الثورة الصربية
ثورة الصرب | |||||||
---|---|---|---|---|---|---|---|
جزء من صربيا المعاصرة | |||||||
| |||||||
المتحاربون | |||||||
Serbian revolutionaries متطوعون من امبراطورية هابسبورگ الامبراطورية الروسية |
الدولة العثمانية الامبراطورية الفرنسية الأولى | ||||||
القادة والزعماء | |||||||
Karađorđe Petrović Miloš Obrenović Mateja Nenadović Veljko Petrović Stanoje Glavaš |
السلطان سليم الثالث مرعشلي پاشا السلطان محمود الثاني ناپليون بوناپرت | ||||||
القوى | |||||||
80,000 Serbs[بحاجة لمصدر] | 300,000 Ottomans[بحاجة لمصدر] | ||||||
الضحايا والخسائر | |||||||
50,000 Serbs[بحاجة لمصدر] | 75,000 Ottoman[بحاجة لمصدر] |
ثورة الصرب أو صربيا الثورية تشير إلى الثورة الوطنية والاجتماعية للشعب الصربي بين 1804 و 1817، والتي تمكنت خلالها صربيا للتحرر بالكامل من الدولة العثمانية وأن تبزغ أمة-دولة اوروبية ذات سيادة. التعبير اخترعه المؤرخ الألماني الشهير ليوپولد فون رانكه في كتابه Die Serbische Revolution، المنشور عام 1829.[1] هذه الأحداث أرخت لتأسيس صربيا المعاصرة.[2]
الإطار الزمني المذكور أعلاه يغطي عدة أطوار للثورة:
- الانتفاضة الصربية الأولى (1804–13)، بقيادة Karađorđe Petrović
- Hadži Prodan's revolt (1814)
- الانتفاضة الصربية الثانية (1815) بقيادة Miloš Obrenović
ثورة الصرب
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
خلفية (1791-1804)
كانت باشاوية بلجراد (الصرب) مركزاً لأول ثورة ناجحة قامت بها شعوب البلقان ضد السلطة العثمانية، وكانت مشكلاتها الإدارية في نهاية القرن الثامن عشر في مختلف المجالات تعكس مشكلات أنحاء الإمبراطورية تحت حكم السلطان سليم الثالث. وكانت الصرب خلال القرن الثامن عشر مسرحاً لمعارك متكررة بين النمسا والدولة العثمانية بين أعوام 1716-1718, 1737-1739, 1788-1791 ارتبط خلالها مصير الصربيين بمصير أسرة الهابسبورگ التي تحكم النمسا ذلك أن تلك المعارك وما ارتبط بها من فوضى واضطراب دفعت مجموعات كبيرة كم الصربيين إلى الهجرة إلى المناطق النمساوية في البلقان وخاصة في جنوب المجر. وكانت أكبر هجرة جماعية ضمت حوالي سبعين ألف صربي قد حدثت زمن البطريرك أرسينيه الثالث Arsenije عام 1690 جعلت من سرمسكي كارلوڤتشي Sremski Karlovci مركزاً دينياً وثقافياً للصربيين وهو أمر له مغزاه.
وعلى هذا بقى الصربيون في مملكة النمسا في ظروف مواتية ساعدتهم أكثر على الإتصال الوثيق بالأحداث التي تقع في بلادهم (الصرب) عن بعد. وكان لابد أن يكون لهم تأثيراً مهماً على الحركة القومية وعلى التنمية الثقافية إدارة دولة الصرب القومية في القرن التاسع عشر.
والواقع أنه أثناء تلك الحروب كانت حكومة النمسا تباشر فعلياً أمور الصرب من الناحية الإدارية وهو أمر لم يكن محل ترحيب من غالبية الصربيين بسبب نشاط الكنيسة الكاثوليكية النمساوية في بلادهم وهم (الصربيون) من الأرثوذكس بصصرف النظر أن الصرب شأن النمسا تعارض الحكم العثماني. وكانت الكنيسة الكاثوليكية بموافقة حكومة النمسا تعمل على تحويل الصربيين إلى الكاثوليكية عكس الدولة العثمانية الت يتحاول عملياً تحويل إلى الإسلام. وهكذا لم يكن إحلال لورد إقطاعي مسيحي كاثوليكي نمساوي حل أحد الأعيان المسلمين أمراً مغرياً للصربيين أو هدفاً سياسياً يسعون له ذلك أن الإستقلال كان يمثل الأولوية بالنسبة لهم.
