فرنسا في الحرب الثورية الأمريكية
فرنسا، بالرغم من مصاعبها المالية, استغلت فرصة الحرب الثورية الأمريكية (1776–1781) لتـُضعف غريمتها اللدود في الشئون الاوروبية والعالمية، بريطانيا. فإستقلال المستعمرات سوف يضر بشكل كبير بالامبراطورية البريطانية وسيخلق قوة صاعدة, الولايات المتحدة, التي يمكن أن تصبح حليفة لفرنسا.
اتفقت الفلسفة هذه المرة مع الدبلوماسية. فمؤلفات ڤولتير، وروسو، وديدرو، ورينال، وعشرات غيرهم أعدت الذهن الفرنسي لمناصرة تحرير المستعمرات كما ناصر التحرير الفكري، وكان الكثيرون من الزعماء الأمريكيين-كواشنطن، وفرانكلين، وجفرسن-أبناء للتنوير الفرنسي. ومن ثم فحين قدم سيلاس دين إلى فرنسا (مارس 1776) ملتمساً قرضاً للمستعمرات الثائرة، كان الرأي العام الفرنسي شديد التعاطف معه، وراح بومارشيه في تحمسه يرسل المذكرة تلو المذكرة إلى فرجين يحثه فيها على مد يد المعونة لأمريكا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
التورط الفرنسي
وكان فرجين نبيلاً يؤمن بالملكية والأرستقراطية، وليس بينه وبين الجمهوريات أو الثورات ود، ولكنه كان تواقاً للثأر من إنجلترا لفرنسا. غير أنه لم يرض بالموافقة على أي معونة سافرة لأمريكا، لأن البحرية البريطانية كانت لا تزال أقوى من الفرنسية رغم ما أنفقته عليها سارتين، وكان في مقدورها تدمير السفن الفرنسية إذا كانت الحرب سافرة إلا أنه أشار الملم بالإذن ببعض المعونة السرية، وحجته لها في أمريكا أو قربها أسطول قادر على الاستيلاء متى شاء على الممتلكات الفرنسية والأسبانية في البحر الكاريبي. أما إذا أمكن المطاولة في الثورة، فإن فرنسا ستقوى، وإنجلترا تضعف، وتستطيع البحرية الفرنسية استكمال تجديدها. أما لويس فكان يرتعد فرقاً لفكرة تقديم المعونة لثورة ما، وحذر فرجين من أي عمل سافر قد يفضي إلى حرب مع إنجلترا(96).
الجدال حول الدعم الهادئ أم إعلان حرب مفتوحة
وفي أبريل كتب ڤرجن Charles Gravier, comte de Vergennes إلى بومارشيه يقول:
"سنعطيك سراً مليوناً من الجنيهات، وسنحاول الحصول على مبلغ مماثل من أسبانيا. (وقد حصلوا على هذا المبلغ) وبهذين المليونين عليك أن تؤلف شركة تجارية، وتزود الأمريكيين على مسؤوليتك بالسلاح والذخيرة والأجهزة، وسائر الأشياء التي يحتاجون إليها لمواصلة الحرب. وستسلمك ترسانتنا السلاح والذخيرة، ولكنك ستعوضها أو تدفع ثمنها. وإياك أن تطلب مالاً من الأمريكيين، لأنهم لا يملكون المال، ولكن أطلب مقابلاً غلات أرضهم، التي سنساعدك على بيعها في هذا البلد"(97).
— ڤرجن
وبهذا المال اشترى بومارشيه المدافع والبنادق والبارود والثياب والأجهزة اللازمة لخمسة وعشرين ألف رجل، ثم أرسل هذه البضائع إلى ميناء كان دين قد جمع فيه عدة قراصنة أمريكيين وأعاد تجهيزهم. وقد شجع وصول هذه المعونة أو الوعد الوثيق بها المستعمرين على إصدار إعلان الاستقلال (4 يوليو 1776). فلما ترجم الإعلان إلى الفرنسية، وتداوله الناس بموافقة الحكومة الفرنسية الضمنية، استقبلته جماعة الفلاسفة بحماسة وفرح، وكذلك تلاميذ روسو الذين تبينوا فيه أصداء من "العقد الاجتماعي".
