دخول الولايات المتحدة في المسألة السودانية
فيصل عبد الرحمن علي طه ساهم بشكل رئيسي في تحرير هذا المقال
|
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
معاهدة 1936
أحكام معاهدة سنة 1936
تم التوقيع على المعاهدة في 26 أغسطس 1936 بين مصطفى النحاس رئيس وزراء مصر وأنتوني إيدن وزير خارجية المملكة المتحدة. إسمها الرسمي «معاهدة التحالف» وأطلق عليها النحاس إسم «معاهدة الشرف والاستقلال». ضم وفد التفاوض بشأنها كل الأحزاب المصرية باستثناء الحزب الوطني الذي تمسك بسياسته الداعية إلى عدم المفاوضة إلا بعد الجلاء. ما يهمنا من أحكام المعاهدة في هذه السياق الآتي:
- سحب القوات البريطانية من المدن المصرية باستثناء تلك التي ترابط في منطقة قناة السويس لكفالة حرية الملاحة في القناة وحمايتها التامة.
- في حالة الحرب أو خطر الحرب الداهم أو قيام حالة دولية مفاجئة يخشى خطرها، تلتزم الحكومة المصرية بتقديم كل التسهيلات والمساعدات للقوات البريطانية ويكون لها حق استخدام موانئ مصر ومطاراتها وطرق المواصلات بها.
- عودة وحدات من الجيش المصري إلى السودان وكانت قد سُحبت منه إبان أحداث سنة 1924. فقد نصت الفقرة الثالثة من المادة 11 من المعاهدة على أن «يكون جنود بريطانيون وجنود مصريون تحت تصرف الحاكم العام للدفاع عن السودان فضلاً عن الجنود السودانيين».
- أجازت المادة 16 من المعاهدة لأي من الطرفين بعد انقضاء فترة عشرين عاماً على سريان المعاهدة، طلب الدخول في مفاوضات لإعادة النظر في احكامها. وأجازت المادة 16 أيضاً الدخول في مفاوضات لإعادة النظر في أحكام المعاهدة بعد انقضاء فترة عشر سنوات على سريانها، ويكون ذلك بموافقة الطرفين.
النحاس يلوح بإلغاء معاهدة 1936
في خطاب العرش الذي تلاه في 16 نوفمبر 1950 عند افتتاح الدورة البرلمانية، قال مصطفى النحاس رئيس وزراء مصر إن معاهدة سنة 1936 قد فقدت صلاحيتها كأساس للعلاقات المصرية - البريطانية وأنه لا مناص من اتخاذ قرار بإلغائها، ولا مفر من الوصول إلى أحكام جديدة ألا وهي الجلاء الناجز الشامل ووحدة مصر والسودان تحت التاج المصري. وأعلن أن الحكومة المصرية ماضية دون تردد أو إبطاء في تحقيق الأهداف الوطنية ولن تترك وسيلة إلا اتخذتها للوصول إلى غايتها، ومن هذه الوسائل إلغاء معاهدة سنة 1936 إستناداً إلى تعارضها مع ميثاق الأمم المتحدة فضلاً عن تغير الظروف التي لابست إبرامها، وما يتبع ذلك من إلغاء إتفاقيتي 19 يناير و10 يوليو 1899 بشأن السودان.[1]
تقييم أمريكي - بريطاني لمسألتي الدفاع والسودان: أغسطس - سبتمبر 1951
أبلغ وزير خارجية بريطانيا موريسون وزير خارجية مصر محمد صلاح الدين في 17 أغسطس 1951 أنه يبحث على وجه الاستعجال مشروعاً جديداً لعلاج مسألة الدفاع. وفي واقع الأمر فقد كانت الحكومتان البريطانية والأمريكية عاكفتين على بحث مشروع جديد لإقامة نظام دفاعي للشرق الأوسط ليحل محل الترتيبات الثنائية بين مصر وبريطانيا بمقتضى معاهدة سنة 1936. وكانت الحكومة الأمريكية على اقتناع تام بأن مثل هذا النظام مهم لحماية المصالح الاستراتيجية والاقتصادية الغربية في الشرق الأوسط ضد الخطر الشيوعي.
وإزاء تباين مواقف مصر وبريطانيا بشأن مسألة السودان وتهديد الحكومة المصرية في يوليو 1951 بقطع المفاوضات، اقترحت وزارة الخارجية الأمريكية تكليف جيفرسون كافري السفير الأمريكي في القاهرة ورالف استيفنسن السفير البريطاني هناك بإعداد تقييم مشترك عن الشعور العام في مصر بشأن الوجود العسكري البريطاني ومسألة السودان. فقد كانت الحكومة الأمريكية تخشى أن يؤدي إلغاء معاهدة سنة 1936 واتفاقيتي سنة 1899 إلى انهيار العلاقات المصرية - البريطانية وحدوث اضطرابات في مصر تعرض للخطر المشروع الغربي للدفاع عن الشرق الأوسط.
حري بنا أن ننوه هنا إلى أن امريكا كانت تتبع آنذاك سياسة إحتواء الشيوعية. صاغ هذا المبدأ أو المفهوم الذي أسست عليه هذه السياسة الديبلوماسي الأمريكي جورج كينان وهو في مجمله عبارة عن تعهد بمقاومة الشيوعية أنى وجدت. ويعتبر مبدأ الرئيس الأمريكي هاري ترومان التطبيق العملي لهذا المفهوم. وعلى سبيل المثال شملت التطبيقات ملء الفراغ الذي قد يحدثه زوال الاستعمار الأوربي التقليدي في آسيا وافريقيا والشرق الأوسط حتى لا يتمدد فيه النفوذ الشيوعي، وتقديم العون العسكري والاقتصادي للدول لتمكينها من الصمود في وجه التوسع الشيوعي وإقامة الأحلاف العسكرية.
نتائج التقييم المشترك
رفع السفير البريطاني نتائج التقييم المشترك إلى حكومته في 28 أغسطس 1951. ونود أن نسجل هنا أن السفيرين خلصا -ضمن أمور أخرى- إلى النتائج التالية:
- إن أياً من الزعماء السياسيين الحاليين في مصر لن يجرؤ على أن يحيد عن شعاري الجلاء ووحدة وادي النيل.
- ما لم يُقدم إلى مصر عرض مقبول كأساس للتفاوض لتسوية مسألتي الدفاع والسودان، فسيجري قريباً إلغاء معاهدة سنة 1936 من قبل حكومة الوفد. وسيتبع ذلك إجراءات إدارية موجهة ضد القوات البريطانية في منطقة قناة السويس وقد يصاحب ذلك مظاهرات معادية لبريطانيا. وهذا فضلاً عن أن مصر ستعلن وقوفها على الحياد في حالة نشوب حرب كبرى مما سيؤثر على فائدة القاعدة واستراتيجية الدول الغربية في زمن الحرب..
- إن المشروع الجديد بشأن مسألة الدفاع والذي تجري دراسته من قبل الحكومتين الأمريكية والبريطانية لن يكون مقبولاً لدى الحكومة المصرية إلا إذا روعي في صياغته إعطاء وزن كبير للشعور المصري العام.
- إن الحد الأدنى من التعاون المطلوب من مصر لن يتوفر إلا إذا وضعت مصر على قدم المساواة مع الدول الأخرى المشاركة في النظام الدفاعي الجديد للشرق الأوسط.
- إن أية حكومة مصرية لن تكون مستعدة للدخول في اتفاقية دفاعية إلا إذا تزامن ذلك مع تسوية مسألة السودان.
- لا يوجد أي ضمان بأن أية حكومة مصرية ستملك الشجاعة الكفاية لقبول أي عرض مهما كان سخياً ومخلصاً إذا كان لا يحقق شعاري الجلاء ووحدة وادي النيل.
وتأسيساً على هذه النتائج تقدم السفيران كافري واستيفنسن بسبع توصيات كانت ثلاث منها عن مسألة السودان وثلاث أخرى عن مسألة الدفاع. وأما التوصية السابعة والأخيرة فقد كانت عما يمكن أن يحدث إذا لم تصل الأطراف إلى اتفاق. وقد كانت هذه التوصيات كما يلي:
- إن المشروع الجديد بشأن الدفاع يجب أن تقدمه دون تأخير بريطانيا والولايات المتحدة وربما بمشاركة فرنسا، كما ينبغي أن يحظى بالدعم الدبلوماسي من تركيا.
