النهضة الوطنية الألبانية
تاريخ ألبانيا |
قبل التاريخ
القـِدم
العصور الوسطى
ألبانيا العثمانية
بعد الاستقلال
ألبانيا المعاصرة
|
النهضة الوطنية (ألبانية: Rilindja Kombëtare) تشير إلى الفترة من تاريخ ألبانيا بين 1831 حتى إعلان الاستقلال في 1912. وتبدأ بعد سقوط الپاشاليك الألبان شبه المستقلين في يوانينا وشكودر.
في 20 ديسمبر 1912 اعترف مؤتمر السفراء في لندن بألبانيا المستقلة.[1]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بزوغ الوطنية الألبانية
كانت الحركة القومية الألبانية فريدة في نوعها بالمقارنة مع الحركات القومية التي سبق أن عرضنا لها على الأقل فيما يتعلق بزعمائها قبل عام 1912 الذين لم يكونوا يرغبون في الإنفصال عن الدولة العثمانية, كما لم يكونوا يتطلعون لإقامة دولة مستقلة, بل على العكس كانوا يخشون في حالة سقوط الدولة العثمانية أن يتم توزيع بلادهم بين جيرانهم,ومن هنا كانوا يرون أن التمتع بالحكم الذاتي في إطار الدولة العثمانية خير ضمان للمحافظة على شخصيتهم القومية.
والحقيقة أن موقف الألبان هذا أمكن فهمه عندما بدأت مشكلة الألبان المعقدة محل نظر وإعتبار القوى الدولية. فقد كانوا يمثلون قومية واحدة ويتكلمون لهجات من لغة واحدة,وينقسمون بين مجموعتين رئيسيتين هما: الجيجيون Gegs, والتوشكيون Tosks, وتسود بينهم ثلاثة مذاهب دينية: الإسلام, والأرثوذكسية, والكاثوليكية. وكان الجيجيون وهم أغلبية السكان يعيشون في النصف الشمالي للبلاد وسكان الجبال منهم يعيشون حياة قبلية قوية ومحافظون بطبيعة الحال, وليس لهم إتصال بالخارج إلا قليلاً. أما التوشكيون فكانوا على العكس يتركزون في جنوب البلاد وكانت لديهم فرص كثيرة للإتصال بشعوب أخرى أو الهجرة من البلاد,وكان معظمهم من الفلاحين الذين كان عدداً كبيراً منهم يعمل في زراعة أراضي كبار ملاك الأراضي من الألبان في الغالب الأعم.
وبعد الغزو العثماني لألبانيا إعتنق معظم أهاليها الإسلام وفي عام 1914 بلغت نسبة المسلمين منهم 70% ونسبة الأرثوذكس 20% والكاثوليك 10%. وكان الكاثوليك الذين يعيشون في مناطق السواحل جهة الشمال على صلة بجيرانهم في إيطاليا والنمسا. أما الأرثوذكس الذين يتركزون في الجنوب فكانوا بطبيعة الحال على إتصال وثيق بالبطريركية (اليونانية) وأكثر خضوعاً لتأثير الثقافة اليونانية. وأما المسلمون الأغلبية فكانوا يحظون بالمواقع الوظيفية المهمة في البلاد وكان إعتناق الإسلام في ألبانيا قد أخذ نفس النموذج الذي حدث في البوسنة والهرسك إلى حد ما, فقد قبلته الأرستقراطية الزراعية من كبار ملاك الأراضي الزراعية للمحافظة على مكانتها السياسية والإقتصادية, كما تحول الفلاحون إلى الإسلام. وبينما إنتمى معظم المسلمين الجيجين إلى مذهب السنة المحافظة كان التوشكيون من السنة المتصوفة على الطريقة البكتاشية. وكان أولئك السنة يقفون بقوة إلى جانب المحافظة على التقاليد العثمانية والولاء للسلطان وأقل تأثراً بأفكار الإصلاح السياسي, وكانوا يفضلون إقامة حكم ذاتي قبلي قائم على العادات والأعراف المحلية ويلاحظ أن ثلاثين شخصاً من الذين تولوا منصب الصدر الأعظم في الدولة العثمانية كانوا من المسلمين الألبان, وبعض العساكر العثمانية الذين إتصفوا بالشجاعة والإنضباط قد ولدوا في هذا الأقليم. وخلال القرون السابقة كان الألبان بشكل عام يمثلون عنصر القوة في الإمبراطورية.
ولكن بالرغم من ولاء الألبان للدولة العثمانية إلا أن بلادهم ظلت واحة من أعظم مناطق الدولة تخلفاً، كانت أشبه ببلد على حافة الهاوية يعيش أهله على تربية الماشية وزراعة ما يسد رمقهم بالكاد, وبالتالي كان نظامها السياسي يعكس حالة التنمية فيها, فالشعب يعيش في تجمعات متباعدة تحت زعاماتهم المحلية. وحتى اواخر القرن التاسع عشر كانت البلاد تفتقد الأسس اللازمة لتنمية الشعور القومي-الوطني الذي كان قائماً في الولايات العثمانية الأخرى. ومن ناحية أخرى كان الإتصال بين أجزاء البلاد أمر غاية في الصعوبة فلم يكن فيها حتى عام 1912 سوى مجموعة طرق ممهدة تبلغ 200 كيلومتر, والتدريس بالمدارس يتم باللغة التركية أو اليونانية فيما عدا مؤسسات الكاثوليك في شكودر. وأما الدين الذي كان عامل وحدة قوية في مختلف بلاد البلقان كان في البانيا عامل إنقسام. واللغة التي كانت رابطة مشتركة بين الجميع لم تكن لغة تعليم في المدارس ولم توضع لها أبجدية وبالتالي لم تكن هناك أية مطبوعات أو كتب بالألبانية.
