برنار لو بوڤييه ده فونتنل

(تم التحويل من Fontenelle)
للاستخدامات الأخرى لكلمة فونتنل، طالع فونتنل (توضيح).
برنار لو بوڤييه ده فونتنل
Bernard le Bovier de Fontenelle
برنار لو بوڤييه ده فونتنل، بريشة لوي گالوش
برنار لو بوڤييه ده فونتنل، بريشة لوي گالوش
الوظيفةكاتب مقالات
القوميةفرنسي
أهم الأعمالSeveral
الأقاربتوماس كورنـِيْ وپيير كورنـِيْ

برنار لو بوڤييه ده فونتنل Bernard le Bovier de Fontenelle (عاش 11 فبراير 1657 - 9 يناير 1757) ويسمى أيضاً برنار لو بوييه ده فونتنل Bernard le Bouyer de Fontenelle، كان كاتباً فرنسي.

برنار لو بوڤييه، الملقّب فونتنل ولد في مدينة روان وتُوفِّي في باريس. كان لخاله توماس كورني Thomas Corneille دور في تربيته وتوجيهه نحو الأدب. خالط الصالونات الباريسية، وتميّز بفصاحته وفكره المتوقد، لكن أعماله المسرحية لم تلقَ نجاحاً كبيراً، ومنها أوبرا «پسيشه» Psyché عام (1678) و«بليروفون» Bellérephon عام (1679)، والمسرحية التراجيدية «آسپار» Aspar عام (1680)، وبعض الأعمال الكوميدية (الملهاة).

ما يميز فونتنيل بحق هو أعماله الفكرية. ففي فترة شبابه كتب رواية طوباوية تحمل عنوان «جمهورية الفلاسفة La République des Philosophes»، تخيل فيها نظاماً ديمقراطياً يقوم على الانتخاب ويديره فلاسفة ماديون. من أعماله المتميزة أيضاً مقال ساخر عن الصراع بين المذهَبَين الكاثوليكي والبروتستنتي. في هذين المؤلَّفَين يبدو فونتنيل حالة استثنائية في عصره الذي كان يمجّد الحكم الملكي المطلق للويس الرابع عشر، ويعيش صراعاً دموياً بين المذاهب الدينية. من المواقف المهمة لفونتنيل أيضاً دعمه لنظرية التطور الفكري في مؤلفه «استطراد حول القدماء والمحدثين» Digression sur les Anciens et les Modernes عام (1688). أما في كتابه «محادثات حول تعددية العوالم» Entretiens sur la pluralité des mondes عام (1686) فقد حاول تبسيط العلوم ووضعها في متناول الجميع، تماماً كما فعل حين حاول تبسيط اللاهوت في كتاب «تاريخ الكهنة العرافين» Histoire des Oracles عام (1687) الذي سخر فيه من الذين يعتقدون بالنبوءات التي ليست في رأيه سوى اختراع من الكهنة المشعوذين. أثار هذا الكتاب ضده عاصفة من النقد، لكن ذلك لم يمنع من انتخابه عضواً في الأكاديمية الفرنسية في 1691، ثم في 1697 في أكاديمية العلوم التي صار أمين سرها الدائم حتى 1740. في تلك الفترة كتب فونتنيل مراثي مدح فيها أعضاء الأكاديمية المتوفين مثل ڤوبان Vauban ودارجنسون D’Argenson ومالبرانش Malebranche وغيرهم، فكانت بمنزلة دراسة عن تاريخ العلوم وما يمكن أن تحمله للبشر.

پورتريه لفونتنل، بريشة نيكولا ده لارجيير.
الأدب الفرنسي
بالتصنيف
تاريخ الأدب الفرنسي

العصور الوسطى
القرن السادس عشر - القرن السابع عشر
القرن الثامن عشر -القرن التاسع عشر
القرن العشرون - المعاصر

كتـّاب الفرنسية

قائمة زمنية
كتـّاب حسب تصنيفهم
روائيون - كتاب مسرحيات
شعراء - كتاب مقالات
كتاب القصة القصيرة

بوابة فرنسا
بوابة الأدب
 ع  ن  ت

كان فونتنيل أوّل من تحدث عن العلاقة الوثيقة بين العلوم، وعن ثبات قوانين الطبيعة، وعن ضرورة انفتاح الإنسان على فروع العلم المتنوعة؛ لا بل إنه في آخر حياته كتب مؤَلَّفاً بعنوان «شذرات Fragments» طرح فيه أفكاراً متعددة تناولت إحداها تنظيم العقل البشري وكيفية تشكل اللغة والصور فيه.