على كل حال، كانت النتيجة الرئيسية لحالة الحرب على الحدود طوال تلك السنوات أن الصربيين اكتسبوا خبرة القتال فقد اشتركوا في كثير من المعارك كعساكر نظامية في جيش النمسا أو في جماعات فدائية غير نظامية, أو في وحدات خاصة بهم وتحت قيادة ضباط منهم. وأكثر من هذا أنهم كانوا يتولون وظائف إدارية عليا في بلادهم أثناء الإحتلال النمساوي لها أكثر مما كانوا يحصلون عليه وهم تحت الحكم العثماني. وكانت الخبرة التي حصلوا عليها من حرب 1788-1791 ذات قيمة إذ التحق كثير منهم في الفرق العسكرية النمساوية غير النظامية حيث تحملوا في الواقع العبء الرئيسي في المعارك. وأثناء تلك الحرب قام كوتشا أنديلكوڤتش Koča Andjelković بثورة لم تنجح عرفت بـ"ثورة كوتشا". ورغم أن الصرب لم يجنوا فوائد فورية من اشتراكهم في الأعمال العسكرية وغيرها إلا أنها دربت قادتهم جيداً وجعلتهم يثقون في قدراتهم أكثر وأكثر.
غير أن سنوات تعاون الصربيين مع النمسا كانت مخيبة لآمالهم فقد شعروا أن النمسا لم تفِ بوعودها تجاههم, وأن شروط الصلح لم تجلب لبلادهم أية ميزات أو مكاسب. ورغم أن حدود النمسا ظلت أمراً يهم الصربيين بحكم القرب من بلادهم، إلا أن قادة الصرب اتجهوا إلى طلب المساعدة من روسيا التي سارعت بتقديمها عبر الدانوب عندما لم تساندهم النمسا، وفي الوقت نفسه ظلت هجرة اللاجئين من الإضطهاد العثماني تتدفق على النمسا والبلاد التابعة لها.
على كل حال فإن صلح سيستوڤا في 1791 وصلح ياصي في 1792 كما سبقت الإشارة أعطيا للسلطان سليم الثالث فترة للتفكير في إصلاح شؤون الإمبراطورية والحاصل أن رغبته في تحقيق أوضاع سليمة وقانونية تطابقت مع رغبة رعاياه من الصرب، ذلك أنه بعد فترة الخراب والتدمير التي احدثتها الحرب كان الصرب يمانعون في قبول استمرار الحكم العثماني في مقابل حصولهم على حقوق الحكم الذاتي وضمان تهدئة الأحوال في الريف.
غير أن لم يكن ممكناً تحقيق الإصلاح المطلوب بمرعفة الحكومة المركزية ذلك أنه بتوقف الحروب وجدت الإنكشارية والفرق العسكرية غير النظامية نفسه دون عمل ومن ثم انقلبوا على أهل الريف وأعملوا فيهم الإستغلال وافترسوهم ووقعت القرى في قبضة رجال تلك العصابات الذين حولوا أراضيها إلى مقاطعات خاصة. وانضمت مجموعات أخرى إلى الأعيان الثائرين وإلى عصابات قطاع الطرق وأعملوا السلب والنهب في المسالمين من المسلمين والمسيحيين على حد سواء وتحت تلك الظروف افقت مصالح الحكومة المركزية ومصالح الرعايا المسيحيين حيث لم يكن أحدهما يقبل تحمل استمرار تلك الأوضاع.