وفي سبتمبر عين الكونجرس الأمريكي. بنيامين فرانكلين وآرثر لي - ليمضيا إلى فرنسا مندوبين، وينضما إلى دين، ويلتمسا لا المزيد من الإمداد فحسب، بل التحالف السافر إن أمكن.
ولم تكن هذه أول مرة ظهر فيها فرانكلين في أوربا. ذلك أنه في 1774 ذهب إلى إنجلترا ولم يكن قد بلغ التاسعة عشرة، وقد اشتغل طباعاً، ونشر دفاعاً عن الإلحاد والربوبية، وعاد إلى فيلادلفيا، وتزوج، وانضم إلى جماعة الماسون، وظفر بشهرة دولية بوصفه مخترعاً وعالماً. وفي 1757 أوفد إلى إنجلترا ممثلاً لمجلس بنسلفانيا في نزاع ضرائبي. ومكث في إنجلترا خمس سنين، والتقى بجونسن وغيره من وجوه القوم، وزار إسكتلندة، والتقى بهيوم وروبرتسن، ونال درجة عالية من جامعة سانت أندروز، وأصبح منذ الآن الدكتور فرانكلين. ثم عاد إلى إنجلترا من 1766 إلى 1776، وخطب في مجلس العموم معارضاً ضريبة الدمغة، وحاول المصالحة، ثم عاد إلى أمريكا حين رأى أن الحرب واقعة. وقد شارك في صياغة إعلان الاستقلال.
وصل فرانكلين إلى فرنسا في ديسمبر 1776 ومعه حفيدان له، وكان الآن في السبعين، ويبدو وكأنه الحكمة ذاتها مجسمة، والعالم كله يعرف ذلك الرأس الضخم والشعر المشتعل الخفيف، والوجه الشبيه بالبدر عند بزوغه المشرق. وأهال عليه العلماء أسباب التكريم، وادعى الفلاسفة والفزيوقراطيين أنه واحد منهم، ورأى المعجبون بروما القديمة فيه سنسناتوس، وسكيبو الأفريقي، والكاتوين، وقد بعثوا من مراقدهم، وصففت نبيلات باريس شعورهن في لمة مجعدة تقليداً لقبعته المصنوعة من فرو القندس؛ ولا ريب أنهن سمعن بغرامياته الكثيرة. وأذهلت الحاشية بساطة عاداته، ولباسه، وحديثه، ولكن بدلاً من أن يبدو مضحكاً في زيه القريب من زي الريفيين، كان اختيالهم في المخمل والحرير والمخرم هو الذي تبدى الآن كأنه محاولة فاشلة لإخفاء الواقع وراء مظهر كاذب. ومع ذلك قبلوه هم أيضاً، لأنه لم يستعرض أحلاماً لحكومات مثالية، بل تكلم بتعقل وإدراك سليم، وأظهرالوعي الكامل بالمصاعب والحقائق, كان يدرك أنه بروتستانتي، ربوبي، جمهوري، يطلب العون من بلد كاثوليكي وملك تقي.
