تنظيم الدولة العثمانية
هل كان العثمانيون متحضرين؟ الحق أن الانطباع بأن العثمانيين كانوا متبربرين همجيين إذا قورنوا بالمسيحيين ليس إلا وهماً قصد به تقربة الذات. فإن أساليبهم في الزراعة وعلومهم كانت على الأقل تضارع ما كان منها لدى الغرب. فالأرض كان يفلحها مستأجرون من الرؤساء الإقطاعيين، الذين كان عليهم في كل جيل أن يستحوذوا على أراضيهم بخدمة السلطان بطريقة مرضية، في الإدارة وفي الحرب. وباستثناء النسيج والخزف، وربما الأسلحة والدروع، لم تكن الصناعة قد أقامت بعد نظام المصانع، كما كان الحال في فلورنسه وفي فلاندرز، ولكن الحرفيين الأتراك كانوا مشهورين بمنتجاتهم الممتازة. ولم يشعر الأغنياء أو الفقراء بالأسى والحزن لانعدام النظام الرأسمالي. ولم يبلغ التجار المسلمون في القرن السادس عشر من النفوذ السياسي أو المركز الاجتماعي، ما بلغه نظراؤهم في أوربا الغربية. وتميزت التجارة بين الأتراك بعضهم البعض بالأمانة النسبية، ولكن بين الأتراك والمسيحيين كان المال مستباحاً. وتركت التجارة الأجنبية في معظمها للأجانب. وسارت قوافل المسلمين، في صبر وجلد، على الطرق البرية التي كانت معروفة في العصور القديمة والوسطى، إلى آسيا وأفريقية، حتى عبر الصحراء، وكانت الأنزال الصحراوية، ومعظمها أسسه سليمان، تقدم للتاجر أو السائح أماكن للاستراحة على الطريق. وسيطرت سفن المسلمين حتى سنة 1500 على الطرق البحرية من القسطنطينية والإسكندرية، عبر البحر الأحمر إلى الهند وجزر الهند الشرقية، حيث كان التبادل يتم مع البضائع التي حملتها السفن الشراعية الصينية. وبعد أن فتحت رحلة فاسكودا جاما وانتصارات البوكرك البحرية- فتحت الهند أمام التجار البرتغاليين، فقد المسلمون سيادتهم على المحيط الهندي، ودخلت مصر وسوريا وفارس والبندقية طور اضمحلال تجاري عام.
وكان التركي رجل بر وبحر معاً. وكان اهتمامه بالدين أقل من اهتمام معظم سائر المسلمين، ولكنه كذلك نظر بعين الإجلال والإكبار إلى الصوفية والدراويش والأولياء، واستمد شريعته من القرآن، وتلقى تعليمه في المسجد، ونبذ في عبادته، مثل اليهود، الصور المنحوتة ونظر إلى المسيحيين على أنهم مشركون وثنيون. وكان الدين والدولة شيئاً واحداً، وكان القرآن والسنة هما القانون الأساسي، وكان العلماء الذين فسروا القرآن هم أنفسهم أيضاً المعلمين والمحامين والقضاة ورجال القانون في المملكة. وأمثال هؤلاء العلماء هم الذين جمعوا في عهد محمد الثاني وسليمان الأول مجموعات القوانين العثمانية النهائية.
وكان المفتي، أو شيخ الإسلام، على رأس جماعة العلماء، وكان أعلى قاض في البلاد بعد السلطان والصدر الأعظم. ولما كان الموت حتماً مقضياً على السلاطين، وكانت جماعة العلماء قائمة دوماً، فإن هؤلاء المشرعين الدينيين هم الذين حكموا الحياة اليومية في الإسلام. ولما كانوا يفسرون الحاضر على أساس من شرائع الماضي، فقد تشبعوا بروح المحافظة وأسهموا في ركود الحضارة الإسلامية بعد وفاة سليمان. وعزز الإيمان بالقضاء والقدر- أو كما يقول قسمة الإنسان أو نصيبه- روح المحافظة هذه : أي أنا حيث أن الله قدر نفس حظها، فإن ضجر الإنسان بما قسم له ضرب من البعد عن الدين والتعمق فيه، فكل شيء في هذه الدنيا، والموت خاصة، هو من أمر الله ويجب الرضا به دون تذمر أو شكوى. وقام بين الحين والحين من ذوى التفكير الحر من يتحدث بصراحة بالغة، ولكن نادراً ما كان يحكم عليه بالإعدام. ومهما يكن من أمر، فإن العلماء عادة أجازوا قدراً كبيراً من حرية الفكر، ولم يكن في تركيا الإسلامية محاكم تفتيش.
