السراب
المؤلف | نجيب محفوظ |
---|---|
البلد | مصر |
اللغة | العربية |
الصنف الأدبي | رواية نفسية تربوية |
الناشر | |
الإصدار | 1948 |
السراب، هي إحدى روايات نجيب محفوظ تدور في اطار نفسي تربوي.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أحداث الرواية
السراب، رواية درامية بشكل كبير، يمكن أن وصفها بأنها رواية تتناول مشكلة، لكن بدون حلول لها، تحولت هذه الرواية إلى فيلم سينمائي يحمل نفس الإسم، استطاع المخرج أنور الشناوي أن ينقل لنا مغزى الرواية، لكن لم يوفي الرواية حقها، جسد نور الشريف شخصية بطل الرواية على حسب القدرة الإبداعية التي يمكن أن تخرج في فيلم سينمائي قصير المدة، رواية "السراب" من الروايات المحيرة بالنسبة لي عند قراءتها، فعهدي على كاتبنا الجرأة في قص رواياته، وبالرغم من ذلك فجرأته هنا لم تنل من الرواية إلا بالقليل، بل غلب عليها الوصف الدقيق لمشاعر البطل مع باقي الشخصيات، وكعادته استطاع كاتبنا أن يجعلنا نتصور كل ما يحدث بل ونصل لحد التصديق لشدة التفاصيل، بالطبع لم تروقني بعض الأحداث التي تعدت حدود المعروف عندي، ولكن المعروف بالنسبة للبعض مباح للبعض الآخر، ولإعتباري نجيب محفوظ من الكتاب المحترفين في فن صياغة المعاني، تقبلت اللغة التي استخدمها هنا في الرواية، لا أدرى إن كان متعمداً إثارة الدهشة فينا من شديد المعاني، أم أن الأمر خارج عن إرادته هو الأديب المخضرم، أما عقولنا نحن فلها أن تفهم ما تشاء، أعيب على جهلي بتعاليم اللغة الفصحى، لكن لازلت على عهدي في عدم القدرة على فك طلاسمها، فوجدت نفسي أمام كلمات مثل وشائج، أروم، الساجي، مهيضة، سجفه، قمطر، الجوذيّ، المصاقع، الجدث، سحية وذؤابة فعند رنينها في أذني قررت أن أسير مع الكلمات الأخرى لعلي أفهم، وفعلت أحياناً، أما ما جذبني هنا هو حرصه على تشديده على الصفات، فعند وصفه للظلام يقول ظلماء، وللحزن يقول محزوناً، وللأسف يقول الأسيف، وكثير مثل: الرطيب، هياب، حسيرة، الأويقات، سهوم، المقدور، المخبوء، حتى نرى المعنى بوصفه الصحيح، راقني أيضا استخدامه للكلمات الدارجة وقتذاك مثل: الحانطور، القلة، الوابور، السلاملك، الباشجويش، دلالة، دورق، وقومسيون، وكثير من الجمل الفكاهية التي يغلب عليها السخرية مثل: "يا فرحة أمك بك" وغيرها الكثير، مما أضفى على الرواية مشاهد كوميدية في بعض الأحيان.
يوجد في الرواية ثلاثة أجيال، الجيل الأول هو الجد الكبير لاظ، يقابله على الجانب الأخر الأميرالاي عبد الله بك حسن، يأتي بعدهم الجيل الثاني وهم: رؤبة لاظ وأخيه، وعلى الجانب الأخر تأتي زينب هانم عبد الله، أما الجيل الثالث وهو محور الرواية الأصلي فيتمثل في نتاج هاتين العائلتين وهم: راضية ومدحت وكامل لاظ، نجد في الرواية شخصيات عديدة منهم الخدم التي تظهر أدوارهم بشكل واضح كعم آدم البواب النوبي صاحب سر رؤبة لاظ، وصباح الخادمة المخلصة، وعم كريم الحوذيّ خادم الأميرالاي، وزوج راضية صابر أمين، وهناك من الشخصيات من كان لهادور أساسي لسير الحبكة الدرامية مثل: رباب زوجة كامل، والدكتور أمين رضا، وما كان لهما من تأثير على حياة البطل.[1]