- يجب الاعتراف علناً بحق مصر كدولة ذات سيادة بأن تطلب سحب القوات الأجنبية من أراضيها ولكن بشرط أن توافق على تقديم التسهيلات التي تحتاجها القيادة المتحالفة.
- إلغاء معاهدة سنة 1936 واستبدالها باتفاق متعدد الأطراف لإنشاء القيادة الجديدة.
- إعادة النظر في إمكان الاعتراف علناً بالوضع الدستوري والقانوني للتاج المصري فيما يتصل بالسودان.
- تحديد موعد مبكر لحصول السودان على الحكم الذاتي وصون حق السودانيين في تقرير مصيرهم.
- النظر في مسألة الحصول على ضمان دولي لاتفاق مصري - سوداني بشأن مياه النيل.
- التفكير العاجل في المضاعفات السياسية والعسكرية التي تترتب عن الفشل في الوصول إلى اتفاق وما يتبع ذلك من تدهور للموقف.
حكومة السودان تعترض على التاج المصري
اعترضت حكومة السودان على التوصية المتعلقة بإعادة النظر في إمكان الاعتراف علناً بالوضع الدستوري والقانوني للتاج المصري في السودان. ففي برقية بتاريخ 3 سبتمبر 1951 إلى وزارة الخارجية البريطانية اعتبر الحاكم العام بالانابة ذلك احياءً لمشروع بروتوكول صدقي-بيفن. فقد قال إن توصية كافري واستيفنسن أصابته بصدمة عارمة. وذكَّر برد الفعل العنيف ضد بروتوكول صدقي-بيفن في عام 1946. وحذر الحاكم العام بالإنابة من أن رد فعل السودانيين على اقتراح مماثل سيكون أكثر عنفاً نسبة للتزايد المضطرد في الوعي السياسي وللتأكيدات البريطانية المتكررة لما صرح به بيفن في مجلس العموم في 28 مارس 1946 من أن الحكومة البريطانية لن تغير وضع السودان بغير مشورة السودانيين. خاصة وأن تعاون السودانيين خلال السنوات الخمس الماضية كان مبنياً على هذه التأكيدات. وذهب الحاكم العام بالإنابة إلى أن اعترافاً كهذا سيكون كارثة تقضي على اسم بريطانيا ونفوذها في السودان. وستكون النتيجة اضطرابات في المدن يقوم بها مؤيدو الاستقلال بذريعة أنه قد غُدر بهم، كما يقوم بها مؤيدو الوحدة في فرحة انتصارهم، ثم تنتشر الاضطرابات إلى البادية حيث رجال القبائل وخصوصاً الكتل الضخمة التي تدين بالولاء للسيد عبدالرحمن المهدي وتستجيب لنداء قيادتها الدينية.
ونبه الحاكم العام بالإنابة إلى أن القضاء على الاضطرابات سيكون صعباً لأنه لا يتوقع معاونة مخلصة من الموظفين السودانيين أو من رجال الأمن السودانيين الذين سيتعاطفون مع مواطنيهم. و«أما القوات المصرية فستكون عبئاً وعديمة الفائدة. ولذلك سأكون مضطراً لاستخدام القوات البريطانية وفي ذلك مخالفة لتأكيداتكم القاطعة كما جاءت في برقية وزارة الخارجية رقم 27 بتاريخ 25 يناير 1947 من أن حكومة صاحب الجلالة لن تسمع بالرصاص يطلق على السودانيين لفرض آراء حكومة مصرية».
وأثار الحاكم العام بالإنابة نقطة مهمة وهي «اتجاه الموظفين البريطانيين الذين نحكم من خلال تفانيهم وإخلاصهم للسودانيين. إن هؤلاء الموظفين وأسلافهم لم يخدموا السودانيين لنصف قرن ليسلموهم رغم إرادتهم للمصريين. لقد وقف الموظفون البريطانيون بصلابة خلف المرحوم السير هيوبرت هدلستنون في مقاومة مفترحات صدقي-بيفن. وبكل تأكيد سيعتبرون هذه المحاولة لبعث تلك الاقتراحات خيانة للسودانيين وسيشعر كثيرون منهم تعذر استمرارهم في الخدمة. وأنا أرجوكم صادقاً أن تولوا هذه الناحية اهتمامكم الكامل». وطلب الحاكم العام بالإنابة انتظار تقرير لجنة تعديل الدستور قبل محاولة تحديد تاريخ لحصول السودان على الحكم الذاتي. ولكنه أكد على ضرورة الإبقاء على حق تقرير المصير لأن السودانيين يعولون عليه. ووافق الحاكم العام بالإنابة من حيث المبدأ على فكرة الضمان الدولي لاتفاق مصري- سوداني بشأن مياه النيل بشرط أن يكون ذلك الاتفاق نتيجة مفاوضات حرة بين مصر والسودان.
وبما أن الحاكم العام روبرت هاو والسكرتير الإداري جيمس روبرتسون كانا آنذاك بالمملكة المتحدة، فقد نصح الحاكم العام بالإنابة وزارة الخارجية البريطانية باستشارتهما.
وسارع السفير البريطاني في القاهرة رالف استيفنسن فأبرق إلى وزارة الخارجية البريطانية في 4 سبتمبر 1951 قائلاً إن الحاكم العام بالإنابة قد أخطأ فهم التوصية المتعلقة بإعادة النظر في إمكان الاعتراف علناً بالوضع الدستوري والقانوني للتاج المصري فيما يتصل بالسودان. ونفى السفير أن يكون قد قصد بذلك الاعتراف بسيادة مصر على السودان أو الاعتراف بأكثر مما يعتقد بوجوده أهل العلم من رجال القانون. إذ يعتقدون أن تلقيب ملك مصر لنفسه بلقب «ملك مصر والسودان» ينبغي أن يقبل.
وأوضح استيفنسن أن التوصية بإعادة النظر في إمكان الاعتراف علناً بالوضع الدستوري والقانوني للتاج المصري فيما يتصل بالسودان إذا أخذت مع التوصية بحصول السودان على الحكم الذاتي وصون حق السودانيين في تقرير مصيرهم، فإنها ستعني أن علاقة السودان بتاج مصر ستكون نوعاً من أنواع الدومنيون أو ربما اتحاد في شخص ملك مصر. أما حكم السودان فسيستمر بالطبع من خلال الأجهزة القائمة تحت إشراف الحاكم العام إلى أن يحين الوقت الذي يحصل فيه على الحكم الذاتي.
ويبدو أن وزارة الخارجية البريطانية قد اقتنعت بوجاهة انتقادات الحاكم العام بالإنابة لتوصية السفيرين كافري واستيفنسن بشأن إعادة النظر في إمكان الاعتراف علناً بالوضع الدستوري والقانوني للتاج المصري فيما يتصل بالسودان. ففي اجتماع عقد بمقر الوزارة في لندن في 4 سبتمبر 1951 وشارك فيه الحاكم العام روبرت هاو والسكرتير الإداري روبرتسون، قال بوكر أحد مسؤولي وزارة الخارجية إنه سيبلغ الحكومة الأمريكية خلال محادثاته المقبلة معها بأن أي تصريح علني بشأن وضع التاج المصري في السودان لن يكون مقبولاً حتى ولو صاحبه تأكيد لحق السودانيين في تقرير مصيرهم. كما قال بوكر إنه سيبلغ الحكومة الأمريكية كذلك بأنه لا داعي لإصدار مثل هذا الإعلان طالما أن المصريين لن يقبلوا بحق السودانيين في تقرير مصيرهم.
وأشار بوكر إلى أنه سيتعين عليه إقناع الحكومة الأمريكية بأن حكومة السودان قد اتخذت خطوات عملية لاستقلال السودان. وهنا أوضح الحاكم أن السودانيين يتمتعون بقدر كبير من الحكم الذاتي حيث أنهم يشكلون الأغلبية في الجمعية التشريعية والمجلس التنفيذي. وأوضح كذلك أنه يتمتع بموجب قانون المجلس التنفيذي والجمعية التشريعية لعام 1948 بسلطات واسعة ولكنه لم يستخدمها قط، وأن ما تريده الحكومة المصرية هو أن تنقل هذه السلطات لها وهذا ما لن يقبله السودانيون. وحذر الحاكم العام من أنه إذا ألغت مصر المعاهدة فإن السودانيين سيعتبرون أنفسهم غير ملزمين باتفاقية الحكم الثنائي وسيطالبون بالاستقلال فوراً وسيكون عندئذ من العسير منعهم.
