محمود مختار
محمود مختار (10 مايو 1891-27 مارس 1934) مثال مصري مميز وأحد الفنانين الرواد القلائل في فن النحت وصاحب تمثال نهضة مصر الشهير وله متحف باسمه قائم إلى الآن، متحف محمود مختار الذي يعد قبلة لدارسي الفنون في مصر وشاهد على فترة تاريخية وسياسية هامة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ميلاده ومنشأه
ولد محمود مختار في 10 مايو 1891 بطنباره أحدى قري المحلة الكبرى وكان والده الشيخ ابراهيم العيسوي عمدة القرية. ثم انتقل بعد ذلك إلى قرية نشا إحدى قري محافظة المنصورة وهناك بدأت مواهبه الفنية تتشكل ووعيه الفني يتشرب استعداداً للمرحلة الجديدة في حياته.
عاش "مختار" أغلب أطوار حياته وحظه من المال قليل. لم يحرص على متاع في الدنيا من مال أو زواج حرصه على خدمة فنه وأداء رساله. ولد في 10 مايو من عام 1891. ووالده "الشيخ إبراهيم العيسوي" وأمه إحدة بنات "البدراوي أبو أحمد". وأصول الأسرة تمتد إلى الخليفة الراشد "علي بن أبي طالب" ، وفي البيت كان يستمع إلى قصة أجداده ، ويقضي طفولته على ضفة الترعة تحت شجرة الجميز. ويصنع من الطين خيولا وفرسانا وجواري. ثم يحمل التماثيل إلى الفرن في البيت فيجففها. وألحقوه بالكتاب ولكنه كان يهرب إلى شاطئ الترعة يتابع هوايته. وأقامت الأسرة في القاهرة وتعددت الإقامة بين حوش الشرقاوي والحنفي وعابدين. وكان أقرانه يطلقون عليه .. "العمدة". وعندما أسس "الأمير يوسف كمال" مدرسة الفنون الجميلة بدرب الجماميز في 13 مايو عام 1908" كان "محمود مختار" في السابعة عشرة من عمره. فذهب "مختار" وقابل ناظر المدرسة ووافق على قبوله في عداد تلاميذ المدرسة.
وفي إحدى المظاهرات إنقض على حكمدار القاهرة الإنجليزي وجذبه من على حصانه فهوى إلى الأرض. قبض عليه وأودع السجن ثم أفرج عنه بعد 15 يوما. وعاد إلى المدرسة يقود الطلاب إلى الحركة الوطنية وفصلوه من المدرسة ومعه زميلاه "يوسف كامل ومحمد حسن" . وعام 1910م إشترك في معرض لأعمال طلبة مدرسة الفنون الجميلة بكلوب محمد علي بشارع المدابغ ولقيت أعمال مختار كل إعجاب وتقدير. وبعث به "الأمير يوسف كمال" إلى باريس لإتمام دراسته هناك ، ثم هفه شوقه إلى مصر فعاد إليها فترة قصـيرة وسافر إلى باريس ، وكانت الحرب العالمية الأولى "1914-1918" فقد فرقت الصحاب وإضطر إلى العمل في مصانع الذخيرة يعمل عشر ساعات ليلا في إعداد القنايل وحمل الذخائر.
البداية
قدم محمود مختار إلي القاهرة عام1902 وعاش في احيائها القديمة، والذى على مقربة منه افتتحت مدرسة الفنون الجميلة، بحى "درب الجماميز" عام 1908، فكانت مدخل الصبى إلى مستقبل غير متوقع، بعد أن التحق بصف أول دفعة، وهو في السابعة عشرة من عمره. بدت موهبة مختار ساطعة للأساتذة الأجانب، مما حدى بهم إلى تخصيص "مرسم خاص" له، ضمن مبنى المدرسة، لإعداد منحوتاته به، من تماثيل، وأشكال تستعيد مشاهد الريف، وملامح رفاق الحي. موهبته أيضاً دفعت راعى المدرسة، الأمير يوسف كمال، إلى أن يبتعث الصبي، إلى باريس، كى يتم دراسته هناك.