كان فونتنيل عالماً سبق عصره بأفكاره الجريئة المتحرّرة وبإيمانه بالعلم والعقل، وبمواقفه النقدية من التقاليد والسلطة وكلّ المنظومات الجامدة التي ترفض استقراء الدروس من التاريخ، وبذلك يكون من الذين تميّزوا بفكر موسوعي مهد لعصر التنوير.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

سيرته

ولد في روان في 11 فبراير 1657، ضئيلاً هزيلاً إلى حد أنهم عمدوه فور ولادته خشية أن يموت قبل أن ينقضي عليه اليوم. وظل على هذه الحال من الضعف طوال حياته، كانت رئتاه عليلتين وكان يبصق دماً إذا أجهد نفسه حتى في لعب "البليارد"، ولكن بالقصد والاعتدال في استخدام قواه إلا بمقدار والامتناع عن الزواج، وكبح جماح شهواته وأهوائه، والإغراق في النوم، استطاع أن يعمر بعد كل معاصريه، وتذكر موليير حين كان يتحدث مع فولتير.

وكان به بعض الميل إلى الأدب مثل خاليه پيير كورنـِيْ وتوماس كورنـِيْ. وكذلك كان يحلم هو الآخر بالمسرحيات، ولكن الروايات والأوبرات التي ألفها، وأناشيده الرعوية وقصائده الغزلية ومقطوعاته، كانت تعوزها العاطفة فماتت من البرودة. وكان الأدب الفرنسي يفقد الفن ويكسب الأفكار. ولم يجد فونتنيل نفسه إلا حين وجد أن العلم يمكن أن يكون رؤيا أكثر إدهاشاً من سفر الرؤيا، وأن الفلسفة معركة تثير الأسى، وتفوق كل الحروب. ولم يكن ذلك لأنه محارب، فقد كان رقيقاً إلى حد لا يقوى معه على الصراع، شغوفاً بالدنيا لا يحب أن يفقد صبره أو يتملكه الغضب في المناقشة، وواعياً كل الوعي لنسبية الحقيقة فلا بد يقيد فكره المطلق. ومع ذلك أشعل نيران الحرب(48). وحيثما سار في محادثاته المختلفة مع مركيزته الوهمية، هب جيش الاستنارة بفرسان فولتير الخفيفة السريعة الاندفاع ومشاة دولباخ الثقيلة، ومهندسي دائرة المعارف العسكريين الخبراء في بث الألغام، بالإضافة إلى مدفعية ديدرو.

في السنوات الأربعة الأولى من حياته التي امتدت مائة عام، شن برنارد لي بوفييه دي فونتنيل، حرب الفلسفة، مستقلاً عن بيل، وأحياناً قبله، وواصل الحرب، بلا هوادة، طيلة نصف قرن بعد وفاة بيل. وهو إحدى ظواهر طول العمر، وملأ الفراغ بين بوسويه وديدرو، ونقل إلى معترك الحياة العقلية في القرن الثامن عشر شكوكية القرن السابع عشر الأكثر اعتدالاً وحرصاً.


أعماله

عن أصل الخرافات

الصفحة الأولى من أصل الخرافات، طبعة 1684.

