اليهودية الهلينية

اليهودية الهلينية كانت حركة في فلسطين وكذلك بين الشتات اليهودي بغرض تأسيس تقليد ديني عبراني-يهودي ضمن ثقافة ولغة الهلينية. الناتج الأدبي الرئيسي عن اتصال اليهودية بالثقافة الهلينية كان الترجمة السبعونية من العبرية التوراتية والأرامية التوراتية إلى يونانية كوينه، التي بدأت في القرن 3 ق.م. في الإسكندرية. انحسار اليهودية الهلينية في القرن الثاني الميلادي يكتنفها الغموض. وربما هـُمـّشت بفعل، أو اُمتـُصـَّت في، أو أصبحت المسيحية المبكرة.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

اليهود في الصراع بين البطالمة والسلوقيين

يدور تاريخ بلاد اليهود في العصر الهلنستي حول نزاعين: الكفاح الخارجي بين آسية السلوقية ومصر البطالمة للاستيلاء على فلسطين، والكفاح الداخلي بين أساليب الحياة الهلنية والعبرية. فأما الكفاح الأول فهو تاريخ ميت، وفي وسعنا أن نفرغ منه في عبارات موجزة، وأما الكفاح الثاني فهو في اعتقاد ماثيو آرنلد Matthew Arnold أحد الانشقاقات الخالدة التي طرأت على الأفكار والمشاعر البشرية. وكانت بلاد اليهود (أي فلسطين الواقعة جنوب السامرة) في التقسيم الأول لإمبراطورية الإسكندر من نصيب بطليموس؛ ولكن السلوقيين لم يقبلوا قط هذا التقسيم لأنهم وجدوا أنفسهم بمقتضاه منفصلين عن البحر الأبيض المتوسط، ولأنهم كانوا يطمعون فيما قد يعود عليهم من ثراء بسبب التجارة المارة بدمشق وأورشليم. وانتصر بطليموس في الحروب التي ثارت بسبب هذا النزاع، واستولى على بلاد اليهود وظلت خاضعة لسلطان البطالمة أكثر من مائة عام (318-198)، كانت تؤدي في خلالها جزية سنوية مقدارها ثمانية آلاف وزنة، ولكنها ازدهرت وعمها الرخاء رغم هذا العبء الثقيل. وقد ترك البطالمة لبلاد اليهود قسطاً كبيراً من الحكم الذاتي، تحت سلطان كاهن أورشليم الأكبر والجمعية الوطنية الكبرى. وأضحت الجروسيا أو مجلس الكبار، التي أنشأها عزرا ونحيما قبل ذلك العهد بمائتي عام، مجلس شيوخ ومحكمة عليا في وقت واحد. وكان أعضاؤها السبعون أو الأكثر من السبعين يختارون من بين رؤساء الأسر الشهيرة في البلاد، ومن بين أكبر رجال العلم (السفريم Soferim). وقد ظلت قرارات هذه الجمعية المعروفة باسم "الدبرسفريم" Dibre Soferim أساس الدين اليهودي العام من العصر الهلنستي إلى العصر الحديث.


تاريخ اليهود في العصر الهليني

خريطة امبراطورية الإسكندر، التي امتدت شرقاً وجنوباً من مقدونيا.

