العلاقات الكنسية الإثيوبية المصرية
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
زيارة الأنبا متاوس لمصر 1902
تعتبر زيارة الأنبا متاوس لمصر أول زيارة يقوم بها مطران كنيسة أثيوبيا إلى بلده، ومع أن لهذه الزيارة جانبا دينيا (4). فان لها أيضا جانبا سياسيا ، وهو تأكيد السلام والعلاقات الطيبة بين مصر وأثيوبيا. فقد حمل هذا المطران في زيارته هذه في أوائل سنة 1902 رسالة ود من منليك الى خديوي مصر عباس حلمي الثاني وهدية تؤكد السلام بين البلدين. وقد ذكر بها التعريف بالمطران وسبب زيارته لمصر وهو الرغبة في مشاهدة بلده وأهله ورئيسه الديني (البطريرك). وطلب منليك أن، يشمل خديوي مصر الأنبا متاوس برعايته حتى يعود إلى أديس أبابا سالما (5). كذلك بعث منليك برسالة تحمل نفس المعاني إلى معتمد بريطانيا في مصر اللورد كرومر (6).
وقد ينفي البعض الجانب السياسي لهذه الزيارة، وانما اقتصرت على الجانب الديني فقط، الا أن السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا اذن مقابلة الخديوي واللورد كرومر . والاستقابل الرائع الذي استقبل به من جانب المسئولين في الحكومة المصرية وسلطات الاحتلال البريطاني؟ والتي تتعارض مع استقبال رجل دين وتتفق مع مبعوث دولة صديقة لمصر وبريطانيا (7). فقد كان في استقباله محافظ القنال والسويس، كما خصص له قطار حمله الى القاهرة حيث كان في انتظاره مندوب من الخديوي وآخر من اللورد كرومر وثالث من الحكومة المصرية، وبعد ان انتهت مراسيم الاستقبال ذهب الى السراي التي خصصتها له البطريركية في مهمشة في موكب ضخم وفخم (8).
وفي 8 فبراير استقبل الخديوي والنظار في قصر عابدين مطران أثيوبيا استقبالا رسميا، مما يؤكد أنه يستقبل مبعوثا سياسيا يمثل امبراطور دولة صديقة. وقد احتفى الخديوي بضيفه الذي أعرب له عن شكره لهذه الحفاوة وأبلغه سلام الامبراطور منليك وقدم له نيشان "كوكب الكرامة" من الدرجة الأولى، وهو أكبر نيشان في أثيوبيا أهداه منليك للخديوي تقديرا منه لمحبته الصادقة له، وقد أعرب الخديوي عن سروره، وأبلغ المطران بأنه على أتم استعداد لمساعدته على بلوغ ما يريد، كلفه بتبليغ سلامه وامتنانه للامبراطور (9). كما قدم المطران النياشين الى كل من مصطفى باشا فهمي رئيس مجلس النظار وبكرس باشا غالي ناظر الخارجية والى غيرهم من رجال الدولة العاملين في الحكومة المصرية، كما تبادل المطران معهم الزيارة حيث عبر كل منهم عن العلاقات الطيبة بين البلدين (10).
وبالرغم من أنه قيل أن توزيع هذه النياشين على هؤلاء كان بهدف الحصول على تأيديهم في النزاع الدائر في ذلك الوقت بين أقباط مصر والأثيوبيين حول دير السلطان، وقد يؤكد ذلك أنه بالرغم من توتر العلاقات الدينية بين اثيوبيا والكنيسة المصرية بل وقطعها، إلا أن ذلك لا يمنع من أن العلاقات السياسية بين مصر وأثيوبيا كانت طيبة ولم تتأثر بتدهور العلاقات الدينية هذه. ومع ذلك فان توزيع هذه النياشين لا يتعارض مع كون هدفها الحصول على هذا الدير أيضا (11). ولم يقتصر الترحيب بمطران أثيوبيا على الخديوي وحكومته، بل رحبت أيضا المعتمدية البريطانية واللورد كرومر وحكمدار السودان الذي كان موجودا في القاهرة وقت زيارة المطران (12)، مما يؤكد أن زيارة المطران هذا كان لها جانب سياسي تهدف من ورائه مصر وبريطانيا الى تدعيم العلاقات بينهما وبين أثيوبيا بل والسودان أيضا. وقد أنعم الخديوي على الأنبا متاوس بالنيشان المجيدي الأول، والنياشين المختلفة على كبار رجال حاشيته (13) وارسل معه رده على رسالة منليك، الذي تضمن ابلغ عبارات الود والصداقة والشكر على النيشان الذي أهداه له (14). وبعد ان انتهت زيارة مطران أثيوبيا لمصر عاد الى أثيوبيا في أواخر شهر ديسمبر سنة 1902 (15).