وكان أول اقتحامه مجال الفلسفة رسالة من خمس عشرة صفحة "أصل الخرافات" De l'origine des fables والحق أنها كانت استقصاء سيولوجيا (اجتماعياً) عن نشأة الآلهة. ونحن لا نكاد نصدق كاتب سيرة حياته في أن الموضوع كتب وهو في سن الثالثة والعشرين، ولو أن مخطوطته تركت في حرص وحذر، حتى خفت وطأة الرقابة قي 1724. وتكاد تكون هذه الرسالة "عصرية" في روحها، تعقبت الأساطير، لا إلى مجرد اختراع الكهنة لها، بل إلى تخيلها البدائي، فوق كل شيء، إلى استعادة العقول البسيطة لتجسيد العمليات، فإن نهراً فاض لأن إلهاً صب ماءه، فكل عمليا ت الطبيعة من عمل الأرباب. اعتقد الناس أن كثيراً من العجائب فوق قدرتهم: حلول الصواعق وقصف الرعود، وهبوب الرياح وإثارة الأمواج.... وتخيل الناس كائنات أقوى منهم، قادرة على أحداث هذه الآثار. وكان لا بد لهذه الكائنات الأسمى أن تتخذ شكلاً آدمياً، فأي شكل آخر يمكن تصوره؟... وعلى هذا كان الأرباب آدميين، ولكن أسبغت عليهم قدرة عليا.... وما كان في كقدور الناس البدائيين أن يدركوا صفة أدعى إلى الإعجاب من القوة المادية. ولم يكونوا قد أدركوا بعد الحكمة والعدالة، ولم يكن لديهم أسماء لهما(49).

وقبل روسو بنصف قرن، نبذ فونتنيل ما قاله روسو عن مثالية الهمج غير المتمدنين، ففي رأيه أنهم كانوا أغبياء، متوحشين. ولكنه أضاف "كل الناس متشابهون شبهاً كبيراً، وليس ثمة جنس أو عرق، لا نرتعد نحن فزعاً من حماقاته وسخافاته(50)". وكان حريصاً على أن يضيف أن تفسيره للأرباب، ذلك التفسير المبني على المذهب الطبيعي، لم يطبق على آلهة المسيحيين أو اليهود.

ووضع هذه الرسالة جانباً انتظاراً لوقت أكثر أمناً واطمئناناً.

محاورات الموتى

صفحتا العنوان لكتاب محاورات الموتى، طبعة 1818.

وأمسك فونتنل بالقرطاس واستعار عنواناً من لوسيان، ونشر في يناير 1683 كتاباً صغيراً أسماه "محاورات الموتى" Dialogue des morts. واكتسب هذه المناقشات الخيالية بين مشاهير الموتى شعبية إلى حد اشتد معه الطلب على طبعة ثانية في مارس، وثالثة وشيكاً بعدها. وامتدحها بيل في صحيفته "الأخبار"، وقبل أن ينصرم العام، ترجمت الرسالة إلى الإيطالية والإنجليزية، وذاع صيت فونتنيل وهو في سن السادسة والعشرين، في كل أوربا، وكانت الرسالة ميسرة في متناول الجميع في عالم يعج بالرقباء، وكادت كل فكرة يعبر عنها أحد المتكلمين، يدحضها آخر ويبرأ منه المؤلف، وكان فونتنيل على أية حال أميل إلى الدعابة منه إلى الهرطقة. وكانت الأفكار التي ناقشها معتدلة، ولم تمس أي كاهن بسوء. فإن ميلون لاعب كروتون الرياضي النباتي يتباهى بأنه قد حمل ثوراً على كتفيه في الألعاب الأولمبية، فيعيره سمنديريد من سيباريس المجاورة-بأنه ينمي عضلاته على حساب عقله، ولكن السيباريسي يعترف بأن الحياة الإبيقورية (الانغماس في الملذات) عقيمة كذلك، حيث تصبح اللذة مملة بالتكرار، وتضاعف من مصادر الألم ودرجاته. ويثني هومر على عيسوب لتعليمه مع الخرافات، ولكنه يحذره من أن الحقيقة هي آخر ما يرغب به البشر". إن روح الإنسان تتعاطف مع الباطل إلى أبعد حد.... وينبغي أن تلبس الحقيقة ثوب الباطل حتى يتقبلها البشر بارتياح(51)". وقال فونتنيل "لو أن الحقيقة كلها بين يدي فلا بد من أن أحرص على ألا أفتحها(52)"، ولكن ربما كان هذا من قبيل العطف والإشفاق على البشر بقدر ما هو من قبيل الحب الطائش للمطاردة.