وكان أساس اليهودية هو الدين: كما كانت فكرة وجود إله قادر تسيطر على كل ناحية من نواحي الحياة اليهودية وكل لحظة من لحظاتها. وكان مجلس الكبراء يفرض القوانين الأخلاقية والآداب الاجتماعية بجميع دقائقها. ويشرف على تنفيذها إشرافاً تاماً. وكانت أسباب اللهو والتسلية والألعاب قليلة محدودة، وكان الزواج بغير اليهود محرماً، وكذلك العزوبة وقتل الأطفال. ومن ثم كان اليهود يلدون كثيراً ويربون جميع أبنائهم، وظلوا طوال العصور القديمة يتكاثرون رغم الحروب والمجاعات حتى بلغ عددهم في الإمبراطورية الرومانية أيام قيصر سبعة ملايين. وكان معظم السكان قبل العهد المقدوني يشتغلون بالزراعة، لأن اليهود لم يكونوا قد أصبحوا بعض أمة من التجار. وقد كتب عنهم يوسفوس Josephus في ذلك العهد المتأخر، وهو القرن الأول بعد الميلاد، يقول: "لسنا شعباً تجارياً(13)". أما الشعوب التجارية العظيمة في ذلك العصر فهي الفينيقيون والعرب واليونان. وكان الرق موجوداً في بلاد اليهود كما كان في غيره من الأقطار، غير أن حرب الطبقات كانت هادئة نسبياً. ولم يكن للفنون عندهم شأن عدا الموسيقى فقد كانت راقية مزدهرة. وكان الناي والطبل، والصنوج و "قرن الكبش" أو البوق، والقيثارة تُستخدم مصاحبة للصوت الواحد، أو للأغاني الشعبية، أو الترانيم الدينية. وكان الدين اليهودي يعيب على الطقوس اليونانية استرسالها في الخضوع لخيال الشعب ويزدريها لهذا السبب؛ وكانت الصلة مقطوعة بينه وبين الصور، والنبوءات، ومعرفة الغيب بالنظر في أحشاء الطير. وكان أقل تجسيدا وتخريفاً، وأقل بهرجة ومرحاً من دين اليونان. وكان الربانيون يواجهون طقوس الشرك الهلنية بإنشاد هذه النغمة التي لا تزال تتردد حتى اليوم في كل كنيس يهودي: "استمعي يا إسرائيل: الرب إلهنا، الرب واحد".

وأدخل الغزاة اليونان في هذه الحياة البسيطة المتزمتة كل ما في الحضارة المهذبة الأبيقورية من أسباب اللهو والغواية. وقد كان يحيط ببلاد اليهود حلقة من المستقرات والمدن اليونانية: السامرة، ونيوبوليس، وغزة، وعسقلان، وأزوتس Azotus (أشرود) وجبا Joppa (يافا)، وأبولونيا Appollonia، ودوريس Dorisa، وسكمينا Sycamina، وبوليس Polis (حيفا) وأكو (عكا). وكان على الضفة الأخرى من نهر الأردن عصبة من عشر مدن يونانية: هي دمشق، وجدارا Gadara، وجراسا Gerasa، وديوم Dium، وفلدلفيا، وبلا Pella، ورافيا Raphia، وهبو Hippo، واسكيثوبوليس Csythopolis، وكنيثا Canetha. وكانت تقوم في كل واحدة من هذه المدن نظم ومؤسسات يونانية وهياكل للآلهة والإلهات اليونانية، ومدارس، ومجامع علمية، ومدارس وساحات للألعاب الرياضية، وألعاب يشترك فيها الناس وهم عراة. وأقبل على أورشليم من هذه المدن ومن الإسكندرية، وأنطاكية، وديلوس، ورودس يونان ويهود يحملون العدوى الهلينية، عدوى التبحر في العلم والفلسفة، والفن، والأدب، والاستمتاع بالجمال واللذة، والغناء، والرقص، والشراب، والطعام، والألعاب الرياضية، والعشيقات، والغلمان؛ فضلاً عن السفسطة المرحة، التي ترتاب في جميع القوانين الأخلاقية، والتشكك الذي قضى على كل عقيدة في خوارق الطبيعة. وهل يستطيع الشاب اليهودي أن يقاوم هذه المغريات، التي تدعوه إلى الاستمتاع باللذة وإلى التحرر من آلاف القيود الضيقة الثقيلة؟ لقد بدأ الشبان اليهود الفكهون يسخرون من الكهنة ويصفونهم بأنهم طلاب مال، كما يصفون الأتقياء من أتباعهم بأنهم حمقى، ينحدرون إلى الشيخوخة من غير أن يعرفوا الملاذ والترف ومباهج الحياة. وانضم إليهم في هذا أغنياء اليهود، لأنهم كانوا يستطيعون أن يستجيبوا لداعي الغواية. وأحس اليهود الذين كانوا يطلبون المناصب من الموظفين اليونان بأن من حسن السياسة أن يتكلموا اللغة اليونانية، وأن يعيشوا كما يعيش اليونان، بل أن يقولوا بضع كلمات طيبة في حق الآلهة اليونانية.