ومثلما نشأ مايكلانجيلو في رعاية الأمير الفلورنسي لورنزو دي مديتشي، فقد نشأ محمود مختار في رعاية الأمير المصري يوسف كمال. وتلقى مختار أول الدروس في الفن في المدرسة الملحقة بقصر الأمير يوسف كمال بالقاهرة.
تمثال نهضة مصر
سافر محمود مختار عام 1911 إلى باريس ليعرض نموذج لتمثاله الشهير نهضة مصر ، بمعرض شهير آنذاك وهو معرض الفنانين الفرنسيين 1920 ونال عليه شهادة الشرف من القائمين على المعرض ، ذلك التشريف الذي جعل بعض المفكرين البارزين في ذلك الوقت وحدا بهم إلى ضرورة إقامة التمثال في أحد ميادين القاهرة الكبرى.
ولأنجاز ذلك الهدف الشعبي في ذلك الوقت ، تمت الدعوة إلى تنظيم اكتتاب شعبي لإقامة التمثال وساهمت فيه الحكومة ، وتحقق الحلم وكشف عنه الستار عام 1928 ولازال قائماً إلى الآن أمام حديقة الحيوان بالقاهرة.
وهو في باريس إستطاع أن يصنع لبلاده ، وهو يعيد عنها رمزا لنهضتها ، لقد صاغ فكرته عن "تمثال نهضة مصر" فقال عنه أستاذه "لابلاني" في مدرسة الفنون الجميلة بالقاهرة ، وكان يقضي إجازته في أوروبا: "إن مختار سيكون فخرا لمصر بل فخرا للعالم". وكانت فكرة التمثال تعبيرا عن اليقظة التي بدأت في بلاده .. الفلاحة المصرية أم الأجيال التي أقامت حضارة مصر وأبو الهول رمز الحضارة المصرية القديمة" .. وكان يزمع أن يقدم نموذج تمثاله هذا في المعرض الكبير المزمع إقامته في باريس. وكان "سعد زغلول" هناك يرأس وفد الدعوة لقضية مصر. وشهد رجال الوفد أعمال مختار في متحف "جريفان" وتمثال النهضة ، وأدركوا أن هذا الفنان يجب أن يحتل مكانه اللائق في بلاده. وكان "ويصا واصف" عضو الوفد في باريس أكثر أعضاء الوفد ملازمة لمختار ومتابعة أعماله ، ويبدو أنه كان صلة الوصل بين مختار والزعيم "سعد زغلول" . وأقام الوفد حفل تكريم لمختار حضره جميع أعضاء الوفد وأعضاء الجماعة المصرية في باريس.
وإنتقلت أخبار "تمثال النهضة" إلى مصر. ووضع "أمين الرافعي" رئيس تحرير جريدة "الأخبار" الجريدة تحت تصرف الدعاة لتمثال نهضة مصر ، فكتب "محيى الدين حفني ناصف وحافظ عفيفي وواصف غالي وويصا واصف وأمين الرافعي" نداء إلى الأمة للإكتتاب لإقامة تمثال نهضتها وقدموا "مختار" للأمة. وإنطلق إسم "محمود مختار" سريعا بين الجماهير وإعتبروه بطلا قوميا. وأقيم إحتفال بالقاهرة وإحتفال بالإسكندرية ، وبدأت حركة الإكتتاب وأخذت الأقاليم وأفراد الشعب يتنافسون في مجال التبرع . وتوالت مقالات الكتاب وقصائد الشعراء.