تبدأ الرواية مع كامل رؤبة لاظ، الذي أفصح في البداية جهله لكتابة أي رسائل طوال حياته، وبوصف دقيق مطول لمشاعره تجاه ما حدث له في حياته من أهوال صنعها هو بنفسه، ولم يسعفه الحظ بأن يغتنم السعادة، وبتدرج جميل نصل إلى الحقيقة الغامضة، وهى شعوره بالذنب لقضاءه على روحين طالما أحبهما، من هما وماذا حدث؟ هذا ما وصفه راوي القصة نفسه بتذكره للماضي، ومع السطور الأولى يبدأ بأمه، الجميل هنا هو الأسلوب المشوق الذي اعتمده كاتبنا، بإعطاءنا الحقيقة في تدرج، فبسرده لذكرياته ذكر ندمه لكونه السبب في موت أمه، فلم نعرف هل قتلها أم ماتت بسبب شيء فعله، ففعل مثل الأم التي تعلم مدى مرارة الدواء فتعطيه لأبنائها قطرة قطرة، حتى لايصطدموا بطعمه المر، مما دفعني إلى استكمال القراءة سريعاً، فذكرياته تعيده إلى زواج أمه الغادة الحسناء التي تزوجت شاباً مستهتراً سكّيراً، وأنجبت منه راضية ومدحت، اللذان كان يفصل بين مولدهما كثير من الغضب والمشاكل التي دعتها في كل مرة إلى الذهاب لبيت أهلها، حتى كبروا في بيت جدهم، إلى أن تمت مقابلة الجد الأميرالاي عبد الله حسن بعد ثمانية أعوام بزوج ابنته مصادفة بالشارع ويضربه نفراً من الشباب، فأنقذه منهم ورثى حالته الضعيفة وهو عبد الخمر الذي دمر حياته، فأصر الزوج على اصطحاب الجد معه لبيته في الحلمية، وذهب وهناك استعطفه ليرجع اليه زوجته وأولاده وأعلن التوبة وقتها، فما كان من الجد إلا أن رضخ لهذا الأب المسكين التائب، وعادت زينب هانم إليه، ولكن ما باتت أن اصبحت التوبة في طي النسيان فشبت الخلافات ثانية وعادت الأم بأولادها لبيت أبيها لكنها رجعت بحياة جديدة في أحشائها، ألا وهي كامل الذي كبر وتربى في بيت جده طوال حياته، شب كامل ولم يجد غير أمه وجده، فأبوه انتقاماً أخذ راضية ومدحت معه، وماتت جدته والدة أمه، حتى أن جده كان يقول له دائماً أنه جاء بسبب حماقة جده، فلم تجد أمه راحة لفقدان أولادها إلا في حضن صغيرها الذي كبر على دلال أمه وكرهه لأبيه الذى لم يراه مطلقاً، دلال أمه الذي افسد عليه حياته حتى وصل بها ألا تفارقه أبداً فربته على الخوف والخجل، فلم تسمح له باللعب مع جيرانه، ولا تتركه يخرج إلى الشارع رغماً عنه، ولكنه كان دائم الطلب للحرية التي يرغب بها أي طفل في اللعب مع أقرانه، فعصى أمرها مرة ولعب مع جيرانه فتعرض للضرب والسب مما جعله يفطن إلى ما كانت تنصح به أمه دوماً، ومن فرط خوفها عليه أدخلته المدرسة التمهيدية في السابعة من عمره، تحت ضغط من جده الذي يحبه ويرعاه ويريده أن يكبر ويصبح ضابط مثله، وكانت فرحته لا توصف وقتها، وما لبث أن دخل المدرسة إلا وذاق الهوان، خجله وقلقه من مخالطة الأطفال جعله وحيداً بدون أصدقاء، حتى أنه في يوم زل لسانه ونادى المدرس " يا نينة" بدل "يا أفندي" فرد عليه بسخرية " إيه يا سيد أمك؟" وضحك عليه الجميع ومن يومها وهم يطلقون عليه "نينة"، وتلاها بالطبع سقوطه الدائم وعدم قبوله في المدرسة الإبتدائية فاضطر جده إلى أن يقضي عام دراسي