النحاس يلغي معاهدة 1936 واتفاقيتي 1899
في 8 اكتوبر 1951 أعلن رئيس وزراء مصر مصطفى النحاس أمام مجلسي البرلمان أنه قد أصبح من المستحيل على مصر أن تصبر أكثر مما صبرت، وأنه ما دام السعي المتواصل لتحقيق مطالب البلاد عن طريق الاتفاق قد ثبت فشله، فقد آن الأوان للحكومة المصرية لأن تفي بالوعد الذي قطعته في خطاب العرش في 16 نوفمبر 1950 وتتخذ على الفور الإجراءات اللازمة لإلغاء معاهدة سنة 1936 واتفاقيتي سنة 1899 بشأن إدارة السودان. لهذه الغاية وضع النحاس أمام مجلسي البرلمان مشروعات قوانين تقضي بإلغاء معاهدة سنة 1936 واتفاقيتي سنة 1899، وبأن يُلقب الملك فاروق بلقب «ملك مصر والسودان»، وبأن يكون للسودان دستور ونظام حكم خاص.[2]
أمريكا تنتقد بيان 8 اكتوبر 1951
انتقد وزير الخارجية الأمريكي دين أشيسون في 10 أكتوبر 1951 إلغاء مصر لمعاهدة سنة 1936 واتفاقيتي سنة 1899 لأن الاحترام الواجب للالتزامات الدولية يقضي بأن يكون تعديل هذه الالتزامات باتفاق متبادل وليس بعمل انفرادي يقوم به أحد الطرفين. وحث أشيسون الحكومة المصرية على إرجاء الخطوة التي اتخذتها من جانب واحد فقط لإلغاء معاهدة سنة 1936 وطلب إليها أن تنتظر مقترحات جديدة ستعرض عليها خلال الأيام القادمة. وكشف أشيسون النقاب عن أن الحكومة المصرية كانت تعلم عندما أعلنت في 8 أكتوبر 1951 إلغاء المعاهدة والاتفاقيتين أن دول الحلف الغربي بصدد تقديم مقترحات جديدة من شأنها حسم النزاع. وفي الواقع فقد نقل السفير البريطاني في القاهرة المقترحات المشتركة بشأن القيادة المتحالفة للشرق الأوسط إلى الملك فاروق في 24 سبتبمر 1951 بشكل غير رسمي. كما نقلها أيضاً بشكل غير رسمي إلى وزير الخارجية المصري محمد صلاح الدين في 28 سبتمبر 1951.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المقترحات الرباعية بشأن الدفاع
قدمت بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا وتركيا للحكومة المصرية في 13 أكتوبر 1951 مقترحات لإنشاء قيادة متحالفة للدفاع عن الشرق الأوسط ضد العدوان الخارجي. وقد دعيت مصر للاشتراك في القيادة كعضو مؤسس وعلى قدم المساواة مع الدول الأربع. وقد ساقت المقترحات المبررات التالية لاشتراك مصر في القيادة المتحالفة:
- تنتمي مصر إلى العالم الحر، وتبعاً لذلك فالدفاع عنها وعن الشرق الأوسط عموماً أمر حيوي لها وللدول الديمقراطية الأخرى على السواء.
- لا يمكن تأمين الدفاع عن مصر وعن الدول الأخرى في الشرق الأوسط ضد العدوان الخارجي إلا بالتعاون بين جميع الدول المعنية.
- لا يمكن الدفاع عن مصر إلا بالدفاع الفعال عن منطقة الشرق الأوسط وتنسيقه مع الدفاع عن المناطق المجاورة.
ويمكن إجمال أبرز عناصر المقترحات الرباعية التي قُدمت إلى الحكومة المصرية في النقاط التالية:
- إذا قبلت مصر الاشتراك في القيادة المتحالفة فستتغاضى الحكومة البريطانية عن معاهدة 1936 وستسحب من مصر القوات البريطانية التي قد لا تخصص للقيادة المتحالفة.
- تقدم مصر في أراضيها للقيادة المتحالفة المقترحة التسهيلات الاستراتيجية والدفاعية لتنظيم الدفاع عن الشرق الأوسط في وقت السلم.
- تمنح مصر القوات المتحالفة كل التسهيلات اللازمة بما في ذلك استخدام الموانئ المصرية والمطارات ووسائل المواصلات في حالة وقوع حرب أو في حالة خطر الحرب الوشيك أو في حالة الأزمات الدولية الطارئة.
- تتحول القاعدة البريطانية في مصر إلى قاعدة متحالفة في إطار القيادة المتحالفة للشرق الأوسط.
- توافق مصر على إقامة مقر القائد الأعلى للقوات المتحالفة في أراضيها.
- تقدم الدول المتحالفة إلى مصر التسهيلات اللازمة لتدريب قواتها وتجهيزها.
- تُحدد مستقبلاً بالتشاور مع الدول المعنية علاقة القيادة المتحالفة للشرق الأوسط مع حلف شمال الأطلنطي.
المقترحات البريطانية بشأن السودان
وفي 13 أكتوبر 1951 أيضاً قدم السفير البريطاني للحكومة المصرية مقترحات جديدة بشأن مسألة السودان. وعشية تقديم هذه المقترحات ولتفادي أي اتهام من القادة السودانيين (الإستقلاليين) بأن الحكومة البريطانية قد بتت بمقتضى هذه المقترحات في أمر السودان دون استشارة السودانيين، فقد طلبت وزارة الخارجية البريطانية من الحاكم العام أن يشرح للقادة السودانيين (الإستقلاليين) بصورة سرية طبيعة المقترحات وأن يبلغهم الآتي:
- أولاً: إن الحكومة البريطانية تعترف بأن تنفيذ أي من هذه المقترحات ينبغي أن يتوقف على مقبوليتها للسودانيين.
- ثانياً: إن المقترحات تضمن تطور السودانيين الحر والمنظم نحو الحكم الذاتي واختيارهم في نهاية الأمر لوضع بلادهم.
طُرحت المقترحات البريطانية الجديدة بشأن السودان على أساس أن الحكومة البريطانية لا توافق على أن الدفاع عن الشرق الأوسط ومسألة السودان مرتبطتان، وباعتبار أن هذه المقترحات تمثل السبيل الوحيد لتقديم ضمانات كافية للمصالح المصرية في السودان. وعلى أية حال، فقد كانت المقترحات كما يلي:
- لجنة دولية تقيم في السودان لمراقبة التطورات الدستورية وتقديم المشورة لدولتي الحكم الثنائي.
- بيان إنجليزي-مصري بالمبادئ المشتركة بشأن السودان.
- ضمان دولي لاتفاقيات مياه النيل.
- إقامة سلطة لتنمية النيل بمساعدة البنك الدولي.
- تحديد موعد لبلوغ السودانيين الحكم الذاتي كخطوة أولى في طريق اختيار وضعهم النهائي.
واقترحت الحكومة البريطانية في الملحق الأول للمقترحات أن يكون بيان المبادئ المشتركة كما يلي:
- بالنظر إلى اعتماد كل من مصر والسودان على مياه النيل، ولضمان أكمل التعاون في التوسع في كميات المياه الممكن الانتفاع بها وفي توزيعها، فمن الجوهري أن تربط الشعبين أوثق علاقات الصداقة.
- إن الهدف المشترك لمصر وبريطانيا هو أن تمكنا الشعب السوداني من بلوغ الحكم الذاتي الكامل في أقرب فرصة عملية، وأن يختار بعد ذلك بملء حريته شكل حكومته ومن نوع العلاقة مع مصر ما يحقق على أحسن وجه حاجاته القائمة حينذاك.
- بالنظر إلى الفوارق الواسعة بين السودانيين في الثقافة والجنس والدين والتطور السياسي، فإن بلوغ الحكم الذاتي الكامل يتطلب تعاون مصر والمملكة المتحدة مع السودانيين.
- لذلك تعتزم الحكومتان إنشاء لجنة دولية تقيم في السودان لمراقبة التطورات الدستورية هناك وتقديم المشورة لدولتي الحكم الثنائي.