وكانت ثلاث قوى تحمي اليهود من هذا الهجوم القوي على عقلهم وحواسهم! هي ما وقع عليهم من الاضطهاد أيام أنتيوخوس الرابع، وحماية رومة، وسلطان القانون وهيبته لأنه كان في اعتقاد اليهود وحياً منزلاً من عند ألله. وتجمع الأتقياء من اليهود، كما تتجمع الكرات البيضاء من الدم لحماية الجسم من جراثيم الأمراض، وألفوا هيئة من الصفوة المختارة أطلقوا عليها اسم "المتقين". وبدأت هذه الجماعة (حوالي عام 300 ق.م) بعهد بسيط قيدوا به أنفسهم أن يمتنعوا عن شرب الخمر زمناً معيناً؛ ثم ذهبوا فيما بعد مدفوعين بسيكولوجية الحرب المحتومة إلى أبعد حدود التزمت، فحرّموا جميع الملاذ الجسمية وعدوها استسلاماً للشيطان واليونان. وعجب منهم اليونان أشد العجب وضموهم إلى زمرة الفلاسفة الزاهدين العرايا العجيبين الذين التقت بهم جيوش الإسكندر في بلاد الهند. وحتى اليهودي العادي نفسه كان يعارض في تزمت جماعة المتقين الشديد ويبحث لنفسهِ عن خطة وسطى بين التزمت والإباحية، ولعله هو وأمثاله كان يستطيع أن يجد هذا الحل الوسط لولا أن أنتيوخوس إيفانيز حاول أن يقحم الهلنية في بلاد اليهود بالإقناع تارة وبالسيف تارة أخرى.

وظلت بلاد اليهود تابعة لمصر حتى عام 198 حين هزم أنتيوخوس الثالث بطليموس الخامس وضمها إلى الإمبراطورية السلوقية. وكان اليهود قد ملوا حكم المصريين فأعانوا أنتيوخوس ورحبوا باستيلائه على أورشليم وتحريرهم من حكامهم؛ ولكن خلفه أنتيوخوس الرابع لم يرَ في بلاد اليهود إلى أنها مصدر للإيراد؛ وكان وقتئذ يستعد لحروب عوان تتطلب الكثير من الأموال، فأمر اليهود أن يؤدوا إلى خزانة الدولة ثلث محصولاتهم من الحبوب، ونصف ما تُثمره أشجار الفاكهة(14). ثم عين جيسن المعروف بتذلـله وملقه حاخاماً أكبر، وتجاهل في هذا التعيين ما جرت به العادة من توارث هذا المنصب الديني. وكان جيسن هذا يمثل الحزب القائم في أورشليم والذي ينادي بفرض الثقافة الهلنية على بلاد اليهود، ويطلب الإذن بإقامة النظم اليونانية في تلك البلاد. وأصغى أنتيوخوس إلى مطالبه وهو فرح مستبشر لأن اختلاف الطقوس الدينية الشرقية في بلاد آسية اليونانية وقوة هذه الطقوس كانا يقلقان باله إذ كان يحلم بتوحيد إمبراطوريته المتعددة اللغات والأجناس بإخضاعها كلها لشريعة واحدة وعقيدة واحدة. ولما أن أبطأ جيسن في العمل للوصول إلى هذه الغاية عين أنتيوخوس بدلاً منه منلوس، بعد أن وعده بأكثر مما وعده بهِ سلفه ونفحه برشوة أكبر(15). وتوحد يهوة وزيوس على يدي منلوس، وبيعت آنية المعابد للحصول على المال، وقربت بعض الجماعات اليهودية القرابين إلى الآلهة الهلنية. واُفتتحت في أورشليم مدرسة للرياضة البدنية، واشترك شباب اليهود والكهنة أنفسهم وهم عراة في الألعاب الرياضية. وبلغ من تحمس بعض الشبان اليهود للهلنية أن تحملوا جراحات في أجسامهم ليعالجوا بها بعض العيوب التي قد تكشف عن أصلهم(16).