وقد باشر مهمته في حذر وحيطة. فلم يغضب أحداً، وأبهج كل إنسان. وقدم فروض الاحترام لا لفرجين فقط بل لميرابو الأب ولمدام دودفان، ولمع رأسه الأصلع في الصالونات وفي أكاديمية العلوم. وشرف نبيلاً شاباً هو الدوق دلاروشفوكو أن يكون سكرتيره. وكانت الجموع تجري وراءه حين يظهر في الشوارع. ولقيت كتبه ترحيباً واسعاً حين ترجمت ونشرت "أعمالاً كاملة" وطبع من كتاب واحد "تقويم وتشرد المسكين" ثماني طبعات في ثلاثة أعوام. واختلف فرانكلين إلى محفل "النوف سير" الماسوني ومنح العضوية الفخرية، وإعانة الرجال الذين التقى بهم هناك على كسب فرنسا في حلف مع أمريكا. ولكنه لم يستطع أن يطلب للتو المعونة السافرة من الحكومة. وكان جيش واشنطن يتقهقر أمام السير وليم هاو، وبدا أن معنوية الجيش تحطمت. وبينما كان فرانكلين ينتظر أحداثاً أكثر يمناً أقام في باسي، وهي إحدى ضواحي باريس اللطيفة، وراح يدرس - ويفاوض، ويكتب نشرات الدعاية تحت أسماء مستعارة، ويستضيف طورجو، ولافوازييه، وموريلليه، وكاباني، ويغازل مدام دودتو في سانوا ومدام هلفتيوس في أوتوى، ولا عجب فقد كان في هاتين المرأتين فتنة جعلتهما جذابتين بغض النظر عن تقدمهما في العمر.
وكان بومارشيه وغيره أثناء ذلك يرسلون الإمداد إلى المستعمرات، وضباط الجيش الفرنسيون يتطوعون للقتال تحت إمرة واشنطن. كتب سيلاس دين في 1776 "تتكاثر علي تكاثراً رهيباً طلبات الضباط الراغبين في الذهاب إلى أمريكا... ولو كان لدي عشر سفن هنا لملأتها كلها بركاب لأمريكا"(99). والعالم كله يعرف كيف ترك المركيز لافاييت، البالغ من العمر تسعة عشر عاماً، زوجة مخلصة حبلى ليرحل (ابريل 1777) ويقاتل بلا راتب جيش المستعمرات. وقد اعترف لواشنطن قائلاً "إن الشيء الوحيد الذي أتعطش إليه هو المجد"(100)، وفي سبيل المجد أقتحم كثيراً من المخاطر وألوانا من الهوان، وجرح في براندي واين، وشارك في أهوال ڤالي فورج، وظفر بالمحبة الحارة من واشنطن رغم تحفظه المعهود.
الدخول في الحرب
وفي 17 أكتوبر 1777 هزم جيش للمستعمرين عدته عشرون ألف مقاتل قوة مؤلفة من خمسة آلاف جندي بريطاني وثلاثة آلاف مرتزق ألماني قادمين من كندا في ساراتوگا وأكرهها على الاستسلام. فلما بلغ نبأ هذا الانتصار الأمريكي فرنسا وجدت مطالبة فرانكلين، ودين، ولي، بإبرام حلف قبولاً بين مشيري الملك. غير أن نكير عارض إذ كره أن يرى ميزانيته التي قاربت التوازن تقلبها نفقات الحرب رأساً على عقب. إلا أن فرجين وموريبا ظفرا بموافقة لويس السادس عشر التي بذلها على مضض حين حذراه من أن إنجلترا-التي كانت عليمة منذ زمن طويل بالعون الفرنسي لأمريكا ومستاءة منه-قد تبرم صلحاً مع مستعمراتها وتوجه كامل قوتها الحربية ضد فرنسا. وعليه ففي 6 فبراير 1778 وقعت الحكومة الفرنسية معاهدتين مع "ولايات أمريكا المتحدة" أرست إحداهما علاقات التجارة، والمعونة، واشترطت الأخرى سراً أن ينضم الموقعان في الدفاع عن فرنسا إذا أعلنت عليها إنجلترا الحرب، ولا يبرم طرف صلحاً دون موافقة الآخر، ويواصل كلاهما قتال إنجلترا حتى يتحقق استقلال أمريكا.
وفي 20 مارس استقبل لويس المبعوثين الأمريكيين، ولبس فرانكلين جوارب حريرية طويلة لهذه المناسبة. وفي أبريل وصل جون آدمز ليحل محل دين ، وأقام مع فرانكلين في باسي، ولكنه وجد الفيلسوف العجوز في شغل بالنساء عن مهامه الرسمية. فتشاجر معه، وحاول العمل على استدعائه لأمريكا، ففشل، وعاد إلى أمريكا. وعين فرانكلين وزيراً مفوضاً لدى فرنسا (سبتمبر 1779). وفي 1780، حين كان يبلغ الرابعة والسبعين، عرض الزواج دون جدوى على مدام هلڤتيوس البالغة إحدى وستين سنة.
