دور البروتستانت في النهضة العربية
أثار الخط الهمايوني 1856 مخاوف فئة التجار المرابين من الطوائف المسيحية، ولاسيما داخل أوساط المثقفين الذين يعبرون عن أيديولوجية هذه الفئة الاجتماعية، ومن المعقول جدا أن الأوهام التي تولدت بعد الخط الهمايوني والتي ترددت من على منابر وندوات الجمعية بصفة أمان وآمال، بل وحتى على شكل مطالب وتوقعات، أثارت أيضا حفيظة الوالي التركي.[1]
وللعلم نقول ان الخط الهمايوني أثار تبدلا ظاهرا في المناخ الفكري لدى رجالات النهضة باتجاه تحريك الأمزجة نحو التضامن مع الواقع العثماني، وغيرها من الأمور التي سنفصلها خلال حديثنا عن الجامعة العثمانية. لذا نكتفي الآن بالتلميح الى أن ذلك التبدل الفكري كان سببا رئيسيا في اثارة النعرات والانقسامات، فضلا عن تقويض أركان الجمعية بأسرها. ومن المحتمل أن الانقسام لم يطل فقط أوساط المثقفين الوطنيين، بل انتقلت عدواه الى العلاقة القائمة بينهم وبين المرسلين الأجانب. وقد أكد كمال الصليبي المتضلع في المصادر والمراجع البروتستانتية، ولاسيما الانكليزية منها، أن البروتستانت الوطنيين "تمردوا على المبعوثين المتكبرين والمتغطرسين" في أواخر الخمسينيات" ، وبأن "الخلاف ذر قرنه بين الطرفين فاتسمت علاقاتهم بالتوتر الشديد".
ويمكن استقراء عدم التجانس في المواقف من سياق المعلومات التي وصلتنا من الجمعية العلمية الخطابية التي تأسست سنة 1859 بترخيص رسمي من الدولة.
المعلومة الأولى تخص رئاسة الجمعية، وهي تفيدنا أن القنصليين الأمريكي والبريطاني توليا الاشراف على ادارة الجمعية رسميا، بيد أن ذلك اتخذ طابعا تشريفيا وشكليا. وان الرؤساء الفعليين لهذه الجمعية هم ثلاثة من أعلام الفكر والثقافة في المجتمع البيروتي آنذاك، بطرس البستاني البروتستانتي، وميخائيل مدور الماروني الكاثوليكي، وخليل الخوري الأرثوذكسي، وهم من الناس المقربين تبعا الى القنصليات الأمريكية- الإنكليزية، والفرنسية والروسية.
المعلومة الثانية تطلعنا على أن الدكتور كورنليوس ڤان ديك كان الوحيد بين نخبة المرسلين، الذي وطد علاقات وثيقة مع الأعضاء الوطنيين، أي أنه كان إنسانا علمانياً أكثر ميلا نحو الشرق في أوساط المبعوثين الأوربيين. وهم رغم اتصاله الدائم والمستمر بالوسط التبشيري، أصبح خلال عقد من السنين من أبرز المنورين اللبنانيين الأصليين. وكمصدر لقولنا نذكر بأنه ألقى في أول اجتماع للجمعية الخطابية، محاضرة عنوانها "التوفيق بين العلم والدين" باللغة الانگليزية رغم تمكنه حينئذ من ناصية اللغة العربية، ومن هنا يصح الافتراض التالي، وهو أن فان ديك لم يكن ينوي توجيه كلامه إلى سامعيه من العرب الوطنيين الذين دأب المبشرون الأجانب على اقناعهم بضرورة استيعاب المعارف العلمية التي لا تشكل خطرا على معتقداتهم الدينية، متخذين من ذلك قناعا للتستر على مآربهم الخبيثة، بل توجه في الواقع إلى أصدقائه من المبشرين الأنگليكان وإلى ملهميهم وأسيادهم الأجانب. كل ما في الأمر أن المرسلين الأجانب في مطلع الخمسينيات وضعوا نصب أعينهم مهمة الدعوة الحارة والصادقة للنشاط العلمي – الثقافي، ولكنهم تحولوا في أواخر الخمسينيات إلى مواقع التبشير الديني والروحي البحت. الأمر الذي يقودنا إلى الاستنتاج المنطقي التالي، أن المراوحة في أطر تكتيكهم السابق كان يعني الانفصام إلى هذا الحد أو ذاك بين استراتيجية المبشرين من جهة، وبين استراتيجية المنورين العرب في بيروت المتطلعة إلى التطور والتقدم.
نؤكد في هذا المقام أن المحاضرة التي ألقاها بطرس البستاني في 15 شباط (فبراير) 1859 بعنوان "خطاب في آداب العرب" تمثل النموذج الأمثل للنزعات الجديدة التقدمية السائدة في أوساط المفكرين النهضويين العرب. ذلك الخطاب الذي نشرته البعثة الأمريكية في بيروت في كتيب خاص، أثار ضجة كبيرة ولاقى صدى واسعاً بين الناس .