مسيرة التمثال
وتشكلت لجنة التمثال برئاسة "حسين رشدي باشا" الذي كان رئيسا للوزراء في عدة وزارات ، وعضوية "واصف غالي وويصا واصف وحافظ عفيفي وأمين الرافعي ، ومحمد محمود خليل وعبد الخالق مدكور وفؤاد سلطان وعبد القوي أحمد". ووقعت أول أزمة للتمثال في وزارة "عدلي يكن باشا" الأولى "16 مارس – 24 ديسمبر عام 1921". وعلى الرغم من إهتمام "عدلي يكن" بالتمثال إلا أن ووزارة الأشغال التي رأت أن التمثال يقع في إختصاصها طلبت من "محمود مختار" شهادة بحسن السير والسلوك. وهنا ظهرت شخصية "مختار" الذي يحترم فنه ويعرف قيمة الفن في المجتمع كتب رسالة إلى "عدلي يكن" يقول فيها: "كنت أرى دائما يا صحاب الدولة أن إشراف الإدارة الحكومية في الحالة الراهنة على شئون الفن ليس فقط عديم الفائدة ولكنه ضار. أليس مضحكا ومثيرا في الوقت نفسه وصاية وزارة الأشغال على الفنون الجميلة. وجاء رده على طلب وزارة الأشغال له بتقديم شهادة حسن سير وسلوك "لقد طلب مني أن أقدم شهادة حسن سير وسلوك ، ولما كنت سيئ السلوك والخلق وقضيت في السجن خمسة عشر يوما وأنني أعزب فأنا في إستحالة مطلقة من أن أقدم الشهادة وقضي على ألا أكون أبدا موظفا حكوميا". وإهتم "عدلي يكن" بالرسالة وزار مختار في موقع التمثال.
وكان الأهالي قد جمعوا 6500 جنيه "ستة آلاف وخمسائة" وتبرعت مصلحة السكك الحديدية بنقل الأحجار من أسوان إلى القاهرة .. وخصصت وزارة "عبد الخالق ثروت الأولى" "أول مارس – 29 نوفمبر عام 1922" مبلغ 3000 جنيه "ثلاث آلاف جنيه" .. ثم تعثر العمل في التمثال وأوقع "أولاد الحرام" بين مختار و"الأمير يوسف كمال" فأفسدوا العلاقة القوية بينهما .. وظل الأمر على هذه الحال إلى أن جاء "سعد زغلول" رئيسا للوزارة الشعبية ووقف "ويصا واصف" في برلمان الشعب يدافع عن تمثال النهضة ويدعو الحكومة إلى تخصيص الإعتماد اللازم لإستكماله ، فأعلن "سعد زغلول" رئيس الوزارة الشعبية الأولى "يناير – نوفمبر عام 1924" أن حكومة النهضة يجبأ تتكفل بتمثال النهضة. ووضع "المهندس عثمان محرم" بتكليف من "سعد زغلول" تفاصيل المشروع . وصدر قرار من وزير المعارف بوزارة "سعد زغلول" محمد سعيد باشا بتشكيل لجنة سميت "لجنة الفنون الجميلة" ضمت إلى عضويتها "محمود مختار" لمدة ثلاث سنوات ، وقررت اللجنة الإهتمام بشئون البعثان الفنية وإعتماد ميزانية للفنون الجميلة والعناية بيتنظيم الدراسات الفنية في مصر وتنظيم مدرسة الفنون الجميلة وإنشاء مصنع في أسوان لتعليم فن الجرانيت نحت التماثيل.
وتعثر المشروع بعد إستقالة "سعد باشا" من رئاسة الوزراء في "نوفمبر عام 1924" ، وظل على هذه الحال إلى أن جاءت وزارة "عدلي يكن الثانية" "7 يونيو 1926-21 إبريل عام 1927". وكان "عدلي" رئيسا للوزارة و"سعد" رئيسا لمجلس النواب ، و"رشدي" رئيسا لمجلس الشيوخ .. ووقثف "ويصا واصف" في البرلمان يدافع عن "التمثال" وقرر البرلمان إجراء تحقيق في تعثر المشروع .. وإعتمد البرلمان المبالغ اللازمة لإتمام التمثال ، وتعاقدت الحكومة على إنجازه في 13 شهرا.
وأزيج الستار عن التمثال
وفي أولى وزارات الإئتلافات الوفدية "7 يونيو عام 1926 - 21 إبريل عام 1927" ، وكانت هي الوزارة الثانية لعدلي يكن وشارك فيها من الوفد: محمد فتح الله بركات للزراعة ، ومرقص حنا للمالية ، ومحمد نجيب الغرابلي باشا للأوقاف وعلي الشمسي أفندي للمعارف ، وعثمان محرم بك للأشغال. وفي عهد تلك الوزارة حظيت ساحة التمثال بزيارات من "سعد زغلول" وعدلي يكن وحسين رشدي، وعبد الخالق ثروت" وعدد من أظهر شخصيات الدولة وهم جميعا يقدرون عمل مختار ويعجبون بحماسه. وأصدر وزير المعارف "علي الشمسي" قرارا بإنشاء مكتبة خاصة بوزارة المعارف تطور إلى مراقبة عامة للفنون الجميلة. وأعطيت صلاحيات للجنة الفنون الجميلة ومختار عضو بها. وإنفصلت مراقبة الفنون الجميلة عن مراقبة التعليم الصناعي. تم إنشاء "المدرسة التحضيرية للفنون الجميلة والزخرفية".