وفي ألطف المحاورات يلتقي مونتين بسقراط، في الجحيم لا ريب، ويناقش فكرة التقدم:

مونتين: أهذا أنت، سقراط المقدس؟ ما أسعدني بلقائك لقد جئت لفوري إلى هذا المكان، ومنذ تلك اللحظة كنت أبحث عنك. وأخيراً وبعد أن ملأت كتابي باسمك وبامتداحك وبالثناء عليك، أستطيع أن أتحدث إليك.
سقراط: أني سعيد أن أرى إنساناً ميتاً يبدو أنه كان فيلسوفاً، ولكن حيث أنك جئت من هناك أخيراً... دعني أسألك عن الأخبار كيف حال الدنيا؟ ألم تتغير كثيراً؟ مونتاني حقاً-تغيرت كثيراً. قد لا تعرفها.
سقراط: كم ابتهج بسماع هذا. أنا لم أشك قط في أنها ستصبح أحسن أو أعقل مما كانت في زماني.
مونتين: ماذا تقول؟ إنها أشد خبلاً وفساداً من أي وقت مضى. وهذا هو التغيير الذي أردت أن أناقشه معك. وكنت مترقباً أن أسمع منك أبياتاً عن العصر الذي عشت فيه، والذي ساده كثير من الأمانة والعدل.
سقراط: وأنا، على العكس، كنت أنتظر لأعرف منك عجائب العصر الذي عشت فيه منذ أمد قصير. ماذا؟ ألم يصلح الناس من الأخطاء والحماقات القديمة؟.... كنت أؤمل أن تتجه الأمور نحو العقل، وأن يستفيد الناس من خبرة السنين الطوال.
مونتين: ماذا تقول؟يستفيد الناس من الخبرة؟ إنهم مثل الطيور التي كثيراً ما تركت نفسها نهياً للشراك التي وقع فيها بالفعل مئات الآلاف من نفس النوع. إن كل فرد يدخل جديداً إلى الحياة، وتقع أخطاء الآباء على الأبناء.... وللناس على مر القرون نفس الميول والنعات التي لا سيطرة للعقل عليها. ومن فإنه حيثما وجد الناس وجدت الحماقات والأخطاء، بل هي هي نفسها....
سقراط: إنك أضفيت مثالية على العصور القديمة لأنك غاضب على عصرك.... إننا في حياتنا كنا نقدر أسلافنا أكثر مما كانوا يستحقون. والآن يمجدنا أعقابنا فوق ما نستحق. ولكن أسلافنا وأنفسنا وذريتنا كلهم سواء.
مونتين: ولكن أليست هناك أزمان أفضل وأزمان أسوأ؟.
سقراط: ليس هذا بالضرورة. فالملابس تتغير، ولكن هذا لا يعني أن شكل الجسم يتغير كذلك. فالتهذيب والفظاظة والمعرفة والجهل.... ليست إلا خارج الإنسان، وهي التي تتغير، ولكن القلب لا يتغير بأية حال، وكل الإنسان هو في القلب.... وبين الجمهور الغفير من الناس الذين يولدون على مدى مائة من السنين، تنثر الطبيعة هنا وهناك نفراً قليلاً لا يتجاوز عددهم ثلاثين أو أربعين. ممن يتمتعون بعقول راجحة(53).