وقد اشترط الملحق الثاني للمقترحات موافقة السودانيين على إنشاء اللجنة الدولية. ونص على أن يتم تشكيلها بالتفاوض، وعلى أنها قد تضم دولتي الحكم الثنائي والولايات المتحدة إذا وافقت هاتان الدولتان على ذلك. ولا يستبعد الملحق الثاني اشتراك السودانيين في اللجنة الدولية. وجاء في الملحق الثاني للمقترحات أنه لا يحق للجنة الدولية التدخل في الإدارة اليومية للسودان. واقترح الملحق الثاني أن يتم الاتفاق على تحديد تاريخ الحكم الذاتي على أساس تقرير لجنة الدستور التي كانت تباشر مهامها آنذاك في السودان.
وحري بالذكر أن الحكومة البريطانية لم تُفلح في إقناع الحكومة الأمريكية بتأييد سياستها بشأن السودان وتقديم المقترحات الجديدة بشأن السودان على أساس أنها مقترحات بريطانية-أمريكية مشتركة. ومع أن الحكومة الأمريكية لم تعترض على تقديم المقترحات الخاصة بالسودان على أساس أنها مسألة تخص بريطانيا ومصر، إلا أنه كان من رأيها أن هذه المقترحات ليست كافية لتحقيق مشاركة مصر في القيادة المتحالفة للشرق الأوسط. ربما لأنها لم تُضمن بأي صورة من الصور إقتراحاً حول إصدار تصريح علني فيما يتعلق بالوضع الدستوري والقانوني للتاج المصري في السودان.
وقد أبلغت الحكومة الأمريكية سفيرها في القاهرة بأنها رأت أنه من الأفضل ألا يكون هناك أي ارتباط بينها وبين المقترحات البريطانية بشأن السودان. ولكن حتى لا يتسبب صمتها إزاء هذه المقترحات في أية صعوبات فيما يتعلق بمشروع القيادة المتحالفة للشرق الأوسط، فقد أمرت الحكومة الأمريكية سفيرها في القاهرة بأن يؤيد لدى الحكومة المصرية وجهة النظر البريطانية القائلة بأن مسألتي الدفاع والسودان منفصلتان، وأن يبلغ الحكومة المصرية بأن الحكومة البريطانية قد أطلعت الحكومة الأمريكية على المقترحات الخاصة بالسودان.
حكومة الوفد ترفض مقترحات الدفاع والسودان
رفضت حكومة الوفد في 14 أكتوبر 1951 المقترحات الجديدة بشأن الدفاع والسودان جملة وتفصيلاً. فقد انتهى مجلس الوزراء إلى قرار مؤداه أن هذه المقترحات غير صالحة مطلقاً لأن تكون على الأقل تمهيداً لإجراء مباحثات جديدة للوصول إلى اتفاق جديد. أعقب ذلك تصديق الملك فاروق في 15 و16 و17 أكتوبر 1951 على التوالي على مشروعات القوانين التي أقرها البرلمان المصري بشأن إلغاء معاهدة سنة 1936 واتفاقيتي سنة 1899، وتقرير الوضع الدستوري للسودان وتعيين لقب الملك، ودستور ونظام حكم خاص بالسودان. ويلاحظ أنه بالرغم من أن حكومة الوفد أعلنت في 14 أكتوبر 1951 رفضها للمقترحات الجديدة بشأن مسألتي الدفاع والسودان، إلا أن الملك فاروق نقل إلى السفير البريطاني سراً في 15 أكتوبر 1951 عبر مستشاره أندراوس موقفاً مغايراً لموقف حكومة الوفد. فقد أخطر أندراوس السفير البريطاني بأن الملك يعتقد أن مقترحات الدفاع معقولة وإن كانت تحتاج إلى بعض التعديل. ولكنه -أي الملك- يرفض مقترحات السودان لأنها لا تتناول مسألة وضع التاج المصري في السودان.
كما أخطر أندراوس السفير البريطاني بأن الملك يرى أنه إذا كان من الممكن تقديم صيغة تحقق لمصر إرضاءً عاطفياً فيما يتعلق بمسألة التاج فلن تكون هناك صعوبة في التوصل إلى اتفاق. وفي سبيل ذلك وعد الملك فاروق باستبدال وزير الخارجية محمد صلاح الدين بشخص معقول أو إقالة حكومة الوفد كلها إذا تعذر تغيير محمد صلاح الدين.
ويبدو من مقابلات أجرتها السفارة البريطانية في القاهرة مع ثلاثة رؤساء وزراء سابقين هم علي ماهر وإبراهيم عبدالهادي وحسين سري ووزير سابق هو أحمد نجيب الهلالي أنهم كانوا جميعاً يؤيدون تغيير حكومة الوفد. ففي مقابلة تمت في 17 ديسمبر 1951 أبلغ علي ماهر الوزير المفوض بالسفارة البريطانية لكريسويل أن الملك فاروق عرض عليه مؤخراً تشكيل حكومة تخلف حكومة الوفد وأنه -أي علي ماهر- سيفعل ذلك عندما يحين الوقت.
وإزاء المقترحات البريطانية بشأن السودان، أبدى علي ماهر لكريسويل موافقته على اقتراح اللجنة الدولية الاستشارية ولكنه آثر أن تكون ثلاثية (مصرية-بريطانية-سودانية) وبدون مشاركة أمريكية. وعندما استفسر علي ماهر عن إمكانية الاعتراف بتلقيب فاروق «ملك مصر والسودان» خلال الفترة الانتقالية التي تسبق تقرير المصير، أجابه كريسويل بأنه سيكون مستحيلاً.
بعثة أمريكية في السودان: يناير 1952
لقد كانت وزارة الخارجية الأمريكية تدّعي دائماً أنها لا تعلم الكثير عن السودان ولذلك لا تستطيع أن تكوّن وجهة نظر بشأنه. ومع إنها كانت تتعاطف بشكل عام مع المبدأ الذي تقوم عليه سياسة بريطانيا حيال السودان وهو أن يقرر السودانيون مصيرهم وعلاقتهم بدولتي الحكم الثنائي، إلا أنها في نفس الوقت كانت ترى أن مسألة السودان ينبغي ألا تشكل عقبة أمام الوصول إلى اتفاق مع مصر بشأن الترتيبات الغربية للدفاع عن الشرق الأوسط. وقد سبق لنا القول إن الحكومة الأمريكية كانت تعتقد أن المقترحات التي قدمتها بريطانيا لمصر بشأن السودان في 13 أكتوبر 1951 لم تكن كافية لتحقيق مشاركة مصر في القيادة المتحالفة للشرق الأوسط. وفي أعقاب ذلك توالت الضغوط الأمريكية على الحكومة البريطانية لتقديم فكرة أو صيغة جديدة يمكن من خلالها الاعتراف بتاج مصر الرمزي على السودان دون المساس بوضع السودانيين وحقهم في تقرير المصير وبذلك يمكن تجاوز الصعوبات السياسية والقانونية التي ترتبت على المراسيم التي أصدرتها حكومة الوفد في أكتوبر 1951. ونعيد إلى الأدهان أن هذه المراسيم كانت قد قضت بإلغاء معاهدة سنة 1936 واتفاقيتي سنة 1899، وبأن يلقب الملك فاروق بلقب «ملك مصر والسودان»، وبأن يكون للسودان دستور ونظام حكم خاص.[3]
بعثة استابلر للسودان
لاستطلاع وجهة نظر قادة السودان وإدارته البريطانية بشأن مسألة قبول التاج المصري الرمزي خلال الفترة الانتقالية التي تسبق تقرير المصير، وصلت إلى السودان في 13 يناير 1952 بعثة أمريكية مكونة من ولز استابلر من وزارة الخارجية وماتيسون من السفارة الأمريكية بالقاهرة. وخلال وجودها في السودان زارت البعثة الأمريكية مشروع الجزيرة وعطبرة والأبيض وجوبا وتوريت والتقت بالحاكم العام والسكرتير الإداري وبأعضاء الجمعية التشريعية وبعدد من موظفي الحكومة من سودانيين وبريطانيين. وزارت البعثة وحدات قوة دفاع السودان في العاصمة والأقاليم التي زارتها.