لكل هذه العوامل والإعتبارات لم تظهر حركة قومية البانية حتى عام 1878, وعندما ظهرت في ذلك التاريخ كان ظهورها إلى حد كبير رد فعل للتهديدات الخارجية. وقبل ذلك لم يكن تارخ حركات النضال والمقاومة ضد الحكم العثماني قد أنتج إيدلوجية قومية أو قيادات قومية. والحاصل أن أسلاف أولئك الألبان وهم الإليريون Illyrians القدامى كانوا قد إستقروا في شبه جزيرة البلقان قبل السلاڤ. وعلى الرغم من أن محمد علي باشا والي مصر وعلي باشا والي يانينا كانا من الألبان, إلا أنهما كان يعملان من أجل مصالحهما وليس من أجل مصالح بلادهما البانيا.ورغم أنه بعد 1830 حدثت عدة إنتفاضات ضد الحكم العثماني جاء معظمها إحتجاجاً على الضرائب العالية التي فرضت للإنفاق على إصلاح الجيش، أو نتيجة للتغييرات في الإدارة المركزية، إلا أن الألبان في كل الأحوال كانوا راضون بوضعهم الراهن وإدارتهم المحلية للأمور. وبالجملة كان وضعهم المتميز داخل الإمبراطورية يرجح إمكانات عضوية بلادهم في نظام سياسي كان في طريقه إلى الضعف والتدهور بشكل سريع.
على أن زعماء الألبان أدركوا لأول مرة الخطر الذي يحق بوضع بلادهم عندما أعلنت مواد معاهدة سان ستفانو في مارس 1878 التي كان من المفترض بمقتضاه أن تضم أجزاء من شرق بلادهم إلى بلغاريا الكبرى، وأن تمنح الجبل الأسود أراض في الشمال يسكنها ألبان بشكل رئيسي. وعلى هذا فأراضي البانيا القومية تم توزيعها بين دولتين سلاڤيتين أرثوذكسيتين لم يكن من المتوقع من أي منهما التعامل برفق مع المسلمين الذين كان عليهم إنقاذ أنفسهم من جيرانهم وليس من الحكومة العثمانية، وهذا ما كان على الألبان أن يواجهوه, وأن يتعاملوا معه.
وعلى الفور تم تنظيم الإحتجاجات على المعاهدة, وتشكلت لجان في انحاء البلاد لدراسة الأمر, وأصبح مقر المقاومة مدينة پرزرن في إقليم كوسوڤو الذي أصبح جزءً من يوغوسلافيا فيما بعد. وهناك وفي يونية 1878 إجتمعت نخبة من مسلمي شمال البلاد من كبار الملاك الإقطاعيين المحافظين وعدد من النبلاء ومعهم مندوبون من جنوب البلاد وخاصة عبد الله فراشري Frasheri محرك الروح القومية آنذاك، وأسسوا "رابطة پرزرن" أو العصبة الألبانية وهدفها ببساطة الدفاع عن وحدة الأراضي الألبانية وتكاملها. كما تقرر تكوين لجان في مدن أخرى وخاصة في شكودور لمواجهة إجتياح الجبل السود للبلاد. كما إتفق الزعماء الأبلان على إتخاذ خطوتين عمليتين: الأولى العمل على مساندة مبدأ تكامل أراضي الدولة العثمانية ووحدتها في مؤتمر برلين، والثاني تقديم التماس للسلطان لكي يوافق على توحيد الولايات الأربع: يانينا، وموناستر، أوسكوب Uskub، وشكودر في وحدة واحدة ومنحها الحكم الذاتي. وبمعى آخر كانوا يرغبون في توحيد السكان الألبان في وحدة إدارية وسياسية واحدة.
والحاصل أن مؤتمر برلين (1878) إنتهى دون المساس بأراضي البانيا ليس بسبب إحتجاجات الألبان وإنما بسبب الصراع بين القوى العظمى. وما حث في المؤتمر كان تقسيم بلغاريا الكبرى حيث عادت الأقسام الألبانية للسيطرة العثمانية مرةأخرى، وأخذت اليونان قسماً صغيراً من مطالبها بما فيها يانينا, وأخذت الجبل السود بعض الأراضي التي كان الألبان يطالبون بها وكانت أقل مما كانت تطمح إليه. على أن الإجراءات التي كان الأبلان يقومون بها آنذاك تجاوزت حدود الكلام والخطاب والبيان وإتخذت في بعض الأماكن شكل المعارك المخيفة الوحشية مما جعل الدول الأوروبية قلقة بشأن وجود هذا الشعب الذي يرغب في وحدته وعدم تقسيمه بين جيرانه.
ورغم تعاون الألبان مع الحكومة العمثانية في مقاومة مطالب كل من بلغاريا واليونان والصرب والجبل السود, إلا أن السلطان رفض توحيد الولايات الأربع (الألبانية) في حكومة ذاتية كما سبق الإشارة. وكان تحقيق هذه الوحة أمر حاسم بالنسبة لمصالح القومية الألبانية وأكثر من هذا فإن المادة 23 من معاهدة برلين فرضت إحداث تغييرات إدارية ف يالإقليم دون تحديد ماهيتها. وعلى هذا ففي نوفمبر 1878 إجتمع زعماء جنوب البانيا في مدينة فراشر Frasher برئاسة عبد الله فراشري الذين سبق وأن وافقوا على برنامج توحيد الولايات الأربع,الأمر الذي ترتب عليه موافقة زعماء شمال البانيا على مبدأ التوحيد والحكم الذاتي. لكن قيادتي الشمال والجنوب لم تتفاق على تفاصيل التوقيت المناسب وكيفية التنفيذ, فبينما كان الجناح الراديكالي في الحركة يرى ضرورة إتخاذ خطوات فورية لتحقيق الحكم الذاتي, كان الجناح المحافظ تحت سيطرة بكوات الإقطاع يفضلون الإعتدال والإقتراب بحذر من إستعدادهم للتعاون مع السلطات العثمانية.
