يوهان گوتفريد هردر

يوهان گوتفريد هردر
Herder.jpg
وُلِدَ25 أغسطس 1744
توفيديسمبر 18, 1803(1803-12-18) (aged 59)
العصرفلسفة التنوير
المنطقةالفلسفة الألمانية
المدرسةوطنية رومانسية

يوهان گوتفريد فون هردر Johann Gottfried von Herder (عاش 25 أغسطس 1744 – 18 ديسمبر 1803) كان فيلسوفاً ألمانياً، عالم لاهوت وشاعر، وناقد أدبي. ويرتبط اسمه بفترات عصر التنوير، Sturm und Drang, وكلاسيكية ڤايمار.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

السيرة

The Johann Gottfried Herder statue in Weimar in front of the Peter and Paul church


كتب شيلر في يوليو 1787 "لقد تركت هردر لتوي... أن حديثه رائع، ولغته دافئة قوية، ولكن مشاعره يراوحها الحب والكره"(9). وكانت واجهات هردر في فايمار متنوعة، فلم تتح له متسعاً من الوقت للتأليف. فكان بصفته قسيساً خاصاً للدوق يقوم بواجبات العماد، والتثبيت في الإيمان، وعقد الزيجات والإشراف على الجنازات لأسرة الدوق وبلاطه. وبصفته المراقب العام للدوقية كان يشرف على سلوك الأكليروس وتعييناتهم، ويحضر اجتماعات مجلس الكنيسة ويلقى عظات فيها من سلامة العقيدة القدر الذي تسمح به شكوكه الخاصة. وكانت مدارس الدوقية تحت إدارته، فأصبحت نموذجاً تحتذيه ألمانيا كلها. هذه المسئوليات مضافاً إليها ناسوره وسوء صحته عموماً، جعلته سريع الغضب وصبغت حديثه بين الحين والحين بما سماه جوته "اللدغة الخبيثة"(10). وقد ظل ثلاث سنين (1780-83) هو وجوته يتجنب أحدهام صاحبه؛ وقد أنكر الدوق بعض عظات هدر. قال جوته "بعد عظة كهذه لم يبق أمام أي أمير إلا الاعتزال"(11). وقال فيلاند اللطيف الطبع معلقاً في 1777 "وددت لو قام بيني وبين هردر اثنا عشر هرماً"(12)، وتعلمت فايمار أن تلتمس المعازير "الاكلينيكية" لقسيسها الشبيه بدين سويفت، وردت زوجته اللطيفة كارولينة على بعض لدغه. وفي 28 أغسطس 1783 اغتنم جوته اتفاق وقوع عيد ميلاده وعيد ميلاد ابن هردر البكر في يوم واحد ليدعو آل هردر العشاء. واصطلح عضو المجلس الخاص والمراقب العام، وكتب جوته يقول أن "السحب الكئيبة التي فرقت بيننا طويلاً قد انجلت، وإلى الأبد في اعتقادي"(13). وبعد شهر أضاف "لست أعرف رجلاً أنبل قلباً أو أسمح وروحاً"(14)، وذكر شيلر في 1787 أن "هردر شديد الإعجاب بجوته-بل هو يكاد يعبده".(15) وأصبح فيلاند وهردر في الوقت المناسب صديقين متفاهمين(16)، وكان هذان، لا جوته ولا شيلر، هما اللذين قادا الحديث في صالون آنا أماليا واكتسبا قلب الدوقة الأرملة(17).