اجتمعت البعثة بكل قادة الأحزاب السياسية وسألتهم عن أهداف أحزابهم ووجهات نظرها بشأن بعض القضايا التي كانت مطروحة آنذاك. فقد ذكر إبراهيم بدري سكرتير عام الحزب الجمهوري الاشتراكي للبعثة أن حزبه يؤمن بالجمهورية الاشتراكية ويرى أنها الحل الوحيد لمشاكل السودان. وعندما سألته البعثة عن الاستفتاء وإذا ما كان السودانيون يجمعون عليه أجاب بأن هناك صعوبات كثيرة أمام تنفيذ فكرة الاستفتاء خاصة في جنوب السودان، حيث يتكلم السكان بأربعين لغة مختلفة ويتعين وجود مترجمين أمناء لكل هذه اللغات إذا أريد تنفيذ الفكرة.
وأبلغ عبدالله خليل سكرتير عام حزب الأمة البعثة الأمريكية بأنه يؤمن بالتطور الدستوري. وعند سؤاله عن علاقات السودان المقبلة مع كل من مصر وبريطانيا وهل تكون هذه العلاقة هي الوحدة مع مصر أم الدومنيون مع بريطانيا، أجاب عبدالله خليل بأن حزبه يريد الاستقلال التام عن الجميع على أن تحدد الحكومة السودانية المقبلة علاقة السودان بكل من مصر وبريطانيا.
وفي إجابة على سؤال بشأن التاج الرمزي قال عبد الله خليل، إنه كان يظن أن هذه المسألة قد انتهت بسقوط بروتوكول صدقي-بيفن في عام 1946. وأضاف بأنه لا يعتقد أن بريطانيا ستفاوض على هذا الأساس بعد كل التعهدات التي قطعتها للسودانيين. ومضى عبدالله خليل قائلاً: «إن أمريكا تسعى لإنهاء النزاع المصري-البريطاني نهاية سعيدة. ولكنني لا أتوقع أن تفعل ذلك على حساب السودان. وإذا كانت الحكومة الأمريكية قلقة الآن بسبب ما يجري في قناة السويس، فبإمكاني التأكيد أنه باستطاعتنا أن نخلق جحيماً أكبر وأسوأ في السودان».
وكانت صحيفة «النيل» قد قالت في كلمة رئيسية قبيل وصول البعثة الأمريكية بقليل: «إن أمريكا تحاول الضغط على بريطانيا لا من أجل مصر ولكن من أجل الدفاع المشترك عن الشرق الأوسط ولدرءالخطر الروسي. فضغط أمريكا منذ البداية كان على حساب السودان. إن المشروع الأمريكي يضع السودان كبش فداء وسلعة تباع وتشتري ليتم الدفاع المشترك. أما مصير ثمانية ملايين فلا يهم أمريكا في الوقت الحاضر». وبعد وصول البعثة الأمريكية إلى السودان وجهت صحيفة «النيل» كلمة إلى استابلر قالت فيها إن الأغلبية الساحقة من السودانيين لن ترضى بفرض أي تاج مهما كان وصفه على السودان، وإن الشعب السوداني لن يقبل غير الاستقلال التام، ولن يكون الضحية التي يتم عليها الاتفاق والمساومة لصالح أية دولة في العالم.
وأجتمعت البعثة الأمريكية بقادة ولجان كافة الأحزاب الاتحادية وبممثلين للجبهة المتحدة لتحرير السودان حيث استطلعت آراءهم بشأن مستقبل السودان السياسي ومسألة الاستفتاء. فقد أبلغ الدرديري أحمد إسماعيل البعثة بأن هدف حزب وحدة وادي النيل هو الاندماج الكامل بين مصر والسودان. وأضاف بأن امتزاج السودانيين بالمصريين إخوانهم في الدم والدين واللغة خير من امتزاجهم بوافدي غرب السودان.
وعندما اطلعت البعثة على مبادئ الجبهة المتحدة لتحرير السودان استغربت المطالبة بجلاء القوات المصرية ما دامت الأحزاب الاتحادية المنضوية تحت لواء الجبهة تدعو للاتحاد مع مصر. ولكن مندوبي الجبهة أوضحوا أنهم يبغون بذلك التقدم بمطلب عادل للعالم كله، وحتى لا تتهم مصر بأن لها نفوذاً في السودان. وأوضحوا كذلك أن إدارة السودان يسيطر عليها البريطانيون وليس للمصريين يد فيها. وفند مندوبو الجبهة ادعاءات حكومة السودان بأن ثمة صعوبات عملية تحول دون إجراء استفتاء في السودان. حري بالذكر أنه كانت للجبهة سكرتارية مؤقتة مكونة من حسن الطاهر زروق من جبهة الكفاح وحمزة الجاك من إتحاد نقابات عمال السودان وعثمان محمد أحمد من اتحاد نقابات الموظفين. جبهة الكفاح كان تجمعاً للأحزاب الاتحادية وكان حسن الطاهر زروق ينتمي (كيسار) إلى حزب الأحرار الإتحاديين.
وبما أن إسماعيل الأزهري رئيس أحد جناحي حزب الأشقاء كان في زيارة لشرق السودان عند وصول البعثة الأمريكية للخرطوم. فقد اجتمعت بمبارك زروق. وقد حيا أزهري البعثة برقياً ووعد بلقائها عند عودته للخرطوم ليوضح لها مطالب البلاد المتمثلة في جلاء القوات البريطانية وإدارة السودان الحالية، ووحدة وادي النيل تحت تاج مصر المشترك. وقد اجتمع أزهري وبعض أقطاب جناحه لاحقاً بالبعثة حيث أكدوا لها وجوب وحدة وادي النيل تحت التاج المصري لأن في ذلك خير السودان.
استنتاجات استابلر
في التقرير المؤرخ 10 فبراير 1952 عن زيارته للسودان في الفترة من 13 إلى 30 يناير 1952، توصل استابلر إلى عدد من الاستنتاجات. وقد كان من بينها ما يلي:
- لقد حقق السودان خلال السنوات القليلة الماضية تقدماً ملحوظاً نحو الحكم الذاتي. وإن حكومة السودان والأحزاب السياسية المتعاونة معها عازمون على استمرار هذا التقدم بصرف النظر عن الأحداث الجارية لمصر.
- إن السودان سيكون أحسن حالاً إذا سُمح للبرنامج الحالي بأن ينمو دون عرقلة أو تعقيد قد ينشأ من استحداث وضع سياسي جديد بصورة مفاجئة كالاعتراف بملك مصر ملكاً على السودان.
- بالرغم من عدم وجود اتفاق بين السودانيين حيال وضع السودان السياسي أي فيما يتعلق بالاستقلال أو الاتحاد مع مصر والملكية أو الجمهورية، إلا أن هناك اتفاقاً عاماً على أن السودان ينبغي أن يظل ككيان مستقل وألا يندمج مع مصر.
- إن إحدى الصعوبات الرئيسية التي ستواجهها أي إدارة سودانية هي التباين الواضح بين الشمال والجنوب. فبالرغم من أن كلا قسمي البلاد يتحدثان على أساس «الأخوة»، إلا أن الشماليين ينظرون إلى الجنوبيين كالأقارب الفقراء في حين ينظر الجنوبيون إلى الشماليين بعين الشك والريبة.
- من المحتمل أن تقرر بعض الأحزاب الرافضة حالياً للمشاركة في مؤسسات التطور الدستوري أن تشارك بشكل محدود عند إحراز تقدم نحو الحكم الذاتي وذلك حتى تتجنب إستبعادها كلياً.
- إن تقرير المصير سيكون أصعب خطوة بالنسبة للسودان شكلاً وموضوعاً. فإذا ما اختير الاستقلال فستبرز مشكلة إزاء شكل الحكم أي الحكم الجمهوري أو الملكي. كما أن الافتقار إلى الأشخاص المؤهلين الذين يمكن أن يُختار منهم رئيس الدولة سوف يخلق صعوبات.
- إن إجراء استفتاء أمر غير عملي حيث أن اللغة والتعليم والتطور السياسي والمواصلات كلها تمثل عوامل مقيدة بشكل خطير. وستكون الجمعية التأسيسية التي تشارك فيها كافة المجموعات السياسية هي الطريقة الوحيدة لتحديد إرادة الشعب السوداني.