وتمتع المسيحيون واليهود في ظل العثمانيين بقدر كبير من الحرية الدينية، وسمح لهم بتطبيق شرائعهم في الأمور التي لا يكون المسلمون طرفاً فيها(27).واحتضن محمد الثاني الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية عمداً، لأن انعدام الثقة المتبادل بين اليونان والروم الكاثوليك أفاد الأتراك في مقاومة الصليبيين. وعلى الرغم من أن المسيحيين انتعشوا تحت حكم السلاطين، فإنهم عانوا ضعفاً شديداً. فقد كانوا في حقيقة الأمر عبيداً أرقاء، ولكن كان في مقدورهم إنهاء الوضع بالدخول في الإسلام، وفعل الملايين منهم ذلك. وأما الذين رفضوا فكانوا مبعدين عن الجيش، لأن الحروب الإسلامية كانت في ظاهرها مقدسة من أجل الكفار إلى الإسلام. وخضع مثل هؤلاء المسيحيين لضريبة خاصة بدلاً من الخدمة العسكرية. وكانوا عادة فلاحين مستأجرين يدفعون عشر إنتاجهم إلى مالك الأرض، وكان لزاماً عليهم أن يقدموا واحداً من كل عشرة أبناء لهم، حتى ينشأ تنشئة إسلامية في خدمة السلطان.
وكان السلطان والجيش والعلماء هم الدولة. وإذا وجه السلطان النداء، جاء كل رئيس إقطاعي ومعه قواته المجندة ليشكلوا فوق الخيالة الذين بلغ عددهم في عهد سليمان 130.000 رجل. وكان سفير فرديناند ينظر بعين الحسد إلى أبهة تجهيزاتهم: ملابسهم المصنوعة من البروكار (الحرير المقصب) أو الحرير ذي اللون القرمزي أو الأصفر الفاتح أو الأزرق القاتم، وأطقم الخيل التي تتألق بالذهب والفضة والجواهر، فوق أحسن جياد رأتها عينا بوسبك Busbeq وتكونت صفوة المشاة من أبناء الأسرى ودافعي الجزية المسيحيين الذين كانوا ينشئون على خدمة السلطان في قصره، أو في إدارة البلاد، وفوق كل شيء في الجيش، حيث كانوا يسمون الانكشارية أو العسكر الجديد. وكان مراد الأول قد أنشأ هذه الفرقة الفذة (1360)، كوسيلة لتجريد رعاياه المسيحيين من الشباب الذي يحتمل أن يكون مصدر خطر. ولم يكن عددهم كبيراً- نحو عشرين ألفاً في عهد سليمان. وكانوا يتلقون تدريباً عالياً على كل المهارات الحربية، وكان محرماً عليهم الزواج أو الاشتغال بالأعمال الاقتصادية، ويلقنون الروح العسكرية والمجد الحر والعقيدة الإسلامية، وكانوا شجعاناً في الحرب، قدر ما كانوا ساخطين قلقين وقت السلم، وجاء بعد هؤلاء الجنود المتفوقين، الميلشيا (جند الطوارئ)، وكانوا نحو مائة ألف، أشرف السباهي والانكشارية على تدريبهم وتغذيتهم بالروح العسكرية. وكانت الأسلحة المفضلة لا تزال هي القوس والنشاب والرماح، وكانت الأسلحة النارية في بداية استعمالها، وفي الاشتباكات عن قرب كانت القضبان الشائكة والسيوف القصيرة هي المفضلة. وكان الجيش والعلوم العسكرية على عهد سليمان أفضل ما في العالم من نوعهما في ذاك العصر، ولم يضارع أي جيش آخر جيش سليمان في سلاح المدفعية أو في الخنادق والهندسة العسكرية أو النظام والروح المعنوية، أو في العناية بصحة الجنود، أو في تموين الأعداد الهائلة من الجنود على مسافات بعيدة. ومهما يكن من أمر فإن الوسيلة كانت ممتازة لمجرد خدمة غاية معينة، وأصبح الجيش غاية في حد ذاته، حيث كان لزاماً، للحفاظ على نظامه وكبح جماحه، أن يخوض الحروب، وبعد سليمان أصبح الجيش، والانكشارية فوق كل شيء- سادة على السلاطين.
