الأسرة السڤرية
توندو سڤري، يصور سپتيميوس سڤروس وأبناءه | |
سپتيميوس سڤروس بمفرده | |
---|---|
الأنجال | |
گـِتا | |
كركلا | |
سپتيميوس سڤروس، مع گـِتا و كركلا | |
گـِتا و كركلا | |
كركلا بمفرده | |
انقطاع، ماكرينوس | |
إلجبل | |
الأنجال | |
ألكسندر سڤروس، بالتبني | |
ألكسندر سڤروس |
الأسرة السڤرية Severan dynasty كانت أسرة امبراطورية رومانية، حكمت الامبراطورية الرومانية بين 193 و 235. الأسرة أسسها الجنرال الروماني سپتيميوس سڤروس، الذي ارتقى سلم السلطة بانتصاره في الحرب الأهلية في سنة 193، المعروفة بإسم سنة الأباطرة الخمسة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
التاريخ
- للعلاقات الأسرية: انظر شجرة عائلة الأسرة السڤرية
سپتيميوس سڤروس (193-211)
في أول يوم من شهر يناير سنة 193 اجتمع مجلس الشيوخ بعد ساعات قليلة من اغتيال كمودس، في نشوة البهجة والغبطة واختار للجلوس على عرش الإمبراطوريّة عضواً من أجلْ أعضائه واجدرهم بالاحترام، استطاع بإدارته العادلة وهو حاكم للمدينة أن ينهج منهج الأنطونيين ويواصل أحسن تقاليدهم. وقبل برتناكس Pertinax، وهو كاره، هذا المنصب الخطير الذي يرفع صاحبه إلى مكانة سامية إذا سقط منها هوى إلى الدرك الأسفل. ويقول فيه هيروديان(1) إنه "سلك سلوك الرجل العادي"، فكان يستمع إلى محاضرات الفلاسفة، ويشجع الآداب؛ وقد ملأ خزائن الدولة بالمال، وخفّض الضرائب، وباع بالمزاد كل ما ملأ به كمودس القصر الإمبراطوري من ذهب وفضة، وأقمشة مطرزة وحرير، وجوارٍ حسان. وفي ذلك يقول ديوكاسيوس: "والحق أنه فعل كل ما يجب على العاهل الصالح أن يفعله(2). وائتمر المعاتيق الذين فقدوا بفضل سياسته الاقتصادية ما كان يعود عليهم من النفع مع الحرس البريتوري الذي ساءه عودة النظام. وفي الثامن عشر من شهر مارس اقتحم ثلثمائة من الجنود أبواب القصر وقتلوه، وحملوا رأسه إلى المعسكر على طرف رمح، وحزن الشعب ومجلس الشيوخ عليه وتوارى أعضاؤه عن الأنظار.
وأعلن قواد الحرس أنهم سيضعون التاج على رأس الروماني الذي يمنحهم أكبر عطاء. وأقنعت دديوس جوليانس Didius Julianus زوجته وابنته بأن يغادر مائدة الطعام ويعرض على زعماء الحرس عطاءه، فسار إلى المعسكر، حيث وجد منافساً له يعرض خمسة آلاف درخمة (3000 ريال أمريكي) هبة لكل جندي ثمناً لعرش الإمبراطوريّة. وصار سماسرة الحرس ينتقلون من مثر إلى آخر، يشجعونهم على زيادة العطا، فلما أن وعد جليانس كل جندي بـ 6250 درخمة أعلن الحرس اختياره إمبراطوراً.
وثارت ثائرة أهل روما لهذه المذلة المنقطعة النظير، فأهابوا بالفيالق الرومانية المعسكرة في بريطانيا، وسوريا، وبنونيا أن تزحف على روما وتخلع جليانس. وغضبت هذه الفيالق لأنها حرمت من العطاء، فأخذ كل منها ينادي بقائده إمبراطوراً، وزحفت كلها على روما. وتفوق لوقيوس سبتميوس سفيرس جيتا Lucius Septimius Severus Geta قائد جيوش پانونيا على جميع القواد بفضل جرأته وسرعته، وما قدمه من رُشا. وقطع على نفسه عهداً أن يهب كل جندي 12000 درخمة حين يجلس على العرش؛ وزحف بهم من بلاد الدانوب حتى صار على بعد سبعين ميلاً من روما في شهر واحد؛ واستمال إليه الجنود الذين أُرسلوا لصده، وأخضع الحرس البريتوري بأن عرض عليهم أن يعفو عنهم إذا أسلموا إليه قوادهم، وخالف جميع السوابق بدخوله العاصمة ومعه جنود بكامل سلاحهم، ولكنه أرضى المستمسكين بالتقاليد القديمة بأن لبس ثياب المدنيين. وعثر طربيون على جليانس يبكي في قصره من هول تلك الحوادث، فأخذه إلى حمّام وقطع رأسه (2 يونية سنة 193).