في البيت، وكانت سعادته لا توصف لأنه لن يضطر إلى الذهاب إلى أبغض مكان بالنسبة إليه، وبلغ التاسعة فخشيت أمه أن يأخذه أبوه، ولكن تدخل جده فض هذا النزاع خاصة مع عدم رغبة الأب المستهتر في تربية طفل صغير، ولكنه إشترط عدم الإنفاق عليه وبالطبع وافق الجد المحب، رجع إلى المدرسة في العام التالي ومن كثرة بلادته أطلق عليه الأستاذ "الغبي الممتاز" وكان لا يتواني في الشرح إليه حتى يفهم ويقول: "لابد أنكم فهمتم مادام سي كامل قد فهم"، وكانت السخرية منه وخجله الدائم مصدر قلقه الذي استمر معه طول حياته، وهنا تحدث المصادفة التي ستضع إخوته في طريقه ليعرفهم ويعرفوه، وهو هروب أخته راضية من بيت أبيها وزواجها من الرجل الصالح "صابر أمين"، وهنا قابلت الأم أولادها بعد فراق طويل وكان مشهداً جميلاً يوصف لم شمل العائلة مجدداً، صاحبه بعد ذلك تساؤلات من كامل مثل: لماذا تزوجت أخته من رجل غريب، ولماذا لم تأت إليهم أولا، وكيف تنجب منه زينب الصغيرة، تقابله أمه بأن يصبر ليكبر أولاً وسيفهم كل شيء، أصبح في العاشرة وخاض تجربة - مؤلمة لأمه - مع الخادمة الدميمة التي استغلت جهل وخجل الطفل الصغير، كل ذلك وهو متعثر في دراسته حيث ظل في السنة الأولى عامين ونجح في الثالثة مما دعى جده أن يقول مداعباً: "لو كنت ما أزال في خدمة الجيش، لجئتك بفرقة الطوبجية وأمرتهم بإطلاق أربعة وعشرين مدفعاً إحتفالاً بنجاحك". وتخلل ذلك رفض أمه للزواج مرة ثانية، بالرغم من ضغط أبيها، وأستمر كامل في تعثره الدراسي حتى بلغ الرابعة عشرة وهو ما زال في السنة الثالثة الإبتدائية، وفي شرح دقيق ومفصل سرد لنا كاتبنا تغير حياته من الطفولة إلى الشباب، وتغير أحاسيسه وأفكاره التي ظنها خاصة به وحده واعتبرها سره الدفين، إلى أن سمع أقرانه يتحدثون عن هذه الأفكار المعيبة في فناء المدرسة، فشعر بتأنيب الضمير لما يخالجه من مشاعر، ولكنه قد أصبح فيه داء وعاش في دنيا الخيال الواهمة، وبالمقابل انتقاد أمه لتلك المشاعر ووصفها بالفساد الأخلاقي، كلما سمعها تتحدث مع جيرانها ويتطرقون لأمر زواجه في المستقبل من إحدى بناتهن بمداعبة معتادة من الأمهات، دخل امتحان الإبتدائية وهو في السابعة عشرة، ولقلقه الدائم الذي يضخم أتفه الأمور، قرر الإنتحار قبل أن تظهر نتيجته، وصور له خياله أن حياتنا ما هى إلا ميلاد وموت وأن ما يحدث بينهما لا يثمر بشيء، فما الفائدة من الإنتظار، وبتصوير دقيق لإقدامه على هذه الخطوة والرجوع عنها، أصبح هذا المشهد راسخاً في ذهني بالرغم من عدم علمي لأنه سيقوم بالإستشهاد به في المستقبل القريب (لعله كان قصد كاتبنا فدقق في وصفه)، تسير الأحداث بخسارة كبيرة لجده على الطاولة الخضراء، فالجد المقامر ظل حذراً طوال عمره ولكن خانه حظه هذه المرة، ففكر في أن يلجأ إلى والد كامل ليعينه على النفقة على إبنه حتى يطمئن على مستقبله، ولم يفحلا بل قابلهم بكل سخط واستهزاء بالشيخ الكبير الذي تجاوز الستين وذكره بشرطه بعدم النفقة عليه في الماضي، وتناسى أن هذا هو أول لقاء له بإبنه، مما أثار غضب الجد الذي غادر القصر وعينه تكاد تتفجر من الغيظ حتى وجه كلامه لكامل وقال: "وأنت يا سي قطران أتظل عمرك بغلاً! ألم يفتح عليك الله بكلمة طيبة؟ ماذا كان عليك لو تظاهرت بالتودد إليه؟ أحسبته يا أحمق سيرتمي عليك عشقاً وولهاً!"، تأتي على أثر ذلك زيارة أخيه مدحت لهم بعد سماعه ما حدث من عم آدم البواب، وأعلن لهم سفره للفيوم للعمل مع عمه، ووصل لهم خبر زواجه ودعاهم للحضور ولكنهم لم يحضروه لمرض كامل، مما دعى الجد في أن يقول بسخرية "هذه الأسرة قد خلقها الله أعجوبة للبشر، كل أسرة وحدة إلاها فهي أشتات لا تجتمع، اللهم عفوك ورضاك"، وبمرور الوقت تقدم للإلتحاق بالمدرسة السعيدية الثانوية، وفشل في كسب الأصدقاء وخسر ود المدرسين مرة ثانية عكس ما كان يظن، وكل ذلك بسبب شرود ذهنه في عالم أحلامه وعاداته الشاذة وسره الدفين، ولكنه تخرج منها بعد مراحل سقوط كثيرة وحصل على البكالوريا وهو في الخامسة والعشرين من عمره، حينها كان جده قد تجاوز الثمانين وأمه في أولى خطوات الخمسين، ورغبة من جده في حياة كريمة له ولأمه من بعده، قرر إلحاقه بالحربية ولكن ضاع أمله في ذلك لكبر سنه، فآثر دخول الجامعة وأختاروا كلية الحقوق، وشعر بأن حياته ستتغير إلى الأفضل، ومن هنا يبدأ المنحنى الجديد في حياته، يرى الفتاة التي تعلق بها قلبه من أول مرة ، وانتهى يومه الأول وهو مسرور بمزايا الجامعة قائلاً: "عندما عدت ذلك اليوم إلى المنيل، شعرت بسرور مفاجئ هيأ لي أني رجل خطير ونصف أستاذ وربع وكيل نيابة". وظل يومياً يراقب الفتاة التي خطفت قلبه، وذلك أثناء وقوفه على محطة الترام، وفي اليوم الرابع قال في نفسه: "ما أحوجني إلى رفيقة لحياتي في مثل كمالها"، وأدهشني سرعته الكبيرة في عالم الأحلام فلم يمر إلا أربعة أيام وكان قد عقد العزم على الزواج والبيت السعيد، دون إفصاح حتى لصاحبة الشأن، ولكن أرجعت ذلك إلى كون عالمه الخاص هو كل ما تعود عليه، ومن شب على شيء شاب عليه، وبالطبع لم ينخرط في الجامعة مع أصدقائه خاصة بعد حادثته مع أستاذ الخطابة الذي حثه على الكلام أمام أقرانه، وبسبب خجله المعهود سخر منه الجميع مما دفعه للهروب وإعلانه لعدم الذهاب مرة ثانية، ثارت أمه على تركه للتعليم فترة، وبعد حالته الكئيبة تلك أشفقت عليه وأصبحت في صفه، ومحاولة منها في إدخال السرور عليه قالت: "الخير فيما اختار الله، وهل نملك لأنفسنا شيئاً؟! وعما قليل تصبح رجلاً مسئولاً ويجيء دورك في تدليل أمك، لتقضي بعض ما عليك من دين"، تلاه عمله موظف في إدارة المخازن بوزارة الحربية، واسترساله في وصف الحياة الوظيفية التي لم يجد فيها ما كان يتمناه، وعلى الجانب الآخر وصفه لحبه المتزايد لحبيبته الجميلة، الذي شعر مع مواصلته لمراقبتها بإفتضاح أمره داخل بيتها، فتشجع لذلك وتتبعها يوما، فوجدها تدخل "المعهد العالي للتربية للبنات"، ومر على حاله عام لم يشعر بمروره عليه لاستسلامه الدائم لخجله وإثمه المعهود، بالرغم من الإيمان الذي زرعته أمه فيه منذ الصغر ومواظبته على الصلوات الخمس، مما جعل الندم يعرف طريقه إليه كل ليلة على ما اقترف من ذنب.
