مدونة:عن الناس والحجارة، لمن ترمم الأبنية اليوم؟

ناصر الرباط.

عن الناس والحجارة، لمن ترمم الأبنية اليوم؟، هي مدونة للمعماري ناصر الرباط، أستاذ الآغا خان لتاريخ العمارة الاسلامية بمعهد مساتشوستس للتكنولوجيا.

المدونة

الأصل في الترميم هو الاهتمام بعمارة المباني التاريخية والعمل على إعادتها إلى ما كانت عليها وقت بنائها قبل أن تعتورها عوامل الزمن والاستخدام أو إلى وضع مثالي مفترض بما أننا أحياناً لانعرف كيف كانت بعض هذه المباني التاريخية وقت بنائه. هذا هو مايمكن أن نسميه الاهتمام بالحجارة، وهو موضوع متشعب ومهم وقد أدى لظهور آراء متغايرة من منظرين متعددة. بعضهم نظر إلى المباني نظرة عضوية واعتبرها كالمخلوقات الحية تولد وتنمو وتشيخ وتموت، ورأى أن واجبنا هو التعامل معها بنبل وواقعية وتركها لمصيرها المحتوم من دون عمليات ترقيع وتجميل لن تغني أو تطيل من عمرها وقد كان واحد من أوائل القائلين بهذا الرأي جون رسكين (John Ruskin)، المنظر الإنجليزي المشهور في القرن التاسع عشر، ولعله كان أيضاً أكثرهم رومانسية وطوباوية وأروعهم تعبيراً. ولكن مع كل الحرارة التي وضعها رسكين وتابعوه في مقالتهم، فإن رأيهم لم يغلب وإنما تراجع لكي يظهر على السطح رأي المنظرين الترميميين، ورائدهم مؤرخ الفن النمساوي الشهير ألويس ريغل (Alois Riegl)، الذين يتفقون على أن بعض الأبنية وبعض المدن تكتسب قيمة تاريخية أو فنية أو معمارية أو أثرية أو تذكارية مما يستوجب المحافظة عليها وترميمها، ولكنهم يختلفون على أي المباني وأي المدن تكتسب هذه القيم، ومتى وكيف نحافظ عليها وإلى أي مدى يحق لنا أن نتدخل في عمرانها ومبانيها. هذه الاجتهادات المختلفة أدت لظهور نظريات عديدة حصلت خلاصتها على غطاء الشرعية الدولية عندما قررت منظمة اليونسكو دخول معترك الترميم والمحافظة على الآثار مما أدى إلى ظهور منظمة الأيكوموس (ICOMOS) التي تمكن خبراؤها من الاتفاق على مجموعة من قواعد الترميم العالمية حددتها وثيقة البندقية ، التي تبعتها منظمة المدن الاسلامية النابعة من منظمة المؤتمر الإسلامي بوثيقة لاهور ˜"وماحدا أحسن من حدا"وقد شهد العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه في الفترة الأخيرة اهتماماً متزايداً بالمحافظة على التراث المعماري القديم وبترميم أهم معالمه من جوامع ومساجد وحمامات وقصور وخانات وقلاع وأبراج وأسواق وغيرها مما تزخر به المدن العربية ذات التاريخ العريق. فمن فاس ومراكش وأصيلة في المغرب، إلى جربة في تونس وغدامس في ليبيا والقاهرة في مصر والخليل ورام الله في فلسطين وبيروت وصيدا في لبنان ودمشق وحلب في سورية إلى جدة والدرعية في السعودية والعديد غيرها من المدن الأصغر نفذت مشاريع ترميمية كبيرة في السنوات العشرة الماضية، بعضها اقتصر على المباني التاريخية المهمة وبعضها الآخر كان أكثر طموحاً وامتد ليشمل النسيج العمراني للمنطقة التاريخة أو الأثرية كلها، كما في غدامس والخليل والدرعية، أو أجزاء كبيرة أو صغيرة منها كما في فاس والقاهرة ودمشق وحلب وبيروت. وقد ترافقت هذه المشاريع مع ازدياد التركيز على أهمية المحافظة على الآثار والعمران التقليدي من خلال النشرات والدوريات والندوات، أو من خلال المقالات الصحافية والبرامج التليفزيونية