وكانت أفريقية في هذه الأثناء تهب المسيحية أعظم المدافعين عنها؛ وقد وُلد فيها وقتئذ (146) سبتميوس واجتاز فيها أولى مراحل تعليمه. وكانت نشأته في أسرة فينيقية تتكلم بهذه اللغة، ودرس الآداب والفلسفة في أثينة، واشتغل بالمحاماة في روما، وكان رغم لهجته السامية من أحسن الرومان تربية وأكثرهم علماً في زمانه، وكان مولعاً بأن يجمع حوله الشعراء والفلاسفة، ولكنه لم يترك الفلسفة تعوقه عن الحروب، ولم يدع الشعر يرقّق من طباعه. وكان رجلاً وسيم الطلعة، قوي البنية، بسيطاً في ملبسه، قادراً على مغالبة الصعاب، بارعاً في الفنون العسكرية، مقداماً لا يهاب الردى في القتال، قاسي القلب لا يرحم إذا انتصر. وكان لبقاً فكهاً في حديثه، نافذ البصيرة في قضائه(2)، قديراً صارماً في أحكامه(3).
وكان مجلس الشيوخ قد أخطأ إذ أعلن تأييده لمنافسه ألبينس Albinus فذهب إليه سبتميوس وحوله ستمائة من رجال الحرس، وأقنعه بأن يؤيده في ارتقاء العرش؛ فلما تم له ذلك أعدم عشرات من أعضائه وصادر كثيراً من ضياع الأشراف حتى آلت إليه أملاك نصف شبه الجزيرة. ثم ملأ الأماكن التي خلت في مجلس الشيوخ بأعضاء اختارهم بنفسه من بلاد الشرق التي تدين بالنظام الملكي، وأخذ كبار رجال القانون في ذلك العصر - بابنيان Papinian وبولس Paulus، وألبيان Ulpian - يجمعون الحجج التي يؤيدون بها السلطة المطلقة. وأغفل سبتموس شأن المجلس إلا حين كان يبعث إليه بأوامره؛ وبسط سلطانه الكامل على أموال الدولة على اختلاف مصادرها، وأقام حكمه على تأييد الجيش دون خفاء، وحوّل الزعامة إلى مَلَكية عسكرية ورائية، وزاد عدد رجال الجيش، ورفع رواتب الجند، وعمد إلى الإسراف في أموال الدولة حتى كاد ينضب معينها. ومن أعمله أنه جعل الخدمة العسكرية إلزامية، ولكنه حرّمها على أهل إيطاليا، فأصبحت فيالق الولايات من ذلك الحين هي التي تختار الأباطرة لروما بعد أن فقدت العاصمة قدرتها على الحكم.
ومن العجائب أن هذا المحارب الواقعي كان يؤمن بالتنجيم، وأنه كان أكثر الناس براعة في تفسير النذر والأحلام. من ذلك أنه لما أن ماتت زوجته الأولى قبل أن يرتقي العرش بستة أعوام عرض على سوريّة غنية دل طالعها على أنها ستجلس على عرش أن تتزوجه. وكانت هذه الزوجة هي جوليا دمنا Julia Domna ابنه كاهن غني لإلجابال Elgabal إله حمص. وكان نيزك قد سقط في تلك المدينة من زمن بعيد وأقيم له ضريح في هيكل مزخرف، وأخذ الناس يعبدونه على أنه رمز الإله إن لم يكن هو الإله نفسه مجسّماً. وجاءت جوليا إلى قصر سبتميوس، وولدت له ولدين هما كركلا وجيتا Geta، وارتقت عرشها الموعود. وكانت أجمل من أن تقتصر على زوج واحد، ولكن مشاغل سبتميوس لم تكن تترك له من الفراغ ما يسمح له بأن يغار عليها. وقد جمعت حولها ندوة من الأدباء، وناصرت الفنون، وأقنعت فيلوسترانس بأن يكتب سيرة أبلونيوس التيانائي Apollonius of Tyana يخلع عليه الكثير من أسباب المديح. وكانت قوة أخلاقها ونفوذها مما عجل السير بالملكية نحو الأساليب الشرقية التي وصلت إلى غايتها من الناحية الأخلاقية في عهد إلجابالس Elgabalus ومن الناحية السياسية في عهد دقلديانوس.