وارتاعت كثرة الشعب اليهودي من هذه التطورات وأحست أن دينها يكاد ينهار من أساسه، فانحازت إلى آراء المتقين؛ ولما أن طرد بوبليوس (165) أنتيوخوس الرابع من مصر، شاع في أورشليم أنه قُتل، فاغتبط اليهود بالنبأ، وخلعوا الموظفين المعينين عليهم من قبله، وقتلوا زعماء الحزب الذي كان يدعوا إلى الثقافة الهلينية، وطهروا الهياكل مما كانوا يرونه منكراً أو كفراً. لكن أنتيوخوس لم يكن قد مات، بل هُزم وذُلَ وأصبح فقيراً معدماً؛ وقد أيقن أن اليهود كانوا سبباً في هزيمته في مصر وأنهم كانوا يأتمرون ليعيدوا بلادهم إلى البطالمة(17)، فعاد إلى أورشليم وذبح آلافاً من اليهود رجالهم ونسائهم، ودنس الهيكل ونهبه، وصادر مذبحه الذهبي وآنيته وكنوزه وضمها إلى الخزائن الملكية، وأعاد إلى منلوس سلطته العليا، وأمر أن يثقف اليهود كلهم على الرغم منهم بالثقافة الهلينية (167)، وأن يعود الهيكل كما كان ضريحاً مقدساً لزيوس، وأن يقام مذبح يوناني فوق المذبح القديم، وأن يُستبدل بالقرابين القديمة قربان من الخنازير. ثم حرم تقديس السبت والاحتفال بالأعياد اليهودية، وجعل الختان جريمة يُعاقب عليها بالإعدام، وحُرمت جميع مراسم الدين اليهودي في جميع أنحاء بلاد اليهود، وألزم الأهلون باتباع المراسم اليونانية، وعوقب من يخالف هذه الأوامر بالإعدام. وكان كل من يأبى من اليهود أن يأكل لحم الخنزير وكل من يوجد عنده كتاب الشريعة يُسجن أو يُقتل، وأمر أن يُحرق هذا الكتاب أنى وجد(18). وأشعلت النار في أورشليم نفسها، وهُدمت أسوارها، وبيع سكانها اليهود في أسواق الرقيق، وجيء بالأجانب ليُقيموا في مواضعها، وشيد حصن جديد على جبل صهيون، ووضعت فيه حامية من الجند لتحكم المدينة باسم الملك(19). ويبدو أن أنتيوخوس سعى في بعض الأوقات لأن يجعل نفسه إلهاً، وأنه طلب إلى الناس أن يتخذوه إلهاً يعبدونه(20).

وزاد الاضطهاد شدة على مر الزمن. ذلك أنه يوجد دائماً في كل مجتمع أقلية فطرت على الابتهاج إذا أذن لها بالاضطهاد، لأنها ترى في هذا الاضطهاد انطلاقاً من قيود الحضارة. وكان عملاء أنتيوخوس من هذه الأقلية، فأنهم بعد أن قضوا على جميع مظاهر اليهودية في أورشليم انطلقوا انطلاق اللهب يبحثةن عن هذه المظاهر في المدائن والقرى: وكانوا أينما حلوا يخيرون الأهلين بين الموت والاشتراك في العبادات الهلنية وما تتضمنه من أكل لحم الخنازير المذبوحة على النصب(21). وأغلقت جميع الهياكل والمدارس اليهودية، وعُد جميع من يأبون الاشتغال في يوم السبت عصاة خارجين عن القانون. وأرغم اليهود في عيد باخوس أن يزينوا باللبلاب كاليونان أنفسهم، وأن يشتركوا في المواكب، وأن يُنشدوا الأناشيد الهمجية تكريماً لديونيشس. وصدع الكثيرون من اليهود بما أمروا به، وترقبوا أن تمر العاصفة، وفر كثيرون غيرهم إلى الكهوف أو المعاقل الجبلية النائية، وعاشوا على ما يلتقطونه خلسة من الحقول، وثبتوا على ممارسة أساليب الحياة اليهودية. وأخذ "المتقون" يطوفون بهم يدعونهم إلى الشجاعة والمقاومة. وعثرت شرذمة من جنود الملك على كهوف آوى إليها آلاف من اليهود-رجال ونساء وأطفال- فأمروهم بالخروج؛ فلما عصوا أمر الجنود وأبوا كذلك أن يزيلوا ما عساه أن يكون في مدخل الكهوف من الحجارة، لأن اليوم كان يوم السبت، أعمل فيهم الجنود النار والسيف، وقتلوا كثيرين من اللاجئين، واختنق الباقون بالدخان(22). وفي المدن قبض على النساء اللائي ختن من ولدن حديثاً من الأطفال وألقين هن وأطفالهن من فوق الأسوار(23). وما كان أشد دهشة اليونان من استمساك الأهلين بدينهم القديم، وذلك أنهم لم يروا من عدة قرون مثل هذا الإخلاص للرأي والاستمساك بالعقيدة. وكانت قصص الاستشهاد تتناقلها الألسن وتملأ بها الكتب، فضربت للمسيحيين أمثلة صادقة في الاستشهاد والشهداء. وهكذا أضحت اليهودية ديناً وقومية وثبتت قواعدها وتأصلت جذورها وآثرت العزلة لتحتمي بها من أعدائها.