نجوم ڤايمار الأربعة

لم يمض شهر على وصول جوته إلى ڤايمار حتى أنهى إلى الدوق اقتراحاً مشفوعاً بموافقته الحارة، هو اقتراح ڤيلاند بأن تعرض على يوهان گوتفريد هردر وظيفة المشرف العام على اكليروس الدوقية ومدارسها. ووافق الدوق. أما هردر فقد ولد بمورنگن في پروسيا الشرقية (25 أغسطس 1744)، فهو من حيث الجغرافيا وضباب البلطيق قريب إيمانويل كانط. وكان أبوه معلماً فقيراً وقائد فرقة ترتيل تقوى النزعة، وهكذا كان للصبي أوفر نصيب من الشدائد. فمنذ كان في الخامسة كان يشكو ناسوراً في عينه اليمنى. واضطرته ضرورة المشاركة بعد قليل في موارد الأسرة إلى ترك المدرسة والاشتغال سكرتيراً وخادماً لسباستيان تريشو، الذي كان يكسب رزقاً طيباً بتأليف كتيبات في التقوى. وكان لديه مكتبة استوعبها يوهان. فلما بلغ الثامنة عشرة أرسل إلى كونگزبرگ لإزالة الناسور ولدراسة الطب في الجامعة. على أن الجراحة أخفقت، وقلبت فصول التشريح معدة الشاب فانصرف عن الطب إلى اللاهوت.

وتصادق مع هامان الذي كان يعلمه الإنجليزية مستعملاً هاملت نصاً، وحفظ هردر المسرحية كلها تقريباً عن ظهر قلب. واختلف إلى محاضرات كانط في الجغرافيا والفلك وفلسفة ڤولف. وبلغ من حب كانط له أنه أعفاه من الرسم الذي يحصل من الطلبة نظير حضورهم المحاضرات. وكسب هردر قوته بالترجمة وتدريس التلاميذ الخصوصيين، ثم قام بالتدريس في مدرسة الكاتدرائية بمدينة ريگا من سن العشرين إلى سن الخامسة والعشرين. وحين بلغ الحادية والعشرين رسم قسيساً لوثرياً، وفي الثانية والعشرين أصبح ماسونياً(63)، وفي الثالثة والعشرين عين مساعداً للراعي في كنيستين قرب ريجا. ودخل عالم النشر في الثانية والعشرين بكتاب في الأدب الألماني الحديث، ثم أضاف إليه جزءاً ثانياً وثالثاً بعد عام. وراعت ثقافة المؤلف الشاب كانط ولسنگ ونقولاي ولافاتر-وامتدحوا دعوته إلى أدب قومي متحرر من الوصاية الأجنبية.

واستبق هردر الموضة "الڤرترية" بوقوعه في غرام يائس بامرأة متزوجة. واشتدت معاناته من الاكتئاب والغم في بدنه وعقله، فمنحه رؤساؤه إجازة ينقطع فيها عن عمله، ووعدوه بأن يوظفوه من جديد براتب أعلى عند عودته. واقترض مالاً، ثم غادر ريگا (23 مايو 1769) ولم يرها ثانية قط. وركب البحر إلى نانت، وأقام فيها أربعة أشهر، ثم مضى إلى باريس والتقى بديدرو ودالامبير، ولكن أحداً لم يستطع إقناعه بالانحياز إلى التنوير الفرنسي.

وذلك أن ميله الفطري كان جمالياً (استطيقياً) أكثر منه عقلياً. ففي باريس بدأ يجمع الشعر البدائي، ووجد فيه متعة تفوق ما في أدب فرنسا الكلاسيكي. وقرأ كتاب مكفرس: "أوسيان" في ترجمة ألمانية، وحكم بأن هذه التقليدات البارعة أروع من معظم الشعر الإنجليزي الحديث بعد شكسبير. ثم بدأ في 1769 مقالات في النقد الفني والأدبي أطلق عليها اسم (الغياض)، ونشر ثلاثة مجلدات منها في حياته بعنوان (غابات من النقد). وفي فبراير 1770 أنفق أربعة عشر يوماً في اتصال مثمر مع لسنگ في هامبورج. ثم صاحب أمير هولشتاين-گوتورپ معلماً ورفيقاً. وجاب معه ألمانيا الغربية. وفي كاسل التقى برودلف راسبي، أستاذ الآثار والمؤلف القادم لكتاب "قصة البارون مونتشاوزن عن أسفاره وحملاته العجيبة في روسيا" (1785). وكان راسبي قد استرعى اهتمام ألمانيا بكتاب توماس برسي "مخلفات من الشعر الإنجليزي القديم" سنة ظهوره (1765).