وسُلخ سبتميوس من حكمه الذي دام ثماني عشرة سنة في حروب سريعة وحشية قضى فيها على منافسيه؛ ودك بيزنطية بعد حصار دام أربعة أعوام. فأزال بعمله هذا حاجزاً كان يقف في وجه القوط الآخذين في الانتشار، وغزا بارثيا، واستولى على طشقونة، وضم بلاد النهرين إلى الإمبراطوريّة، وعجّل سقوط الأسرة الأرساسية المالكة. وأُصيب في شيخوخته بداء النقرس. ولكنه لم يكن يرضى أن يضعف جيشه بعد أن قضى في السلم خمس سنين، فزحف به على كلدونيا Caledonia، وانتصرت على الاسكتلنديين في عدة وقائع غالية الثمن، انسحب على أثرها إلى بريطانيا، ثم آوى إلى يورك حيث وافته المنية (211).
ومما قاله عن نفسه: "لقد نلت كل شيء ولكن ما نلته لا قيمة له"(4). ويقول هيروديان إن "كركلا قد أغضبه أن تطول حياة أبيه... فطلب إلى الأطباء أن يعجلوا بموت الشيخ بأية وسيلة بمتناول أيديهم". وكان سبتميوس قد لام أورليوس حين سلم الإمبراطوريّة إلى كمودس، ولكنه هو نفسه أسلمها إلى كركلا وجيتا، بهذه النصيحة الساخرة: "وفرا المال لجنودكما ولا يهمكما شيء غير هذا"(6). وكان آخر إمبراطور مات في فراشه في الثمانين عاماً التي سبقت وفاته.
كركلا (198-217)
ويبدو أن كركلا قد خلق، كما خلق كمودس، لكي يثبت أن نصيب الرجل من النشاط قلما يكفي لأن يجعله عظيم في حياته، وفي قوته الجنسية معاً. وقد كان في صباه وسيماً صيّعاً، فلما بلغ سن رشده أصبح همجياً مفتتناً بالصيد والحرب، يقنص الخنازير البرية، وينازل أسداً بمفرده، ويحتفظ بعدد من الآساد بالقرب منه في قصره، واتخذ منها رفيقاً له في بعض الأحيان يجالسه على مائدته وينام معه في فراشه(7). وكان يستمتع بصحبة المجالدين والجند بنوع خاص، ويبقي أعضاء الشيوخ زمناً طويلاً في حجرات الانتظار حتى يفرغ من إعداد الطعام والشراب لرفاقه.
گـِتا (209-211)
ولم يكن كركلا يرضى أن يشترك معه أخوه في حكم الإمبراطوريّة، فأمر بقتل جيتا في عام 212، فاغتيل الشاب وهو بين ذراعي أمه، خضب أثوابها بدمه. ويقال انه حكم بالموت على عشرين ألفاً من أتباع جيتا، وعلى كثيرين من المواطنين، وعلى أربع من العذارى الفستية، اتهمهن بالزنى(8). ولما تذمر الجيش على أثر مقتل جيتا أسكته بأن نفحه بهبة تعادل كل ما ادخره سبتميوس من الأموال، وكان يفضل الجنود والفقراء على رجال الأعمال والأشراف؛ ولعل ما نقرؤه عنه من القصص التي يرويها ديوكاسيوس ليست إلا انتقاماً كتبه عضو في مجلس الشيوخ واشتدّت رغبته في جمع المال فضاعف ضريبة التركات بأن جعلها عشرة في المائة من مقدار التركة؛ ولما رأى أنها لا تنطبق إلا على المواطنين الرومان وسّع دائرة هذه الحقوق حتى شملت جميع الراشدين من الذكور الأحرار في الإمبراطوريّة كلها (212)؛ فنال هؤلاء حقوق المواطنين حين استتبعت أكثر ما يمكن أن تستتبعه من القروض وأقل ما تستتبعه من السلطان. وأضاف إلى زينات روما قوساً أقامه لسبتميوس سفيرس لا يزال باقياً إلى اليوم، وحمّامات عامة تشهد خرائبها الضخمة بما كانت عليه من عظمة وجلال، ولكنه ترك معظم شئون الحكم المدني لوالدته، وشغل نفسه بالحروب.