وكان من بين اليهود الذين فروا وقتئذ من أورشليم متاثياس Mattathias من الأسرة الهشمونية Hasmonai من سبط هارون-وأبناؤه الخمسة يوحنن كاديس، وسيمون، وبوداس، والبزر، ويوناثان. ولما أقبل أبليز عامل أنتيوخوس إلى مودعين Modin التي لجأ إليها هؤلاء الستة، أمر أهلها أن يجحدوا "الشريعة" ويقربوا لزيوس. وجاء متاثياس الشيخ ومعه أبناؤه الخمسة وقال: "لو أن جميع سكان المملكة أطاعوا أمركم بالمروق من دين آبائهم لبقيت أنا وأولادي الخمسة مستمسكين بعهد آبائنا الأولين". ولما أن اقترب أحد اليهود من المذبح ليقرب القربان المطلوب ذبحه متاثياس بيده وذبح أيضاً مندوب الملك. ثم نادى في الشعب قائلاً: "من كان يغار على الشريعة، وأراد أن يؤيد العهد فليتبعني(24). فساروا وراءه هو وأبنائه كثيرون من القرويين حتى وصلوا إلى جبل إفرايم، حيث انضمت إليهم جماعة صغيرة من الشبان الثائرين ومن كان باقياً على قيد الحياة من "المتقين".

وبعد قليل من هذا الحادث توفي متاثياس بعد أن أوصى بأن يرأس أتباعه من بعده ابنه بوداس المعروف باسم مكابي . وكان بوداس هذا رجل حرب أوتي من الشجاعة ما أوتي من التقوى. وكان من عادته قبل أن يخوض أية معركة أن يصلي كما يصلي الأولياء المطهرون، حتى إذا خاض غمارها "كان كالأسد في سورته". وكان جيشه الصغير "يعيش في الجبال كما تعيش الوحوش، ويقتات بالأعشاب". ثم ينقض من حين إلى حين على إحدى القرى المجاورة ويقتل المارقين ويهدم مذابح الوثنيين و "إذا وجدوا أطفالاً لم يختتنوا أجروا لهم عملية الاختتان بشجاعة(25)". ونقلت هذه الأنباء إلى أنتيوخوس فسير عليهم جيشاً من السوريين اليونان وأمره أن يهدم حصن المكابيين. والتقى بهم بوداس في ممر إموس Emmaus وانتصر عليهم نصراً مؤزراً(166)، مع أن اليونان كانوا من الجنود المرتزقة المدربين أحسن تدريب والمسلحين أتم تسليح، بينما كانت فرقة بوداس يعوزها الكثير من السلاح والثياب. وسير أنتيوخوس عليهم قوة أخرى أكبر من القوة السابقة بلغ من ثقة قائدها بالنصر أن جاء معه بالنخاسين ليبتاعوا من كان ينتظر أسرهم من اليهود، ووضع في المدن لوحات بما يطلب فيهم من الأثمان(26). وهزم بوداس هذا الجيش في مزباح، وكانت الهزيمة حاسمة سقطت على إثرها أورشليم في قبضته دون مقاومة؛ فلما دخلها أخرج ما كان في الهيكل من مذابح وزينات وثنية وطهره ودشنه من جديد، وأعاد الصلوات القديمة إلى سابق عهدها وسط مظاهر الابتهاج من اليهود العائدين المستمسكين بالدين (164).