ولقد حاول السلطان سليم الثالث الذي كان متهماً بتلك المشكلات توفيق أوضاع الصرب وتخفيف سوء الأحوال القائمة فبادر أولاً بتعيين رجال للإدارة المحلية لهم صلاحيات التعامل مع الرعايا وقمع العناصر الخارجة على القانون، وثانياً أصدر ثلاثة فرمانات في سنوات 1793، 1794، 1796 أعطت الصرب ما كانوا يتطلعون إليه. ولقد حددت هذه الإجراءات علاقات الصرب بالحكومة العثمانية، فقد حصلو على حقوق واسعة وكثيرة فيما يتعلق بالحكم الذاتي المحلي، وأصبح باستطاعتهم جمع ضرائبهم بمعرفتهم، وحمل السلاح، وتكوين ميلشيات, كما تقرر تصحيح عيوب نظام الجفلك. ولقد أصبحت هذه الفرمانات تشكل البرنامج السياسي لزعماء الصرب في السنوات التالية. ولو كان قدر لهذه الفرمانات أن تطبق لكان من المحتمل تأجيل ثورة الصرب القومية.
غير أن السلطان سليم الثالث لم يتمكن هو وأعوانه من تنفيذ ما أصدروه من قرارات وكان هذا من سوء الحظ. وفي السنوات التالية تعاظمت مشكلات الإمبراطورية بشكل كبير, وظلت اسطنبول مركزاً للدسائس التقليدية والمؤمرات, وتكرر نقل المسئولين ذوي الكفاءة الإدارية القادرين على التفاهم مع الرعايا من مواقعهم وحلت محلهم العناصر التي كان الإصلاح يهدد مراكزها أو أولئك الذين أضيرت مشاعرهم الدينية جراء التنازلات التي قدمت.
ومن ناحية أخرى ظلت المشكلة الرئيسية في باشاوية بلجراد متمثلة في وجود فرق الإنكشارية التي قاومت فرمان 1791 الذي أصدره سليم الثالث بمنع عودتهم إلى هناك. ومما سهل تحديهم للحكومة المركزية نشاط مجموعات صغيرة أخرى متمردة وكذا نشاط بشفان اوغلو كما سبقت الإشارة. وهكذا صنعت الإنشكارية قضية مشتركة مع أولئك الذين لا يقبلون سلطة الباب العالي. ولمواجهة القوة العسكرية لتلك المعارضة اضطرت السلطات العثمانية لطلب المساعدة من الصرب. ولقد ارتبطت سياسة العثمانيين في الإعتماد على الصرب مقابل تقديم تنازلات لحاكم بلجراد حاجي مصطفى باشا الذي عرف ب "أب الصرب".
في تلك الأثناء كانت أكبر مشكلة تواجه العثمانيين في البلقان هي كيفية السيطرة على بشفان اوغلو، فهو لم يقنع بحكم مناطق بلغارية واسعة النطاق, بل لقد كان يرغب في أن يكون لأصدقائه الإنكشارية وضعاً راسخاً في بلجراد. وعلى هذا قرر السلطان سليم الثالث أن يتصرف بشدة وبحسم خاصة وأن الصربيين حصلوا بدورهم على امتيازات وسمح لهم بتكوين جيش خاص تحت رئاسة قياداتهم فأصبح كل السكان والحال كذلك يحملون السلاح.
ولأن التحالف بين القوات العثمانية الرسمية والمسيحيين كان قوياً وناجحاً تلقى بشفان اوغلو هزائم متكررة حتى اضطر للتقهقر داخل قلعته في فيدين التي ضرب عليها الحصار. ولكن الظروف الدولية العامة عرقلت الجهود العثمانية، ففي 1798 دخل بوناپرت مصر واضطر الباب العالي لتجريد البلقان من القوات العسكرية النظامية لمواجهة الغزو الفرنسي لمصر، وزادت في الوقت نفسه الضغوط على الباب العالي إذ كان من شأن سياسة تسليح المسيحيين ضد المسلمين استمرار جرح كبرياء العناصر المحافظة في الحكم.