وكان قد عين جوليا دمنا أمينة سره لشئون العرائض والرسائل. وكانت تشاركه أو تحل محله في استقبال رجال الدولة أو ذوي المكانة العليا من الأجانب. وهمس الوشاة بأن سلطانها عليه ناشئ من مضاجعته إياها، وأثار الفكيهون الجبناء من أهل الإسكندرية بتشبيههم لها وله بجوكستا Jocesta وأوديب. وأراد أن ينتقم من هذه الإهانة وأمثالها من جهة، ويأمن على نفسه من ثورة تتقد نارها في مصر أثناء حروبه لبارثيا من جهة أخرى، فزار المدينة وأشرف بنفسه (كما يؤكد المؤرخون) على قتل جميع أهل الإسكندرية القادرين على حمل السلاح(9).
ومع هذا فقد كان منشئ الإسكندرية المثل الذي احتذاه والمطمع الذي يأمل أن يبلغه. وللوصول إلى هذه الغاية أنشأ فيلقاً من 16000 جندي سمّاه "فيلق الاسكندر" وسلّحه بأسلحة مقدونية من الطراز القديم، وكان يأمل أن يُخضع به بارثيا كما أخضع الاسكندر فارس. وبذل كا ما يستطيع من الجهد ليكون جندياً عظيماً، فكان يشارك جنوده في طعامهم وكدحهم، وسيرهم الشاق الطويل، وكان يساعدهم في حفر الخنادق، وإقامة الجسور، ويظهر الكثير من ضروب البسالة في القتال، وكثيراً ما كان يتحدى أعداءه ويطلب إليهم أن يبارزوه رجلاً لرجل؛ ولكن رجاله لم يكن لهم مثل ما كان له من رغبة في قتال البارثيين، بل كان حبهم للغنائم أكثر من حبهم للقتال، فقتلوه في كارى Carrhae التي هزم فيها كراسس (217). ونادى مكرينس Macrinus قائد الحرس بنفسه إمبراطورياً، وأمر مجلس الشيوخ، بعد أن أظهر بعض التردد، بأن يتخذ كركلا إلهاً. ونفيت جوليا دمنا إلى إنطاكية بعد أن حرمت في خلال ست سنين من الإمبراطوريّة، ومن زوجها، ومن أبنائها، فأضربت عن الطعام حتى ماتت.
وكان لها أخت تدعى جوليا مايسا Julia Maesa لا تقل عنها قدرة وكفاية. فعادت جوليا الثانية إلى حمص ووجدت فيها حفيدين يبشران بمستقبل عظيم. فأما أحدهما فكان ابن ابنتها جوليا سؤامياس Julia Soaemiae، وكان كاهناً شاباً من كهنة بعل، يسمى فاريوس أفيتس Varius Avitus، وهو الذي سمي فيما بعد الجابالس Elgabalus أي "الإله الخالق" . أما الثاني فكان ابن جوليا ماميا Gulia Mamaea ابنة ميزا، وكان غلاماً في العاشرة من عمره يدعى الكسيانس Alexianus وهو الذي أصبح فيما بعد الكسندر سفيرس. ونشرت مايسا الشائعة القائلة إن فاريوس هو الابن الطبيعي لكركلا، وإن كان في واقع الأمر ابن فاريوس مرسلس، وأطلقت عليه اسم بسيانس؛ ذلك أن الإمبراطوريّة كانت أفضل عندها من سمعة ابنتها، وماذا يضيرها بعد أن مات مرسلس والد الشاب. وكان الجنود الرومان في سوريا قد ألغوا الشعائر الدينية السوريّة، وكانوا يشعرون باحترام لهذا القس الشاب الذي لا يتجاوز الرابعة عشرة من العمر تبعثه في قلوبهم عاطفة دينية قوية. يضاف إلى هذا أن ميزا أوعزت إليهم بأنهم إذا اختاروا الجابالس إمبراطوراً فإنها ستنفحهم بعطية سنية. ووثق الجند بوعدها لهم وأجابوها إلى ما طلبت، وضمت ميزا بذهبها إلى صفها الجيش الذي سيّره مكرينس لقتالها، ولما أن ظهر مكرينس نفسه على رأس قوة كبيرة، تردد مرتزقة السوريين في ولائهم، ولكن ميزا وسؤامياس قفزتا من مركبتيهما، وقادتا الجيش المتردد إلى النصر؛ لقد كان رجال سوريا نساء، وكانت نساؤها رجالاً.