- إن مشكلة مياه النيل وإن كانت بالغة الصعوبة إلا أن التغلب عليها ليس مستحيلاً، وسيقبل السودانيون والمصريون ضماناً دولياً. إذ سيساعد مثل هذا الضمان على تبديد الشكوك في مصر والسودان فيما يتعلق بنوايا الطرفين. ولا يوجد دليل على أن السودانيين يرغبون أو يفكرون في استخدام مياه النيل كسلاح ضد مصر.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
رد الفعل المحتمل لقبول الحكومة البريطانية للتاج الرمزي
في الجزء السادس من تقريره ناقش استابلر رد الفعل المحتمل في السودان إذا ما قبلت الحكومة البريطانية إطلاق لقب «ملك مصر والسودان» على الملك فاروق. فقد ذكر أن الجبهة الاستقلالية ستعترض على ذلك بشدة لأنه يقرر بشكل مسبق المستقبل السياسي للسودان ويحرم السودانيين حرية الاختيار التي يرغبونها. وذكر استابلر كذلك أن الاستقلاليين لا يرون مبرراً لاستخدام السودان كعنصر مقايضة في المسألة الإنجليزية-المصرية والتي يعتبرونها قضية لا تعنيهم. وأضاف استابلر «ان السيد عبدالرحمن المهدي الذي يحمل طموحات نحو ملكية محلية سينظر هو ومؤيدوه إلى لقب الملك كإنكار لهذه الطموحات». وأما الجبهة الاتحادية فقد قال استابلر إنها سترحب بقبول لقب الملك وستلح وتطالب بصورة أشد بتحقيق الاتحاد مع مصر وبجلاء البريطانيين. ونبه استابلر إلى أن مشاركة الجبهة الاتحادية في الإعداد لتقرير المصير ستتوقف على مصر.
وكان من رأي استابلر أن الأتباع الأكثر التزاماً لطائفة الختمية سيعتبرون قبول لقب الملك بمثابة نهاية مؤكدة لاحتمال قيام ملكية محلية ولذلك فإنهم لن يعترضوا ولكنهم سيصرون على الرمزية. وقال استابلر إن أهداف الختمية بشأن مسألة قبول لقب الملك تنطلق من الرغبة في منع إقامة «ملكية مهدية» وليس من رغبة حقيقية في الاتحاد مع مصر. وتوقع استابلر أن يثير قبول لقب الملك قلق الجنوب لأن ذكريات تجارة الرقيق المصرية حيه وماثلة في الأذهان. ولكنه ذكر أن بعض الأعضاء الجنوبيين في الجمعية التشريعية قد لا يعترضون إذا ما شُرح قبول لقب الملك بشكل واف وتم ضمان بقائه رمزياً.
ولم يستبعد استابلر حدوث شغب واضطرابات في المدن الرئيسية وربما في بعض المناطق القبلية الواقعة تحت سيطرة الجبهة الاستقلالية. ولكنه قال إن قوى الأمن تبدو «قادرة على السيطرة على المظاهرات والاضطرابات التي لا ترقى إلى ثورة عامة وهو أمر لا يبدو محتملاً». وتشكك استابلر في حدوث أي اضطرابات ذات أهمية في الجنوب.
ولتقليل الاضطرابات شدد استابلر على أهمية التأكيدات والتوضيح المسبق للسودانيين المعارضين للقب الملك. إلا أنه ذكر أن نجاح ذلك سيعتمد على مدى إخلاص وحماس المسؤولين البريطانيين للترويج للفكرة. وتوقع استابلر أن يحجم بعض المسؤولين الذي تنبأوا بحدوث عواقب وخيمة إذا قُبل اللقب عن اتخاذ الخطوات الملائمة للحيلولة دون وقوع اضطرابات.
وذهب استابلر إلى أن قبول الحكومة البريطانية للقب الملك يمكن أن يكون أكثر استساغة للجماعات المعارضة إذا تضمن الشرح والتنوير تأكيدات محددة فيما يتعلق بالآتي:
- (أ) رمزية التاج.
- (ب) تاريخ محدد لتقرير المصير بما في ذلك مسألة التاج المصري.
- (ج) نوع من الضمان أو الإعلان الدولي.
- (د) مشاركة الجبهة الاتحادية في تكوين جمعية تأسيسية في السودان.
وتطرق استابلر للوسائل الممكنة لحسم مسألة لقب الملك فقال إنه على افتراض مشاركة كل الجماعات، فليس من السهل التكهن بما ستكون عليه النتيجة إذا ما طرحت مسألة لقب الملك للتصويت في السودان. وعبّر استابلر عن اعتقاده بأن التشاور مع السودانيين لن يكن صعباً لأن القادة السياسيين وأعضاء الجمعية التشريعية يقيمون في الخرطوم خلال جانب كبير من السنة. كما أن السودانيين لن يعترضوا على مشاركة المصريين في المشاورات. ولكن استابلر تشكك في أن يوافق المصريون على طرح مسألة لقب الملك بهذه الطريقة.
وسيرد من بعد أن استابلر قد شارك في الاجتماع الذي عقد في باريس في 26 مايو 1952 بين وزير الخارجية البريطاني أنتوني إيدن ووزير الخارجية الأمريكي دين أشيسون حيث تركز النقاش بصفة رئيسية حول مسألة قبول السودانيين للقب الملك وأهمية ذلك لتسوية مسألة الدفاع عن مصر. وسيرد أيضاً أن هذا الاجتماع قد عقد قبل يوم واحد من وصول وفد الحركة الاستقلالية الذي دعاه رئيس وزراء مصر آنذاك أحمد نجيب الهلالي لزيارة مصر وحاول دون نجاح إقناعه بقبول تاج مصر الرمزي خلال الفترة الانتقالية التي تسبق تقرير المصير.
أمريكا ومصير عشرة ملايين من الزنوج
بعد حريق القاهرة في 26 يناير 1952 وتصاعد العمل الفدائي في منطقة قناة السويس، كثفت الحكومة الأمريكية عبر وزير خارجيتها أشيسون وسفيرها في القاهرة كافري من الضغط على الحكومة البريطانية للاتفاق مع الحكومة المصرية على صيغة تمكن من الاعتراف بسيادة مصر الرمزية على السودان وتترك دون تغيير وضع السودانيين وحقهم في تقرير المصير. فقد كانت الحكومة الأمريكية ترى أن الاعتراف بالتاج المصري الرمزي على السودان هو السبيل الوحيد المتاح لإقناع مصر بقبول الترتيبات الغربية للدفاع عن الشرق الأوسط. وكان السفير كافري يعتقد أنه لا يقف بين السودانيين وبين قبولهم التاج المصري سوى عناد السكرتير الإداري لحكومة السودان جيمس روبرتسون. فمثلاً عند لقائه في القاهرة في نوفمبر 1952 بوفد من حكومة السودان ضم روبرتسون ومافروقرداتو المستشار القانوني للحكومة عبّر كافري عن تبرمه باهتمام حكومة السودان بمصير «عشرة ملايين من الزنوج» أكثر من اهتمامها بالخطط الغربية للدفاع عن الشرق الأوسط. إذ كانت حكومة السودان تذكّر الحكومة البريطانية بشكل مستمر بتعهداتها للسودانيين وتحذرها من أن أي تغيير في مركز السودان دون استشارة أهله ستترتب عليه اضطرابات أسوأ من تلك التي حدثت بعد التصريح الذي أدلى به إسماعيل صدقي في أكتوبر 1946 عن الاتفاق الذي تم بينه وبين إيرنست بيفن بشأن السودان.
وفي فبراير - مارس 1952 طرحت الحكومة الأمريكية اقتراحاً لتسوية مسألة السودان. تضمن هذا الاقتراح تعيين حاكم عام محايد ولجنة دولية للإشراف على الحكم الذاتي وتقرير المصير. ويقضي الاقتراح كذلك بأن يسند إلى الملك فاروق لقب «صاحب» أو «لورد» النوبة ودارفور وكردفان وسنار. ويذكر أن الباب العالي كان قد نقل بموجب فرمان صادر في 13 فبراير 1841 ولاية مقاطعات النوبة ودارفور وكردفان وسنار وجميع توابعها إلى محمد علي. ولكن حكومة السودان نبهت إلى ضرورة استشارة السودانيين. وحذرت من أن إحياء هذا اللقب ربما يفسر في السودان على أنه إحياء للحكم التركي القديم.