وكان المجندون الذين تحولوا إلى الإسلام من أبناء المسيحيين يشكلون غالبية الهيئة الإدارية في الحكومة التركية المركزية. وكان حقاً علينا أن نتوقع أن يخشى السلطان المسلم أحاطته برجال يحبون "الزعيم الوطني الألباني" اسكندربرج، ويحنون إلى دين آبائهم، والأمر على النقيض من ذلك، فإن سليمان آثر هؤلاء المتحولين عن دينهم، لأن في الإمكان تدريبهم منذ نعومة أظفارهم على مهام محددة في الإدارة.
والأرجح أن بيروقراطية الدولة العثمانية كانت أقدر ما وجد من نوعها في النصف الأول من القرن السادس عشر(28)، ولو كانت عرضة للرشوة بشكل يسيء إلى سمعتها، وضم الديوان- وهو بمثابة الوزارة في الحكومات الغربية- كبار رجال الإدارة تحت رئاسة الوزير الأكبر عادة. وكان لهذا الديوان سلطات استشارية أكثر منها تشريعية. وكانت توصياته تصبح عادة قانوناً بمقتضى قانون أو مرسوم من سلطان. وكانت السلطة القضائية يتولاها القضاة والأئمة (كبار القضاة) من العلماء. ولحظ أحد المراقبين الفرنسيين نشاط المحاكم وسرعة البت في المحاكمات وصدور الأحكام(29)؛ كما اعتقد مؤرخ إنجليزي كبير أن "سير القضاء في عهد الحكام العثمانيين الأولين كان في تركيا أفضل منه في أية بقعة في أوربا، وأن رعايا السلطان المسلمين كانوا أدق نظاماً من معظم الجاليات المسيحية، وأن الجرائم كانت أندر"(30). وكان الانكشارية يقومون بوظيفة الشرطة في شوارع القسطنطينية التي يحتمل خلوها من حوادث القتل أكثر من أية عاصمة أوربية أخرى(31). وفضلت الأقاليم التي وقعت تحت الحكم الإسلامي- رودس، اليونان، البلقان- فضلت هذا الحكم على أحوالها السابقة في ظل حكم الفرسان أو البيزنطيين أو البنادقة، حتى بلاد المجر نفسها ارتأت أن الأحوال فيها صارت تحت حكم سليمان إلى أحسن مما كانت عليه أيام آل هبسبرج(32).
وكانت معظم مكاتب الإدارة في الحكومة المركزية مستقرة في "السراي" أي المساكن الإمبراطورية- وهي ليست قصراً، ولكن مجموعة مبان وحدائق وساحات، تضم السلطان وحريمه وخدمه ومعاونيه وثمانين ألفاً من البيروقراطية. وكان لهذا النطاق الذي يبلغ محيطه ثلاثة أميال وباب واحد ذو زخرفة رائعة، أطلق عليه الفرنسيون "الباب العالي"، وهو اصطلاح حدث في شيء من لغو الحديث، أن قصد به الحكومة التركية نفسها. وجاء في المقام الثاني بعد السلطان في هذا التنظيم المركزي الوزير الأكبر. وأصل الكلمة عربية ومعناها حامل الأثقال، والحق أن الوزير نهض بأعباء ثقيلة، فكان على رأس الديوان، والبيروقراطية، والقضاء، والسلك الدبلوماسي، كما أشرف على العلاقات الخارجية، وأجرى التعيينات الكبرى، كما قام بأدق المهام الرسمية في أكثر الحكومات الأوربية ولعاً بالرسميات. وأما أشق التزامات الوزير فهي إرضاء السلطان في كل هذه الأمور. حيث كان الوزير عادة مسيحياً ثم أسلم. وبعبارة أدق، هو عبد، ويمكن أن يلقى حتفه دون محاكمة من سيده، واثبت سليمان نفاذ بصيرته وسداد رأيه باختيار وزرائه الذين أسهموا إسهاماً كبيراً في نجاحه. وكان إبراهيم باشا (إبراهيم الحاكم) يونانياً أسره قراصنة المسلمين وأحضروه إلى سليمان باعتباره عبداً يبشر بحسن المستقبل.