إل گبل (218-222)
ودخل الجابالس روما في خريف عام 219 مرتدياً أثواباً من الحرير الأرجواني موشّاة بالذهب الإبريز، وحذاءين مصبوغين باللون القرمزي، وكانت عيناه تشعان بريقاً مصطنعاً وكان في ذراعه اسورتان غاليتا الثمن، وفي جيده عقد من اللؤلؤ، وعلى رأسه الجميل تاج مرصع بالجواهر، وركبت إلى جواره في مركب فخم جدّته وأمه. وكان أول ما فعله حين حضر إلى مجلس الشيوخ أول مرة أن طلب إليه الموافقة على جلوس أمه إلى جانبه لتستمع إلى المناقشات. وأوتيت سؤامياس من الحكمة ما أوحى إليها بالإنسحاب، وقنعت برياسة المجلس الأصغر مجلس النساء الذي أنشأته سابينا، والذي كان يبحث المسائل المتعلقة بأثواب النساء وحليهن، وترتيبهن في الحفلات الرسمية، وآداب اللياقة وما إليها، وترك حكم الدولة للجدة ميزا.
وكان في أخلاق الإمبراطور الشاب بعض العناصر المحببة. من ذلك أنه لم ينتقم ممن أيدوا مكرينس، وأنه كان يحب الموسيقى، ويجيد الغناء، وينفخ في المزمار والبوق، ويضرب على الارغن. وإن كان أصغر من أن يحكم الإمبراطوريّة فإنه لم يطلب أكثر من أن يستمتع بها. ولم يكن معبوده بعل بل كان هذا المعبود هو الشهوة، وكان معتزماً أن يعبدها بجميع صورها في الذكور والإناث على السواء. وكان يدعو كل طبقة من الأحرار إلى زيارة قصره، وكان أحياناً يأكل معهم ويشرب ويمرح؛ ويوزع عليهم من آن إلى آن جوائز لا باقتراع تختلف من بيوت مؤثثة إلى حفنة من الذباب. وكان يحب أن يمزح مع ضيوفه: من ذلك أنه كان يجلسهم على وسائد منفوخة تتفجر من تحتهم فجأة، ويسكرهم حتى يفقدوا وعيهم حتى إذا ما استيقظوا وجدوا أنفسهم بين فهود، ودببة، وآساد أليفة غير مؤذية. ويؤكد لمپريديوس Lampridius أن إلجابالس لم ينفق مرة أقل من 100.000 سسترس (10.000 ريال أمريكي) على وليمة واحدة لضيوفه، وربما بلغت نفقات إحدى الولائم 3.000.000. وكان يخلط قطع الذهب البازلا، والعقيق بالعدس، واللؤلؤ بالارز، والكهرمان بالفول. وكان يهدي الخيل والمركبات، والخصيان؛ وكثيراً ما كان يأمر كل ضيف أن يأخذ معه إلى منزله الصحفة الفضية والكؤوس التي كان يقدم له فيها الطعام والشراب. وكان يختار لنفسه أحسن كل شيء. فكان الماء الذي في أحواض سباحته يعطر بروح الورد، وكانت المشاجب التي في حمّاماته من العقيق أو الذهب الخالص، وكان طعامه من أندر المأكولات وأغلاها ثمناً، وأثوابه مرصعة بالجواهر من تاجه إلى حذاءيه؛ وتقول الشائعات إنه لم يلبس قط خاتماً مرتين. وكان إذا سافر احتاج إلى 600 مركبة يحمل فيها متاعه وقواديه. ولما قال له عراف إنه سيموت ميتة عنيفة، أعد وسائل غالية للانتحار يستخدمها إذا لزم الأمر: منها حبال من الحرير الأرجواني، وأسياف من الذهب، وسموم في قنينات من الياقوت الأزرق أو الزمرّد. غير أنه اغتيل في مرحاض.