ولما تقدم ليسياس Lysias نائب الملك بجيش جديد ليسترد به العاصمة، شاع بين الجند أن أنتيوخوس قد مات -وكانت هذه الشائعة صادقة في هذه المرة (163). وأراد ليسياس أن يكون حراً في العمل في غير هذا الميدان فعرض على اليهود أن يترك لهم حريتهم الدينية الكاملة إذا ما ألقوا السلاح؛ فرضي بذلك "المتقون" ورفضه المكابيون، وأعلن بوداس أن بلاد اليهود لا تأمن على نفسها من الاضطهاد إلا إذا نالت استقلالها السياسي والديني جميعاً. وسكر المكابيون بخمرة النصر فبدؤوا أنفسهم يضطهدون أعداءهم، وينتقمون من الحزب المشايع لليونان في أورشليم وفي المدن المجاورة للحدود(27). وفي عام 161 هزم بوداس نيكانور Nicanor عند أداسا Adasa نفسه بأن عقد حلفاً مع رومة، ولكنه قُتل في تلك السنة نفسها وهو يحارب جيشاً أقوى من جيشه عند إلاسا Elasa. وواصل أخوه يوناثان الحرب بشجاعة عظيمة ولكنه قُتل هو الآخر عند عكا (143). ولم يبق بعدئذ من الأخوة الخمسة إلا سيمون، وقد استطاع بمعونة رومة أن ينال من دمتريوس الثاني في عام 142 اعترافاً باستقلال بلاد اليهود. وعين سيمون بمرسوم شعبي حاخاماً أكبر وقائداً عسكرياً، وإذ كان هذان المنصبان قد أصبحا وراثيين في هذه الأسرة فقد أضحى هو مؤسس الأسرة المالكة الحشمونية Hasmonean، وعدت أول سني حكمه بداية التاريخ الجديد، وصدرت عملة تعلن مولد الدولة اليهودية الجديدة.

هلننة التوراة

احتفظ اليهود وسط هذا الجو المضطرب الذي لف ذلك العصر بثقافتهم، وشاركوا في الأدب الخالد الذي أخرج في ذلك العصر. وإلى ذلك العصر تنتمي طائفة من أجمل أجزاء التوراه فقد ألف شاعر يهودي (أو ألفت شاعرة يهودية) قبيل اختتام القرن الثالث نشيد الإنشاد الجميل: في هذا النشيد كل ما حواه السفر اليوناني من سافو إلى ثيوقريطس من روعة فنية. وقد كتب اليهود الهلنستيون وقتئذ-بالعبرية أو الآرامية أو اليونانية-روائع خالدة كأسفار الجامعة، ودانيال، وأجزاء من الأمثال، والمزامير، والجزء الأكبر من الأسفار الإبوكريفية، كتبوا بعضها في أورشليم، ومعظمها في الإسكندرية، وبعضها الآخر في مدائن شرق البحر الأبيض المتوسط. وكتبوا تواريخ كسفر الأخبار وقصصاً صغيرة كإستر ويهوديت، وأناشيد للأسر كسفر طوبيت. وحول كبار العلماء الكتابة العبرية من النمط الآشوري القديم إلى النمط السوري المربع الذي احتفظت بهِ إلى اليوم(11). وإذ كان معظم اليهود في بلاد الشرق الأدنى يتكلمون وقتئذ الآرامية بدل العبرية، فقد أخذ علماؤهم يفسرون لهم الكتاب المقدس بترجمته إلى الآرامية، وافتتحت المدارس لدراسة أسفار موسى، والشريعة، وتفسير القوانين الأخلاقية للشبان الناشئين. وانتقلت هذه الشروح والتعليقات، والإيضاحات من المعلم إلى الطالب جيلاً بعد جيل، فكان منها في العصور التالية معظم المادة التي احتواها التلمود.