بريطانيا تطرح صيغة جديدة بشأن السودان
بعد إقالة حكومة الوفد في 27 يناير 1952، كُلف علي ماهر بتشكيل الحكومة ولكنه استقال في أول مارس 1952 وخلفه أحمد نجيب الهلالي. وقد تبين من المحادثات التي أجراها السفير البريطاني استيفنسن مع الهلالي ووزير الخارجية عبدالخالق حسونة أن الهلالي يرغب في استئناف المفاوضات المصرية-البريطانية ولكن بشرط أن يكون قادراً على إقناع الرأي العام المصري بأن أساس المفاوضات مرضٍ من وجهة النظر المصرية. وخلال مباحثات أجراها السفير البريطاني مع الهلالي في 15 أبريل 1952 بشأن صيغة تقترحها بريطانيا بشأن مسألة الدفاع، أوضح الهلالي أن الاتفاق على هذه الصيغة يتوقف على الاتفاق على صيغة بشأن مسألة السودان. وأكد الهلالي للسفير أنه لن يقبل أي صيغة بشأن السودان مالم تعترف تلك الصيغة بإسناد لقب «ملك مصر والسودان» لفاروق.[4]
وفي محاولة لتجاوز عقبة السودان تقدمت الحكومة البريطانية في مايو 1952 بصيغة جديدة بشأن السودان. وقد أُعدت هذه الصيغة في اجتماعات عقدت في لندن في 29 و30 أبريل 1952 برئاسة وزير الخارجية البريطانية أنتوني إيدن وشارك فيها روبرت هاو حاكم السودان العام والسكرتير الإداري جيمس روبرتسون والسفير البريطاني في القاهرة استيفنسن. نصت الصيغة على الآتي: «بما أن الحكومة المصرية أعلنت أن صاحب الجلالة الملك فاروق يحمل لقب ملك مصر والسودان، فإن حكومة صاحبة الجلالة تؤكد أنها ستقبل بوحدة مصر والسودان تحت التاج المصري أو أي وضع آخر للسودان إذا نتج ذلك عن ممارسة السودانيين لحقهم في تقرير مستقبلهم وهو الحق الذي تعترف به وتقبله الحكومتان. وتدرك حكومة صاحبة الجلالة أن هناك اختلافات في الرأي بين الحكومتين حول مسألة لقب الملك خلال الفترة الانتقالية التي تسبق تقرير المصير. لذلك تعلن الحكومتان عن استعدادهما للدخول فوراً في مشاورات مع السودانيين فيما يتعلق بهذا الموضوع للتحققق عما إذا كان من الممكن الوصول إلى حل يكون مقبولاً للسودانيين، وينسجم مع التعهدات التي أعطتها لهم حكومة صاحبة الجلالة».
وفي رسالة إلى السفير البريطاني في 30 أبريل 1952 بشأن هذه الصيغة، أكد إيدن أنه بالرغم من اعتبارات الدفاع فإن الحكومة البريطانية غير مستعدة للتراجع عن التعهدات التي أعطتها من وقت لآخر للسودانيين. وطلب إيدن من السفير أن يوضح للحكومة المصرية أن هذه الصيغة تمثل أقصى ما يمكن أن تصل إليه الحكومة البريطانية بشأن لقب الملك، وبأنها لا تستطيع التراجع عن تعهداتها ليس بسبب السودانيين أنفسهم فحسب، وإنما لأن الرأي العام البريطاني لن يقبل أي تغيير في السياسة البريطانية تجاه السودان. وكان إيدن موقناً بأن السودانيين لن يقبلوا اعتراف الحكومة البريطانية بلقب الملك إلا إذا اقتنعوا بأن هذا الاعتراف مبني على ضمانات معينة من الحكومة المصرية. ولذلك طلب إيدن من السفير عند تقديم الصيغة الجديدة الحصول على موافقة الحكومة المصرية بأن تقوم الحكومة البريطانية بإخطار السودانيين عند استشارتهم بشأن لقب الملك بأنه إذا تم الاعتراف باللقب، فإن الحكومة المصرية ستقوم من جانبها بإعطاء الضمانات التالية:
- 1- الاعتراف العلني بحق السودانيين في تقرير مصيرهم.
- 2- الإعلان العام بأن لقب الملك لن يؤثر ولن يُسمح له بأن يؤثر على مركز السودان الحالي.
- 3- إن لقب الملك لن يؤثر على إدارة السودان.
- 4- سيتعاون المصريون من خلال لجنة ثلاثية لإقامة الحكم الذاتي وترتيب تقرير المصير.
- 5- سيشجع المصريون الأحزاب الاتحادية على الاشتراك في الانتخابات.
وقد أطلع الحاكم العام المجلس التنفيذي في 4 مايو 1952 على الصيغة البريطانية الجديدة. وفي تقريره لوزارة الخارجية البريطانية عن رد الفعل، قال الحاكم العام إن رد فعل أعضاء المجلس السودانيين اتسم بالحذر والريبة. وقال الحاكم العام أيضاً إن أعضاء المجلس الذين ينتمون إلى حزب الأمة وهم عبدالله خليل وعبدالرحمن علي طه وإبراهيم أحمد وعلي بدري وعبدالرحمن عابدون أعلنوا أن مسألة لقب الملك ينبغي أن يقررها السودانيون ولا أحد غيرهم، وأعلنوا كذلك رفضهم للسيادة الرمزية في الفترة الانتقالية التي تسبق تقرير المصير أو بعدها.
وحري بالذكر أنه قبل بضعة أيام من انعقاد الاجتماع الذي تم فيه إقرار الصيغة البريطانية الجديدة والذي شارك فيه الحاكم العام روبرت هاو والسكرتير الإداري روبرتسون، بعث عبدالله خليل في 22 أبريل 1952 بوصفه سكرتيراً لحزب الأمة برقية إلى وزير خارجية بريطانيا قال فيها: «نثق ثقة تامة بوعودكم المتكررة عن قيام الحكم الذاتي في السودان هذا العام وعن تقرير المصير حالما يتخذ السودانيون الخطوات العملية لتحقيقه. ونعتقد اعتقاداً جازماً بأن الحكومة البريطانية ستفي بوعودها السابقة من عدم استعمال السودان نقطة مساومة في فض النزاع الإنجليزي-المصري». وقال عبدالله خليل كذلك في برقيته: «إن اتجاهات مصر المستنكرة لتأخير تطورنا الدستوري ومحاولتها إبطاءه لفرض تاجها علينا ستُرفض رفضاً باتاً وتُقاوم بكل عنف».
الهلالي يدعو السيد عبدالرحمن المهدي لزيارة مصر
اقترحت الحكومة المصرية في 20 مايو 1952 ثلاثة بدائل للصيغة البريطانية. كما أبدت الحكومة المصرية تخوفها من أن تفتح عبارة «أو أي وضع آخر» الواردة في الصيغة البريطانية الباب أمام انضمام السودان إلى رابطة الشعوب البريطانية «الكومنولث». على أية حال يبدو أن الهلالي أيقن في هذه المرحلة أنه لا سبيل لتجاوز عقبة السودان إلا بالحوار المباشر مع الحركة الاستقلالية ومحاولة إقناعها بقبول التاج الرمزي خلال الفترة الانتقالية التي تسبق تقرير المصير والقضاء بذلك على الحجج البريطانية بشأن استشارة السودانيين. ففي النصف الأول من مايو 1952 طلب الهلالي من يحيي نور الخبير الاقتصادي لمصر في السودان توجيه الدعوة للسيد عبدالرحمن المهدي أو من ينوب عنه لزيارة القاهرة للتباحث حول مستقبل السودان السياسي وعلاقته بمصر.
أشيسون وأيدن يبحثان دعوة الهلالي للسيد عبدالرحمن
نوقشت دعوة الهلالي للحركة الاستقلالية خلال الاجتماع الذي عقد في باريس في 26 مايو 1952 بين أنتوني إيدن وزير خارجية بريطانيا ودين أشيسون وزير الخارجية الأمريكية. وكان من بين أعضاء الجانب الأمريكي ولز استابلر الذي زار السودان في 13 يناير 1952 لاستطلاع وجهة نظر السودانيين بشأن قبول التاج المصري الرمزي.