بدأ يثور على أمه التي طالما أظهرت غضبها لموضوع زواجه المحتم في يوم ما، خاصة بعد عروض الزواج وردها عليه بقولها: "إنهن لا يرمن سعادتك، ولكنهن يردنك مطيّة لسعادة بناتهن!"، وسألها دوماً عن عدم رغبتها في زواجه، فاضطربت وذكرته بما فعلته من أجله، وأوضحت له أن الآباء يحبون الأبناء صغاراً وكباراً، لكن الأبناء يحبونهم صغاراً فقط، أو أنهم وقتها لا يجدون من يحبونه، وما أن يكبروا يتركونهم"، ثم ندمت على قولها وأوزعت ذلك إلى عدم قدرتها على صوغ العبارات وضعف حديثها. بعد أن سأم حياة الوظيفة خاصة وأنهم يطلقون عليه "غاندي" لصمته الدائم، وعلى أثر حديثهم يوماً عن الخمر، قرر أن يجربه على الرغم من تذكره لما فعلت الخمر في حياتهم ومازالت تفعل، ولكن وعند تملك الخمر منه تملكته الثقة على غير العادة، وتذكر حبيبته وتذكر أمه دون خوف هذه المرة، وأطلق العنان لنفسه وذهب إلى المكان الذي أطلق عليه السائق وقتها "بؤرة الفساد الأصلي"، وندم على فعله ذلك بعد مشاهدة طبيعة حياة المعربدين والسكارى، ولكن إفتضح أمره أمام أمه وطالبته بالتوبة إلى الله والذهاب معها إلى "السيدة أم هاشم"لنيل الرضا والغفران، ولم يثنيه هذا المشوار عن الخمر، ولم يؤثر فيه كلام أمه وثقتها بأن لديه قلب طاهر ونقي، بل أضاف الزمن إلى نزاعاته الداخليه على "اقتحام الدنيا والبعد عنها- وحبيبته وأمه- وإدمان عادته الجهنمية ورغبته في الإقلاع عنها" نزاعاً جديداً وهو "الميل إلى الخمر والتوبة عنها"، ووصف ما يشعر به قائلاً: "حتى انقلبت أرجوحة تدفعها الشياطين وتجذبها الملائكة ولا تكف عن التأرجح لحظة واحدة".
وحلت بحياته كارثة أخرى، ألا وهى موت جده، وكيف أصبح مسئولاً وحده عن بيت بمرتبه الصغير، وولت الحياة الهانئة التي حاول جاهداً جده أن يوفرها لهم دون أن يشعروا، وبضيق الحال فكر كثيراً في موت أبيه وكيف سيصبح ثرياً إذا ورثه، وسخر من نفسه وتذكر أن أباه جاء عليه يوماً حاول قتل أباه لاظ الأكبر، حتى يرثه ولكن محاولته باءت بالفشل بل وطرده أبوه وتبرع بجزء ميراثه للعمل الخيري، ووقتها لم يجد إلا ميراثه من أمه عاش عليه، شعر كامل بأن الضربة تأتي لأبيه من إبنه مثلما فعل هو بالماضي، تحسر على أيام الخمر التي كان يعتبرها حياة يفر إليها من آلام الواقع، تطلب هذا الواقع صرف الخدم والجارية، وبيع المنزل والسكن في شقة صغيرة، وعلى أثر ذلك قرر فجأة الذهاب إلى أبيه، الذي لم يثمر بخير والذي أسترسل فيها كاتبنا كثيراً بوصفه لحالة والده وهو مخمور، وكيف صاغ كلامه وتعجبه من تعذيب الله لعبداً يحب الخمر، وأنه لابد أن يكون شريراً في حياته حتى يذكره الناس، فالخيّر تنساه الناس سريعاً بعد وفاته، وأدهشتني جملة قالها: "أما والله لو كان حقاً ما يقولون عن الله فمصيرنا لأسود"، فالبرغم من إدمانه للخمر إلا أنه كان حرياً به أن يعلم الله ويؤمن بوجوده، كيف يرجع جلال وهيبة الله لقول الناس، أولو جاء إليه من يقول العكس سيصدقه!!، وأكمل أنه لا يفقده ثقته بنفسه واطمئنانه من حاله إلا عند سوء هضمه فقط، حزن كامل للقاءه مع أبيه وهرب بنفسه إلى عالم الأحلام التي لا يبذل فيها من جهد إلا وحلت جميع مشاكله في لحظة، فعلاً إنه مرض لعين.
مر بكثير من المشاعر الغامضة بدأت بإختفاء حبيبته عنه لفترة وعدم ظهورها، وشعوره بأنها تتعمد ذلك، وانتهى بلقاء جارها "محمد جودت" الذي وفي موقف غريب حدثه عنها، ووقتها تملص كامل من حبه وأعلن مباركته لزواجه منها، واختلطت عليه المشاعر بين الإرتياح والفرح والبكاء، مما دفعه لتكرار التجربة على مضض بالذهاب إلى أبيه، ولأول مرة في حياته يخرج كامل الغاضب من داخله ويثور على أبيه، ويذكره بحقه في ماله الذي طالما بخل عليه به وهو الآن في أمس الحاجة إليه، وإلا ضاعت منه حبيبته، فانفعل أبيه وطرده من قصره، وذهب هو آسفاً على حاله راجياً موته، ظل فريسة للخمر برغم قلة المال، حتى جاء يوماً لم يخش إخبار أمه بسكره البين ولا يدري حتى لماذا أخبرها، وفي يوم حدثه أخاه مدحت في عمله وأبلغه وفاة أباهم، حلت الصدمة عليه في البداية ولكن اختلطت مشاعر الفرح والحزن عليه من حين لآخر، ولولا خلفيته الدينية لرقص فرحاً، وتساءل هل فات أوان زواجه من حبيبته، وما المانع الآن من التقدم لخطبتها وهو لديه من المال الوفير، وفكر أنه لولا تفكير أمه لكان بعثها لمثل تلك المهمة.