عمليات أمريكا الشمالية
وأحب الفرنسيون كلهم تقريباً هذه الحرب عدا نكير. فقد كان عليه أن يجمع الأموال الطائلة التي أقرضتها فرنسا لأمريكا: مليون جنيه في 1776، وثلاثة ملايين أخرى في 1778، ومليوناً آخر في 1779، وأربعة في 1780، وأربعة في 1781، وستة في 1782(101). وبدأ مفاوضات سرية مع اللورد نورث (أول ديسمبر 1779) أملاً في العثور على صيغة للصلح(102). وكان عليه بالإضافة إلى هذه القروض أن يجمع المال لتمويل حكومة فرنسا وجيشها، وبحريتها، وبلاطها. وبلغت جملة ما اقترضه من المصرفيين والشعب 530.000.000 جنيه(103). وقد لاطف الأكليروس حين أقرضوه أربعة عشر مليوناً، ترد أقساطاً قيمتها مليون جنيه كل عام. وظل يرفض فرض الضرائب، مع أن ثراء الطبقات العليا كان يمكن أن يجعل هذا الإجراء غير مؤلم نسبياً، وسيشكو من خلفوه في منصبه من أنه ألقى على عاتقهم هذه الضرورة التي لا محيص عنها. وقد حاباه الماليون لأنه منحهم على قروضهم معدلات الفائدة العالية التي طالبوا بها بحجة أنهم إنما يغامرون بأخطار متزايدة، أخطار عدم استرداد قروضهم على الإطلاق. ورغبة في تنمية الثقة في المجتمع المالي، نشر نكير بموافقة الملك في يناير 1781 "تقريراً مقدماً للملك" هدفه إطلاع الملك والأمة على إيرادات الحكومة ومصروفاتها، وقد أضفى على الصورة إشراقاً بإسقاطه النفقات الحربية وغيرها من المصروفات "غير العادية"، وإغفاله الدين القومي. وأقبل الجمهور على شراء "التقرير" بمعدل ثلاثين ألف نسخة في اثني عشر شهراً. وحيا الناس نكير ساحراً للمالية أنقذ الحكومة من الإفلاس. وطلبت كاترين الكبرى من جريم أن يؤكد لنكير "إعجابها الذي لا حد له بكتابه وبمواهبه"(104). غير أن البلاط غضب لأن "التقرير المقدم للملك" فضح الكثير جداً من مفاسد الماضي المالية، وكشف عن الكثير جداً من المعاشات التي تدفعها الخزانة. وهاجم بعضهم الوثيقة زاعماً أنها ليست إلا مديحاً للوزير بقلمه، وغار موريبا من نكير غيرته من طورجو من قبل وانضم إلى غيره في التوصية بإقالته. أما الملكة فدافعت عنه وإن ساءتها إجراءات الوفر التي اتخذها، ولكن فرجين سماه ثائراً(105). واشترك النظار الملكيون في اتهام نكير ومحاولة إسقاطه مخافة أن يحفظ التقويض سلطتهم بإنشاء المزيد من المجالس الإقليمية. وعمل نكير ذاته على سقوطه بأنه سيستقيل ما لم يمنح لقب الوزير وسلطته كاملين مع كرسي في المجلس الملكي، وقال موريبا للملك أنه لو أجيب نكير إلى طلبه هذا لتخلى جميع الوزراء الآخرين عن مناصبهم. واستسلم لويس، وأخلى سبيل نكير (19 مايو 1781) وحزنت باريس كلها لسقوطه إلا البلاط. وبعث يوزف الثاني بعزائه، ودعته كاترين الثانية للحضور وإدارة مالية روسيا(106).
