساباتها أن تضم أراضي عثمانية أخرى رغم الفرص التي أتيحت لها لمد نفوذها هنا وهناك فمثلاً كان من الممكن أن تستثمر الحركات القومية بين شعوب البلقان التي كانت تعتبر روسيا أعظم قوة أرثوذكسية وهو شعور كانت روسيا تغذيه كلما سنحت الفرصةو ففي معاهدة كوتشك قينارجي 1774 مع الدولة العثمانية نجحت روسيا في أن تضع بذرة لنوع من إدعائها الحماية الدينية للأارثوذكس ولو بشكل ملتبس وغامض. ولم مسيحيو البلقان ينتظرون فقط المساعدة ن روسيا بل لقد كانت هناك عناصر مهمة بين الروس أنفسهم انجذبت بشدة لفكرة تقديم المساعدة للحركات القومية في البقلان على أسس أرثوذكسية وسلافية. وهكذا وجدت حكومة روسيا نفسها تحت ضغط استغاثات البلقانيين من جهة وتحت ضغط الرأي العام في الداخل من جهة أخرى للقيام بشي ما لمواجهة القهر الذي يتعرض له المسيحيون في البلقان والسلافيون بشكل عام.
وفي كل الأحوال كانت روسيا تحت إغراء التدخل في الشؤون لعثمانية بطريقة أو بأخرى لتحقيق مكانة ممتازة من ناحية ولتوسيع دائرة قوتها ونفوذها من ناحية أخرى, لم تكن تتصور شأن بريطانيا أن ترى قوة أخرىة تسيطر على البقان. وفي هذا الخصوص كانت روسيا تملك عدة أسلحة قوية في التعامل مع الباب العالي في مقدمتها القوة العسكرية الضخمة والحركات القومية في البلقان. غير أن قادة روسيا كانوا يفضلون إتباع السياسة التي تم إقرارها في معاهدة خونكارية اسكله سي في 1833 التي تقوم على السيطرة على الدولة العثمانية من الداخل.
أما النمسا فكان موقفها بالنسبة للقوى العظمى التي كانت معينة بشؤون البلقان هو الموقف الأضعف نسبياً فيما يبدو, فباعتبارها إمبراطورية متعددة القوميات فإنها قد تكسب قليلاً إذا ما حدث تغيير في أوضاع الممتلكات العثمانية, ومن ناحية أخرى فإن استيلائها على أرضي جديدة في البقلان قد يزيد من مشكلات الأقليات القومية التي تحت سيادتها, ومن ناحية ثالثة فإن تأسيس دول مستقلة في البلقان العثماني قد يشجع مختلف المجموعات القومية تحت حكمها على السير في الطريق نفسه. ورغم أن النمسا كانت تتعاون مع روسيا في إطار سياسة توازن القوى إلا أن قادة النمسا كانوا يدركون في الوقت نفسه مخاطر هذا الطريق إذ لم يكونوا يعتقدون ابدأ بغمكانية هزيمة جيوش روسيا إذا ما اندلعت حرب البلقان بسبب أزمة حقيقية. وعلى هذا وفي إطار تفضيل النمسا لمبدأ المحافظة على وضع الدوةل العثمانية وممتلكاتها كان عليها أن تتعاون مع بريطانيا التي كانت تخشى مثلها توسيع روسيا, وهو تعاون إذا ما تم وضعه في صيغة تحالف فإن النمسا سوف تتحمل الأعباء العسكرية والمخاطر الحقيقية في قيام حرب ضد روسيا على حين سوف تكون الحاجة للبحرية البريطانية منعدمة أو ضئيلة في حالة الحرب البرية ضد روسيا.
أما فرنسا بعد الحروب النابوليونية ورغم مكانتها الهائلة في القرون السابقة إلا أنهما كانت أقل نفوذاً في الإمبراطورية العثمانية بالقياس للقوى الثلاثة الأخرى (روسيا والنمسا وبريطانيا). ورغم أن إيديولوجية الثورة الفرنسية لعبت دوراً كبيراً في الحركات القومية في البلقان إلا أن فرنسا نفسها خلال الفترة من 1815-1848 لم تعد مركزاً للتهيج والإثارة ومع هذا كانت فرنسا في عهد نابليون الثالث تساند الحركات القومةي في البلقان غير أن فرنسا بدون جيش على المسرح السياسي وأسطول بحري أقل درجة من أسطول منافستها بريطانيا ترددت في التدخل في صراعات الشرق الأدنى. وفي الوقت نفسه كان لها أهداف في أجزاء من الإمبراطورية العثمانية. ففي 1830 احتلت الجزائر، وازدادد نفوذها في مصر, وفي أربعينات وستينات القرن التاسع عشر تدخلت في سوريا ولبنان ولما كانت ترغب في توسيع إمبراطوريتها في إفريقيا وآسيا فقد كانت تساند عادة تكون الدول القومية, وإضعاف الحكومة المركزية, وتعارض أى سياسة قد تؤدي إلى انفراد روسيا أو بريطانيا وخصوصاً في البلقان.