كانت مجموعة الظروف الجديدة المتكافئة تمثل خطراً حقيقياً على مصالح الصرب ولما لم يكن باستطاعة سليم حشد قواته أو القيام بعمل عسكري فقد اضطر لمساومة بشفان اوغلو والعفو عن الإنكشارية والسماح لهم بالعودة إلى بلجراد شريطة أن يطيعوا حاجي مصطفى باشا. ولكن بمجرد عودتهم بوضعية قوية عادوا مرة أخرى إلى أساليبهم القديمة إذ سرعان ما تمردوا على حاجي مصطفى وقتلوه ميزان القوة إلى الإنكشارية وبشفان اوغلو على حساب السلطة المركزية والصرب.
بعد فترة من الصراع والإضطراب كانت فرق الإنكشارية خلالها تحارب بعضها بعضاً صعد أربعة من ضباط الإنكشارية من الصفوف الدنيا إلى قمة القيادة في عام 1802. وكان إمساك هؤلاء الضباط بناصية القوة يعني بالنسبة للصرب انتهاء الحقوق التي نالوها في الحكم الذاتي، ذلك أن الإنكشارية عادت ترهب أهالي الريف وتثير الرعب في نفوسهم وتكررت من ثم أحداث الماضي، وفر عدد كبير من الصربيين إلى التلال وانضموا إلى العصابات غير النظامية أو كونوا لأنفسهم عصابات جديدة. وظهرت من جديد وحدات عسكرية صربية في أنحاء البلاد وتركزت المقاومة في التلال ذات الغابات الكثيفة في إقليم سوماديا Sumadija، وهناك استطاع قرةديورديه پتروڤتش Karadjordje Petrovic أحد النبلاء المحليين أن يجمع حوله ثلاثين ألف مسلح بحلول ربيع 1804. وتمكن قادة محليون آخرون من تجميع عدد من الرجال في عدة مراكز في أنحاء الباشاوية.
اندلاع الثورة: الانتفاضة الصربية الأولى (1804-1813)
"عيناي وقلبي يحيـّون رفات أولئك الرجال الشجعان الذين كانت رؤوسهم المقطوعة حجر الأساس لاستقلال وطنهم. عسى الصرب أن يحتفظوا بذلك التذكار! فلسوف يعلـِّم أطفالهم دوماً قيمة استقلال الشعب، ويريهم الثمن الحقيقي الذي كان على آبائهم دفعه لنيل الاستقلال."
ألفونس دي لامارتين (1833)[3]
ثم ما لبث الموقف أن فرض هذه العصابات المسلحة على مسرح الحوادث، ففي مطلع 1804 واجه الصرب حقيقة مؤداها أن عليهم أن يدافعوا عن أنفسهم وما أن يشهدوا قادتهم وهم يتحطمون تماماً. والحاصل أن الإنكشارية كانت قد بدأت خلال يناير وفبراير 1804 في تنفيذ مذبحة لنبلاء الصرب المسيحيين تم التخطيط لها سلفاً بحيث لم ينقضي شهران إلا وتم قتل من 70-150 نبيلاً. وعلى الفور اجتمع حوالي ثلاثمائة من نبلاء الصرب في أوراشاك Orasac في إقليم سومادييا في فبراير واختاروا قرةديورديه بتروفيتش قائداً لهم بهدف تنسيق العمل وتوجيهه. وكانم هذا يعني في النهاية أن ثورة الصربيين قد بدأت إذ أصبح لديهم قائد وقضية يحاربون من أجلها.
ولما كان لكاراديورديه دوراً غاية في الأهمية في القيام بالثورة وفي بناء أول تنظيم سياسي لدولة الصرب يتعين أن نعطي فكرة موجزة عن تاريخه. والحقيقة أننا لا نعلم إلا القليل عن حياته المبكرة بل أن تاريخ ميلاده غير مؤكد ويحتمل أنه ولد في 1766 من أبوين فقيرين اضطرتهما الظروف للتنقل من مكان لآخر بحثاً عن الرزق. وقد عمل بطلنا عند عدد من كبار ملاك الأراضي حتى عام 1787 حين غادرت أسرته إقليم سومادييا إلى ڤويڤودينا هرباً من الإنكشارية ولجأت إلى دير كروشيدول Krusedol طلباً للحماية. ولما اندلعت الحرب النمساوية-العثمانية انضم كارديورديه للفرق العسكرية غير النظامية واشترك في المعارك التي دارت في غرب الصرب حيث اكتسب خبرات عسكرية لا يستهان بها.