استطراد القدامى والحديثين

وبعد بضع سنين من هذه الخاتمة المتشائمة، مال فونتينل إلى نظرة أكثر تفاؤلاً إلى حد ما في "استطراد القدامى والحديثين" Digression sur les Anciens et les Modernes (يناير 1688)"، وهنا أوضح المؤلف فارقاً بيناً صغيراً. وفي الشعر والفن لم يكن ثمة تقدم ملموس، لأن هذين يعتمدان على الشعور والخيال اللذين لا يكادان يتغيران من جيل إلى جيل. أما من حيث العلوم والمعرفة والثقافة التي تعتمد على تراكم المعرفة تراكماً بطيئاً، فقد نتوقع التفوق على القدماء. وذهب فونتنيل إلى أن كل أمة تمر بمراحل، مثل الفرد، ففي عهد الطفولة تعكف على مواجهة حاجياتها المادية، وفي شبابها تضيف الخيال والشعر والفن، أما في مرحلة النضج فإنها قد تدرك العلوم والفلسفة(54). وقال فونتينل بأنه رأى الحقائق تبرز وتنمو من خلال عملية التخلص التدريجي من الأفكار الخاطئة. "نحن مدينون للقدامى لأنهم لم يبقوا على شيء من النظريات الزائفة التي كان يمكن تكوينها، تقريباً"-أي أن ننسى أن بكل حقيقة عدداً لا يحصى من الأخطاء الممكنة. ورأى أن ديكارت قد وفق إلى طريقة جديدة أفضل للتفكير والاستنتاج-الطريقة الرياضية، وتمنى للعلم الآن أن يتقدم بخطوات سريعة.

حين نرى التقدم الذي أحرزته العلوم في المائة عام الأخيرة، على الرغم من الأهواء والعقبات وقلة عدد الأفراد العلميين، فقد يغرينا هذا إلى حد كبير بأن نؤمل كثيراً في المستقبل، ولسوف نرى علوماً جديدة تنبع من لا شيء، على حين أن ما عندنا منها لا يزال في المهد(55).

وهكذا صاغ فونتنيل نظرية التقدم "تقدم الأشياء" وتصور، مثل كوندرسيه، أنه ليس لهذا التقدم حدود معينة يقف عندها في المستقبل، وهنا كان "بلوغ البشر حد الكمال بلا حدود". لقد وضعت النظرية القديمة قدمها على الطريق تماماً، وسارت بخطى ثابتة طيلة القرن الثامن عشر لتصبح أداة من أصلح أدوات الفكر الحديث.

علاقة جزيرة بورنيو

وأنا لنجد، في تلك الأثناء، أن فونتنيل الذي كان خياله الرائع يسبح محاذراً غاية الحذر، قد بات قاب قوسين أو أدنى من سجن الباستيل. ذلك أنه حوالي 1685 نشر رسالة مختصرة "علاقة جزيرة بورنيو"، وهي رحلة وهمية، صورها الكاتب في صورة واقعية (استبق به شبيهاتها عند ديفو وسويفت) إلى حد أن بيل طبعها في "الأخبار" على أنها تاريخ فعلي. ولكن الصراع الذي وصفته هذه الرسالة بين أنيجو ومريو كان هجاء سافراً للصراع الديني بين جنيڤ وروما. ولما اطلعت السلطات الفرنسية على الجناس التصحيفي (تغيير ترتيب الحروف في الكلمة) بدا أن اعتقال فونتنيل أمر لا مفر منه، لأن الملاحظة الساخرة بدت وكأنها تنطبق على إلغاء مرسوم نانت تماماً. فأسرع في نشر قصيدة يمتدح فيها "انتصار الدين في عهد لويس العظيم". وقبل اعتذاره. ومن تلك اللحظة حرص فونتنيل على أن تكون فلسفته غامضة يصعب على الحكومات إدراك مراميها.

محادثات في تعدد العوالم

الصفحة الأولى من محادثات في تعدد العوالم، طبعة 1724

وعاد إلى العلوم، وجعل من نفسه مبشراً بها في المجتمع الفرنسي. وكان شديد الكلف بالدعة والراحة، فلم يعكف بطريق مباشر على التجارب والأبحاث، ولكنه وعي العلوم وعياً حسناً، فقدمها لجمهور مستمعيه المتزايد، في جرعات صغيرة مغلفة بفن الأدب. ورغبة منه في تقريب فلك كوبرنيكس إلى الأذهان وجعله في متناول الناس، ألف "محادثات في تعدد العوالم" Entretiens sur la pluralité des mondes (1686). وعلى الرغم من أن مائة وثلاثة وأربعين عاماً كانت قد انقضت على ظهور كتاب كوبرنيكس فإن قلة من الناس في فرنسا، حتى بين المتخرجين في الجامعات، كانت قد قبلت نظرية أن الشمس هي مركز العالم، وأدانت الكنيسة جاليليو لأنه اعتبر أمراً مفروغاً منه أن هذه الفرضية حقيقية، وما يجرؤ ديكارت على نشر رسالته "العالم" التي اعتبر فيها أن نظرية كوبرنيكس قضية مسلم بها.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المحادثات