وقبل أن يُختتم القرن الثالث كان علماء المجمع العظيم قد فرغوا من نشر الأدب القديم كله وانتهوا من كتب العهد القديم(12). وقد حكموا في ذلك الوقت أن عصر الأنبياء قد انقضى وأن الوحي اللفظي قد انتهى زمنه، وكانت نتيجة هذا الحكم أن كثيراً مما كُتب في ذلك العصر وإن كان مليئاً بالحكمة والجمال لم تُتح له فرصة السند الإلهي، فكان نصيبه أن يصبح جزءاً من أسفار الأبكريفا المنكودة . ولعل بعض أسفارهما مدينة بروعتها الأدبية إلى براعة المترجمين في عهد الملك جيمس، ولكن هؤلاء المترجمين لا يمكن أن يكونوا أصحاب الفضل في تلك العبارات المؤثرة التي تصف سؤالاً للملك أوريل أن يفسر كيف يفلح الخبيثون ويعذب الصالحون؟ وكيف تكون إسرائيل أسيرة ذليلة، فيجيب الملك، بتشبيهات ومجازات قوية ولكن في عبارات سهلة بسيطة أن ليس من حق الجزء أن يفهم الكل أو يحكم عليه.

وتقول مقدمة سفر الحكمة إن هذا السفر ترجمة يونانية تمت في عام 132 لأحاديث باللغة العبرية كتبها يسوع بن سيراك جد المترجم قبل ذلك الوقت بجيلين. وكان يسوع بن سيراك هذا عالماً ورجلاً من رجال الأعمال، رأى بعض أحوال العالم في خلال أسفاره ثم استقر في بلده واتخذ منزله مدرسة للطلاب، وألقى عليهم هذه الأحاديث يبين لهم فيها حكمة الحياة(13). وهو يندد فيها بأغنياء اليهود الذين خرجوا على دينهم ليكون لهم شأن في عالم الكفار؛ ويحذر الشبان من العاهرات والواقفات لهم بالمرصاد في كل مكان، ويعرض عليهم شريعة موسى ويصفها بأنها لا تزال خير هادٍ لهم وسط شرور العالم ومزالقه. ولكنه ليس بالرجل المتزمت في دينه فلا ينحو نحو "المتقين" بل يجد كلمة طيبة يقولها ليدخل بها السرور البريء على قلب محدثه، وهو يندد بالمتصوفين الذين يرفضون الدواء بحجة أن المرض مرسل من عند الله، وأنه لذلك لا يشفيه إلا الله وحده. والكتاب مليء بالحكم أشهرها كلها الحكمة التي تجمع بين الطفل والعصا. ويقول رينان Renan إن "السياط التي يبررها ضاربوها بهذه الحكمة ليُخطئها الحصر بلا ريب(14)". والحق أن هذا السفر العظيم وأنه أكثر حكمة ورأفة من سفر الجامعة.

وقد ورد في الإصحاح الرابع والعشرين من سفر الحكمة أن "الحكمة أول ما أوجده الله، فقد خلقها من بداية العالم". وفي هذه الإصحاح وفي الإصحاح الأول من سفر الأمثال نجد أقدم صورة من صور نظرية "الكلمة"-أي الحكمة-بوصفها خالقاً وسطاً عهد إليها الله تنظيم العالم. وتشخيص الحكمة بهذه الصورة أي جعلها ذكاءً مجسداً يصبح من المبادئ الرئيسية ذات الشأن في الدين اليهودي خلال القرون السابقة لظهور المسيح مباشرة. وإلى جانب هذا ترى فكرة الخلود الشخصي تزداد وضوحاً شيئاً فشيئاً. وفي كتاب أخنوخ الذي كتبه على ما يظهر عدد من الكتاب المختلفين في فلسطين بين عامي 170،66 قبل الميلاد يصبح الأمل في ملكوت السماوات حاجة أساسية؛ وسبب ذلك أن ما يناله الأشرار من خير وفلاح وما يلقاه الأتقياء والصالحون والأوفياء من سوء المصير لم يعد يُستطاع تحمله إلا إذا عمرت صدور الناس بهذا الأمل. وقد بدا للناس أن الحياة والتاريخ إذا تجردا من هذا الأمل كانا من عمل الشيطان لا من فعل الله. وسينزل مسيح يقيم مملكة السماء في الأرض ويجزي المتقين بالسعادة السرمدية بعد الموت.