ابتدر إيدن النقاش بقوله إنه يعتبر دعوة الهلالي للسودانيين (يقصد الاستقلاليين) لبحث الأمور مع الحكومة المصرية خطوة بناءة وشجاعة. وأعرب عن تأييد الحكومة البريطانية لهذه المباحثات وكشف النقاب عن أن الحكومة البريطانية شجعت الحكومة المصرية على ترتيبها. وقال إيدن إنه لا يستطيع التكهن بما ستسفر عنه هذه المباحثات، فقد يقبل السودانيون (يقصد الإستقلاليين) تسوية ما ويُخلي سبيل الحكومة البريطانية من المسألة خلال الفترة الانتقالية التي تسبق تقرير المصير، وقد تنهار المباحثات وسيدرك المصريون عندئذ أن اعتراضات السودانيين (الإستقلاليين) على لقب الملك ليست تلفيقاً بريطانياً.
ومن جانبه قال أشيسون إن المفاوضات المباشرة بين المصريين والسودانيين (يقصد الإستقلاليين) ذات أهمية قصوى وربما تكون الفرصة الأخيرة للوصول إلى تسوية. ثم قال إن الجميع متفقون على الصلة بين مسألة الدفاع وموضوع السودان، إلا أن المصريين لن يناقشوا مسألة الدفاع قبل الوصول إلى حل لموضوع لقب الملك. ولن يقبل البريطانيون لقب الملك دون استشارة السودانيين وتؤيدهم في ذلك حكومة الولايات المتحدة. وفيما يبدو أنه انتقاد للحكومة البريطانية، قال أشيسون إن الحكومة البريطانية اشترطت على مصر تقديم ضمانات معينة فيما يتعلق بنواياها في المستقبل إزاء السودان قبل التحدث إلى السودانيين (الإستقلاليين). وأضاف أنه علم أن مصر رفضت هذه الشروط وتتحدث الآن مع السودانيين دون شروط مسبقة.
وهنا تدخل إيدن مكرراً القول بأن الحكومة البريطانية دعت إلى المحادثات المصرية-السودانية وباركتها ولم تضع لها أي شروط مسبقة. ولكنها طلبت من المصريين تأكيد بعض النقاط التي تعتقد الحكومة البريطانية أنه لا يمكن بدونها أن يكون هناك أمل لقبول السودانيين (الإستقلاليين) لقب الملك في أي شكل. واستأنف أشيسون حديثه قائلاً إن الظروف الراهنة تقتضي بأن تقوم الحكومة البريطانية بمشاورات إيجابية بغرض الوصول إلى حل وليس خلق عقبات أمام الحل. وأعرب عن أمله في ألا تضع الحكومة البريطانية أي شروط مسبقة. واقترح -إذا بات ضرورياً- أن يُبعث إلى السودان بشخص رفيع المكانة يتمتع بثقة البريطانيين والمصريين والسودانيين حتى تحظى استنتاجاته بالقبول.
وأكد أشيسون على ضرورة استمرار المحادثات المباشرة بين المصريين والسودانيين (الاستقلاليين) ولكنه طالب برعايتها وتوجيهها وقال إن على بريطانيا أن تتدخل وتبذل قصارى جهدها لإيجاد حل إذا ظهر أن المحادثات ستنهار، إذ ليس من الصائب أن يترك الأمر كلياً للمصريين. وكرر أشيسون القول بأن هذه المحادثات تشكل الفرصة الأخيرة. وحذر من أنه إذا لم تحل المسألة فسوف يتزايد الضغط على الحكومة البريطانية للخروج من مصر، وعلى الحكومة المصرية لقطع علاقاتها مع الولايات المتحدة.
ولم يستبعد إيدن إذا اقتضت الضرورة إرسال مبعوث إلى السودان للمساعدة في حل المشكلة. وألمح إلى أنه فكر في الذهاب بنفسه إلى القاهرة والخرطوم. ولكنه قال إنه لا يستطيع ممارسة ضغط على السودانيين (الإستقلاليين) لقبول لقب الملك فاروق.
وتشكك استابلر في أن تبقى حكومة الهلالي طويلاً في الحكم لأنها لم تحرز خلال الثلاثة أشهر التي أمضتها في الحكم أي تقدم في تحقيق الطموحات الوطنية المصرية. وحذر من أنها ستتعرض لضغط متزايد إذا لم تحصل على تسوية لمسألة السودان.
وسارع إيدن إلى القول بأن الحكومة البريطانية لا تستطيع الإبقاء على حكومة الهلالي على قيد الحياة بإطعامها السودانيين. ونبه إلى أن الرأي العام البريطاني مفرط في الحساسية تجاه مسألة السودان ولن يقبل خيانة السودانيين.
ولكن أشيسون أوضح أن الولايات المتحدة لا تطلب من الحكومة البريطانية خيانة السودانيين. وقال إن المصريين يطلبون صيغة ما بشأن السودان وستكون الحكومة البريطانية محقة في رفض أي صيغة تؤدي إلى تنفير السودانيين. ثم أشار إلى أنه يمكن النظر إلى طلب المصريين بطريقين. فقد يقبلون بصيغة تعترف فقط بمبدأ وحدة وادي النيل. ولكن من الجانب الآخر ربما يسعون عن طريق هذا المبدأ لفرض واقع السيطرة المصرية على السودان وهذا بالطبع غير مقبول للحكومة البريطانية ووافقت الحكومة الأمريكية على ألا يسمح به. وتساءل أشيسون عما إذا كان من الممكن أن توجد بين الصيغة والواقع وسيلة تؤمن السودانيين ضد التدخل المصري، وفي نفس الوقت تقنعهم بقوب لقب الملك بطريقة ما.
وأكد إيدن مرة أخرى أنه لا يستطيع ممارسة ضغط على السودانيين (الإستقلاليين) لقبول لقب الملك، وأضاف أن السودانيين قوم بسطاء وإذا علموا أن الحكومة البريطانية ترغب في اعترافهم بلقب الملك فسيفترضون أنها بذلك تسلم بواقع الملكية وتبعاً لذلك السيادة المصرية على السودان ولن تؤثر في ذلك عبارة «تاج رمزي». وفي ختام الاجتماع قال أشيسون إن المهم هو رعاية المباحثات الجارية بين المصريين والسودانيين (يقصد الإستقلاليين) وعدم إضاعة فرصة الوصول إلى اتفاق.
انظر أيضاً
- المسألة السودانية
- استقلال السودان
- العلاقات الأمريكية السودانية
- العلاقات الأمريكية المصرية
- العلاقات الأمريكية البريطانية
- العلاقات البريطانية المصرية
- العلاقات البريطانية السودانية
- العلاقات السودانية المصرية
الهامش
- ^ فيصل عبد الرحمن علي طه (2016-11-13). "في ذكرى الاستقلال دخول أمريكا في المسألة السودانية: 1951-1953 (1)". سودانيز اون لاين.
- ^ فيصل عبد الرحمن علي طه (2016-11-16). "في ذكرى الاستقلال دخول أمريكا في المسألة السودانية: 1951-1953 (2)". سودانيز اون لاين.
- ^ فيصل عبد الرحمن علي طه (2016-11-20). "في ذكرى الاستقلال دخول أمريكا في المسألة السودانية: 1951-1953 (3)". سودانيز اون لاين.
- ^ فيصل عبد الرحمن علي طه (2016-12-03). "في ذكرى الاستقلال دخول أمريكا في المسألة السودانية: 1951-1953 (4)". سودانيز اون لاين.
- المسألة السودانية
- العلاقات الأمريكية السودانية
- العلاقات الأمريكية المصرية
- العلاقات الأمريكية البريطانية
- العلاقات البريطانية المصرية
- العلاقات البريطانية السودانية
- العلاقات المصرية السودانية
- 1936 في مصر
- 1937 في مصر
- 1938 في مصر
- 1939 في مصر
- 1940 في مصر
- 1941 في مصر
- 1942 في مصر
- 1943 في مصر
- 1944 في مصر
- 1945 في مصر
- 1946 في مصر
- 1947 في مصر
- 1948 في مصر
- 1949 في مصر
- 1950 في مصر
- 1951 في مصر
- 1952 في مصر
- 1953 في مصر