النظام الأساسي لمتصرفية جبل لبنان
النظام الأساسي في جبل لبنان وقعه في التاسع من حزيران (يونيو) 1861 تركية والدول الأوربية (النمسة، فرنسة، بريطانية، بروسية، روسية) اتفاقية "النظام الجديد في جبل لبنان" والمعروف تاريخيا ب"النظام الأساسي". لقد ضمن النظام الأساسي لسكان لبنان العديد من الامتيازات شبه المستحيلة في ظروف الدولة العثمانية عامة.
أولى تلك الامتيازات، أن حكام لبنان يجب أن يكونوا من المسيحيين غير الوطنيين ومن رعايا الدولة العثمانية. والأمر الذي يلفت الانتباه أن أربعة من أصل ثمانية من المتصرفين الذين حكموا جبل لبنان منذ 1861 حتى الغاء الحكم الذاتي سنة 1915، كانوا من أبناء طائفة الأرمن الكاثوليك . لم يكن هؤلاء الحكام صنائع الباب العالي – كما تم تصويرهم باجحاف في التاريخ – بل متصرفة عيـَّنهم السلطان بموافقة الدول الأوربية لآماد محددة،. وقد خول المتصرفون حق وقف أي تدخل عسكري للأتراك في شؤون البلاد الداخلية، اذ لم يكن لها أي حق في دخول منطقة الحكم الذاتي دون إذن مسبق من المتصرف، في الوقت الذي كان فيه حتى الأمراء الأقوياء يتعرضون في أية لحظة لهجوم جحافل القوات التركية، التي كانت تقوم بدور الجلاد في تقطيع رقاب الناس.
وقضى النظام الأساسي أن يعاون المتصرف في ادارة شؤون الحكم مجلس ادارة من 12 عضوا يمثلون الطوائف اللبنانية بنسب متفاوتة (4 موارنة، 3 دروز، 2 روم أرثوذكس، وواحد عن كل من الروم الكاثوليك، والسنة والشيعة). كما نص النظام على انشاء محاكم من ثلاث درجات (محاكم الصلح، ومحاكم البداية، ومجلس المحاكمة الكبير) لتولي شؤون القضاء. كما اقتضى النظام تأسيس نظام الضبطية أو الدرك وغيرها من المؤسسات والمصالح التي وجب أن تسهر على مساواة الناس أمام القانون. علاوة على ذلك، كانت الصلاحيات المالية معطاة للمجلس الاداري الكبير الذي يرأسه المتصرف، والذي يجب عليه أن يسعى لاحلال التوازن بين عائدات الجبل ونفقاته، بما يكفل الحفاظ على ادارة الحكم الذاتي في الجبل وتحقيق المشاريع لخير النفع العام. ومن الجدير بالذكر أن المادة السادسة من البروتوكول تنص على الآتي: "الجميع متساوون أمام القانون. وتلغى كل الامتيازات الاقطاعية، ولاسيما امتيازات المقاطعجية". وهكذا يكون بروتوكول الحكم الذاتي قد ألغى الملكية الاقطاعية غير المشروطة، بمعنى أن العلاقات الاقطاعية رغم عدم زوالها نهائيا، فان الغاء الحقوق والامتيازات الدارية والقضائية للمقاطعجية أدى بالضرورة الى تنظيم وتحسين أوضاع غالبية السكان ، ولاسيما الفلاحين، ومهد السبيل أمام انتعاش عناصر البرجوازية المرابية وسهلت أمور تحقيق أهدافهم الاجتماعية ومراميهم الاقتصادية.
ان واقع فشل العثمانيين (منذئذ وحتى بداية الحرب العالمية الأولى، لا بل وفي سنى سياسة الظلم التي مارسها السلطان عبد الحميد الثاني) في عرقلة الاتصالات بين الحكم الذاتي في جبل لبنان (الذي كانت للأتراك اليد الطولى في تقزيم حدوده الطبيعية) وبين المناطق التابعة له تاريخيا وجغرافيا، فضلا عن التغيرا الاجتماعية – الاقتصادية والسياسية – الادارية التي شهدتها المتصرفية (التي كبحت جماح التحكم التركي الى حد ملموس) ولاقت صدى واسعا في شتى أرجاء الارض اللبنانية، وساهمت موضوعيا في تصاعد المد النهضوي في المستقبل. علاوة على ذلك، كان النظام الجديد بمثابة انتصار للطوائف المسيحية في بيروت والجبل اذ انه كرس قانونيا الحكم الذاتي المعترف بها دوليا بوصفه كيانا مستقلا اداريا وسياسي عن سورية. هذا الواقع دفع بالضوررة المثقفين المسحيين اللبنانيين الذين كانوا حتى الأمس القريب يعدون أنفسهم الى هذا الحد أو ذاك "سوريين عربا" للتفكير مليا في صيغة جديدة مستقلة ذات هوية "لبنانية – عربية"، والتوجه الى الروح اللبنانية من أرضية وطنية تبرز دورهم الخاص والفعال في اطار النهضة الفكرية الثقافية العربية.
وبهذا المعنى ساهمت بعض العوامل الموضوعية والظروف التاريخية الملموسة في عملية تجذير حركة النهضة في بيروت. نذكر منها: تضخم عدد السكان النصارى في بيروت نتيجة للمذابح الدموية ابان الفتنة الطائفية الكبرى سنة 1860 وازدياد عدد الأجانب وخاصة الفرنسيين، وانتعاش الحياة التجارية الاقتصادية، وزيادة الاهتمام ببيروت بوصفها معبرا استراتيجيا للتغلغل الاقتصادي والثقافي الأوربي الى الدولة العثمانية وفي المقام الأول الى بر الشام، وتعدد المبادرات الاجتماعية – الثقافية من جراء المنافسة الحادة بين مختلف الطوائف . بفضل هذه الحوافز نالت بيروت وفي أمد قصير – كما سنرى – امكانية السير في خط بياني تصاعدي للحياة الفكرية – الثقافية التى شهتدت فيما مضى فتورا ملحوظا. وقد أشار المستشرق الروسي جيرجاس الى هذه الحقيقة بقوله: "ان بيروت تسير الى الأمام بخطى حثيثة ثابتة".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المصادر
- ^ نجاريان, يغيا (2005). النهضة القومية-الثقافية العربية. دمشق، سوريا: أكاديمية العلوم الأرمنية - الدار الوطنية الجديدة.