الموجهة. ومع ذلك، فمازالت البنى العمرانية والمعمارية للمدن العربية ­­حتى تلك منها التي شهدت محاولات متعددة للحفاظ على مبانيها التاريخية­­ تعاني من مشاكل أعقد بكثير من أن تحل بالاهتمام بالعمارة فقط. فمع ازدياد حدة المشاكل الاقتصادية التي تطال المجتمع والأفراد وتدفعهم إلى مزيد من الاستغلال العشوائي لمدنهم ولمبانيها القديمة، ومع استمرار الضغط السكاني بتهديد كل البنى المعمارية والتحتية في المدن العربية المكتظة، ومع تصاعد وتيرة الحديث عن مشاريع ضخمة لتنشيط الاستثمار السياحي والثقافي في هذه المدن القديمة وإعادة تأهيل مبانيها التاريخية لتوظيفها في خدمة هذا الاتجاه الاستثماري السياحي يظهر على السطح سؤال جوهري لايحاول أحد الإجابة عليه. لمن ترمم الأبنية التاريخية في المدن العربية؟ مواجهة هذا السؤال الصعب مهمة جداً، ليس فقط لأنها ستحدد لنا الكثير من ملامح وأهداف الترميم الذي جرى ويجري وسيجري في عالمنا العربي اليوم وفي المستقبل القريب، بل لأنها ستسمح لنا بأن نتطرق لفكرة ترميم المدن وعمارتها نفسها وأن نتفحصها من خلال دورها الاجتماعي وعلاقتها بالناس الذين يفترض أن يعيشوا نتائجها في حياتهم اليومية سكان المدن أنفسهم، لازوارها والسياح في جنباتها الذين، وإن كانوا يشكلون مصدر دخل قومي لايستهان به، فهم لا يمكن ولايجب أن يكونوا الهدف الأول وراء الترميم كما يظهر اليوم في أدبيات الترميم الرسمية في أكثر من مدينة عربية. فالناس هم الأساس في التعامل مع العمارة والعمران سلباً أم إيجاباً. والمراقب العادي سيلاحظ أن الناس في مدننا للأسف لم يتعلموا احترام عمرانها على الرغم من الصورة المشجعة التي تضخها وسائل الإعلام. فوعينا وتصرفاتنا لاتحمل ملامح كبير تغير عما عهدناه من الإهمال والتسيب والكسل الذين طبعوا مقاربتنا في الماضي للمحافظة على التراث المعماري والعمراني لمدننا كمواطنين وكسكان لهذه المدن، وفي بعض الأحيان للأثر نفسه. ولهذا أسباب عديدة لعل أهمها أن الناس العاديين لم يشعروا في أي وقت كان أن المدينة مدينتهم وأن أبنيتها المهمة لهم وأن من مصلحتهم كأفراد وكمجموعات وكمواطنين المحافظة عليها والاعتناء والاعتزاز بها. لهذا الوضع تاريخ طويل بعضه ناشئ عن التركيبة السكانية التاريخية لغالبية المدن العربية التي تشكلت من مجموعات لاتربطها رابطة الانتماء للمدينة نفسها وإنما تجمعها عرىً أخرى أوثق وأعمق بعضها أوسع من المدينة كالدين والعرق، أو خارج عنها (وأحياناً معادٍ لها) كالقبيلة، وبعضها أصغر من المدينة كالحارة والزقاق والمهنة والانتماء الصوفي وغيرها. ولكن هذا الشرط وحده غير كاف لتبرير الوضع المؤلم الذي ترزح تحته المراكز التاريخية العمرانية العربية، وإنما ربما كان هو نفسه نتيجة من نتائج المسبب الأول والأهم لحالة اللامبالاة المعمارية والعمرانية والمدنية، بالإضافة للمسائل الكبيرة والمهمة سياسياً وتخطيطياً واقتصادياً وسكانياً التي نوهنا بها قبل قليل هذا المسبب الأول، برأيي، هو عدم تمكن المجتمع المدني العربي في تاريخه الحديث على أقل تقدير ­أي بعد وعيه بهويته العربية القومية وولوجه عصر الحداثة بخطى بدأت متعثرة وزادت تعثراً­ من إنشاء مؤسسات ناظمة لفراغه المعيشي، أي المدينة بالدرجة الأولى، وممثلة لمختلف فئاته في علاقاتها