وتقوى هردر في إيمانه بأن واجب الشعراء أن يهجروا الدعوة الفنكلمانية، اللسنجية لتقليد الكلاسيكيات اليونانية، وأنه أخلق بهم أن يتشبثوا بالمنابع الشعبية لتقليد أمتهم في الشعر الفولكلوري والتاريخ القصصي الغنائي.

وانتقل هردر مع الأمير إلى دارمشتات، فالتقى بجماعة "الحساسيين" فيها. وراقه إعلاؤهم شأن العاطفة، وخص بالتقدير عواطف كارولينية فلاخسلاند، الأت اليتيمة لزوجة عضو المجلس الخاص أندرياس فون هسه، ودعي هردر للوعظ في كنيسة محلية، فسمعته، وتأثرت بوعظه، وتمشيا معاً في الغابات، وتلامست أيديهما، فانعطف قلبه، وعرض عليها الزواج ولكنها نبهته إلى أنها تعيش على صدقة أختها، وأنها لن تستطيع أن تدفع له مهراً، ورد هو بأنه مثقل بالدين، وأن المستقبل أمامه غامض جداً، وأنه ملتزم بمرافقة الأمير. وتعاهدا بألا تكون خطبة رسمية، ولكنهما اتفقا على تبادل الحب بالرسائل. ثم رحلت جماعته إلى مانهايم في 27 أبريل 1770.

فلما وصلوا إلى ستراسبورج ترك هردر الأمير رغم شوقه لرؤية إيطاليا. ذلك أن الناسور الذي في غدته الدمعية سد القناة الدمعية الموصلة إلى المنخر فأصابه بألم لا يهدأ. ووعده الدكتور لوبشتين أستاذ أمراض النساء في الجامعة بأن الجراحة ستزيل الانسداد في ثلاثة أسابيع. واستسلم هردر، دون مخدر، للثقب المتكرر لقناة خلال العظم إلى ممر الأنف. ولكن الجرح بدأ يتلوث، وظل هردر ستة أشهر تقريباً حبيس حجرته في الفندق وقد فت في عضده فشل الجراحة، وران عليه اكتئاب بسبب شكوكه في مستقبله. في هذه الحالة النفسية من المعاناة والتشاؤم، التي بجوته (4 سبتمبر 1770). ويذكر جوته هذه الفترة فيقول "أتيح لي أن أحضر الجراحة وأن أكون نافعاً في نواحي كثيرة"(64). وقد ألهمه رأي هردر القائل بأن الشعر ينبثق غريزياً في الشعب، لا من "بضعة رجال مهذبين مثقفين"(65). وحين رحل هردر وقد نفد ما معه من مال، "اقترض جوته مبلغاً من أجله" رده هردر فيما بعد.

ثم قبل على مضض دعوة من الكونت فلهلم تسوليبي، حاكم إمارة شاومبورج-ليبي الصغيرة في شمال غربي ألمانيا، ليعمل واعظاً لبلاطه ورئيساً للمجلس الكنسي في عاصمته المتواضعة بوكيبورج. وفي أبريل 1771 غادر هردر استراسبورج، وزار كارولينه في دارمشتات وجوته في فرانكفورت، ووصل إلى بوكيبورج في الثامن والعشرين. فوجد الكونت حاكماً "مستبداً مستنيراً" من طراز إداري صارم، أما المدينة فكانت قروية في كل شيء إلا الموسيقى، التي كان يحسن تزويدها بها يوهان كريستوف فريدريش باخ، وراض هردر نفسه عن الانفصال عن التيار الرئيسي للفكر الألماني، ولكن الكتب التي أصدرها في مكانه الصغير أثرت تأثيراً قوياً في ذلك التيار، وأسهمت في تشكيل الأفكار الأدبية للحركة الزوبعية. وقد أكد للكتاب الألمان أنهم إن التمسوا الإلهام في جذور الأمة وحياة الشعب فسوف يأتي الوقت الذي يبزون فيه الفرنسيين كل ما حققوه. وقد تحققت هذه النبوءة في الفلسفة والعلم.