وعند هذا المنعطف بدأت فترة من المناورات بين الجناحين: المحافظ، والراديكالي, ولكن بحلول عام 1880 تمكنت العناصر المطالبة بالوحدة في كل من رابطتي پرزرن وفراشر من السيطرة على الرابطة الألبانية. وكان كبار ملاك الأراضي الزراعية الذين ظلوا على ولاتهم للسلطان-الخليفة العثماني يعارضون تلك العناصر بشدة, وبتشجيع منهم أرسل السلطان في أبريل 1881 قوة عسكرية بقيادة درويش باشا للقضاء على رابطة بريزرن وسحق الحركة المطالبة بالحكم الذاتي. ورغم هذا التدهور الذي حاق بالحركة إلا أن الثلاث سنوات السابقة على موقف السلطان هذا أنتجت إنجازات لها مغزى بالنسبة للحركة القومية, فأولاً بدأ كثير من زعماء الألبان يعترفون بأن الإمبراطورية العثمانية على وشك الإنهيار وأن عليهم التخطيط لمشتقبل بلادهم,وثانياً ثمة خطوات أولية إتخذت بشأن وضع سياسة مشتركة في الشمال والجنوب وسط مناطق لا يوجد بينها إتصالات وثالثاً والأكثر أهمية أن برنامج الرابطة الألبانية نصاً وروحاً قبلته مختلف أجنحة الحركة القومية الذي كانوا مختلف حول كيفية تحقيق الأهداف المشتركة, وهكذا تم إتخاذ الخطوات الصحيحة تجاه إيجاد دولة ألبانيا.
اليقظة الثقافية
- مقالات مفصلة: اللغة الألبانية
- الوطنية الألبانية
لقد رافقت الحركة القومية الألبانية شأن الحركات القومية في أي مكان في العالم فترة من اليقظة الثقافية. والحاصل أنه في غياب العقيدة المشتركة بين الألبان داخل المركز الجغرافي بقيت الغة تمثل الرابطة الأساسية بينهم. ومع ذلك لم يكن لهم مستوى لغوي واحد في الكتابة كما لم تكن هناك أبجدية متفق عليها بينهم. وفي منتصف القرن التاسع عشر إجتذبت المنطقة إهتمامات العلماء والباحثين الأجانب أبرزهم الباحث بوب F.Bopp الذي كان أول من أكد أن لغة الألبان تنتمي إلى عائلة اللغة الإندو-أوروبية, وكذلك العالم النمساوي فون هان J.G. Von Hahn الذي يعتبر الأب الروحي "لعلم اللغة الألبانية", وله فضل وضع قواعد نحو وصرف لها وجمع مجموعات من ادبياتها الشعبية. ومع نهاية القرن التاسع عشر أصبح معروفاً "أن الألبانيين ينحدرون من العناصر الإندو-أوروبية التي كانت تقيم قديماً في المنطقة. وقد لعب هذا الميراث دوره في تعزيز الكبرياء القومي بين المثقفين الألبان مثلما حدث بالنسبة لليونانيين الإيطاليين في إستنادهم للحضارة اليونانية والرومانية القديمة. ومن ناحية أخرى شاع بين المثقفين وخاصة بين ألبان إيطاليا دراسة تايرخ ألبانيا ولغتها وأدبياتها الشعبية (الفولكلور).
ثم حظت الحركة الأدبية بين الألبان بمساعدة كبرى بتأسيس "جمعية طبع الكتابات الألبانية" في استانبول عام 1879 وإستهدفت الإتفاق على تحديد مستوى لغوي واحد في الكتابة والقراءة يكون في متناول الجميع ويؤدي إلى نشر الكتب والجرائد والمجلات, وكذا ترجمة أمهات الكتب الأجنبية لتلك اللغة. ولقد نصت اللائحة الأساسية للجمعية في ديباجتها على تلك الروح بالقول "إن كل الأمم المستنيرة أصبحت متحضرة بالكتابة بلغتها الخاصة . . وكل أمة لا تكتب بلغتها, ولا تملك أعملاً بلغتها فإنها تعيش في ظلام وبربرية . . والألبان لا يكتبون بلغتهم وليست لديهم أعمال بلغتهم فإنهم والحال كذلك في حالة ظلام وبربرية.
لقد كان موضوع الإتفاق على مستوى معين في التعبير اللغوي يتضمن بطبيعة الحال إختيار لهجة محلية أو أحد اللهجات المحلية الأكثر شيوعاً بين الناس لتكون أساساً للإختيار. وعلى هذا اخذ الباحثون المحليون والأجانب يتبارون فيما بينهم لتقديم الشكل المناسب للغة مشتركة. وكان من الطبيعي والحال كذلك أن كل واحد من أولئك الباحثين يفضل اللهجة التي يتكلمها أو الأقرب إليه في التعامل. وبعد كثير من الجدل والمناقشة بينهم تم عقد مؤتمر في بيتولا في نوفمبر 1908 حيث تقرر الأخذ بالأبجدية اللاتينية لكتابة اللهجة الألبانية, وهو القرار الذي واجه معارضة كبيرة وخاصة بين المسلمين في شمال البلاد الذين كانوا لا يزالون يفضلون "حروف لغة القرآن", بل إن جماعة تركيا الفتاة التي كانت تحكم الدولة آنذاك وقفت بشدة ضد إتخاذ الأبجدية اللاتينية. وفي مارس 1910 أعلن الصدر الأعظم "إن الحكومة تعتبر أن الرغبة في الأخذ بالأبجدية اللاتينية من جانب الألبان تمثل الخطوة الأولى للإنفصال عن الدولة العثمانية . . ويجب على الحكومة أن تعمل . . ولسوف تعمل ما في وسعها للحيلولة دون إتخاذ الأبجدية اللاتينية. وعلى هذا ورغم قرار الأخذ بالأبجدية اللاتينية لم يتوصل إلى لغة أدبية مشتركة بين الكتاب آنذاك.