المسارح الأخرى
وفي 12 أكتوبر 1779 انضمت أسبانيا إلى فرنسا ضد إنجلترا. وأوشك الأسطولان الفرنسي والأسباني المجتمعان، ببوارج مجموعها 140، أن يعدلا بوارج البحرية البريطانية وعددها 150(107)، وقطعا على بريطانيا سطوتها على البحار. وقد أثر هذا التغيير في ميزان القوة البحرية تأثيراً حيوياً في الحرب الأمريكية. ذلك أن الجيش البريطاني الرئيسي في امريكا، وعدته سبعة آلاف مقاتل يقودهم اللورد كورنواليس، احتل موقعاً حصيناً في يوركتون على نهر يورك قرب خليج تشيزابيك. وكان لافاييت برجاله الخمسة آلاف وواشنطن برجاله الأحد عشر ألفاً (بما فيهم ثلاثة آلاف فرنسي تحت إمرة الكونت روشامبو) قد التقيا عند يوركتون واستوليا على كل المداخل البرية الميسورة. وفي 5 سبتمبر 1781 هزم أسطول فرنسي بقيادة الكونت دجراس أسطولاً إنجليزياً صغيراً في الخليج، ثم أغلق كل مهرب مائي على قوة كورنواليس الأقل عدداً. فلما استنفد كورنواليس ذخيرته استسلم هو وجميع رجاله (19 أكتوبر 1781). واستطاعت فرنسا أن تزعم أن دجراس، لافاييت، ورشاميو قد لعبوا أدواراً كبرى في ذلك الحدث الذي تبين أنه الفاصل في الحرب.
السلام وعواقبه
وطلبت إنجلترا الصلح. وأوفد شلبيرن بعثتين منفصلتين إلى الحكومة الفرنسية والمبعوثين الأمريكان ي فرنسا، آملاً أن يثير أحد الحليفين على الآخر. وكان فرجين (1781) قد فكر من قبل في الصلح مع إنجلترا على أساس اقتسام معظم أمريكا الشمالية بين إنجلترا وفرنسا وأسبانيا(108)، وبدأ تفاهماً مع أسبانيا ليبقي وادي المسسبي تحت السيطرة الأوربية(109). وفي نوفمبر 1782 اقترح تأييد الإنجليز في سعيهم لإقصاء الولايات الأمريكية من مصايد الأسماك النيوفوندلندية(110). كانت هذه المفاوضات متفقة تماماً مع السوابق الدبلوماسية، ولكن المبعوثين الأمريكيين أحسوا حين علموا بها أن الوضع يبرر عملهم بمثل هذه السرية. واتفق فرجين وفرانكلين على أن لكل حلف أن يتعامل مع إنجلترا مستقلاً عن الآخر، على أن يوقع طرف أي معاهدة صلح دون موافقة الطرف الآخر(111).
أما المفاوضون الأمريكان-خصوصاً جون جاي وفرانكلين-فقد لعبوا اللعبة الدبلوماسية بمهارة فائقة، فلم يكسبا للولايات المتحدة الاستقلال فحسب، بل حق استعمال المصايد النيوفوندلندية، ونصف البحيرات العظمى، وكل المنطقة الشاسعة الغنية الواقعة بين جبال ألـّيگـِني والمسسبي، وكانت هذه الشروط أفضل كثيراً مما توقع الكونجرس الأمريكي الحصول عليه. وفي 30 نوفمبر 1782 وقع جاي، وفرانكلين، وآدمز، معاهدة تمهيدية مع إنجلترا، كانت من الناحية الرسمية انتهاكاً للاتفاق المبرم مع فرجين، ولكنها اشترطت ألا يكون لها صلاحية حتى تبرم إنجلترا الصلح مع فرنسا. وشكا فرجين، ثم قبل الوضع. وفي 3 سبتمبر 1783 وقعت المعاهدة النهائية "باسم الثالوث الأقدس غير المنقسم"(112)-بين إنجلترا وأمريكا في باريس، وبين إنجلترا وفرنسا وأسبانيا في فرساي. وبقي فرانكلين في فرنسا سفيراً للولايات المتحدة حتى 1785. فلما قضى نحبه في فيلادفيا (17 أبريل 1790) لبست الجمعية التأسيسية الفرنسية الحداد عليه ثلاثة أيام.