وتقدم "مختار" لوزير المعارف "علي الشمسي" بمشروع إنشاء "مجلس أعلى للفنون برئاسة وزير المعارف" للإشراف على الحركة النفية ورسم الإتجاهات الأساسية لها ، والإهتمام بدراسة الفنون وتاريخ مصر القيدمة وعلم الجمال وفلسفة الفنون والعناية بمدرسي الرسم في المدارس وإنشاء معهد للموسيقى على أسس سليمة. وإستقبل الملك فؤاد "الفنان مختار" الذي قدم له تمثال "إمرأة القاهرة" وفي عهد وزارة "مصطفى النحاس باشا الأولى 19 مارس – 25 نوفمبر عام 1928" إنتهى العمل في التمثال وأقيم في ميدان باب الحديد "رمسيس حاليا" وأزاح الملك فؤاد الستار عن التمثال في 20 مايو عام 1928 ، وألقى رئيس الوزراء "مصطفى النحاس باشا" خطالب الدولة ، وألقى أمير الشعراء "أحمد شوقي" قصيدته: من يبلغ الكرنك الأقصري ويبني طيبة أطلالها ويسمع ثم بوادي الملوك ملوك الديار وأقبالها لقد بعث الله عهد الفنون وأخرجت الأرض مثالها وإلتقى الإحتفال الرسمي بالحماس الشعبي فجعل من إزاحة الستار يوما قوميا.
معركة النهاية
وبدأ المرض يناوش جبار الجرانيت منذ عام 1931 .. وإستقبل العام التالي وقد صار هشيما. فيهجر فرنسا إلى مصر يلتمس الدفء لجسده المكدود. وبعدها إستعاد شيئا من صحته فإنطلق مرة أخرى إلى باريس وكأنه أراد أن يودع باريس ويودع الصحاب من هناك. وفي يوليو عام 1933 ، أجريت له جراحة أضنته وإنتشرت بعدها سموم الجرح في جسده. وأعانته إرادة الحياة على الإنتصار وخيل إليه أنه خلص تمام من أمراضه. ولكن آلام الوجيعة عاودته. ولم يجد الأطباء إلا أن ينصحوه بالعودة إلى وطنه عله يجد في تربته شفاء. ودع أصدقاء وألقى نظرة حزينة على مرسمه. وكانت رحلة أسوأ رحلات حياته. وعندما إقتربت الباخرة من الإسكندرية لمعت في ذهنه فكرة جدية. أن يصنع تمثالا للإسكندر الأكبر يضعه في مدخل الإسكندرية. وكان في إنتظاره صديقه الفنان "محمود سعيد" ، وفي الصباح مضى به القطار إلى القاهرة وإستقر كعادته بفندق الكونتيننتال". ثم إستجأر منزلا بهليوبوليس على مقربة من الصحراء إلتماسا للشمس. وفي وزارة من بعض أصدقائه حدثهم عن عزمه السفر إلى برلين ليقدم الفن المصري للشعب الألماني ، ولكن العلة إشتدت ونقلوه إلى المستشفى. وكان يحي زواره بكلمة "الوداع". وفي 27 مارس عام 1934 خرجت القاهرة تودع "محمود مختار" وسار النعش من المستشفى وعلى مقربة من تمثال "نهضة مصر" توقف المشيعون قليلا بجثمان "مختار" .. وتكونت "جماعة أصدقاء مختار" من "هدى شعراوي والشيخ مصطفى عبد الرازق والدكتور علي إبراهيم وحافظ عفيفي وعلي الشمسي ، وعثمان محرم ، وعلي ماهر ، وبهي الدين بركات ، ود. طه حسين ، وخليل مطران ، وأحمد راسم".