وكان التعليم في بلاد الألبان مشكلة أخرى كبيرة ذلك أن عدداً قليلاً من المدارس الألبانية يتم التدريس فيها بالألبانية. وكما كان الحال في بلاد البقلان الأخرى في مطلع القرن كان التعليم المتاح تعليماً دينياً: إسلامي أو أرثوذكسي أو كاثوليكي. والمدارس الإسلامية التي كانت الحكومة العثمانية تدعمها لم تكن فقط دينية في مقرراتها بل كان التدريس فيها يتم بالتركية, وكان غرضها الأساسي توحيد المسلمين ضد جيرانهم المسيحيين وجعلهم رعايا مخلصون للدولة العثمانية. وأما المدارس الأرثوذكسية فقد كانت لها أغراض أخرى إذ كان التدريس فيها يتم باليونانية ومن ثم كانت وسيلة للسيطرة الثقافية الهللينية. والحاصل أن كلا من الحكومة العثمانية والبطريركية الأرثوذكسية-اليونانية باستانبول كانتا تعارضان إقامة مدارس مدنية غير دينية في بلاد الألبان, إذ كانت السلطات ترى أن إنشاء هذا النوع من المدارس سوف يصبح أساساً للمطالبة في المستقبل بالإستقلال أو بالحكم الذاتي على الأقل. وأما البطريرك فكان يخشى أن تكون هذه المدارس مقدمة للمطالبة بإيجاد كنيسة أرثوذكسية البانية مستقلة وخاصة بعد تجربته المريرة مع إكسارخية بلغاريا.
وأما المدارس الكاثوليكية الألبانية فكان التدريس فيها يتم باللهجة المحلية على العكس من المدارس الإسلامية والأرثوذكسية. والحقيقة أن النمسا كانت تتمتع ببعض ميزات معينة في أنحاء الدولة العثمانية كان أحدها الإبقاء على المدارس والكنائس الكاثوليكية حي ثتوجد والمحافظة عليها. وقد قام الفرنسيسكان والجزويت بدورهم في تطوير وتنمية تلك المؤسسات, كما كان للإيطاليين الكاثوليك في الدوةل العثمانية مؤسساتهم الخاصة بهم. ومن ناحية أخرى كان للمدارس الإيطالية والنمساوية أهدافاً سياسية ودينية على السواء في أنحاء الدولة العثمانية حيث كانت تجعل من التعليم سلاحاً لفرض شخصيتهما القومية ومواجهة التأثيرات السلافية.
وبناء على تلك الأوضاع أصبحت الحاجة ماسة لإنشاء مدارس مدنية تحت رقابة ألبانية. وفي الحقيقة كانت ثمة مدارس من هذا النوع قد أقيمت بشكل سري في جهات ما في تحد سافر لرفض السلطات العثمانية والأرثوذكسية, ثم أقيم بعضها بعد أن نجح بعض أصحاب النفوذ من الألبان في الحصول على موافقة المسئولين العثمانيين في الوحدات امحلية. وهكذا إفتتحت أول مدرسة للبنين في كورشيه Korce (كوريتسا Koritsa) عام 1885 تبعتها مدرسة للبنات في 1891 لكن سرعان ما أغلقت هذه المدارس جميعاً بأوامر من الحكومة العثمانية وأصبح الموقف صعباً في ضوء إستمرار معارضة السلطات والحكومية والدينية (البطريركية) لإقامة مثل هذه المدارس. فقد قررت الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية "الحرمان من رحمتها" للتلاميذ الذين يلتحقون بتلك المدارس الجديدة. وتشددت الحكومة العثمانية أكثر وأكثر في فرض القيود على "التعليم الألباني" , ففي 1902 وعلى سبيل المثال منعت حيازة الكتب المكتوبة بالألبانية, ومنعت إستخدامها في المراسلات وظل الموقف هكذا دون تحسن حتى قيام ثورة الإتحاد والترقي (يولية 1908) التي وافقت أولاً على تعليم "اللغة الألبانية" في المدارس الإبتدائية والثانوية, وعلى إفتتاح مدارس ومؤسسات أخرى ثانياً.
ومن الملاحظ أن ذلك النشاط التعليمي الذي أشرنا إليه يلقى تشجيعاً وتحمساً من الألبان الذين كانوا يعيشون في كل من إيطاليا ومصر واستانبول ورومانيا وبلغاريا والولايات المتحدة الأمريكية. وعلى الرغم من إختلاف كل مجموعة ألبانية عن غيرها في تلك البلاد من حيث الخطط الإستراتيجية والأهداف, إلا أن رغبتهم جميعاً كانت واحدة في تشجيع تنمية الشعور القومي الألباني وتقويته. وفي هذا الإطار قام الألبان في كل تلك البلاد بغصدار كتب وصحف ومجلات, وحملوا قضيتهم القومية إلى الخارج, ونجحوا في حشد بعض قطاعات مؤثرة من الرأي العام الأوروبي بجانبهم.