وقد أفلست الحكومة الفرنسية نتيجة للحرب وأفضى ذلك الإفلاس إلى الثورة. فقد بلغ مجموع ما أنفقته فرنسا على الصراع بليوناً من الجنيهات، وكانت الفائدة على الدين القومي تجر الخزانة يوماً فيوماً إلى هاوية العجز عن السداد. على أن ذلك الدين كان مشكلة ببين الحكومة والأغنياء لا تكاد تؤثر في الشعب، الذي أثرى كثير من أفراده بفضل تنشيط الصناعة وقد أوذيت الملكية-لا الأمة-أذى بليغاً، وإلا فكيف يستطيع التاريخ تعليل النجاح الذي ثبت به اقتصاد فرنسا الثائرة وجيوشها لنصف أوربا من 1792 إلى 1815؟
لا ريب في أن روح فرنسا قد رفعت. فقد رأى رجال الدولة في صلح 1783 بعثاً ظافراً أقامها من كبوتها عام 1763. أما جماعة الفلاسفة فقد هللوا للنتيجة ورأوها انتصاراً لآرائهم، والحق، كما قال توكفيل "أن الأمريكيين بدوا كأنهم نفذوا ما حلم به كتابنا"(113). ورأى الكثير من الفرنسيين في الإنجاز الذي حققته المستعمرات إرهاصاً يبشر بانتشار الديموقراطية في أوربا كلها. وسرت الأفكار الديموقراطية حتى إلى الطبقة الأرستوقراطية والبرلمانات. وأصبح إعلان الحقوق الذي أصدره مؤتمر فرجينيا الدستوري في 12 يونيو 1776، وقانون الحقوق الذي ألحق بالدستور الأمريكي، من بعض الوجوه نموذجين حذا حذوهما إعلان حقوق الإنسان الذي أعلنته الجمعية التأسيسية الفرنسية في 26 أغسطس 1789.
ولقد كان البهاء الأخير لفرنسا الإقطاعي، وأوج فروسيتها، أن تموت وهي تعين على إرساء دعائم الديموقراطية في أمريكا. صحيح أن معظم رجال الدولة الفرنسيين كانوا يفكرون بلغة بعث قوة فرنسا وحيويتها. غير أن حماسة النبلاء من أمثال لافاييت وروكامبو كانت الحقيقة لأمراء فيها. فلقد خاطروا بحياتهم غير مرة في سبيل الدولة الوليدة. كتب الكونت سيجور الشاب يقول "لم أكن قط الوحيد الذي خفق قلبه لصوت استيقاظ الحرية وهي تكافح للتخلص من السلطة الاستبدادية"(114). ونزل النبلاء الشهير عن حقوقهم الإقطاعية في الجمعية التأسيسية (4 أغسطس 1789) صور ومهد له هنا سلفاً. لقد كان ضرباً باسلاً من الهاراكيري، بذلت فيه فرنسا المال والدم لأمريكا، ونالت لقاء ذلك دفعة جديدة قوية للحرية.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
معرض صور
طالع أيضاً
- الحرب الثورية الأمريكية
- المركيز ده لافاييت
- الثورة الأمريكية
- قائمة الوحدات الفرنسية في الحرب الثورية الأمريكية
ببليوگرافيا
بالعربية
بالإنجليزية
- Samuel Flagg Bemis. The Diplomacy of the American Revolution (1935) online edition
- Brown, John L. "Revolution and the Muse: the American War of Independence in Contemporary French Poetry." William and Mary Quarterly 1984 41(4): 592-614. Issn: 0043-5597 Fulltext in : Jstor
- Frank W. Brecher. Securing American Independence: John Jay and the French Alliance. Praeger Publishers, 2003. Pp. xiv, 327 online
- Chartrand, René, and Back, Francis. The French Army in the American War of Independence Osprey; 1991.