أبرز إنجازاته الفنية
ساهم محمود مختار في إنشاء مدرسة الفنون الجميلة العليا وكما شارك في إيفاد البعثات الفنية للخارج ، كما اشترك في عدة معارض خارجية بأعمال فنية لاقت نجاحا عظيما وأقام معرضا خاصا لأعماله في باريس عام 1930 وكان ذلك المعرض سبباً في التعريف بالمدرسة المصرية الحديثة في الفن وسجلت مولدها امام نقاد الفن العالميين.
تماثيل سعد زغلول
نحت محمود مختار تمثالي الزعيم المصري الشعبي سعد زغلول بالقاهرة والأسكندرية في الفترة مابين عامي 1930-1932.
وإذا كان تمثال "نهضة مصر" قد أهمل في بعض العهود إلى أن أعطاه "سعد زغلول" دفعة مهمة في عهد وزارته الشعبية ، وتم إستكمال العمل في التمثال وإزاحة الستار عنه في عهد "مصطفى النحاس باشا" – وزارته الأولى 16 مارس – 25 نوفمبر عام 1928" فإن العمل في تمثالي سعد زغلول في القاهرة والإسكندرية قد حورب بشكل مكشوف. وفي عهد حكومة مصطفى النحاس باشا الثانية "أول يناير عام 1930 – 15 يونيو عام 1930" تم التعاقد بين الحكومة وبين "محمود مختار" على إقامة تمثالين للزعيم "سعد زغلول" تمثال في القاهرة وتمثال في الإسكندرية. كان "مختار" في ذلك الشهر بباريس. وكان أربعون تمثالا من أعماله تتألق في قاعة "برنهيم" بشارع "سانت هوندريه" وحولها حشد من رجال الفن والأدب ومن رجال السياسة والمجتمع. وصدر كتيب يعرف بالفنان المصري وبأعماله المعروضة. وعندما دعته بلاده للتعاقد على إقامة تمثالين لزعيم الأمة "سعد زغلول" ترك كل شيء وحضر على الفور لأن إقامة التمثالين كانت أمنية لمختار بعد رحيل "سعد زغلول" في أغسطس عام 1927 غير أن التقلبات السياسية في مصر حالت دون تنفيذ الفكرة وقت ذاك.
ولأن "مختار" مصري صميم المصرية يتنسب إلى أقوى الأصول وينحدر من قومية صحيحة ناصعة .. حصر إلى مصر فورا تاركا كل هذا التمجيد في الخارج. ووضع "مختار" تصورا لتمثال "سعد" في القاهرة .. يطل على النيل وتلوح من مطلع الطريق إيماءة يده كأنها إشارة البعث والإنتصار .. وحوله صور من حياة الشعب والقيم ، التي كرس لها جهاده "العدالة والدستور". وفي مقدمة التمثال "تحية للزعيم" تتمثل في مصر تحمل رمزي الشمال والجنوب ولوحة لمديريات القطر وقد أقبلت تؤدي تحية الإجلال والوفاء. وتصور "مختار" تمثال سعد في الإسكندرية رمزا لتحطيم القيود وجعل من إنقباض يده وصرامة ملامحه ، ومن العزم الأكيد الذي يبدو في خطواته رمزا لتجمع إرادة الأمة ولعزيمتها التي هبت تحطم الأغلال. ويمضي "مختار" إلى وادي الجرانيت في أسوان في جمع من عمال الصعيد لينتقي الأحجار. وحين كان مندفعا في تيار الحماسة والعمل بين القاهرة والإسكندرية تغير الإتجاه السياسي في مصر وجاءت حكومة "إسماعيل صدقي" وساومته على عدم إقامة التمثالين ولاموه لمجرد تفكيره في التمثالين وعرضوا عليه المال والمناصب ولكنه أعرض عن المغريات جميعا ومضى يتنقل بين الإسكندرية والقاهرة وأسوان. وتدخلت الحكومة بشكل سافر وحاولت أن تجمع الاحجار من أسوان وأن تمنع نقل ما تم إعداده منها إلى القاهرة أو إلى أسوان .. وظل في هذه المتاعب من "19 يونيو عام 1930 – 4 يناير عام 1933" فترة حكم إسماعيل صدقي. ولكن المعاونين له والعمال بدافع وطني تحدوا إرادة الحكومة وتم إستكمال التمثالين.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
القيمة الفنية
على الرغم من أن عمره الفني كان قصيراً لوفاته مبكراً ، إلا أنه نجح في أن يخلف تراثا كبيرا متميزاً من اعماله التي تضمنت تماثيل ميدانية وأعمال أخرى تعبر عن حياة الريف والقرية المصرية التي تأثر بها ، وتمثل صورا للحياة اليومية التي اجادها ابداعا وعبر عنها بشكل فني رائع.
ورغم ازدهار العديد من المدارس الفنية في ذلك العصر ، إلا أنه لم ينساق وراءها ، وفضل ان يعبر عن شخصيته وخلفيته بأسلوب خاص ، فقد قام بإحياء تقاليد الفنية المصرية في مختلف عصورها دون أن يغفل تجارب الفن الحديث وأصبح رائد فن النحت المصري المعاصر.
متحف محمود مختار
بعد أن توفي عام 1934 ،ونظراً للقيمة الفنية للفنان محمود مختار ، نادى الصحفيون ورواد الحياة الثقافية في مصر وعلى رأسهم هدي شعراوي بالحفاظ على أعماله الفنية وجمعها لحمايتها من الإندثار والضياع ، وكللت هذه الجهود بقيام وزارة المعارف عام1938 بإنشاء متحف لمختار ومقبرته علي نفقة الوزارة.
وفي نفس العام تم استرجاع بعض اعماله إلى مصر وعرضت بمعرض المثالين الفرنسيين المهاجرين بالجمعية الزراعية وأقيمت بهذه المناسبة ندوات ومحاضرات عن قصة حياته وتناولت عبقريته الفنية بالنقد والتحليل .
وحدث أن إندلعت الحرب العالمية الثانية أثناء ذلك ، وحال ذلك دون إعادة بقية التماثيل إلا ان جهود هدي شعراوي حققت نجاح عودة التماثيل ، كما كان لجهود طه حسين (وزير المعارف في الفترة من عام1950 حتي 1952) أثر كبير لإعادة أعمال محمود مختار إلى مصر.
وفي عام1952 تم افتتاح متحف مختار في ملحق خاص بمتحف الفن الحديث ليعرض 59 تمثالاً ، وقام على تأسيس وإعداد المتحف كل من الفنان راغب عياد زميل محمود مختار وصديقه ، وكمال الملاخ الصحفي والأثري البارز ، وقام المهندس رمسيس واصف بتصميم متحف مختار الحديث في حديقة الحرية بوسط القاهرة ونقلت رفات مختار إلي المقبرة الجديدة بالمتحف.
حول رؤية الفنان
- رأى الناقد : - لقد كان محمود مختار صاحب دعوة ورسالة .. ورائد طريق لا يقف عند آحد اثاره الفنية فبينما يمضى ابداعه في خطه الذى كانت نهضة مصر بدايته فإنه يمد جهوده الى ميادين أخرى بتعميم النهضة الفنية وثبيت دعائمها .. باعتبار الفن مصدر من مصارد الثروة القومية وإعلاء لذوق المجتمع .
وبرغم شواغله في الإنشاء والاعداد للحركة الفنية فإنه لم ينصرف عن دوره كمبدع في الفن .. ولم يقنع بالنجاح الذى أحرزه .. ولم يكتف بما أحاطه من تقدير فكانت آماله دائما أكبر من خطاه وكلما حقق شيئاً ضاعف الخطى .ولم يقف مختار عند مصرية الموضوعات والاهتمام بحياة الشعب وانما كان فنانا قوميا يتسلم التراث .
ويشيع في عروقه النبض والروح المصرية التى طافت بكل الحضارات وانغمست في روح العصر . - ورغم قصر عمر محمود مختار الفنى فقد خلف لنا تراثاً ضخماً من تماثيل الميادين ( نهضة مصر ) 1925 وتمثال سعد زغلول 1930 ومن حياة القرية المصرية صاغ قصائد منحوتة عبر فيها عن أحزانها ومشاعرها وأفراحها .