اهتمام الحكومة المصرية بتعيين المطران المصري لكنيسة أثيوبيا
ظلت الحكومة المصرية لا تتدخل في العلاقات الدينية بين الكنيسة المصرية وكنيسة أثيوبيا، وكانت تنظر دائما الى المسائل المتعلقة بأثيوبيا بأنها من اختصاص الكنيسة المصرية واعتقد البعض من كبار الأقباط وكنيستهم أن الشئون الخاصة بأثيوبيا هي أمر يخصهم. لذلك عندما أثيرت مشكلة دير السلطان في البرلمان وعلى يد أحد النواب المسلمين – والذي كان أول صوت يرتفع في مجلس النواب في هذه المشكلة وفي أمر العلاقات الدينية بين الكنيسة المصرية وأثيوبيا – واجه نقدا شديدا لأنه أولا هذه مسألة دينية يقتصر أمرها على الأقباط، فمن الجرأة في نظرهم أن يعني بها عضو مسلم وثانيا أن المجلس كان بعد عدد من الأقباط كانوا أولى بالاهتمام بها منه، وربما جال في ذهنهم شيئا من هذا ولكنهم امتنعوا عنه وتركوه لكنيستهم، لذلك كانت دهشتهم بالغة عندما تدخل زميلهم "عبد اللطيف سعودي" وأثار المشكلة، على أن كثيرا من الأقباط رحبوا باثارة هذه المشكلة لعلها في ذلك تجد حلا وتحفظ العلاقات بين الكنيستين وبالتالي بين مصر وأثيوبيا (154).
حقيقة أن هذه المشكلة لم ولن تحل عن طريق البرلمان الا أن إثارتها في البرلمان كانت تنبيها للحكومة المصرية والرأي العام المصري بضرورة الاهتمام بالعلاقات المصرية الأثيوبية بصفة عامة والدينية بصفة خاصة، وبالفعل بدأ هذا الاهتمام من كليهما، مع أثيوبيا فأنشأت قنصلية لها في أديس أبابا وبدأت تعمل على حل مشكلة تعيين مطران مصري لكنيسة أثيوبيا.
وكانت الحكومة المصرية قد بدأت تدرك خطورة تأخير تعيين المطران المصري لكنيسة أثيوبيا،وخصوصا عندما بلغها وجود حزب في أثيوبيا يسعى الى الاستقلال بكنيسة بلاده، وأنهم فشلوا في تتويج الرأس تفري ملكا على يد مطران الروم الأرثوذكس وأن هناك حزبا آخر لا يرغب في الانفصال وطلب من الكنيسة المصرية سرعة تعيين المطران الذي يستطيع بعمله أن يعيد نفوذ الكنيسة المصرية في أثيوبيا الى مكانته ويعزز العلاقة بين الكنيستين. لذلك اهتمت الحكومة المصرية بتدعيم هذه الرابطة الدينية بين البلدين، والتي كانت الرابطة الوحيدة في ذلك الوقت، وأعربت للقائمين على الأمور في الكنيسة المصرية في سنة 1927 والذي في يده فقط سلطة تعيين مطران أثيوبيا وذلك حتى لا يتأخر تعيين الآخر كثيرا (155).