وأكبر الظن أن أعداءه من أعضاء مجلس الشيوخ ومَن في طبقتهم قد اخترعوا أو بالغوا في بعض هذه القصص؛ وما من شك في أن القصص الخاصة بشذوذه الجنسي مما لا يصدقه العقل. وسواء كانت صحيحة أو كاذبة فإنه كان يعطر شهراته بتقواه، ويعمل على أن ينشر بين الرومان عبادة إلهه السوري بعل. يضاف إلى هذا أنه إختتن وفكر في أن يخصي نفسه تكريماً لإلهه؛ وأحضر من حمص الحجر الأسود المقدس وأخذ يعبده بوصفه رمزاً لإلجابال، وشاد هيكلاً مزخرفاً ليضعه فيه، وحمل إليه الحجر مغلفاً بالجواهر في عربة تجرها ستة جياد بيض، ومشى الإمبراطور أمامها متجهاً بوجهه نحوها وهو صامت إجلالاً لهذا الحجر. ولم يكن يجد ما يمنعه أن يعترف بجميع الأديان الأخرى، فكان يبسط حمايته على اليهودية، وعرض أن يجعل المسيحية ديناً مشروعاً، وكل ما كان يصر عليه في إخلاص يدعو إلى الإعجاب هو أن يكون حجره أعظم الآلهة(12).
وكانت أمه منهمكة في علتها تنظر إلى هذه المهزلة الدينية نظرة المتسامح الذي لا يعنيه من أمرها شيء، ولكن جوليا مايسا صممت، حين عجزت عن وقفها، على أن تتعجل تلك الكارثة التي ستقضي على هذه الأسرة العجيبة من النساء السوريات. ولهذا أقنعت إلجابالس بأن يتبنى الاسكندر ابن عمه ويوصي به قيصراً وخليفة له، وأخذت هي ومامائيا Mamaea تدربان الغلام على واجبات منصبه، وسلكتا كل السبل التي تجعل مجلس الشيوخ والشعب ينظران إليه على أنه خير بديل للقس المأفون الذي أساء إلى روما - لا بإسرافه أو فحشه - بل بإخضاعه جوبتر إلى بعل السوري. وكشفت سؤامياس المؤامرة وأثارت الحرس البريتوري على أختها وابن أختها. لكن ميزا ومامائيا كانتا أقوى منها حجة إذا بسطتا أيديهما للحرس بالمال الوفير، فقتل رجال الحرس إلجابالس وأمه، وجروا جثته في شوارع المدينة وحول ساحة الألعاب، وألقوها في نهر التيبر، ثم نادوا بالاسكندر إمبراطوراً ووافق مجلس الشيوخ على هذه البيعة (222).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ألكسندر سڤروس (222-235)
وجلس ماركس أورليوس سفيرس الكسندر على العرش، كما جلس عليه سلفه، في الرابعة عشرة من عمره. وكانت أمه قد عنيت عناية منقطعة النظير بتدريب جسمه، وعقله، وخلقه. وزاد هو شهرته بالجد ورياضة الجسم، فكان يسبح في بركة من الماء البارد ساعة في كل يوم، ويشرب نحو نصف لتر من الماء قبل كل وجبة، ويقتصد في الطعام، ولا يأكل إلا ابسط الأطعمة. ونشأ غلاماً وسيماً، طويل القامة، قوي الجسم، ماهراً في جميع أنواع الألعاب وفنون الحرب، ودرس الآداب اليونانية واللاتينية، ولم يقلل من حبه لهما وانهماكه فيهما إلا إصرار مامائيا، إذ تلت عليه أشعار ڤرجيل التي تهيب بالرومان أن يدعوا جمال الثقافة لغيرهم من الأجناس، ويعدوا أنفسهم لإقامة دولة عالمية وحكمها في سلام. وكان بارعاً "ممتازاً" في التصوير والغناء، يعزف على الأرغن والقيثارة، ولكنه لم يكن يسمح لغير أهل بيته بمشاهدة هذه الأعمال. وكان بسيطاً متواضعاً في ملبسه وأخلاقه "معتدلاً في استمتاعه بالحب، ولم تكن له قط صلة بالمخنثين"(13). وأظهر احتراماً عظيماً لمجلس الشيوخ، فكان يعامل أعضاءه كأنهم أكفاء له، ويستضيفهم في قصره، وكثيراً ما كان يزورهم في منازلهم وكان رحيماً، دمث الأخلاق، يعود المرضى أياً كان منزلتهم؛ ولم يسفك قط دماء مدني في الأربعة عشر عاماً التي قضاها في الحكم(14). وعابت عليه أمه لينه وقالت له: "لقد أسرفت في لين الحكم، وفي الإقلال من سلطان الإمبراطوريّة". فأجابها بقوله: "نعم، ولكنني جعلتها أبقى أمداً وأقوى دعامة"(15). لقد كان رجلاً من ذهب مصفى، غير مشوب بزغل يقويه على احتمال صعاب هذا العالم.