ورغم هيمنة الأنشطة الثقافية التي كان الألبان بها هنا وهناك وخاصة بعد تصفية الرابطة الألبانية في 1881, إلا أنها لك تكن كافية لتحقيق القومية الألبانية لكن الذي جعل شرارة القومية تزداد إشتعالاً في السنوات التالية أحداث ثورة كريت في 1897 عندما إستخدمت السلطات العثمانية قوات ألبانية لقمعها, فعند نهاية معارك الثورة إنتهزت القوات الألبانية الفرصة وقد إمتلكت السلاح الذي منحتهم إياه الحكومة العثمانية, وأعلنت عن مطالبها السياسية ورفضت تسليم السلاح . . وهكذا وقعت الفوضى والإضطرابات.
مشكلة مقدونيا
وفي تلك الأثناء كانت مشكلة مقدونيا تمثل الصعوبة الأكبر أمام السلطات العثمانية, ذلك أن بلغاريا واليونان والصرب تجاهلت كثيراً كما سبقت الإشارة وجود أغلبية ألبانية وتركية في أنحاء مقدونيا كانت لها مصالح مشتركة في مقاومة دويلات البلقان المسيحية وهو الأمر الذي عمل الباب العالي على إستغلاله. ولكن ورغم دعم السلطات العثمانية للألبان في هذا الشأن, إلا أن زعماؤهم وقفوا عند حدود مصالحهم الخاصة ولم يتعاونوا مع الدولة العثمانية. وعلى هذا وفي ظل الفوضى التي سادت المنطقة قبيل ثورة "الإتحاد والترقي" بنحو عشر سنوات كان يبدو للمراقب أن الألبان يحاربون أحياناً من أجل مصالح الدولة العثمانية, لكن عندما تصبح الظروف مواتية لهم كانوا يتصارعون مع الدولة من أجل توسيع نطاق حكمهم الذاتي, ولم يقفوا مع القوميين المسيحيين في جبهة واحدة ضد الدولة العثمانية.
لقد كان نجاح ثورة الإتحاد والترقي (يوليو 1908) باعثاً للأمال الكبرى بين القوميين الألبان ذلك أن كثيراً منهم كان له نصيب في تنظيم الثورة بما فيهم إسماعيل كمال, وكانت بيتولا أحد المراكز الرئيسية للثورة. وكان برنامج الإتحاد والترقي محل ترحيب شديد بين الألبان بطبيعة الحال لأنه يركز على إعادة العمل بدستور 1876, واللامركزية, وحقوق غير الأتراك في البلاد, وإفتتاح مدارس ألبانية. وعلى هذا الأساس تكونت الجمعيات والروابط القومية, وتم إنتخاب 26 ألبانيا في البرلمان التركي الجديد, ولم تحدث معرضة حقيقية للنظام الجديد في تركيا إلا من كوسوفو في الشمال حيث ظل البكوات المحافظين على ولائهم السلطان يدافعون عن الحقوق والإمتيازات التي يتمتعون بها في البلاد عبر التاريخ. ولكن بعد أن فقدت تركيا بلغاريا والبوسنة والهرسك إنقلب الحكم الجديد على البرنامج الذي أعلنته جماعة الإتحاد والترقي وأخذ يعمل على فرض إدارة تركية تورانية مركيزة, فتم إغلاق المدارس الألبانية الطابع, ومنعت الروابط القومية, وتم حظر إصدار الصحف, بل عملت الحكومة على إشاعة إنطباع لدى الرأي العام الخارجي بأن الشعب الألباني لا يريد الحكم الذاتي.
انتفاضة الهضاب 1911
وبناء على هذا التحول في سياسة حكومة الإتحاد والترقي وقف القوميون الألبان والعناصر المحافظة في الشمال (كوسوفو) ضد تلك السياسات الجديدة. وكانت كوسوفو مركز المقاومة الرئيسي حيث نظم السكان أنفسهم لحماية حقوقهم التقليدية, وعارضوا دفع الضرائب المقررة وإجراءات التجنيد الإجباري. وعلى هذا وفي مارس 1910 دفع الباب العالي بقوة عسكرية لكوسوفو. ولعل أوضح علامات المرارة التي نمت بين الألبان فرار حوالي عشرة آلاف ألباني إلى الجبل الأسود المسيحي السلافي. وهكذا وبينما كان القتال يجري بضراوة في الشمال (كوسوفو) كانت المقاومة تحدث في الجنوب, وظل الألبان متمسكون بهدفهم في تحقيق الحكم الذاتي في إطار الدولة العثمانية. ولما أدركت حكومة الإتحاد والترقي إستحالة قمع حركة الألبان بالقوة غيرت موقفها . . ففي مارس 1911 تقرر إعادة فتح المدارس الألبانية, والموافقة على إتخاذ الأبجدية اللاتينية أساساً لكتابة اللغة الألبانية ولكن الحكومة أصرت في الوقت نفسه على بقاء تحفيظ القرآن بالحروف العربية وفقاً لما سبق تقريره في عام 1869. وهكذا وبعد ثلاثة عقود من الجهود المتواصلة أصبح للألبان مدارسهم الخاصة, وأصبح لهم الحق في إستخدام لغتهم في التعليم والكتابة. ولكن على الرغم من أن أهالي الشمال وأهالي الجنوب قد عملوا سوياً ضد الحكومة العثمانية-التركية لبلوغ أهداف معينة, إلأ أنهم لم يتفقوا على إتخاذ سياسة قومية مشتركة أو إختيار زعامة مشتركة مقبولة من الجميع.