- Corwin, Edward S. French Policy and the American Alliance of 1778 Archon Books; 1962.
- Dull, Jonathan R. A Diplomatic History of the American Revolution; Yale U. Press, 1985.
- Dull, Jonathan R. The French Navy and American Independence: A Study of Arms and Diplomacy 1774-1787 (1975)
- Louis Gottschalk; Lafayette Comes to America 1935 online
- Louis Gottschalk, Lafayette Joins the American Army (1937)
- Hoffman, Ronald and Albert, Peter J., ed. Peace and the Peacemakers: The Treaty of 1783. U. Press of Virginia, 1986. 263 pp.
- Hoffman, Ronald and Albert, Peter J., ed. Diplomacy and Revolution: The Franco-American Alliance of 1778. U. Press of Virginia, 1981. 200 pp.
- Hudson, Ruth Strong. The Minister from France: Conrad-Alexandre Gérard, 1729-1790. Lutz, 1994. 279 pp.
- James H. Hutson. John Adams and the Diplomacy of the American Revolution (1980)
- Kaplan, Lawrence S. "The Diplomacy of the American Revolution: the Perspective from France." Reviews in American History 1976 4(3): 385-390. Issn: 0048-7511 Fulltext in Jstor; review of Dull (1975)
- Kennett, Lee. The French Forces in America, 1780-1783.Greenwood, 1977. 188 pp.
- Kramer, Lloyd. Lafayette in Two Worlds: Public Cultures and Personal Identities in an Age of Revolutions. (1996). 355 pp.
- Lafayette, Marquis de. Lafayette in the Age of the American Revolution: Selected Letters and Papers, 1776-1790. Vol. 2: April 10, 1778-March 20, 1780. Cornell U. Press, 1979. 518 pp.
- James Breck Perkins; France in the American Revolution 1911 online
- Popofsky, Linda S. and Sheldon, Marianne B. "French and American Women in the Age of Democratic Revolution, 1770-1815: a Comparative Perspective." History of European Ideas1987 8(4-5): 597-609. Issn: 0191-6599
- Pritchard, James. "French Strategy and the American Revolution: a Reappraisal." Naval War College Review 1994 47(4): 83-108. Issn: 0028-1484
- Schaeper, Thomas J. France and America in the Revolutionary Era: The Life of Jacques-Donatien Leray de Chaumont, 1725-1803. Berghahn Books, 1995. 384 pp. He provided military supplies.
- Harlow Giles Unger; Lafayette Wiley, 2002 online
بالفرنسية
- Susan Mary Alsop, Les Américains à la Cour de Louis XVI, 1982. Traductio française : Jean-Claude Lattès (1983).
- Mourre, Dictionnaire encyclopédique d'histoire, Paris, Éditions Bordas, 1987, en 8 vol.
- Le petit Mourre : dictionnaire de l'histoire, Paris, Éditions Bordas, 1990.
- Henri Haeau, Complot pour l'Amérique 1775-1779, Paris, Éditions Robert Laffont, 1990, ISBN 2-221-05364-8
- J.-M. Bizière et J. Sole, Dictionnaire des Biographies, Paris, Éditions du Seuil, 1993.
- Olivier Chaline, La France au XVIIIe siècle (1715-1787), Paris, Éditions Belin, 1996.
- Joël Cornette, Absolutisme et Lumière 1652-1783, collection Carré Histoire, Paris, Éditions Hachette, 2000. ISBN 2-01-145422-0
- Egret, Jean. Necker, Ministre de Louis XVI, 1776-1790; Honoré Champion; Paris, 1975.
- André Zysberg, La Monarchie des Lumières (1775-1786), Paris, Éditions du Seuil, 2002.
المصادر
ديورانت, ول; ديورانت, أرييل. قصة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود.