الوضعية المنطقية
الوضعية المنطقية الوضعية المنطقية logical positivism اتجاه في الفلسفة العلمية منبثق من الوضعية ظهر في القرن العشرين، يعول أساساً على التجربة تحقيقاً للدقة والبناء المنطقي للمعرفة العلمية بهدف تنظيم المعرفة داخل نسق «وحدة العلم» كي يزيل الفروق بين فروع العلوم المختلفة بدعوى أنه لا يمكن قيام فلسفة علمية أصيلة إلا بوساطة التحليل المنطقي للعلم. وقد أطلق على هذه الفلسفة أسماء عديدة منها: التجريبية العلمية والتجريبية المنطقية وحركة وحدة العلم والتجريبية المتسقة، والفلسفة التحليلية. وقد تولد منها وضعيات أخرى مثل الوضعية المنطقية في علم الأخلاق والسياسة الوضعية، وتأثرت بها عدة فلسفات معاصرة مثل البراغماتية[ر] «الذرائعية».
والوضعية المنطقية اسم أطلقه بلومبرغ Blumberg وفايغل Feigl عام 1931 على مجموعة الأفكار الفلسفية التي تميزت بها جماعة ڤيينة[ر] Vienna Circle، بزعامة مؤسسها موريس شليك [ر] Schlick عام 1924، مع جمع من العلماء الرياضيين والفيزيائيين والفلاسفة الذين تبنوا هذا الاتجاه. مع أن الوضعية بدأت في ڤيينا، وأحرزت تقدماً سريعاً؛ فإنها لم تستمر بها، وانتهت بمقتل شليك عام 1936 ومغادرة أعضائها إلى بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية بسبب محاربة النازية لهم. ولكن تأثير الوضعية لم ينته بالقضاء على جماعة ڤيينة، إذ أصبح معقل الوضعية المنطقية في الولايات المتحدة؛ لتوجد في صورة معدلة إلى حد كبير إذا ما قورنت بزمن جماعة ڤيينة، وعُرفت هناك بالتجريبية المنطقية، وضمن صيغة الفلسفة التحليلية اكتسبت فاعلية كبرى في إنكلترا؛ وهكذا أعيد غرس الوضعية المنطقية في البلدان الناطقة بالإنكليزية، وحمل لواءها على نطاق واسع في إنكلترا ألفريد آير [ر] Ayer بكتابه «اللغة والصدق والمنطق» (1936). فارتبطت الوضعية مرّة أخرى بالتراث القديم للتجريبية البريطانية التي عدتها رائدة الفلسفة العلمية الحديثة، فحظي فلاسفتها أمثال بيكون[ر] ولوك[ر] وهيوم[ر] بتقدير أنصارها.
استمدت الوضعية المنطقية تراثها الأول من الفيلسوف الفرنسي أوغست كونت[ر] Auguste Comte، ومن مل[ر] Mill وسبنسر[ر] Spencer في إنكلترا. بيد أنها لا تدين لهم بالقدر الذي تدين به للوضعية المحدثة neo-positivism التي وضعها الفيلسوف النمساوي إرنست ماخ وهنري بوانكاريه Henri Poincaré وآينشتاين[ر] Einstein. وكان منطقها من الناحية التاريخية هو منطق فريغه[ر] Frege ورسل[ر] Russell. لكن التأثير القوي والمباشر في نشوء الأفكار الأساسية للوضعية المنطقية وتبلورها جاء من كتاب ڤتغنشتاين[ر] Wittgenstein «رسالة منطقية فلسفية» Tractatus Logical Philosophic ت(1922)، الذي لم يكن عضواً في جماعة ڤيينة، لكنه كان ظهيراً لكثير من مناقشاتها، وأيضاً كتاب كارناب[ر] Carnap «البناء المنطقي للعالم» The Logical Construction of the World عام (1928)، الذي كان بمنزلة البيان الفكري لتيار الوضعية المنطقية.
ومن أهم أعلامها ڤتغنشتاين وفلاسفة «حلقة ڤيينة»، وأبرزهم كارناب وهانس هان Hans Han وأوتو نويرات[ر] Otto Neurath وفيليب فرانك Philip Frank وماخ وفريدريش ڤَايزمَن Freidrich Waismann وفِليكس كاوفمن Felix Kaufmann وكورت غودل [ر] Kurt Godel وكارل مينغر Karl Menger وفيكتور كرافت Victor Kraft، وقد ذاعت دعوتها حركة عالمية، وانشدّ إليها كثير من الفلاسفة في أوربا وبريطانيا وأمريكا، وكان أهمهم: هانس رايشنباخ[ر] Hans Reichenbach وريشارد فون ميزِس Richard von Mises وكورت غرلِّنغ Kurt Grelling وكارل هِمبل Carl Hempel وألفرِد تارمسكي Alfred Tarmeski وغيلبرت رايل Gilbert Ryle وألفرِد آير وإرنست ناغل Ernst Nagel وتشارلز موريس Charles Morris الذي عمل مع نويرات وكارناب على إصدار «الموسوعة الدولية للعلم الموحد» International Encyclopedia of Unified Science، في شيكاغو.
والأسس التي تقوم عليها الوضعية هي تحليل النظرية العلمية وتوحيد لغة العلم وتوحيد العلوم كلها في فلسفة علمية تشملها جميعها، ونبذ جميع قضايا الميتافيزيقا واللاهوت بوصفها ثرثرة لفظية فارغة وتضييق نطاق الفلسفة بقصر مهمتها على ربط اللغة بالتجربة ربطاً علمياً وصياغة الواقع الخارجي صياغة منطقية باستخدام أسلوب التحليل المنطقي، إضافة إلى تحليل اللغة والعلاقات بين المعاني. ويقترن تأكيدها للملاحظة التجريبية بالأخذ بمعيار للمعنى يتمثل في «مبدأ قابلية التحقق» principle of verification فمعنى القضية هو طريقة تحققها. وبتركيز الوضعية المنطقية على مشكلة المعنى طورت مبدأ التسويغ justification، وهذا يعني أن شيئاً ما يصير ذا معنى إذا كان مسوّغاًً بمنهج علمي.
وهدف الوضعية من ذلك هو تقريب الفلسفة من العلم عبر التحليل الذي اتخذته الوضعية المنطقية منهجاً، وله شكلان مختلفان هما أولاً: التحليل اللغوي للغة الحياة العادية باتجاهها الأول الذي وقع تحت تأثير كارناب وڤتغنشتاين المبكر «رسالة منطقية فلسفية»، والذي يرى أن العلة ناتجة من أن اللغة المستعملة غير منطقية، ومثله مدرسة كمبريدج: ويزدَم Wisdom وبول Boole؛ واتجاهها الثاني الذي يعتمد مؤلفات ڤتغنشتاين المتأخرة (خاصة مباحث فلسفية) أساساً له، فيرى أن العلة في اللغة متأتية من استعمال الكلمات في غير موضعها، وقد تبنى هذا الاتجاه مدرسة أوكسفورد التحليلية، وعلى رأسهم أوستن Austin، وفي أمريكا تشومسكي N.Chomsky وكاتس J.Katz. وثانياً: تحليل اللغة العلمية لبناء لغة صناعية artificial language تكون بمثابة أنموذج عام للغة العلم.
لقد رفضت الوضعية المنطقية الميتافيزيقا وخصائصها ومنهجها العقلي استناداً إلى معيارها مبدأ التحقق الذي صاغه شليك بتأثير كتاب ڤيتغنشتاين «رسالة منطقية فلسفية»، حيث لا يكون للقضية معنى إلا بإمكانية تطبيقها تجريبياً، بيد أن أنصار الوضعية اختلفوا في ما بينهم بشأن تطبيق هذا المبدأ، فمنهم من يرى أن الاختبار يكون بالرجوع إلى الخبرة المباشرة (شليك) ومدى انطباقها على الواقع، ومنهم من يرى أن اختبار قضايا العلم يكون باتساقها مع قضايا أخرى حسب نظرية الاتساق في الصدق، كما يرى نويرات في قضايا «البروتوكول» protocol proposition، وبهذا استبعدوا من قضايا العلم كل ما ليس له مطابقة مع الواقع، وقسموا أنواع القضايا إلى قسمين:
ـ قضايا تحليلية قبلية a priori كقضايا العلوم الرياضية التي تعدّ تحصيل حاصل tautology، ويتمثل هذا النوع بقضايا العلوم الصورية (المنطق والرياضيات)، ومعيار الصدق فيها اتساق الفكر مع نفسه أو قانون عدم التناقض.
ـ قضايا تركيبية بعدية a posteriori وهذا النوع من القضايا يتمثل بالعلوم الطبيعية والتجريبية، وهي بعدية تكتسب بالتجربة، ومعيار الصدق فيها اتساقها مع الواقع أو العالم الخارجي، فأيّ عبارة أو قضية لا يمكن التثبت منها بالتجربة ليس لها معنى، ومن ثم فإن أيّ قضية خارج هذين النوعين من القضايا ليست علمية لأنه ليس لها معنى. وبهذا أصبح معيار التحقق جزءاً من نظرية المعنى theory of meaning، فيكون للجملة معنى حرفي فقط إذا كانت تعبّر عن قضية تحليلية أو قضية ممكنة التحقق تجريبياً. وقد ترتب على ذلك رفض الوضعية لقضايا الميتافيزيقا الماورائية لأنها خارج هذين النوعين، فهي مستحيلة التحقق لخلوها من المعنى. كذلك هي الحال مع قضايا الأخلاق، فهي لا تندرج ضمن أيّ من النوعين، إنها أشباه قضايا، بل هي قضايا معيارية، وعباراتها إنشائية، فارغة من المعنى، لا يمكن الحكم عليها بالصدق أو الكذب لأنها على حد قول كارناب: «لا تقول أي شيء، ولا يمكن إثباتها أو نفيها»، مع ذلك تقر الوضعية بوجود علم للأخلاق يبحث في الأفعال الإنسانية، وينتمي إلى العلوم التجريبية، إلى علمي النفس والاجتماع لا الفلسفة، وعليه تسعى الوضعية إلى إقصاء علم النفس عن دائرة الفلسفة وضمه إلى باقي العلوم التجريبية.
تعرضت الوضعية المنطقــية لانتقادات عديدة بسبب مبدأ التحقق؛ فقد فرّق آير بين التحقق القوي وبين التحقق الضعيف، وانتصر لمبدأ التحقق الضعيف، فأنكر على الخبرة المباشرة طابع اليقين المطلق على النتائج، وجعلها احتمالية الصدق؛ بمعنى أن للعبارة معنى إذا حققت لها التجربة صدقاً احتمالياً. تماماً كما ذهب إليه كارل بوبر [ر]Karl Popper ت(1902ـ1994) بتعذر تحقيق اليقين التام للقضية في الخبرة التجريبية، فكل ما يمكن أن تؤديه الخبرة هو التقرب أكثر فأكثر من الصدق، ولهذا وضع بوبر مبدأ قابلية التكذيب falsification مرتبط بزيادة المحتوى التجريبي، فالفرضية التي يكون محتواها التجريبي أكثر هي فرضية بسيطة، ويمكن تكذيبها بسهولة دون أن يعني ذلك أن مبدأ قابلية التكذيب هو انعكاس أو نفي لمعيار التحقق؛ لأن ملايين الوقائع المؤيدة لا تثبت صدق النظرية صدقاً مطلقاً في حين يمكن لواقعة واحدة معارضة للنظرية أن تكذبها، وهذا ما يسميه بوبر بالتماثل المنطقي بين القابلية للتكذيب والتحقق. فالعبارة غير القابلة للتكذيب هي غير علمية، لكن لها معنى أقرب إلى الصدق من أيّ عبارة أو فرضية أخرى، في حين أن العبارة نفسها في معيار التحقق غير علمية، وليس لها معنى، وهذا ما دعا كارل همبل لرفض مبدأ التحقق التام بسبب ارتباطه بالاستقراء.
كذلك انتقد نويرات معيار التحقق بدعوى أنه ليست كل معرفة تكتسب بالملاحظة والتجربة، فالاستقراء الذي هو منهج العلوم الطبيعية عند الوضعيين يعتمد على الحتمية[ر] والسببية[ر] مع أنها لا تكتسب بالتجربة، كما أن الرياضيات لا تمت بصلة إلى التجربة، ولا تعتمد أيّ خطوة من خطواتها على التجربة، وهذا خطأ صريح وقعت به الوضعية من حيث تدري ولا تدري. ولهذا فإن الحملة التي شنتها الوضعية على الميتافيزيقا غير كافية من الناحية الفلسفية لأنها لم تتوصل إلى رفضها للميتافيزيقا بطريقة مقنعة. لقد استبعدت الوضعية جميع المعارف الإنسانية، الشعر والتأريخ، وليس الفلسفة فحسب، فتحولت وفق منظور المنطق الوضعي إلى عملية تحليل منطقي لكيفية التكوّن المفهومي للعلم.
ظهر للوضعية المنطقية أصداء مؤيدة في الفكر العربي الفلسفي المعاصر، وتأثر بها زكي نجيب محمود، وناصر قضاياها، وأعلن صراحة التزامه مبادئها في معظم كتبه «المنطق الوضعي» (1953) و«نحو فلسفة علمية» (1958)؛ لأنه وجد أن «أقرب الاتجاهات الفلسفية إلى جانب العلم وجانب العقل من الحضارة الراهنة هو اتجاه الوضعية المنطقية».
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المصادر
سوسن بيطار
انظر أيضاً
People |
InstitutionsOther philosophical movements
|