حروب البلقان وخلق ألبانيا المستقلة
ثم جاء القرار الأخير بشأن المسألة الألبانية كنتيجة لحالة الحرب الطويلة التي بدأت الدولة التركية تواجهها عام 1911, ففي سبتمبر من ذلك العام بدأت الحرب مع إيطاليا في طرابلس الغرب (ليبيا), ودخلت دويلات البلقان في مفاوضات مشتركة لتكوين "عصبة البلقان". ولكي تدعم الحكومة التركية الجديدة وضعها في الداخل ولمواجهة التهديدات الخاصة بشكل أفضل بادرت بغجراءات إنتخابات جديدة للبرلمان إنتهت بحصول أنصارها على 215 مقعداً من أصل 222 مقعداً. وهذه الأغلبية التي حصلت عليها الحكومة كانت نتاجاً لعملية التخويف والإرهاب والوزير التي مارستها مما عجل بالوقيعة والإنقسام بين جماعة الإتحاد والترقي وأعوانهم من الألبان, حتى لقد أصبحت ألبانيا جميعها في أغسطس 1912 في ثورة مفتوحة ضد السلطات التركية. ورغم نجاح الألبان في إحراز مكاسب عسكرية سريعة إلا أن زعماءهم ظلوا منقسمون بشأن الأهداف النهائية للثورة. فبينما كان بعضهم يفضل العمل على إرجاع السطان عبد الحميد الثاني وإستعادة نظاك الحكم السابق على ثورة الإتحاد ووالترقي, كان البعض الآخر يرغب في تفعيل نصوص دستور 1876. وواصلت الأغلبية متابعة طريقها نحو تحقيق هدف الحكم الذاتي المراوغ الذي يشتمل على وضع شروط محددة لوحدة الولايات الأربع, وإيجاد إدارات قومية منفصلة, ومراقبة الضرائب المحلية والنفقات, وجعل اللغة الألبانية لغة رسمية, وحق حمل السلاح للجميع. وفي سبتمبر 1912 وافقت الحكومة التركية على المطالب الأساسية من حيث المبدأ ولكن وقبل أن تصدر القرارات التنفيذية لتلك المطالب إندلعت الحرب البلقانية الأولى في أكتوبر. وعند ذاك أدركت كل الفرق الألبانية التنمافسة والمتناحرة أن هدف إنقاذ بلادهم أصبح محل خطر كبير, بل إن بلادهم قد تخضع للتقسيم بين جيرانهم من السلافيين واليونانيين.
في البداية كان الزعماء الألبان يتمسكون بالهدف القديم ألا وهو إقام حكومة ذاتية في إطار الدولة العثمانية, ولكن عندما أحرزت دويلات البلقان إنتصارات أولية في المعارك ضد الأتراك, وبدا أن الدولة قد تفقد كل ولاياتها التابعة في البلقان, تحول زعماء الألبان إلى المطالبة بالإستقلال التام وإنضموا إلى هؤلاء الذين ينادون بالإنفصال عن الدولة العثمانية بعد أن كانوا يدافعون عنها. وعلى هذا وفي 28 نوفمبر 1912 إنعقدت جكعية قومية من 83 مسلماً ومسيحياً في مدينة فلور Vlore (فالونا Valona) وأعلنوا إستقلال ألبانيا, وإنتخبوا إسماعيل كمال رئيساً, ويتم تعيين مجلس وزراء من مسلمين ومسيحيين. ولكن تلك الخطوة لم تكن مجدية أمام تهديد بلغاريا واليونان والصرب والجبل الأسود الذين كانوا يطمعون في إقتسام أراضي ألبانيا, وأيضاً أمام العجز عن الحصول على تأييد بعض القوى الكبرى.
وفي الواقع الأمر كانت إيطاليا والنمسا تطمعان في ضم أجزاء من ألبانيا, وإيقاف توسع جيرانها السلاف فيها. فإذا تمكنت إيطاليا من ضم ألبانيا يصبح مجرى نهر أوترانتو Otranto الذي يبلغ عرضه خمسون ميلاً في أراضيها, ويصبح البحر الإدرياتي بحراً إيطاليا صرفا. أما إذا حدث العكس وفرضت النمسا نفوذها بطريقة أو بأخرى فإنها تضمن ممراً بحرياً آمناً لأسطولها في مضايق البوسفور والدرنيل. وعلى هذا ونظراً لإدراك كل من إيطاليا والنمسا لأهمية ألبانيا شرعتا بعد مؤتمر برلين (1878) في العمل من أجل فرض السيادة عليها. وتحقيقاً لهذا الغرض عملت إيطاليا على إستخدام الجالية الألبانية الضخمة التي تعيش على أراضيها, لكن توظيف هذا العامل كان يضعفه أن أغلب هذه الجالية كانوا من الكاثوليك أو من أنصار مذهب الطبيعة الواحدة Uniate وبالتالي لم يكونوا محل ثقة تامة من المسلمين والأرثوذكس. أما النمسا فقد إتجهت أكثر لجذب المثقفين الألبان إلى جانبها, وكانت قادرة على إكتساب تعاطف بعض المسلمين رغم روابطها مع الكنيسة الكاثوليكية حتى لقد طالب بعض صفوة الألبان عقب إندلاع حرب البلقان الأولى بقليل بوضع بلادهم تحت حماية النمسا في حالة إنهيار الدولة العثمانية. ومن ناحية أخرى تسارعت إيطاليا والنمسا لكسب ود الألباننن بالعمل على فتح المدارس والمستشفيات والملاجئ, وإجتهد العلماء في كل من الدولتين بدراسة الشؤون الألبانية, وبتثقيف عامة الناس بالهمية الإستراتيجية لمنطقة ألبانيا.
أما القضايا الرئيسية في المنطقة التي كانت محل تسوية بعد إنتهاء حروب البلقان فقد سبقت الإشارة إليها, وكانت تتلخص كما رأينا في أن الصرب تسعى للحصول على ميناء على البحر الإدرياتي لكي تتلخص من سيطرة النمسا على إقتصادياتها, وكان ميناء دوريس في شمال البانيا يحقق هذا الغرض, وإذا ما فقدت ألبانيا هذه المدينة وما جاورها فإن دولة ألبانيا التي قد تنشأ في المستقبل ستكون عاجزة وتواجه أزمات طاحنة. ولهذا فإن عزمت النمسا على إبقاء الصرب دولة داخلية برية لا منفذ لها على البحر, ووقفت ضد محاولة الجبل ألأسود الإستيلاء على مدينة شكودر وأراضي ألبانية أخرى. وأما إيطاليا فقد كانت راغبة في كبح جماح توسع الدول السلافية فضلاً عن أنها كانت معنية بخطط اليونان تجاه جنوبي ألبانيا, وتعرض ميناء فلور وجزيرة سازينو Saseno للتهديد وهما على الضفة الشرقية لمضيق أوترانتو. لكل تلك الإعتبارات وقفت إيطاليا والنمسا في جبهة واحدة صلبة ضد رغبة دول البلقان في إيجاد دولة ألبانية مستقلة وفق حدود عرقية معينة.
والحقيقة أن روسيا كانت الدولة الوحيدة بين القوى بن القوى الكبرى التي أبدت إهتماماً جاداً بالمسألة الألبانية فقد كانت متعاطفة مع مطالب الدول السلافية في البلقان وخاصة رغبة الصرب في الحصول على ميناء على الأدرياتي, وكانت فرنسا تساندها في مواقفها بشكل عام, على حين أخذت إنجلترا والماناي موقفاً حيدياً. وفي أثناء مؤتمر السفراء في لندن الذي حسم المسألة سادت وجهة نظر إيطاليا والنمسا في الموضوع, ومن ثم إتفقت الدول الكبرى في ديسمبر 1912 على الإعتراف بقيام دولة ألبانية. وبهذا أعلنت آخر دولة بلقانية في 1913.
وكانت الخطوة الأخيرة من جانب الدول الكبرى العمل على رسم حدود الدولة الجديدة مثلما حدث في باقي دول البلقان, وتقرير شكل حكومتها, وإختيار حاكمها. والحقيقة أ، موضوع الحدود كان مسألة معقدة, فالزعماء الألبان يتطلعون إلى أن تكون الحدود على أسس عرقية, وقد ساندتهم في هذا إيطاليا والنمسا. وأما روسيا فكانت على العكس تريد أن تمنح الصرب والجبل الأسود بعض الأراضي التي تطالبان بها رغم وجود ألبان يعيشون فيها. وأما الصرب فقد ظلت متمسكة بالحصول على مخرج على البحر الأدرياتي, والجبل الأسود كانت ترغب في الحصول على مدينة شكودر. ولقد كانت المفاوضات في هذه الموضوعات دقيقة وطويلة حيث تناولت موضوع وجود قوات من الصرب والجبل الأسود في المناطق محل التفاوض, ولم تنسحب هذه القوات إلا بعد أن هددت النمسا بالحرب. وفي المقابل وافقت النمسا مكرهة على التخلي للدول السلافية عن مدن بيش Pec (Ipek), وبريزرن, ودياكوفيكا Djakovica (Gjakove), وديبار Debar (Diber). وبهذا تم إخراج عدد كبير من الألبان من ديارهم القومية.
وبينما رسمت الحدود الشمالية والشرقية لألبانيا على حساب مصالحها القومية فإن حدودها الجنوبية مع اليونان كانت عادلة, فقد كانت اليونان ضم جنوبي ألبانيا (المعروفة في المصطلح اليوناني بشمال إيروس), وضاحيتي جياروكاستر Gjirokaster (أرجروكاسترو Arggrokastro), وكورشيه Korce وتبلغ مساحتها 2800 ميلاً مربعاً تضم خليط من المسلمين والأرثوذكس. ولما كانت الدول الكبرى قد قررت أن ترسم الحدود وفق الأساس القومي فإن اللجنة المسئولة عن رسم الحدود خصصت معظم الأراضي محل النزاع لألبانيا الأمر الذي أدى إلى ترك حوالي 35 ألف يوناني يعيشون تحت حكم أجنبي ومثلهم من الألبان يعيشون تحت حكم اليونان. ورغم عدم رضا كل من اليونان والصرب والجبل الأسود لم عن تلك التسوية النهائية للحدود, إلا أن الحدود التي رسمت في 1913 ظلت دون تغيير جوهري.
أما المشكلة التالية وهي مشكلة تكوين حكومة ألبانية فلم تكن محل جدل دولي أي بين القوى العظمى, فقد رأس إسماعيل كمال حكومة مؤقتة تم تشكيلها في نوفمبر 1912 لمدة عام لم يمر دون صراع ومعارضة من الزعماء السياسيين المتنافسين كان في مقدمتهم وكثرهم أهمية إسعد باشا التوبتاني Toptani وهو أحد أفراد عائلة كبيرة في تيرانا Tirana لها مكانتها, إذ تحدى ومعه أتباعه الحكومة الجديدة المؤقتة. كما قاومها الألبان المنشقون في جنوبي كورشيه بدعم من اليونان, فضلاً عن أن أمراء الإقطاع في أنحاء البلاد لم يكونوا على إستعداد للتنازل عن حقوقهم وإمتيازتهم القديمة لأي حكومة سواء أكانت عثمانية أو ألبانية. وكان من شأن هذه المواقف أن تجعل إقامة إدارة قانونية نظامية أمراً مستحيلاً. وأمام هذا قامت الدول الكبرى في أكتوبر 1913 بتعيين هيئة مراقبة دولية لإدارة شؤون البلاد وإستقال إسماعيل كمال من رئاسة الحكومة المؤقتة في يناير 1914.