وقد ظفر بحثه في أصل اللغة (1772) بالجائزة التي قدمتها أكاديمية برلين عام 1770. ومع أن هردر كان يجهر بتدنيه مخلصاً، إلا أنه رفض الفكرة التي تزعم أن اللغة من صنع الله وحده؛ وقال أنها من صنع البشر، وأنها نتجت طبيعياً من عمليات الإحساس والتفكير. وألمع أن اللغة والشعر كانا واحداً باعتبارهما تعبيرين عن الانفعال، وأن الأفعال، المعبرة عن الفعل، كانت أول أقسام الكلام". وفي مجلد آخر سماه "فلسفة أخرى مضافة إلى فلسفات التاريخ" (1774) عرض التاريخ على أنه "الفلسفة الطبيعية للأحداث المتعاقبة" فكل حضارة هي وجود بيولوجي له مولده وشبابه ونضجه وانحلاله وموته؛ ويجب أن تدرس من وجهة نظر عصرها، دون تحيزات مبنية على بيئة وعصر آخرين. وقد أعجب هردر إعجاب الرومانتيكيين عموماً بالعصور الوسطى لأنها زمان الخيال والوجدان، والشعر والفن الشعبيين، والبساطة والسلام الريفيين؛ وعلى نقيض ذلك كانت أوربا بعد النهضة عبارة عن عبادة للدولة، وللمال، وللترف الحضري، وللتكلف والافتعال، وللرذيلة. وانتقد التنوير لأنه عبادة لوثن العقل، وقارن بينه وبين ثقافات اليونان والرومان مقارنة لا تخدم التنوير. ولقد أبصر هردر يد الله كما أبصرها بوسويه في العملية التاريخية كلها، ولكن الواعظ المفوه كان أحياناً ينسى لاهوته، ويرى أن "التغيير العام للعالم كان يقوده الإنسان أقل كثيراً مما يقوده قدر أعمى(66)".

وحمله شعوره بالوحدة إلى أن يطلب كارولينة وزوج أختها أن يأذنا له بالحضور والزواج منها رغم ضآلة دخله. فوافقا، وزف الحبيبان في دارمشتات في 2 مايو 1773. ثم عادا إلى بوكيبورج، واقترض هردر بعض المال ليجعل دار القسيس بيتاً مبهجاً لزوجته. وقد بذلت له زوجته الخدمة والحب الخالص مدى الحياة. وبفضل وساطتها انقشع الفتور الذي ران من قبل على المودة بين هردر وگوته، وحين وجد جوته نفسه في موقف يسمح له بتزكية الراعي لوظيفة أسخى عطاء، أسعده أن يفعل ذلك. وفي أول أكتوبر 1776 وصل هردر وكارولينة إلى فايمار، وانتقلا إلى البيت الذي أعده لهما جوته. ولم يبق الآن سوى عضو واحد ليكتمل عقد الرباعي الذي سيضع شهرة فايمار.

أعماله وأفكاره

Herder

وواصل هردر وسط واجباته الإدارية البحث في الشعر البدائي، وجمع عينات منه من نيف وعشرة شعوب، ومن أورفيدس إلى أوسيان، ونشرها في "مختارات سماها Volksliede "أغاني شعبية" (1778) أصبحت ينبوعاً من ينابيع الحركة الرومانتيكية في ألمانيا. وبينما كان جوته يتهيأ لعودة إلى المثل والأشكال والأساليب الكلاسيكية ولضبط العقل للعاطفة، كان هردر يشير بالانتفاض على عقلانية القرن الثامن عشر وشكلية القرن السابع عشر والعودة إلى إيمان العصر الوسيط وأساطيره وأناشيده وأساليب حياته. وفي 1788 عرضت الأكاديمية البافارية جائزة لأفضل مقال "في آثار الشعر في عادات الأمم وأخلاقها". وفاز مقال هردر ونشرته الأكاديمية في 1781. وقد تتيع المقال ما رآه المؤلف تدهوراً للشعر بين العبرانيين واليونان والأوربيين الشماليين، من التعبير الملحمي المبكر عن التاريخ والمشاعر والأفكار الشعبية في إيقاعات طليقة فياضة، إلى تدريب "مصقول" ومدرسي، بعد المقاطع، ويلوي القوافي، ويقدس القواعد، ويضيع حيوية الشعب وسط مظاهر الافتعال المميتة التي تشوب حياة الحضر. وزعم هردر أن النهضة الأوربية قد انتزعت الأدب من الشعب وحبسته بعيداً في قصور الملوك والأمراء، وأن الطباعة قد أحلت الكتاب محل المنشد الحي. وفي مقال آخر "في روح الشعر العبري" (1783) اقترح هردر قراءة سفر التكوين على أنه شعر لا علم، وكان قد تمكن من العبرية بجهده الخاص؛ وألمع إلى أن شعراً كهذا يستطيع أن يحمل بالرمزية من الحقيقة قدر ما يحمله العلم بـ "الواقع".

ولقد كافح إيمانه الديني للصمود رغم سعة إطلاعه على الكتب العلمية والتاريخية. ففي عامه الأول في فايمار اشتبه بعضهم في أنه ملحد، حر الفكر، سوسيني، صوفي(18). وكان قد قرأ أجزاء "مخطوطة فولفنبوتل" لريماروس، التي نشرها ليسنج، وتأثر بها تأثراً كفى لتشكيكه في لاهوت المسيح(19). ولم يكن ملحداً، ولكنه وافق على وحدة الوجود التي قال بها سبينوزا. قال لياكوبي في 1784 "لست أتبين إلهاً من وراء العالم المادي"(20) وقد حذا حذو ليسنج في دراسة سبينوزا والدفاع عنه، "يجب أن أعترف أن هذه الفلسفة تسعدني جداً"(21). وقد كرس لسبينوزا الفصول الأولى من رسالة عنوانها "أحاديث عن الله" (1787)، ففي هذا البحث فقد الله صورته الذاتية وأصبح قوة الكون وروحه، الذي لا سبيل إلى معرفته إلا في نظام العالم والوعي الروحي للإنسان(22). على أن هردر في دراساته الموجهة إلى الأكليروس قبل الصفقة الخارقة لمعجزات المسيح، وخلود النفس(23).

ثم جمع العناصر المتفرقة لفلسفته وجعل منها كلاً منسقاً نسبياً في رائعة ضخمة سماها في تواضع "أفكار نحو فلسفة في تاريخ الإنسان"، وهي كتاب من كتب القرن الثامن عشر البزرية الخطيرة. صدر في أربعة أجزاء في 1784 و1787 و1791. وإشراف مشروع ضخم كهذا على التمام وسط مسئوليات هردر الرسمية يقوم شاهداً على الخلق القوي والزوجة الصالحة. وآية ذلك ما كتبه هردر إلى هامان في 10 مايو 1784: لم أؤلف طوال حياتي كتاباً كهذا وأنا نهب للكثير من المتاعب وأسباب الإرهاق من الداخل ودواعي الإزعاج من الخارج، بحيث أستطيع القول أنه لولا أن زوجتي، التي هي "المؤلف الحقيقي" لكتبي، ولولا جوته الذي نظر مصادفة في الجزء الأول-أقول لولا أنهما لم يفترا عن تشجيعي وحثي، لظل كل شيء في مثوى الكائنات التي لم تر النور"(24).