وبعد صلح سيستوڤا، استقر في توپولا Topola في إقليم سومادييا وتاجر في المواشي. وقد أتاحت له هذهذ التجارة أن يتعامل مع النمسا وأن يكون على صلة بكثير من مواطنييه فضلاً عن حصوله على رتبة "بوليوباسا" Buljubasa (أي رئيس وحدة عسكرية من مئة رجل) في الميليشيا الصربية التي كونها السلطان سليم الثالث. وبهذه الصفة تعاون مع حاجي مصطفى ضد الإنكشارية إلى بلاد الصرب عام 1801 كما سبقت الإشارة رأي كارديورديه شأن كثير من الصربيين أنه يتعين القيام ببعض الإجراءات الدفاعية فرق الإنكشارية التي اشتهرت بالعنف والفوضى. على أن تاريخ كارديورديه والخبرة التي اكتسبها كانت تتماثل مع كثير من أهل بلاده مما سهل من مههمته فيما بعد.
لقد أصبح كاراديورديه زعيماً لأول تمرد صربي ضد الحكم العثماني وذلك بسبب قدراته الشخصية التي جذبت إليه الصربيين فضلاً عن شجاعته، وقدرته على حسم الأمور، وحكمته التي بدت في تعامله مع الموقف الدولي المعقد زمن نابليون بونابرت، إذ نجح في رفع المسألة الصربية من مجرد مشكلة عثمانية داخلية إلى مسألة دولية, وكان قادراً على التعرف على مزاج رجال بلاده وتعامل معهم على هذا الأساس, وبالتالي نجح في السيطرة على الحركة الثورية في مواجهة صراع المصالح العظمى التي لا حصر لها.
ويبدو واضحاً أن قدرات كاراديوريه في التعامل مع الشؤون المحلية كانت عاملاً حاسماً في احتفاظه, ففي بداية الثورة واجهته تحديات من القوى السياسية في المدن والضواحي والقرى بسبب النظام العثماني اللامركزي في حكم الأقاليم التابعة والذي سمح بمشاعية السلطة على ذلك النحو وعدم تركزها في هيئة محددة, وهي أمور ظلت قائمة حتى أن إصلاحات تسعينات القرن الثامن عشر لم تمسسها, فمثلاً لم تكن هناك سلطة "صربية" مركزية للباشاوية بل كان لكل منطقة قادتها والمتحدثون باسم أهلها. وعلى هذا وفي 1804 (عام الثورة) كان كارديوريه شخصية معروفة وتحظى بالاحترام في منطقته فقط (سومادييا).
وفي الجزء الغربي من الإقليم الشرقي كان ياكوف نينادوفيتش Jacov Nenadovic هو الشخصية الرئيسية بين أهلها, وفي القسم الشرقي كان يحظى بالمكانة نفسها كل من ملينكو ستويكوفيتش Milenko Stojkovic, وبيتر دوبرنياك Dobrnjac. وسرعان ما انفجر حاداً بين هؤلاء الرجال وأتباعهم وبين كاراديورديه وأنصاره ولما كان منافسو كاراديورديه مهتمون فقط بالإفادة من الموقف لمصلحتهم الشخصية ومكانتهم في الإقليم فقد فعلت الغيرة بينهم ووقفوا ضد كل المحاولات التي كانت تستهدف إيجاد حكومة مركزية صربية قومية وقوية, فلم يكن أي منهم يرغب في أن يرى قوته تضعف بين أهله في منطقنه لحساب سلطة مركزية, وأقصى ما كان يمكن أن يقدموه مجرد التعاون مع حكومة مركزية للإطاحة بالحكم العثماني. وأكثر من هذا أنهم حاولوا كما سوف نرى تجنيد عناصر لمساعدة روسيا ضد كاراديورديه.
لقد وضع كاراديوريه في اعتباره أن حل مشكلة بلاده الصرب لن يأتي إلا بإيجاد سلطة مركزية للثورة تعمل على تسوية المشكلات الداخلية التي يعاني منها الأهالي مثل توزيع الأراضي الزراعية, وتحقيق لعدالة ضماناً لوحدة الموقف. غير أن منافسيه ظلوا ينتقدونه بشدة بغية عزله من القيادة وإحلال غير محله واستخدموا كل الأساليب التي من شأنها تشويه صورته بين الناس ولدى حكومة روسيا التي تناصر حركة الصربيين. ومن ذلك أنهم خاضوا في حياته الشخصية, وانتقدوا أخلاقه, وادعوا أنه يتعامل بقسوة متناهية، وأنه أثرى من حيازته لمنافع عثمانية, وأنه تورط في مختلف المكائد التي التي دبرت ضد الصرب وممارسة العنف ضدهم, بل لقد أعلنوا أنه لن تأتي مساعدات من روسيا ما لم يتم استبداله بقائد آخر. ورغم قسوة الهجوم إلا أن الرجل ظل محتفظاً بقدرته على قيادة أول ثورة صربية بشكل مركزي حتى هزيمته العسكرية, وهي خصوصية صربية لم تشهدها ثورة اليونانيين فيما يعد ضد الحكم العثماني.
على كل حال . . فإن تلك الإنقسامية بين القوى السياسية في الصرب لم تكن واضحة المعالم خلال الأيام اللأولى من الثورة لكن سلوك فرق الإنكشارية الفجائي في يناير 1804 كما سبقت الإشارة أنتج رد فعل قومي عفوي من أجل البقاء ومن هنا جاء اختيار قرةديورديه قائداً أعلى للثورة دون منازع في فبراير كما رأينا. وآمن كل الصربيون بضرورة وجود سلطة فردية تنفيذية قوية تتولى قيادةالأمور وعلى هذا أصبح بإمكان كاراديوريه بعد مايو 1804 أن يوقع أوامره وبياناته باسم "الفويفودا الأعلى" Vojvoda (أي الدوق) زعيم الصربيين وقائدهم.
وفي البداية كانت هناك وحدة بين الصربيين ليس فقط في القيادة وإنما في الهدف المراد تحقيقه. وهنا تنبغي الإشارة إلى أن الثورة في تلك المرحلة لم تكن تستهدف الإستقلال عن الدولةالعثمانية بل كانت موجهة ضد سيطرة الإنكشارية في لباد الصرب باتجاه استعادة حقوق الحكم الذاتي التي كانت الحكومة العثمانية قد وافقت عليها من قبل. وآنذاك كان ممثلو الثورة على إتصال منتظم بالباب العالي بشأن أماني الصربيين حيث أكدوا خلال مباحثاتهم معه أن غرضهم التوصل إلى شروط تضمن وضع حكومتهم الذاتية داخل نطاق الدولة العثمانية.
وكانت مطالبهم الفورية تتلخص في إبعاد رؤساء فرق الإنكشارية الأربعة, والعفو التام عن المتمردين الصرب. وفي الوقت نفسه أبدوا رغبتهم في أن يعترف الباب العالي برئيس من بين الصربيين يكون كبيرهم Kens سلطة على صرب الباشاوية (أي بلجراد), ويكون مسئولاً عن تسديد الضرائب, وتمثيل قومه أمام الحكومة العثمانية. كما شملت الرغبة أيضاً أن تفرض الضرائب والجزية دون تعسف في جمعها فضلاً عن منع الإنكشارية من حيازة أرض ريفية, ووضع ضوابط لحق المسلمين في الإقامة في المدن الصربية, وكذا ضمان حرية العقيدة، والتجارة، والإنتقال. وفي أثناء المباحثات مع السلطات العثمانية حول تلك النقاط كان زعماء الصرب يرنون ببصرهم لحكومتي النمسا وروسيا لتقديم العون والمساعدة اللازمة.