وفي ظل حياته الجديدة وبالمصادفة قابل حبيبته في الترام، تشجع وحدثها وبعد عناء من سيطرته على خجله ألح عليها في الكلام معها، فظهر منها ما يريح باله ويطمئنه، وفي ظل كنز الشجاعة الذي هبط عليه فاتح أمه برغبته في الزواج من فتاة بعينها، ولما وجدته جاهلاً حتى بإسمها ونسبها قالت: "الزواج أخطر مما تظن، لعل وجهها أعجبك وهذا شيء لا وزن له، المهم أن تعلم أية فتاة هى وأي قوم أهلها، الشاب يتزوج من أسرة لا من فرد". وفي ظل حماسه قابلها وقابلته، تعرف على رباب إبنة جبر بك السيد مفتش الري بالأشغال، ونازلي هانم الشاهدة على حبه لها، والتي دفعتها لمعرفة كل شيء عنه قبل التقدم لخطبتها، وتحققت آماله كلها دفعة واحدة، ذهب إلى بيتهم ولاقى الترحاب وتمت الخطبة، وعرف كامل حياة الخاطب التي استعان عليها بأخته راضية لكي يعمل ما يتوجب فعله مع العروس وأهلها، وكانت خير معين له، ويصف حال بيت رباب وكيف رأى بأن الأم لها السيطرة في المنزل، بالرغم من علو مكانة الأب ولكن راقه البيت الهادئ الجميل، وبالطبع الكل علق على خجله وحياءه النادرين، وتحدد موعد الزفاف الذي رفض فيه وبشدة أن يقام حفل كبير، فهو لا يستطيع على مواجهة هذا الكم الهائل من البشر يرمقونه وحده بنظرات التعجب والتملق، فرضخوا لطلبه بعد طول عناء، وفي مشهد طويل أقرب إلى الكوميديا كان يوم الزفاف، فوجئ بعكس ما اتفقوا عليه وعند اقتراب موعد زفة العروسين جاء له جبر بك يحثه على الذهاب لأخذ عروسه ويجلس معها على المنصة، رفض وبشدة وارتبك وتخيل ما يمكن أن يحدث وهم قائلاً: "سأنتظر العروس على بسطة السلم ثم نذهب إلى بيتنا" فعلت ضحكة جبر بك وتعجب منه، وشد أخيه على ذراعه وقال "وافضيحتاه..أتريد أن يعتذر عن عدم ظهورك بأنك خجول"،ودفعاه دفعاً حتى جلس على المنصة ولم يسلم على عروسه حتى لسماعه النساء تضحك في تكتم وتعلق إحداهن بقول: "أيهما العروس" فترد الأخرى "الطويل"، ووقتها شعر أن الموت أهون من الزواج.