وفي أبريل 1914 إنتهت الهيئة الدولية التي إنضم إليها أحد الألبان من وضع مشروع دستور تقرر بمقتضاه أن تكون ألبانيا إمارة ذات سيادة تضمن الدول الكبرى حيادها, ويتألف المجلس التشريعي فيها بواقع ثلاثة نواب من كل سبع أقسام إدارية بالإنتخاب العام, ويقوم الأمير الحاكم بتعيين عشرة نواب بمعرفته بالإضافة إلى رؤساء طوائف المسلمين والأرثوذكس والكاثوليك ومدير البنك الأهلي بحكم وظائفهم, وأنتكون مدة الدورة البرلمانية أربع سنوات وللأمير حق تعيين مجلس لوزراء الذي يكون مسئولاً أمامه. وهكذا حددت الدول الكبرى مرة أخرى شكل الحكم والحكومة لدولة بلقانية جديدة.
وعند إختيار الأمير الذي سوف يحكم إمارة ألبانيا إتجهت القوى العظمى إلى المانيا كما حدث من قبل في حالة اليونان ورومانيا وبلغاريا. وعلى هذا وفي مارس 1914 قدم إلى ألبانيا ويليام الفيدي Wiliam of Wied وكان كابتن في الجيش الألماني في الخامسة والثلاثين من العمر وإبن عم اليزابيث ملكة رومانيا. وبعد ذلك بنحو ستة أشهر وبعد إندلاع الحرب العالمية الأولى بقليل غادر الإمارة ولم يعد. وسرعان ما تبين أن الصعوبات التي تواجه جكم الإمارة الجديدة لا يمكن تذليلها, فقد كان تذليلها, فقد كان الأمير يفتقد الخبرات الإدارية اللازمة وأثبت ضعفه ف يقيادة الأمور. وبصرف النظر عن ضعفه ونقص خبراته فالحقيقة أ، مشكلات ألبانيا قبيل الحرب كانت أكبر من أن يتعامل معها أي حاكم حتى ولو كان موهوباً, فضلاً عن أن الرجل كان يعاني كثيراً من النظر إليه بغعتباره ألعوبة في يد النمسا وخاصة من جانب إيطاليا التي تآمرت ضده علناً وبدعم من بعض الألبان الذين كانوا يرون أنفسهم أحق بعرش البلاد. كما تبين أيضاً ضعف مجلس الوزراء في إدارة شؤون البلاد, فقد كان يرأسه أسعد التوبتاني المتنافس الطموح وكان يتولى في الوقت نفسه وزراتي الداخلية والدفاع وهما وزرتان لهما أهميتهما الإستراتيجية. وبدلاً من أ، تهدأ عواطفه وطموحاته بهذه المناصب نجد أن صلاحياته الوزراية أعطته الفرصة لكي يتآمر ضد الأمير حيث أخذ يرعى خصومه في طول البلاد وعرضها. وكان الأمير من ناحية أخرى قد ضم لحكومته مندوبين عن طبقة الإقطاعيين الأمر الذي ترتب عليه إبعاد صغار المثقفين عن دائرة الحكم رغم أنهم هم الذين تولوا حركة الدعوة إلى الحكم الذاتي لألبانيا ثم الدعوة إلى إستقلالها التام. وفي شمال البلاد تجدد الصراع التقليدي بين المسلمين والكاثوليك . . ولو أن الأمير وليام كان قد تمتع بسنوات من الهدوء والسلام لكان بإمكانه التغلب على تلك المشكلات ولكن الذي حدث أن الظروف لم تكن مواتية وكان يتعين إنتظار إنتهاء الحرب العالمية الأولى لكي تأسس في ألبانيا حكومة مستقرة وحدود نهائية معترف بها.
على كل حال . . فرغم إنهيار أول حكومة ألبانية شهدت البلاد خلال السنوات الستة والثلاثين بعد مؤتمر برلين 1878 تغييرات كثيرة. فقد كان تاريخ ألبانيا عبارة عن إنقسام بين ولاءات إقليمية,وتطاحن بين عقائد دينية مختلفة, وتناحر بين مجموعات بيم مجموعات سياسية متنافسة. ثم توارت هذه الخصومات جانباً أمام خطر التقسيم الذي كان يهدد البلاد. وخلال تلك الفترة توارت أيضاً المصالح المحلية التي كانت تفرض نفسها على الجميع طوال عدة قرون لحساب إعتبارات أكبر أحاطت بكل الألبان. وقد دعت ضرورة التعاون للدفاع عن البلاد كل الألبان من مختلف الجهات لكي يعرف بعضهم بعضاً. وجاءت قيادة الحركة القومية من كل إقليم قوامها مجموعات إجتماعية وإقتصادية مختلفة ومن كل أصحاب المذاهب الدينية الثلاثة (مسلمون وكاثوليك وأرثوذكس). ورغم أشياء كثيرة كانت تنقص الحركة القومية إلا أن جهود الألبان إنتهت بتأسيس دولة مستقلة ووضعت أساس التطورات التي حدثت بعد الحرب العالمية الأولى.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الهامش
الأدبيات
- Library of Congress Country Study of Albania
- Mazower, Mark (2000). The Balkans: A Short History. Modern Library Chronicles. New York: Random House. ISBN 0-679-64087-8.
- Schwandner-Sievers and Fischer (eds.), Albanian Identities: Myth and History, Indiana University Press (2002), ISBN 0253215706.