وبهذه المطالب الصربية كان على الحكومة العثمانية أن تواجه تمرد فرق الإنكشارية مرة أخرى ومما ساعدها في ذلك أن علاقتها بالمسيحيين كانت قوية وأن السلطان سليم الثالث نفسه لم يكن يرغب في الوقوف ضد أمني الصرب. وعلى هذا أوفد أبوبكير باشا وزير البوسنة إلى بلجراد للقضاء على الإنشكارية وقد نجح في إيقاع الهزيمة بهم في أغسطس 1804. ومع ذلك لم تستقر الأمور ذلك أن فرق المسلمين المتمردة كانت ما تزال قوية وفي الوقت نفسه لم تكن الحكومة العثمانية راغبة رغبة حقيقية في تقرير الحكم الذاتي للصرب الأمر الذي دفع زعماء الصرب للبحث عن مساندة خارجية لضمان تنفيذ شروط الحكم الذاتي. وعلى هذا ذهب إلى روسيا في نوفمبر 1804 وفد صربي كان من أعضائه ماتييا نينادوفيتش Matija Nenadovic من أشهر رجال الكنيسة حيث استقبله وزير خارجية روسيا آدم سيزارتورسكي Czartoryski الذي نصحهم بالتعامل مع الباب العالي مباشرة لأن روسيا كانت تتعاون آنذاك معه في ضد نابليون بونابرت.
وهكذا بقيت الأوضاع في الصرب مائعة ومن ثم اخذ زعماؤها يتطلعون للإتصال بالجماعات المسيحية في البوسنة والهرسك وعصابات اللصوص اليونانيين وحكام مولدافيا وولاشيا استعداد لإمكانية التحرك في المستقبل. وعلى الجانب الآخر أخذت فرق الإنكشارية تتجمع من جديد وتضم إليها العصابات الخارجة على القانون لإستعادة مكانتهم مرة أخرى حيث تسللت داخل القرى خلال شتاء وربيع 1805 لتثير الفوضى والفساد والرعب بين الأهالي. وكانت الإدارة العثمانية أضعف من أن تضبط العناصر الخارجة علىالقانون, والأهم من ذلك أن السلطان سليم اضطر تحت الضغط إلى تغيير موقفه حيث أصبح مقتنعاً في ربيع 1805 بأن الصربيين متمردون ووجب تأييدهم, ومن ثم تخلى عن سياسة التآلف معهم وبادر بتعيين باشا نيش Nis حافظ باشا حاكماً جديداً على بلجراد وزوده بجيش للتعامل مع الصربين. غير أن جيش حافظ باشا هزم عند ايفانكوفو Ivankovo في أغسطس 1805 الأمر الذي شجع الصربيين على التقدم نحو بلجراد وفي نوفمبر استولوا على سميدروفو Semederovo التي أصبحت أول عاصمة لحكومة الصرب الجديدة ثم سقطت بلجراد في أيديهم في العام التالي.
وأمام سيطرة قوات الصرب على باشاوية بلگراد وتجدد حالة الحرب كان من الطبيعي أن تبدي الحكومة العثمانية رغبتها في تسوية المسألة الصربية عن طريق التفاوض مع إبداء استعداد حقيقي لتقديم تنازلات عريضة. وكان من شأن هذا الموقف الجديد أن تتغير مواقف كل من الصرب والروس. فروسيا وهي في حالة حرب مع العثمانيين كانت لها مصلحة في استمرار ثورة الصرب, والصرب التي حققت النجاح في المعارك الحربية كانت تجذبها أكثر فكرة الإستقلال, والباب العالي أظهر استعداده لمنح الصرب قدراً كبيراً من الحكم الذاتي. وأصبح السؤال بالنسبة للصرب آنذاك ما الذي يمكنهم الحصول على أكثر, وإلى أى مدى يمكن الثقة في إلتزام الباب العالي بالإتفاق معه والعمل على تنفيذه ولكن تحت الظروف القائمة ظل إغراء استمرار التمرد لتحقيق استقلال حقيقي أمراً قوياً. وكان الصربيون يدركون أن التوصل إلى قرار نهائي في هذا الشأن يتوقف على موقف روسيا الذي سيكون له تأثير حتمي على مستقبل وجود دولة صربية قوية.