وتناول فونتنيل الموضوع في كياسة تبعد عن النقمة، فتصور أنه يناقشه مع مركيزة مليحة يتحرك شكلها-غير مرئي ولكنه محسوس-أثناء الحوار بصورة مغرية فاتنة، لأن الجمال إذا اتخذ لقب البطولة أمكنه أن يكسف النجوم. وكانت "المحادثات" الست أمسيات. وكان المشهد في حديقة قصر المركيزة بالقرب من روان. وكان الهدف من ذلك هو أن يفهم الناس في فرنسا-أو على الأقل سيدات المجتمع-حركة الأرض وتعاقب دوراتها، ونظرية ديكارت في الدوامات. وزيادة في الإغراء أثار فونتنيل مسألة أخرى: هل القمر وسائر الكواكب مسكونة؟. وكان ميالاً إلى أن يعتقد هذا. ولكنه تذكر أن بعض القراء قد تزعجهم فكرة أن في العالم نساء ورجالاً لم ينحدروا من آدم وحواء، ومن ثم أوضح في حزم ولباقة أن سكان القمر والكواكب لم يكونوا بشراً حقيقيين. ومهما يكن من أمر فإنه أوحى بأنه قد يكون لهم حواس أخرى، ربما كانت أدق من حواسنا، وإذا كان الأمر كذلك فإنهم قد يرون الأشياء مختلفة عما نراها نحن، فهلا تكون الحقيقة عندئذ نسبية؟. وقد يقلب هذا كل شيء رأساً على عقب، حتى أكثر مما فعل كوبرنيكس. وأنقذ فونتنيل الموقف بالإشارة إلى جمال الكون ونظامه، مقارناً إياه بساعة، مستدلاً بميكانيكية الكون على صانع بارع ذي ذكاء خارق.

تاريخ الوحي

طبعة 1728

ولما كانت الرغبة في التعليم من أقوى الرغبات فينا، فإن فونتنيل عاود المخاطرة بالاقتراب من الباستيل بإصداره في ديسمبر 1688 رسالة غفلاً من اسم المؤلف، هي أجرأ رسائله الصغيرة تحت عنوان "تاريخ الوحي" Histoire des oracles. واعترف بأنه اقتبس مادتها من كتاب "الوحي" الذي ألفه أحد الباحثين الهولنديين، ڤان وايل، ولكنه حورها بأسلوبه الواضح الرشيق. وقال أحد القراء: "أنه يتملقنا لمعرفة الحقيقة" وهكذا قارن الرياضيين بالعاشقين. "ضع أمام الرياضي أقل قاعدة أو مبدأ، ولسوف يستنتج منه نتيجة، ويجدر بك أن تسلم له بها، ومن هذه النتيجة أخرى وهكذا....(56). إن رجال اللاهوت كانوا قد قبلوا بعض الوحي الوثني باعتباره صحيحاً صادقاً، ولكنهم كانوا قد نسوا دقته المعارضة إلى أحياء شيطاني، واعتبروا برهانهم على قدسية أصل الكنيسة، أن هذا الوحي انقطع منذ مجيء السيد المسيح، ولكن فونتنيل أوضح أن الوحي استمر حتى القرن الخامس الميلادي. وبرأ الشيطان من أنه صانعه، فالإيحاءات كانت حيلاً من الكهنة الوثنيين الذين تحركوا في المعابد ليأتوا بمعجزات ظاهرة، أو ليستولوا على الطعام المقدم من العابدين للآلهة. وادعى أنه ما تحدث إلا عن الوحي الوثني، وأنه استثنى صراحة الوحي والكهنة المسيحيين من هذا التحليل. ولم يكن هذا المقال ومقال "أصل الأساطير" مجرد ضربتين إيذاناً بعصر الاستنارة، بل كانتا كذلك، مثلين لمدخل جديد إلى المسائل اللاهوتية- تفسير للمنابع البشرية للمعتقدات الدينية، وبهذا يضفي الحالة الطبيعية على كل ما هو خارق للطبيعة.