ويستهل الجزء الأول بقصة للخليقة، دنيوية في صراحة، مبنية على الفلك والجيولوجيا المعروفين، دون لجؤ للكتاب المقدس إلا بوصفه شعراً. وقد زعم أن الحياة لم تنشأ من المادة، لأن المادة ذاتها حية. والجسم والعقل ليسا جوهرين منفصلين متضادين. إنما هما صورتان لقوة واحدة، وكل خلية في كل جسم حي تحتوي الصورتين إلى حد ما. وليس هناك قصد خارجي يمكن رؤيته في الطبيعة، ولكن هناك قصداً باطنياً-هو "التصميم الكامل" والباعث لكل بذرة أن تتطور إلى كائن نوعي بكل ما لها من أجزاء معقدة مميزة. وهردر لا يقول بأن الإنسان تطور من الحيوانات الدنيا، ولكنه يراه عضواً في المملكة الحيوانية، يناضل كغيره من الكائنات للطعام والبقاء. وقد أصبح الإنسان إنساناً باتخاذه القامة المنتصبة، مما طور فيه جهازاً للحس قائماً على البصر والسمع لا على الشم والذوق؛ فغدت قوائمه الأمامية أيدي، حرة في القبض، والاستعمال، والاحتواء، والتفكير. وأسمى ثمرات الله أو الطبيعة هو الذهن الواعي، الفعال بتفكير وحرية، المكتوب له الخلود. ويبدأ الجزء الثاني من "الأفكار" بفرض يزعم أن الإنسان بطبيعته خير، ويجدد القول بالتفوق والسعادة النسبيين للمجتمعات البدائية، ويستنكر الفكرة الكانطية-الهيجلية فيما بعد-التي تزعم أن الدولة هي هدف التطور البشري. وقد احتقر هردر الدولة كما عرفها. كتب يقول "في الدول العظمى لا بد أن يتضور الفئات جوعاً لكي يزهو فرد واحد ويتقلب في النعيم؛ أن عشرات الألوف يظلمون ويساقون إلى الموت لكي يستطيع أحمق أو عاقل متوج واحد أن يحقق حلمه"(25).

وفي الجزء الثالث امتدح هردر أثينا على ديمقراطيتها النسبية التي أتاحت للحضارة أن تنتشر في كثير من طبقات السكان. أما روما التي أقامت ثراءها على الفتح والرق فقد طورت حضارة ضيقة خلفت الشعب في الفقر والجهل. في هذا التاريخ كله لم ير هردر أي "عناية إلهية"، فهو أشر من أن يكون من عند الله. فالله، الواحد مع الطبيعة، يدع الأمور تجري في أعنتها وفق القانون الطبيعي وغباوة البشر. ومع ذلك فبحكم صراع البقاء ذاته ينبعث بعض التقدم من الفوضى؛ فيطور العون المتبادل، والنظام الاجتماعي، والأخلاق، والقانون، كوسائل للبقاء، ويتحرك الإنسان في بطء صوب إنسانية رحيمة. لا لأن هناك خطاً متصلاً للتقدم، فهذا غير ممكن، لأن كل حضارة قومية هي كيان فريد، له طابعه المتأصل، ولغته، ودينه، وناموسه الخلقي، وأدبه وفنه، وكل حضارة-شأنها شأن أي كائن حي-إذا استثنينا ما يطرأ عليها من حوادث عارضة-تنحو للنمو إلى نهايتها القصوى الطبيعية، التي تضمحل بعدها وتموت. وليس هناك ضمان لتفوق الحضارات اللاحقة على السابقة، ولكن إسهامات كل حضارة تنقل على نحو أفضل إلى الحضارة التي تخلفها، وهكذا ينمو التراث الإنساني.