ولما كانت الإمبراطورية العثمانية عاجزة بمفردها عن الدفاع عن نفسها ضد الدول الأوروبية الطامعة فيها فقد اضطرت لأن تتبنى سياسة للتوازن بين القوى العظمى حفاظاً على مصالحها عن طريق ضرب تلك القوى بعضها بالبعض الآخر كلما أمكن ذلك. ولكن في القرن التاسع عشر كان واضحاً أن الدولة تخسر في هذا الصراع إذ نراها تضطر لتقديم تنازل سياسياً وإقتصادياً لصالح أوروبا. وفي الوقت نفسه كانت الحركات القومية في البلقان العثماني تحقق تقدماً ملحوظاً بفضل مساندة إحدى الدول الأوروبية أو كل من الدول الأوروبية مجتمعة. ورغم أن مسيحي البلقان هم الذين بدأوا الثورة إلا أ، القوى العظمى هي التي صنعت في النهاية خريطة الدول القومية الجديدة بحدودها وشكل حكومتها. وفي هذا الخصوص كان الزعماء الأوروبيون في الإجراءات التي اتخذوها أبعد ما يكونوا عن الإيثار ونكران الذات إذ وضعوا في إعتبارهم مصالحهم الخاصة والمحافظة على توازن القوى, وهي اعتبارات كانت تستخمها في مختلف مغامراتها الإستعمارية ولم يكن أمام الإمبراطورية العثمانية بل ودول البلقان الجديدة إلا الخضوع لها.
وهكذا . . وبحلول القرن التاسع عشر كانت الأحوال السائدة في البلقان في صالح تمرد المسيحيين, ولم يكن باستطاعة الحكومة العثمانية السيطرة على النبلاء المتمردين أو هزيمة الجيوس الأجنبية. وأثناء اضطراب المواقف تمكنت قايدات عسكرية قوية من السيطرة على مراكز السلطة المحلية مما ساعد على بلورة تقاليد التمرد. ومن هذا المناخ وتلك الظروف انبثقت حركات التمرد عند مسيحي البلقان. وكانت ثورة الصرب أول الثورات اتصالاً بمعنى فشل الحكومة العثمانية في المحافظة على سلطتها في المراكز المحلية وكذا ضعفها أمام خصومها.
الهوامش
- مصطلح الباب أو الباب العالي كان يطلق على الحكومة العثمانية ويشير إلى المبنى الذي يضم المكاتب الحكومية الرئيسية وكذا الإدارات.
- كانت السلطة العثمانية في البلقان تأخذ كل خمس سنوات تقريباً صبياً من كل أربعة صبية بين عمر عشر سنوات إلى عشرين سنة من المسيحيين كضريبة رأس خاصة. وهذه الضريبة كانت تعرف بالدڤشرمه حيث يتحول الصبي إلى الإسلام ويتم تعليمه وتربيته أفضل تربية في معسكرات خاصة وبعدها يعين في أعلى الوظائف في الإمبراطورية ويبقى آخرون في الفرق الإنكشارية ثم انتهى هذا النظام في القرن السابع عشر.
- الفلاخيون يتكونون من ثلاثة أقسام: كوتزوڤلاخيون Kutzovlachs, وأرومانيون Arumanians, وتنزنتساريون Tsintsars, وهم شعوب سبه بدوية من أصول رومانية قديمة كانت تعيش في البلقان وتعمل بالتجارة ورعي الغنم والبقر.
الفترة المشروطية الثانية 1908-1920
نهاية الدولة العثمانية
The resulting Treaty of Lausanne secured international recognition for the new Turkish state and its borders. The Treaty was signed on 24 July 1923 and ratified in Turkey on 23 August 1923. The Republic of Turkey was formally declared on 29 October 1923.
The following year on 23 April 1924, the republic declared 150 high-ranking Ottomans, including the former Sultan, to be شخص غير مرغوب فيه. معظم تلك القيود رُفِعت في 28 يونيو 1938.
معرض صور
انظر أيضاً
- The Ottomans: Europe's Muslim Emperors
- إلغاء الدولة العثمانية
- المسألة الشرقية
- الاحتلال البريطاني لمصر في 1882
الهامش
- ^ Decline of the Ottomans
- ^ Özmucur & Pamuk (2005), p. 290.