وأدرك السخف الذي تنطوي عليه جهود سلفه والتي كانت تهدف إلى استبدال إل جبل بجوبتر، وتعاون مع والدته في إعادة الهياكل والشعائر الرومانية إلى سابق عهدها؛ ولكن عقله الفلسفي هداه إلى أن يرى أن الأديان جميعها أساليب مختلفة لعبادة قوة واحدة عليا، ولهذا أراد أن يعظّم جميع الأديان التي تدعوا إلى الخير، ووضع في معبده الخاص الذي كان يتعبد فيه كل صباح صوراً لجوبتر وأرفيوس، وأبلونيوس التيانائي، وابراهيم، والمسيح. وكثيراً ما كان يكرر النصيحة اليهودية - المسيحية القائلة: "لا تعامل غيرك بما لا تحب أن يعاملك به الناس"، وأمر بنقشها على جدران قصره وعلى كثير من جدران المباني العامة. وكان يوصي شعبه بالتخلّق بأخلاق اليهود والمسيحيين. ولكن الذين لم يتأثروا به من أهل إنطاكية والإسكندرية الفكهين كانوا يلقبونه "رئيس الكنيس" وكانت أمه تفضل المسيحيين على غيرهم، وقد بسطت حمايتها على أرجن، واستدعته ليفسر للناس أصول دينه المرن.
وإذا كانت جوليا مايسا قد توفيت بعد قليل من اعتلاء الإسكندر العرش، فقد كانت مامائيا وكان ألبيان معلّم الاسكندر هما اللذان يرسمان خططه السياسية، وإصلاحاته الإدارية. ومن أعمالهما أنهما اختارا ستة عشر من أعضاء مجلس الشيوخ البارزين وألفا منهم مجلساً إمبراطورياً وقررا ألا يُنفَّذ عمل من الأعمال الكبرى إلا إذا وافق عليه. ولما أن تزوج الاسكندر وأظهر تحيزاً ظاهراً لزوجته بسبب حبه لها أمرت مامائيا بنفيها ولم يرَ الاسكندر بداً من الاستسلام لوالدته. ولما كبر زاد نصيبه في إدارة شئون الدولة فكان "يعنى بالشئون العامة قبل مطلع الفجر"، كما يقول كاتب سيرته القديم، "ويوالي النظر في هذه الشئون زمناً طويلاً، دون ملل أو غضب، بل يبقى على الدوام مرحاً هادئاً راضياً"(16).
وكانت خطته الأساسية تهدف إلى إضعاف سيطرة الجيش المؤدية إلى انحلال الدولة، وذلك بإعادة هيبة مجلس الشيوخ والأشراف؛ فقد كان يبدو له أن حكم الأشراف ذوي الأصول السامية هو البديل الوحيد من حكم المال، أو الخرافات، أو السيف؛ وقد استطاع بمعونة مجلس الشيوخ أن ينفّذ مئات الخطط التي أدت إلى اقتصاد كبير في نفقات الإدارة، ففصل عدداً كبيراً من الموظفين الزائدين على الحاجة في قصره، وفي المناصب الحكومية، وفي الولايات، وباع معظم ما كان في خزائن الإمبراطور من جواهر، أودع ثمنها في بيت المال.