وفي مشاهد دقيقة الوصف أسرد كاتبنا ليلة زفافهما وكيف أن خجله دمر علاقتهما، وكشف عن عقبة حياتهما معاً، وما جعله مطمئنا وسط هذا الصراع الفكري هو حب رباب الكبير له، ومرحها وبساطة قلبها، ومحاولتها لرسم السرور والمرح في البيت حتى لا يفتضح أمره وعلى حد قوله "لولا ذلك لمت غماً وكمداً"، وتسير الأحداث ما بين قلق واضطراب من رباب وأسئلة كثيرة من والدتها وحزن وضيق من كامل، وانعزال من أمه، فالموقف أصبح معقداً وعاد حاله كالسابق وهرب إلى إثمه القديم رغماً عنه، ودائما يعتريه الخوف من أن تمل رباب عشرته برغم ما يلمسه فيها من براءة وصدق في المشاعر، إلا أن ذلك لم يمنع الشك من أن يتسلل إليه، مما دفعه للذهاب إلى طبيب حديث العهد بالمنطقة، وهو الدكتور أمين رضا، الذي أكد له أنه سليم معافى والمسألة نفسية ليس إلا، وظلت الحياة البريئة بينهما بالرغم من تساؤلاته الدائمة هل هى سعيدة معه كما تبدو حقا؟. وبمرور الوقت أعلنت كل من أمه وزوجته كراهيتها للأخرى وهو تائه بينهما، الأم حبيسة غرفتها وتلوم الزوجة التي تقضي يومها خارج المنزل مابين العمل وزيارات الأهل، حتى جاء اليوم الذي قابل فيه كامل الدكتور أمين في دعوة على الغداء في منزل أهل زوجته، وعلم حينها بقرابته لوالدتها، وبالطبع عاد لقلقه الدائم وخاف من أن يفضح أمره مما جعله في عالم آخر وهو وسط الأهل، وأضاف إلى مخاوفه هماً آخر وهو الدكتور أمين، مما دفعه إلى العودة للخمر الذي قاطعه، وإلى الصحبة القديمة من الموظفين كبار السن الذين يتناولون مسألة الزوجة بكل سخرية بقول أحدهم: "إن زوجي تدبر لي شجاراً نظير كل سهرة في الحانة، وقد قلت لها: إني على أهبة الإستعداد لأن أهجر الحانة تحت شرط واحد وهو أن تهجر هى الدنيا!!"، وشعر بأن الخمر أعادت إليه الحياة التي يتمناها مع زوجته، لكن دوام الحال من المحال فلم يكن يتوقع أن زوجته تفضل حياة الطهر والنقاء مثلما وصفها وقتها، وعاد إلى حاله القديم ووضع رغبتها في ذلك ومحاولته لإرضاءها عذراً له على هوانه وعذاب ضميره، حتى قطع صمت حياتهما الممل الخطاب الذي رآها تقرأه ظناً منها أنه خرج، ومزقته وقت سؤاله عنه واستعاضت عن الحقيقة بكذبه تراجعت عنها إلى قول الحقيقة، وهى بأن الخطاب جاءها ولا تعرف من من، وقلب الخطاب حياته رأساً على عقب حتى بعد تظاهره بتصديقها، وأحيانا يشعر بذنبه في الشك بطهارتها، وأحيانا أخرى يعتصره الألم، حتى آل به الحال إلى مراقبتها التي لم تثمر عن شيء في النهاية، ذهب ليضبطها بجريمتها فعاد هو خائناً مجرماً، فتعرف على السيدة القبيحة السمينة "عنايات" التي تمثلت له من الشرفة حين كان يراقب زوجته، جذبته جرأتها وإعجابها به، ورغبته هو في رؤيتها بالرغم من قبحها وكبر عمرها، ومضى الوقت ونسى شكه في زوجته بسببها، وطالت مقابلتهما ووقع في شر أكبر، بالنسبة له كانت هذه هى السعادة ولماذا لا يحصل على الحب من حبيبته رباب وعلى السعادة من عنايات، لكن القدر لا يمهله وقتاً لذلك فالعقاب – في نظري- حان وقته، نشب شجاراً حاداً بين زوجته وأمه سقطت على أثره الأخيرة طريحة الفراش بأزمة قلبية استلزمتها البقاء في السرير طويلاً، حتى جاءت إليها رباب وحنت عليها واسترضتها وطلبت غفرانها، وفي لحظة من حنان الأم وهى تنظر إلى أولادها جميعا حولها قالت: "إذا كان المرض يجمعنا هكذا فكم أتمنى ألا يزول" ما أجمل أن يلتف الأبناء حول أمهم بعد طول فراق، وبعد أن تأخذهم حياة الزواج والأولاد فلا يجدون إلا الصدر الحنون الذي أعتبره كنزاً لا ينضب أبداً، وعادت الحياة إلى ما كانت عليه، إلا من مرض حل برباب فجأة واستدعى يومها أن تمكث في بيت أهلها، فذهب كامل للإطمئنان عليها كعادته في الصباح قبل ذهابه إلى عمله، ولقلقه الشديد عليها لم يستطع البقاء في العمل، فعاد إليها بعد ساعتين، فوجد الدكتور أمين هناك وفي مشهد سريع بين ذهوله لوجود أمين في هذا الوقت المبكر وبين صوت الصراخ الذي يسمعه من الداخل إطلع على الحقيقة المفزعة، وهى موت حبيبته، وفي شرح دقيق استطاع كاتبنا أن يجمع فيه بين مشاعر الحب والغضب، بين مشاعر الحيرة والشك، أن يصل بنا إلى الحقيقة التي خرجت من فم أمها المكلومة بعد الضغط عليها منه، وأخبرته بأن حالتها ساءت بعد ذهابه، فاستدعت الدكتور أمين الذي أوصى بضرورة عملية في الحال ماتت على أثرها، ولذهوله من هذه الرواية الواهنة صاح بهم والتساؤلات تخرج من فمه إتهامات لهم، كيف يقوم دكتور للأمراض التناسلية بعملية تستدعي جراح، لماذا لم يخبروه، ولماذا لما ينقلوها إلى المشفى، أيقن أنه لجهله – الدكتور أمين- في غير تخصصه قتلها، فعزم على الذهاب إلى النيابة للإبلاغ عنه، وبدورها أرسلت النيابة الطبيب الشرعي وسط ذهول الأم والدكتور، وكان تقرير الطبيب بضرورة التحقيق، وفي مشهد شعرت معه أن الرواية تحولت إلى رواية بوليسية شيقة، متمثل ذلك في التحقيق مع الدكتور أمين الذي نتج عنه إنكشاف حقيقة خيانة رباب لكامل مع أمين، وكانت ثمارها روح نمت في أحشائها، وكان لابد أن يختفي وما كان ذلك إلا بالإجهاض وكان ماكان، فقتلها الإثم وأوقع بشريكها في السجن.