وبعد انتخاب البطريرك الأنبا يؤانس التاسع عشر، عقد في أوائل شهر يناير 1929 اجتماع برياسة في الدار البطريركية. حضره حافظ عفيفي بك وزير الخارجية والقنصل الجديد فرج موسى، بالاضافة الى كبار رجال الدين الأقباط. وقد أعرب وزير الخارجية في هذا الاجتماع عن اهتمام حكومة الملك فؤاد بحل المسائل المعلقة بين الكنيسة المصرية وكنيسة أثيوبيا في اقرب وقت، للمحافظزة على العلاقات الودية بين البلدين وضرورة سرعة انتخاب مطران أثيوبيا طبقا لرغبة حكام أثيوبيا، وقال أيضا الحكومة المصرية لا تنظر الى هذه المسألة باعتبار أنها مسألة طائفية أو دينية. بل باعتبار انها مسألة قومية ذات تأثير في العلاقات بين البلدين، وهي علاقة تحرص الحكومة المصرية على دوامها، وذكر أن الحكومة على استعداد تام لبذل كل ما يطلب منها بذله من المساعدة لتسهيل التفاهم بين الاثيوبيين والكنيسة المصرية على هذه المسألة (156)، وواضح أن الحكومة المصرية – من خلال حديث وزير الخارجية – تخلت عن سبيلها ورغبت في تحمل مسئوليتها.
وفي هذا الاجتماع تم بحث المشكلة من جميع زواياها، وعرض يوسف باشا سليمان الموضوع وتطوراته أمام وزير الخارجية، وبعد مناقشات طويلة استمرت ساعة ونصف مع الوزير، ثم استمرت ما يقرب من ساعة بعد انصرافه – استقر رأي المجمتعين على أن يرسل البطريرك برقية الى الملك تفري (157). ولقد رفع وزير الخارجية تقريرا عن هذه الجلسة وما تم فيها الى رئيس الوزراء، لأخذ رأيه والسير بارشاداته، وقد وافق الأخير على ارسال هذه البرقية الى اثيوبيا (158).
وظلت الحكومة المصرية تتابع الموقف تماما، وذلك عندما وصل وزير المعارف الأثيوبي بلاتن جيتاسهلا سيدالو ليتفاوض مع البطريرك والكنيسة المصرية (159). وعندما تم الاتفاق بين الكنيستين، أرسل قنصل مصر في أثيوبيا برقية الى وزارة الخارجية المصرية يخبرها فيها بقدوم الوفد الأثيوبي الذي سيرافق المطران المنتخب ومعه الرهبان الذين سيرسمون أساقفة في بلادهم. أو بعبارة أخرى أن المشكلة التي كانت بين الكنيستين قد تم حلها وهدية الى البطريرك (160). كما قابل البطريرك ملك مصر وقدم له رئيس الوفد الأثيوبي ووزير المعارف الأثيوبي. ويبدو أن هذه المقابلة كانت لاشعار الملك بأن كل شيء على ما يرام بين الكنيستين (161). كذلك قام البطريرك ومعه المطران الجديد لكنيسة أثيوبيا والأساقفة الأثيوبين بعد رسامتهم، بزيارة محمد محمود باشا رئيس مجلس الوزراء فهنأهم الأخير بتوليتهم مناصبهم هذه، وكان يرافقهم يوسف باشا سليمان والوزيران الإثيوبيان (162). وكانت زيارة البطريرك هذه ردا للزيارة التي قام بها رئيس مجلس الوزراء عندما تم الاتفاق بين الكنيستين، وذلك لتهنئة البطريرك على حل مشكلة تعيين المطران بما يؤكد استمرار سيادة مصر الدينية على أثيوبيا (163). وقد أعرب الراي العام المصري عن سعادته لحل هذه المشكلة التي أبقت العلاقات الودية بين البلدين (164).
وبالرغم من انتهاء هذه المشكلة، فقد تابع الملك فؤاد تطور العلاقات الدينية فوافق على زيارة البطريرك لأثيوبيا، والتي قام بها في مطلع عام 1930 بهدف تدعيم العلاقات الدينية وازالة كل ما قد يكون علق في النفوس من جانب كلا من الطرفين، كما حمل الملك فؤاد البطريرك تمنياته الطيبة الى حكام أثيوبيا (165). وعندما عاد البطريرك الى مصر بعد انتهاء رحلته في أثيوبيا قابل ملك مصر وأبلغه تحيات حكام أثيوبيا وذكر له ما كان لزيارته من وقع عظيم في نفوس الأثيوبيين، فأعرب الملك له عن ارتياحه الى نتائج هذه الزيارة لاعتقاده أن العلاقات الدينية قد عادت الى ما كانت عليه ولم يدرك أبعاد الخطة التي وضعها الملك تفري للاستغلال الذاتي لكنيسته عن الكنيسة المصرية (166).