عمله في الأكاديميتين

وكان "تاريخ الوحي" آخر العمليات التي استنزفت حيوية فونتنيل. وفي 1691 انتخب عضواً في الأكاديمية الفرنسية برغم معارضة راسين وبوالو. وفي 1697 أصبح، وبقي لمدة اثنين وأربعين عاماً، السكرتير الدائم لأكاديمية العلوم. وكتب تاريخها، وأطنب في امتداح من فارقوا الحياة من الأعضاء. وهذا يشكل سجلاً وعرضاً وضاءين للعلوم في فرنسا لمدة نصف قرن تقريباً. وبمثل هذه الجلسات العلمية استطاع فونتنيل أن ينفذ-بمثل القدر من الغبطة والسرور إلى الصالونات-صالون مدام دالمبرت أولاً، ومدام دي تنسين، ثم مدام دي جيوفرين. وكان موضع الترحيب، لا لمجرد شهرته باعتباره كاتباً، بل لأن روح الكياسة واللطف والمجاملة لم تفتر فيه قط. أنه مزج الحقيقة بالتعقل، واستنكف أن يعكر جو المناقشة بالخلافات، ولم يكن ذكاؤه لاذعاً. "لم يكن في عصره من هو أكثر منه تفتحاً في الذهن أو تجرداً من الحقد والضغينة والتحيز(57)" واتهمته في حمق مدام دي تنسين، التي كانت سريعة الانفعال والغضب، بأن له مخاً آخر لا بد أنه كان يحتفظ فيه بقلبه(58). ولم يستطع الشباب قتلة الآلهة الذين كانوا يتكاثرون حوله أن يفهموا اعتداله أكثر مما استساغ هو تعصبهم وعنفهم. "أني لتزعجني الحقائق التي تسيطر من حولي(59)". ولم ير شراً محضاً في ضعف سمعه حين تقدمت به السنون.

وفاته

وظاهر أنه في نحو الخمسين من العمر اعتزم ألا يقدم بعد ذلك إلا خدمات أفلاطونية للسيدات، ولكن كياسته لن تتداع. وعندما قدموه إلى سيدة جميلة، وهو في سن التسعين، قال: "آه: لو أني الآن في الثمانين فقط!(60)" وفي سن التاسعة والثمانين تقريباً افتتح حفل عام جديد بالرقص مع ابنة هلڤيشيوس البالغة من العمر عاماً ونصف العام(61). ولما قالت مدام جريموذ متعجبة، وكانت في مثل سنه تقريباً "حسناً. ها نحن كلانا حي يرزق" وضع إصبعه على شفتيه وهمس "صه يا سيدتي، إن الموت قد نسينا(62)".

ولكن الموت عثر عليه أخيراً في 9 يناير 1757، واختطفه في سكون، ولم يكن قد مرض إلا يوماً واحداً. وأوضح لأصحابه أنه كان "يعاني من وجوده" وربما كان قد أحس بأنه قد بلغ من العمر أرذله. وبقي له ثلاثة وثلاثون يوماً ليتم من العمر قرناً كاملاً. لقد كان مولده قبل أن يتسلم لويس الرابع عشر دفة الحكم، وشب وسط انتصارات بوسويه، وإلغاء مرسوم نانت واضطهاد البروتستانت. وعاش ليرى "دائرة المعارف"، وليستمع إلى ڤولتير وهو يدعو الفلاسفة لشن الحرب على الموبقات.

المصادر

  • حنان قصاب حسن. "فونتنيل (برنار لو بوڤييه)". الموسوعة العربية.

وصلات خارجية

مناصب ثقافية
سبقه
جان-جاك رنوار ده ڤياييه
المقعد 27
الأكاديمية الفرنسية

1691-1757
تبعه
أنطوان-لوي سيگييه