نزلت الحقيقة على مسامع كامل كالصاعقة فما كان منه إلا أن يغادر ويهيم في الطرقات، وعند حلول المساء وآثار الخمر والسكر أنهكته، ذهب إلى بيته ووجد أمه تواسيه فصب غضبه عليها وأسمعها من مر الكلام ما لم تسمعه من قبل، حتى خيل إليها أنها الصدمة التي فعلت به ذلك فنادت الله أن يلطف به فرد على دعائها بما ندم عليه كثيراً وقال: "ألا يزال أرحم الراحمين؟ وداعاً! فلن أعبده بعد اليوم، أما أنت فلعلك تقولين لنفسك في سرور غريب: لقد نالت الآثمة بعض ما تستحقه من جزاء، لقد حدثني قلبي بذلك من أول يوم، ولكنك لم تصغ إلي"، وأخبرها بأنه لن يعيش معها بعد اليوم، وتركها وذهب، وفي الصباح أراد الرحيل ولكنه ألقى عليها نظرة أخيرة فوجدها نائمة، وعلى درجات السلم سمع ندائها فلم يلبي النداء، وبعد ساعات قضاها في طريقه، اعترض طريقه صديق له في العمل، نعى له الفقيدة فاندهش لمعرفته، ولكن صدمة أخرى أحلت به عندما أخرج له الجريدة وكان إسم والدته واضحاً في النعي –نعم ماتت والدته- استغاثت به فلم يرد عليها، كل هذا كان يرويه لأخيه قبل أن يسقط مغشياً عليه عقب قوله:"إن أسرتنا مصابة بداء قتل الوالدين ولقد حاول والدنا أن يقتل جدنا فأخفق وأعدت أنا الكرة على أمنا فنجحت، وهكذا ترى إنني أعظم توفيقاً من أبي"، وراح في غيبوبة لم يعرف فيها غير الأحلام التي لم تتركه حتى في مرضه، وفتح عينه فوجد إخوته حوله يتنفسون الصعداء بعد أن قلقوا عليه كثيرا،ً وبعد علمه أنه غاب عن الدنيا لثلاثة أيام استطرد قائلاً: "قضى الله بألا أشيع لا أمي ولا زوجي إلى مرقدهما الأخير"، فتذكرت في الحال قول جده عندما سخر من طبيعة هذه الأسرة التي لا تتجمع على شيئ أبداً، لا في الفرح ولا في الحزن.
وقضى كامل شهراً مريضاً معلناً بينه وبين نفسه أنه ما خلق إلا للتصوف، بالعزلة والوحدة والتفكر، ولكن نوازع الحياة أضلته، واستسلم لهذا الشعور.
تنتهي الرواية بمشهد غريب نستطيع أن نعرف منه صاحبة الزيارة المفاجئة لكامل في مرضه، ولكن نظل حائرين من ألا تكون هى من نقصدها، فلم يفصح كاتبنا عنها وترك لنا هذا السطر الأخير من حياة كامل ليكتبه كلاً منا على طريقته.
انظر أيضاً
- فيلم السراب، مقتبس من الرواية.
المصادر
- ^ رانيا عادل. "السراب". الموقع الشخصي لعمرو خالد. Retrieved 2012-11-20.