ويعبر سفر دانيال عما كان يسود عهد أنتيوخوس الرابع من هول ورعب. فقد حدث حوالي عام 166 حينما كان المؤمنون يُعذَبون ويقتلون لتمسكهم بدينهم، وكان الأعداء المتزايدون يهاجمون المكابيين، أن أخذ أحد "المتقين" على الأرجح على نفسه أن يستثير شجاعة الشعب بأن يصف له ما لاقاه دانيال من العذاب، وما نطق به من التنبؤات في بابل أيام نبوخذنصر. وتداولت أيدي اليهود في السر نسخاً من هذا الكتاب، وقيل عنه إنه من وضع نبي من الأنبياء عاش قبل ذلك العهد بثلاثمائة وسبعين عاماً، وإنه لاقى ألواناً من العذاب أشد مما لاقاه أي يهودي في عصر أنتيوخوس، وإنه خرج منها ظافراً، وتنبأ بأن شعبه سينال من النصر مثل ما ناله هو، وقال إنه إذا كان الصالحون والمؤمنون لم يلقوا ما هم خليقون بهِ من السعادة في هذا العالم، فسوف ينالون جزائهم الأوفى يوم الحساب، حين يُدخلهم الله في ملكوت السموات لينعموا فيها بالسعادة السرمدية ويُلقي بمن عذبوهم في الجحيم الأبدي.

وجملة القول أن ما بقي من كتابات اليهود في ذلك العهد يمكن وصفه بأنه أدب صوفي خيالي يهدف إلى تعليمهم وتقوية روحهم ومواساتهم. لقد كانت الحياة نفسها كافية لليهود الذين عاشوا قبل ذلك العهد، ولم يكن الدين وقتئذ طريقاً للفرار من العالم، بل كان تمثيلاً مسرحياً للأخلاق بِشِعر الأيمان، يصور لهم إلهاً قديراً يحكم كل شيء ويرى كل شيء، يثيب على الفضيلة ويعاقب على الرذيلة في هذه الحياة الدنيا. ثم زعزع "الأسر" هذه العقيدة، وجددتها إعادة بناء الهيكل، ثم حطمتها ضربات أنتيوخوس. ووجد التشاؤم الآن الميدان فسيحاً أمامه، ورأى اليهود في كتابات اليونان أفصح تعبير عن مظالم الحياة ومآسيها. وكان اتصال اليهود في هذه الأثناء بأفكار الفرس عن الجنة والنار، وعن الكفاح بين الخير والشر، وانتصار الخير في آخر الأمر، كان هذا كله مما يسر لهم الفرار من فلسفة اليأس؛ ولعل أفكار الخلود التي انتقلت من مصر إلى الإسكندرية، والأفكار التي قامت عليها طقوس اليونان الخفية، لعل هذه وتلك قد تعاونت على أن تبعث في قلوب اليهود في العصرين اليوناني والروماني ذلك الأمل الذي أبقى على كيانهم خلال الحادثات التي مرت بالهيكل والدولة. ومن هؤلاء اليهود، ومن المصريين، والفرس، واليونان، سرت فكرة الثواب والعقاب الأبديين إلى دين جديد أقوى من دين اليهود، وأعانت هذا الدين على أن يضم تحت لوائه عالَماً كان سائراً في طريق الانحلال.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

انظر أيضاً

المصادر

ديورانت, ول; ديورانت, أرييل. قصة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود.

للاستزادة

  • Jüdische Schriften aus hellenistisch römischer Zeit, hrsg. von W.G. Kümmel und H. Lichtenberger, Gütersloh 1973ff.
  • Gerhard Delling: Die Begegnung zwischen Hellenismus und Judentum, in: Aufstieg und Niedergang der römischen Welt, Bd. II 20.1 (1987).