والجزء الرابع يمتدح المسيحية أما للمدنية الغربية. فالبابوية الوسيطة حققت هدفاً نافعاً يكبحها استبدادية الحكام والنزعة الفردية للدول؛ والفلاسفة المدرسيون، وأن نسجوا نسيجاً واهياً أجوف بألفاظ ثقيلة، إلا أنهم أرهفوا أدوات العقل ولغته، وجامعات العصر الوسيط جمعت وحفظت ونقلت الكثير من ثقافة اليونان والرومان، بل بعض علوم العرب والفرس وفلسفتهم. وهكذا أصبح المجتمع الفكري أكبر عدداً وأرهف حساً من أن يقوى عليه سدنة السلطة، وتحطمت أغلال العرف، وأعلن العقل الحديث تحرره.

وحقق هردر فيما بين الجزئين الثالث والرابع من "الأفكار" حلمه الذي طال تأجيله برؤية إيطاليا. ذلك أن يوهان فريدريش هوجو فون ذالبرج، المستشار الكاثوليكي الخاص لرئيس أساقفة تريير الناخب، دعا هردر ليصحبه في رحلة كبرى تدفع لها فيها كل نفقاته. وأذن له دوق ساكسي-فايمار، وكارولينة، بالغياب؛ فغادر فايمار في 7 أغسطس 1788. فلما لحق بدالبرج في أوجزبرج وجد أن خليلة دالبرج عضو هام في الجماعة. واجتمع على هردر وجودها ومطالبها، وسوء صحته، لتنغص عليه رحلته. وفي أكتوبر وصلت آنا أميليا إلى روما. فترك هردر دالبرج وانضم إلى بطانتها. وقد استلطف أنجليكا كاوفمان استلطافاً أكثر مما ترضى عنه كارولينة، وأسرفت رسائل كارولينة في الكلام عن جوته والميل إليه. وعاد هردر لدغه، وكان قد سمع أنباء عن حياة جوته في روما. وكتب يقول "إن رحلتي هنا كشفت لي لسوء الحظ عن حياة جوته الأنانية على نحو أوضح مما كنت أتمنى، وهي حياة في صميمها لا تعبأ بالغير على الإطلاق. إنه لا يملك غير هذا، فلندعه، وشأنه إذن.."(26). وعاد إلى فايمار في 9 يوليو 1789. وبعد خمسة أيام سقط الباستيل، وغير هردر خططه في التأليف. فأكمل الجزء الرابع من "الأفكار"، ثم نحى الكتاب جانياً، وكتب بدلاً منه "رسائل لتقدم الإنسانية (1793-97). وقد بدأها بتقريظ حذر للثورة الفرنسية، ورحب بانهيار الإقطاع الفرنسي، ولم يذرف دموعاً على علمنة الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا(27)، وحين انطلق الدوق وجوته لمواجهة الفرنسيين عند فالمي، وعادا يجرران أذيال الهزيمة، حبس هردر هذه "الرسائل" الأولى، وخصص الباقي للثناء على الموتى من العباقرة الذين لا خوف من الثناء عليهم. ولم يفقد في يخوخته من لذة الصراع الفكري. فقابل نقد كانط لكتاب "الأفكار" بهجوم حاد على "نقد العقل الخالص". ووصف الكتاب بأنه تلاعب رهيب بالألفاظ الميتافيزيقية الأشباح، مثل "الأحكام التركيبية القبلية"، وأنكر ذاتية المكان والزمان، واتهم كانط بأنه أعاد إلى علم النفس فكرة الملكات، التي زعم الفلاسفة المدرسيون أن العقل ينقسم إليها. ثم ألمع، في تنبؤ، إلى أن الفلسفة قد تختط طريقاً جديداً بالتحليل المنطقي للغة-لأن الاستدلال ما هو إلا حديث باطني.