ووجد سليمان أنه متعدد القدرات إلى حد أنه وكل إليه الأكثر فالأكثر من الصلاحيات والمهام، وأجرى عليه راتباً سنوياً قدره 60 ألف دوكات (1.500.000 دولار؟) وزوجه من أخت له، وآكله بانتظام، واستمتع بحديثه ومعزوفاته الموسيقية وبمعرفته باللغات، والآداب، وحسن اطلاعه على أمور الدنيا. وعلى الطريقة الشرقية الأنيقة أعلن السلطان سليمان أن "كل ما يقوله إبراهيم ينبغي أن يعتبر كأنه صادر من ذات فيه الذي ينثر اللآلئ(33). تلك كانت واحدة من أعظم صداقات التاريخ، حتى في أساطير اليونان القديمة.
وثمة حكمة واحدة كانت تعوز إبراهيم- تلك هي أن يخفي زهوه الداخلي بتواضع خارجي أو ظاهري. لقد كان لديه كثير من السباب التي تجعله يزهو بنفسه، فهو الذي سما بالحكومة إلى أعلى درجات المقدرة والكفاية، وبفضل دبلوماسيته هو استطاع أن يشيع الفرقة والانقسام بين دول الغرب بتدبير التحالف مع فرنسا، وهو الذي أعاد الهدوء إلى آسيا الصغرى وسوريا ومصر، حين سار سليمان بجيشه إلى المجر، بإصلاح المساوئ ومعاملة الجميع بالعدل والكياسة. وكذلك كان له العذر في أن يكون حذراً متوجساً، فإنه لم يزل عبداً، وكلما ارتفع رأسه، ازداد رقة ودقة ذلك الخيط المعلق منه سيف السلطان المسلط على رقبته. وقد أغضب الجيش حين حرم عليه سلب تبريز وبغداد، وحاول منعه من سلب بودا. واستطاع في هذا السلب أن ينقذ جزءاً من مكتبة ماتياس كورفينوس، وثلاثة تماثيل من البرونز لهرمز وأبوللو وأرتميز، ووضعها أمام قصره في القسطنطينية، وحتى سيده المتحرر اضطرب لهذه الإساءة الموجهة إلى الوصية السامية بتحريم النحت، واتهمته ثرثرة الناس بامتهان القرآن. وأقام في بعض الأحيان حفلات تفوق في نفقتها وبهائها حفلات السلطان، واتهمه أعضاء الديوان بأنه يتحدث وكأنه يقود السلطان كأسد أليف موثوق بالقيود. واغتاظت روكسيلانا محظية الحريم من نفوذ إبراهيم، ويوماً بعد يوم، وبفضل إصرار النساء، ملأت أذن الإمبراطور بالشبهات والشكاوي، حتى اقتنع السلطان أخيراً، وفي 31 مارس 1536، وجد إبراهيم مخنوقاً على فراشه، ويحتمل أن يكون ذلك بأمر ملكي. وهذا عمل ينافس في وحشيته إحراق سرڤيتوس أو بركوين.
وأكثر وحشية من هذا بكثير، قانون قتل الأخوة الإمبراطوريين. وقد عبر عنه محمد الثاني صراحة في سجل القوانين : "إن غالبية المشرعين أعلنوا أن اللامعين من أبنائي الذين يتولون العرش، يكون لهم الحق إعدام اخوتهم تأميناً في الدنيا، وعليهم أن يعملوا طبقاً لهذا"(34). وبهذا حكم محمد الفاتح، في هدوء، بالإعدام على السلالة الملكية ما عدا الكبار منهم. وثمة سيئة أخرى من سيئات النظام العثماني، وهي أن تؤول ممتلكات المحكوم عليه بالإعدام، إلى السلطان الذي كان لذلك دائماً، تحت تأثير الإغراء بتحسين موارده المالية، يصم أذنيه دون أي نداء أو رجاء ولا بد من أن نضيف أن سليمان قاوم هذا الإغراء. وعلى النقيض من مثل هذه المساوئ في الحكم الفردي المطلق، يمكن أن نعترف بديمقراطية غير مباشرة في الحكومة العثمانية، تلك هي أن الطريق إلى للرفعة والمكانة العالية، فيما عدا السلطنة، كان مفتوحاً أمام جميع المسيحيين الذين تحولوا إلى الإسلام ومهما يكن من شيء، فربما برهن نجاح السلاطين الأوائل على أن قدرة الأرستقراطية وراثية حيث لم يكن هناك أية حكومة معاصرة احتفظت بمثل هذا المستوى العالي من القدرة والكفاية لأمد طويل، كما كان الحال في العرش العثماني.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الهامش