وهنا نلمح فن مختار وهو يتخلى ببطء وتدرج من تأثير المدرسة الباريسية التى تناولها في مقتبل حياته والتى اتسمت بالرقة والحركة والتسجيل الواقعى الى مرحلة النهوض الفنى التى تكشف عن الجمال الهندسى الداخلى .فكان تمثال الفلاحة والجرة نراه أول عمل ينبض بالروح الفرنسية التى تأثر بها في مرحلة تكوينة .. وفى تمثاله الفلاحة تجر الماء تفجرت الملامح والروح المصرية الأصيلة والتى تمثلت في الانحناءات المستديرة لحاسة التكوين البنائى وتبسيط الكتلة مع انسياب الخطوط بسلاسة .
وينحت مختار تمثال على شاطئ النيل للفلاحة المصرية رامزاً للشعب بأسره في خطوط وحدة حادة وتناسق .. حققت التوازن المعمارى للتمثال ، وتتجلى حاسة مختار في توفيقة بين اختيار الشكل الفنى الملائم لكل موضوع يتناوله بالمعالجة ،
وفن مختار كفنون هذا الوادى الفرعونى الإسلامى فن فيه ألفة مع الحياة كما في تماثيله اشراقة التفاؤل .. ووضاءة الصباح وقد تلمح فيها الشجن ولكن الشجن من حب الحياة .. وكانت تعبيرات نماذجه الريفية تشير الى اليقظة والأمل .. ولقد كان الفنان مختار أحد طلائع النهضة المصرية المعاصرة المبشرة بالتفاؤل بالبعد القريب حيث تمثلت في أعماله قدرة الفنان الإنسان على أن يعبر عن روح جنسه وشخصية عصره .. ومعالم بيئته وأن يؤكد ذاتيته من خلال تعبيره الشامل عن شخصية المجموع . الناقد / محمد حمزة
المؤثرات التى انعكست على الفنان فكرياً و فنياً
- نشأته في قرية ` نشا` القريبة من المنصورة حيث يجلس على شاطئ الترعة جعلته يصنع تماثيلة من طمى النيل - طينة الارض التقى بملامح عصره الوطنية والمشاعر الرومانسية وروح البطولة فأبدع تماثيل أبطال العرب ` خالد الوليد وعمر بن العاص ` .
- أول من أعاد الحياة لإزميل النحات المصرى بعد ان خمد مئات السنين فكان أول مصرى أقام تماثيله في الميادين العامة، أول فنان أقامت له الدولة متحفاً - وجوده في جو من الصراع بين القصر الخديوى والاستعمار الإنجليزى والاقطاعيين جعلة يتأثر بذلك في فنه - هو الفنان الذى انبعث من صميم الريف ليعيد لمصر مجد فن النحت، تلقى في تماثيله، (الحزن والقيلولة) التعبير باستخدام عناصر الجمال الرياضى في اللغه التشكيلية.
ملاحظات
- تنازلت أسرته بعد وفاته عن أعماله الفنية للدولة بشرط إقامة متحف لها ، اقامت الدولة متحفاً خاصاً لأعماله بحديقة الحرية بالجزيرة افتتح سنة 1962.
- اسم مختار يمثل رمزاً وعلامة في حركة الفن التشكيلى المصرى ، يعتبر رائداً عبقرياً لفن النحت وهو المعبر بفنه عن ثورة 1919 التى لا تزال رموزها مجسدة حتى الآن في تمثال نهضة مصر ، استطاع ان يلقى ظلاً كثيفا على الأجيال التالية من النحاتين المصريين .
- اشترك في الحركة الوطنية ليس فقط بفنه وإنما صرخ مع المظاهرات المطالبة بالدستور والاستقلال عام 1910 مزج بين الجماليات المجردة متدرعا ببسطات الملابس ( تمثال الخماسين ) .
المصادر
- الفنون الجميلة
- بدر الدين أبو غازي "مختار" ، وزارة الثقافة المصرية.
- جريدة العرب: مختار .. نحات الفراعنة المُجدد
1- بدر الدين أبو غازي: مختار.
2- صبري أبو المجد: أمين الرافعي.
3- عز الدين نجيب: التوجه الإجتماعي للفنان المصري المعاصر.
4- محمد كامل سليم: سعد في أوروبا.
- لمعي المطيعي: "موسوعة هذا الرجل من مصر"، القاهرة: دار الشروق، 2005.