لقد تكلم البستاني بايجاز عن الحضارة العربية قبل الإسلام، وركز جل اهتمامه على الحضارة وتطور العلوم والمعارف في العصر العباسي مشيرا الى واقع تكون ثقافة عالمية المستوى. وإبان حديثه عن اللغة العربية خلص إلى فكرة مفادها أن الحركة الأدبية المعاصرة تفرض مهام عاجلة على صعيد اجراء تغيير ملموس في بنية اللغة العربية وجوهرها. ففي كلامه عن ثراء اللغة العربية بالمترادفات والمتجانسات قال البستاني:
"إن اللغة التي تعبر عن مفهوم واحد بكلمات عديدة، ولا تملك القدرة على التعبير بكلمة واحدة ووحيدة عن مفاهيم عديدة، لا يجب من حيث الجوهر اعتبارها لغة غنية، بل فقيرة". |
وتطرق في خطبته الى قضايا لغوية هامة، وخطيرة، كتطوير علم الصرف والنحو، وتقريب اللهجة العامية من اللغة الفصحى، فقال:
"إذا لم تقترب الفصحى من اللغة الدارجة، فان هذا سيؤدي الى نتائج لا تحمد عقباها، إذ تصبح هذه اللغة ميتة بالنسبة للإنسان العربي المعاصر، كما حدث للغة اللاتينية عند الشعوب الرومانية، ولغة الگرابار (الأرمنية القديمة) عند الأرمن المعاصرين، أو لليونانية القديمة لدى أهل اليونان المعاصر". |
ثم يستطرد قوله:
وهنا ارتأى المحاضر اثارة الحمية والحماسة في نفوس سامعيه من العرب فقال:
وفي ختام كلمته أشاد البستاني بفضائل السلطان عبد المجيد وشمائله والذي أصدر "الخط الهمايوني" و"بأفكاره الإنسانية التنويرية" و"بالحريات التي أغدقها على أهل الذمة غير المسلمين"، فقال:
هذا التوجه العروبي الجديد تجسدت ردود فعله السريعة في ظهور الجمعيات والأندية الأدبية. ولعل أشهرها "العمدة الأدبية لاشهار الكتب العربية" أي لإحياء التراث العربي القديم، ضمت هذه الجمعية ذات الاهداف التنويرية 14 عضوا مؤسسا، أغلبهم من المثقفين النصارى وأقلية من العرب المسلمين. وهذه أسماء مشاهيرهم: ناصيف اليازجي، بطرس البستاني، إسكندر أبكاريوس، خليل الخوري، ميخائيل مدور، نقولا نقاش، حسين بيهم، ابراهيم الأحدب، وغيرهم. فالنشاط الذي ابتداه أبكاريوس قبل عقد من السنين باتجاه بعث التراث العربي من رقاده الطويل افسح المجال واسعا أمام قيام هذه الجمعية واضطلاعها بفعاليات وأنشطة حثيثة لتعريف الأوساط العربية بالآثار الجليلة من تاريخ العرب وآدابهم في القرون الوسطى . وليست مصادفة محضة أن الجمعية سعت لنشر المؤلفات والتصانيف التي وضعت في الوسط السوري العربي. فديوان الشاعر أبي الطيب المتنبي الذي تغنى بأمجاد العرب وفضائلهم كان باكورة مطبوعات الجمعية، فقد ضبطه وعلق حواشيه وناظر طبعه المعلم بطرس البستاني.
مختصر القول: تكونت أيديولوجية النهضة الثقافية العربية التي أخذت تتميز بووضح الرؤية، وتتسم بصبغة سياسية واضحة المعالم. هذا التوجه السياسي القومي يعبر عن جنينية الفكر القومي السوري، الذي كان قابلا للتعايش والترعرع في أوساط المنورين العرب–السوريين (نقصد اللبنانيين تحديدا) الموجودين في بيروت ، مركز العلم والنور.
لقد شغل بال المستعربين سؤال طرح نفسه باستمرار: ما هو سبب ظهور النهضة وحركة التنوير العربي وفكرة القومية العربية في وسط الرواد السوريين المسيحيين (أغلبية لبنانية) وليس في أوساط النهضة السوريين المسلمين أو في الأقطار العربية الشرق أوسطية الأخرى؟
إن محاولة البحث عن الاجابة في حدود سورية الطبيعية–التاريخية تفرض علينا التذكير بالوضع الاجتماعي–الاقتصادي والاداري – السياسي الذي امتاز به لبنان عصرئذ، فضلا عن الأحوال الثقافية الخاصة التي تمتع بها قياساً إلى الأوضاع السورية ككل.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الرواية
قام خليل الخوري بتأليف أول رواية عربية، "وي فالأفرنجي" (سنة 1859).
المسرحية
وقام نقولا نقاش بكتابة أول مسرحية وأخرجها ومثلها أخوه مارون نقاش.
الهامش
- ^ نجاريان, يغيا (2005). النهضة القومية-الثقافية العربية. دمشق، سوريا: أكاديمية العلوم الأرمنية - الدار الوطنية الجديدة.