وأصدر قرارات اعترف فيها بهيئات العمال والتجار، وشجعها وأعاد تنظيمها، وأجاز لهذه الهيئات أن تختار محامين عنها من بين أعضائها(17). ولعل مجلس الشيوخ كان أقل رضاءً عن هذا العمل منه عن أعماله الأخرى، وقد فرض رقابة شديدة على الأخلاق العامة فأمر بالقبض على العاهرات ونفى ذوي الميول الجنسية الشاذة. ومع أنه خفّض الضرائب فقد أعاد بناء الكلوسيوم وحمّامات كركلا، وشاد مكتبة عامة وقناة ماء طولها أربعة عشر ميلاً، وحمّامات للبلدية جديدة، وبذل المال بسخاء لإنشاء الحمّامات وقنوات الماء والطرق في جميع أنحاء الإمبراطوريّة، وعمل على تخفيض فائدة الديون التي كانت ترهق المدينين فأقرض المال من خزانة الدولة بفائدة أربعة في المائة، وأعطى الفقراء المال من غير فائدة ليشتروا به أرضاً زراعية. وكانت نتيجة هذه الأعمال أن عمّ الرخاء جميع أجزاء الإمبراطوريّة، وأن قدرت له وأثنت عليه، وأن خيل إلى جميع الناس أن أورليوس التقي العظيم قد عاد إلى الأرض وإلى السلطان.
ولكن الفرس والألمان اغتنموا فرصة وجود هذا الإمبراطور القدّيس على العرش، كما اغتنموا فرصة وجود سميه الإمبراطور الفيلسوف، فغزا أردشير رأس الأسرة الساسانية في فارس بلاد النهرين في عام 320 وهدد سوريا. وبعث إليه الاسكندر برسالة فلسفية يلومه فيها على عنفه ويقول له إنه "يجب على كل إنسان أن يقنع بما لديه من أملاك"(18). واستنتج أردشير من هذه الرسالة أنه ضعيف خوار العود فرد عليه بأن طلب سوريا وآسية الصغرى، فما كان من الإمبراطور الشاب إلا أن امتشق الحسام ونزل إلى الميدان مصحوباً بوالدته، وخاض غمار موقعة غير فاصلة أظهر فيها من البسالة أكثر مما أظهر من الدهاء. ولا يذكر التاريخ إلا النزر اليسير عن انتصاراته وهزائمه، ولكن الحرب أسفرت عن انسحاب أردشير من بلاد النهرين، ولعله انسحب ليرد هجوماً وقع على حدوده الشرقية، وتصوّر النقود الرومانية الاسكندر متوجاً بأكاليل الظفر ومن تحت قدميه نهرا دجلة والفرات.
ورأت قبائل الألمان والمركمان أن حاميات الرين والدانوب قد سحبت لإمداد فيالق سوريا فاقتحمت الطرق الرومانية المحصنة وعاثت فساداً في بلاد غالة الشرقية، ولكن الاسكندر جاء إليها مع ماميا بعد الفراغ من احتفاله بالنصر على الفرس، وانظم إلى جيشه، وسار على رأسه إلى مينز Mains. وعمل بنصيحة والدته فأخذ يفاوض العدو ويعرض عليه مبلغاً من المال سنوياً نظير احتفاظه بالسلم. ولكن جنوده رأوا في هذا العمل ضعفاً واستسلاماً فتمردوا عليه، ولم يكونوا قد غفروا له شحه، وتشدده في حفظ النظام، وإخضاعهم لمجلس الشيوخ ولحكم امرأة، ونادوا بيوليوس مكسمينس قائد فيالق بانونيا إمبراطوراً. واقتحم جنود مكسينس خيمة الاسكندر، وقتلوه هو وأمه وأصدقاءه (235).
الهامش
المصادر
ديورانت, ول; ديورانت, أرييل. قصة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود.
وصلات خارجية
المراجع
- Simon Swain, Stephen Harrison and Jas Elsner (eds), Severan culture (Cambridge, CUP, 2007).
- Handy, Markus, Die Severer und das Heer (Berlin: Verlag Antike, 2009) (Studien zur Alten Geschichte, 10).