وقد وافق جوته إلى حد كبير على نقد هردر لكانط، ولكن هذا لم يعصمه من لدغه نصيبه منه بين الحين والحين. فحين أقام كلاهما تحت سقف واحد في يينا عام 1803 قرأ جوته على جماعة كان هردر واحداً منها أجزاء من مسرحيته الجديدة "الابنة الطبيعية" (أي غير الشرعية). وأثنى هردر على المسرحية للآخرين، ولكن حين سأله المؤلف رأيه لم يستطع مقاومة الرد بتورية عن الصبي الذي ولدته خليلته جوته فقال: "إني أحب ابنك الطبيعي أكثر من ابنتك الطبيعية" ولم يستطب جوته الدعابة. وبعدها لم يلتق الرجلان قط. واعتكف هردر في خلوة بيته بفايمار، ومات هناك في 18 ديسمبر 1803-قبل شيلر بعامين، وقبل فيلاند بعشرة، وقبل جوته بتسعة وعشرين ودفن بأمر الدوق كارل أوجست-الذي كثيراً ما ضايقه هردر-بمراسم التكريم الكبير في كنيسة القديسين بطرس وبولس.

ببليوجرافيا

  • To Cyrus, the grandson of Astyages (1762)
  • Essay on Being (1763-64)
  • On Diligence in Several Learned Languages (1764)
  • Treatise on the Ode (1764)
  • How Philosophy can become more Universal and Useful for the Benefit of the People (1765)
  • Fragments on Recent German Literature (1767-68)
  • On Thomas Abbt's writings (1768)
  • Critical Forests, or Reflections on the Science and Art of the Beautiful (1769-)
  • Journal of my Voyage in the Year 1769 (first published 1846)
  • Treatise on the Origin of Language (1772)
  • Selection from correspondence on Ossian and the songs of ancient peoples (1773) See also: James Macpherson (1736–1796).
  • Of German Character and Art (with Goethe, manifesto of the Sturm und Drang) (1773)
  • This Too a Philosophy of History for the Formation of Humanity (1774)
  • Oldest Document of the Human Race (1774-76)
  • Essay on Ulrich von Hutten (1776)
  • On the Resemblance of Middle English and Germany Poetry (1777)
  • Sculpture: Some Observations on Shape and Form from Pygmalion's Creative Dream (1778)
  • On the Cognition and Sensation of the Human Soul (1778)
  • On the Effect of Poetic Art on the Ethics of Peoples in Ancient and Modern Times (1778)
  • Folk Songs (1778-79; second ed. of 1807 titled The Voices of Peoples in Songs)
  • On the Influence of the Government on the Sciences and the Sciences on the Government (1780)
  • Letters Concerning the Study of Theology (1780-81)
  • On the Influence of the Beautiful in the Higher Sciences (1781)
  • On the Spirit of Hebrew Poetry. An Instruction for Lovers of the Same and the Oldest History of the Human Spirit (1782-83)
  • God. Some Conversations (1787)
  • Ideas for the Philosophy of History of Humanity (1784-91)
  • Scattered Leaves (1785-97)
  • Letters for the Advancement of Humanity (1791-97 or 1793-97?)
  • Christian Writings (1794-8)
  • Terpsichore (1795-6) (translations & commentary of the Latin poet, Jakob Balde)
  • Persepolisian Letters (1798) (fragments on Persian architecture, history & religion)
  • Luther’s Catechism, with a catechetical instruction for the use of schools (1798)
  • Understanding and Experience. A Metacritique of the Critique of Pure Reason. Part I. (Part II, Reason and Language.) (1799)
  • Calligone (1800)
  • Adrastea: Events and Characters of the 18th century (6 vols.)
  • The Cid (1805; a free translation of the Spanish epic El Cid)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

انظر أيضاً

الهامش

المصادر

  • Barnard, Frederick Mechner (1965). Herder's Social and Political Thought. Oxford, Oxfordshire: Oxford University Press. ISBN 0198271514.

وصلات خارجية

Wikiquote-logo.svg اقرأ اقتباسات ذات علاقة بيوهان گوتفريد هردر، في معرفة الاقتباس.