ببعضها البعض وفي إحساسها المشترك بالإنتماء لمدينتها ومسؤوليتها عنها. بكلمة أخرى، ما أتكلم عنه هو انعدام الهيئات المدنية والأهلية المستقلة مادياً وسياسياً وإدارياً والقادرة على اتخاذ القرارات المتعلقة بمجتمعاتها في المدن العربية، وضعف احساس الفرد بالتالي بانتمائه لمدينته من خلال مشاركته مباشرة في إداراتها. أي أن السبب الرئيسي لقصور عمليات الترميم في العالم العربي اليوم ليس نقص السيولة المالية كما يحلو للبعض من المنظرين أن يرددوا أو قلة الكفاءات المتوفرة للضلوع بالنواحي الفنية والتقنية في الترميم والمحافظة على الآثار (ولو أنه هذه الكفاءات فعلاً نادرة(، وإنما هو سبب تاريخي، ثقافي، سياسي. لامبالاة المواطن وأحياناً نزوعه ليس فقط لإهمال الأثر وإنما للاقتصاص منه بتدميره أو توسيخه أو قلع بعض مكوناته التي ربما كان لها قيمة مادية نابعة قبل كل شيء من قصور وعي هذا المواطن بمواطنيته ومن عدم تمكنه من التعبير عن هذا الاحساس عبر أي قناة أخرى، كالاعتراض المكتوب والمشاركة السياسية. وهذا القصور بالوعي برأيي، هو السبب الكامن وراء فشل عمليات الترميم على المدى الطويل في تحقيق أي ازدهار دائم للمباني المرممة أو في إنعاش حياة الناس الذين يعيشون فيها أو حولها. والحل؟ الحل أيضاً في الناس ولو أنه حل يتطلب زمناً والتزاماً. ما تحتاجه مدننا العربية لكي تحافظ على آثارها ولكي تزهو بهذه الآثار هو إيمان مواطنيها بأن هذه الأثار لهم وتعلمهم المحافظة عليها والاعتزاز بها، وأيضاً الاستفادة منها بما لايضرها بل يدمجها في حياتهم كفراغات معيشية موائمة بل إن مدننا العربية تحتاج لهذا الوعي في كل أجزائها وليس فقط في مناطقها التاريخية والأثرية المهمة. نحن فعلاً في نهاية القرن العشرين مازلنا بحاجة لخلق المواطن الواعي بمواطنيته والمقدر لواجباتها وحقوقها. وهذا النوع من الوعي، على الرغم من أنه نشأ أصلاً بصورته المعاصرة بعد صراعات سياسية مريرة بين المواطنين المدنيين ومضطهديهم في العصور الوسطى في مدن إيطاليا وألمانيا خصوصاً على رأي ماكس فيبر (Max Weber)، فهو ليس بالضرورة وعياً نضالياً ديالكتيكياً ظهر في بيئة تاريخية محددة فقط. بل يمكن الوصول إليه عن طريق التعلم والعلم وإرادة التمدن. وإلا كيف نفسر ظهور المجتمع المدني في العديد من المجتمعات التي لم تمر بالشروط التاريخية نفسها التي مرت بها إيطاليا وانجلترة القرن الرابع عشر وألمانيا القرن السادس عشر، بل وحتى ظهوره في مجتمعات مرت بتجارب تاريخية مغايرة كل المغايرة لما مرت به مدن أوروبا عموماً، كمدن الشرق الآسيوي وبعض مدن جنوب أفريقيا وأميركا اللاتينية. فالمواطنية اليوم ليست ثورة تنتصر أوهبة تُمنح، وإنما هي إرادة تُفرض ومسؤولية تُتعلم وواجبات تُتبع وحقوق يُدافع عنها، كل ذلك من ضمن إطارات مؤسسية تشكل فيما بينها مانسميه المجتمع المدني. هذا المجتمع المدني، الذي يطالب به العديد من مفكرينا الليبراليين اليوم لأسباب سياسية واجتماعية وثقافية وحضارية، هو نفسه الشرط الأول والأساسي للحفاظ على مدننا التاريخية ومبانيها المهمة. وكل حل ماعدا ذلك لن ينتج لنا سوى حدائق ديزني لاند تاريخية فيها بعض المباني الجميلة والافتة التي ربما جذبت بعض الزوار إليها، ولكن لاحياة فيها ولاروحاً عمرانية أو مدنية.