على كل حال، ففي صيف 1807 وصل إلى الصرب الكولونيل الروسي بولوتشي F.O. Paulucci لتقدير الموقف السياسي والعسكري هناك, ولتحديد نوع المساعدة التي تحتاجها الصرب, ونوع المساعدة التي تستطيع روسيا أن تقدمها في الحرب المشتركة ضد الدولة العثمانية. ولكنه مزوداً بصلاحيات لعقد أي اتفاق ملزم, وهو أمر لم يكن موضع اهتمام الصربيين كما تكشف الوثائق المتاحة. وانتهت الزيارة بتفاهم في العاشر من يوليو عرف باتفاق بولوتشي-كاراديورديه طالب ضمن شروط أخرى بتعيين مسئولون روس في بلاد الصرب, وإقامة حامية عسكرية روسية في المدن, وإرسال مساعدات روسية عسكرية واقتصادية. أما وقد اعتقد قرةديورديه أنه حصل على تأكيدات واثقة بدعم روسي فقد تبنى سياسة تستهدف استقلال الصرب وليس مجرد الحصول على حكم ذاتي تحت الحكم العثماني. وسرعان ما اتضح التسرع في توقيع اتفاق بولوتشي-كاراديورديه هذا عندما تبين أن روسيا وفرنسا عقدتا معاهدة تيلست Tilsit قبله خلال أيام 7-9 يوليو وكانت أحد موادها تنص على أن تحاول فرنسا من جانبها أن تعمل من أجل التوصل إلى عقد صلح بين روسيا والدولة العثمانية.
كان للتفاهم بين روسيا وفرنسا على ذلك النحو تجاعيات سيئة وفورية على الصرب إذ سرعان ما عقدت روسيا في أغسطس هدنة سلوبوزيا Slobozia مع الدولة العثمانية على أثرها تركت القوات الصربية في العراء تواجه القوات العثمانية رغم أن المفاوضين الروس لتوقيع الهدنة كانت لديهم تعليمات بعدم التخلي عن الصرب. وعلى هذا كان من الطبيعي أن يزداد عداء العثمانيين للمتمردين الصرب.
روغم صعوبة الموقف إلا أن قوات الصرب كانت قادرة على الإحتفاظ بالسيطرة على الموقف في الريف وأصبح مصير الصرب النهائي يتوقف فيما يبدو على تطور الأحوال الدولية. وكانت الظروف في الصح الصرب على وجه الإجمال فقد انشغلت الإدارة العثمانية بالصراع على العرش الذي انتهى بخلع سليم الثالث وصعود السلطان محمود الثاني للحكم, ولم يكن بامكان السلطان الجديد تجريد حملات عسكرية ضد متمردي الصرب بل كان أكثر ميلاً للتفاوض للتوصل إلى تسوية, وكانت مشكلة التسوية تبدو في صعوبة الإتفاق على وضع حدود معينة لدولة الصرب الجديدة.
وفي تلك الفترة الحاسمة من الصراع استمر كاراديورديه يواجه خصومه في الداخل, وكانوا قد نجحوا في 1805 في تشكيل مجلس لمراقبته باسم المحكمة العليا, لكنه كان مجلساً شكلياً لم يحل دون أن يعلن كاراديورديه نفسه القائد الأعلى للبلاد 1808 وذلك بعد فشل مؤامرة خصومه ضده بتأييد من المبعوث الروسي كونستاتيور رودوفنكين Rodofinikin الذي كان قد وصل إلى الصرب في أغسطس 1807. وعلى هذا أخذ الرجل يتطلع للحصول على مساعدة فرنسا والنمسا للإحتفاظ بسلطته رغم أنف المعارضة.
ورغم المعاناة التي لقيها كاراديورديه من المبعوث الروسي إلا أنه اعترف بوحدة المصالح التي تربط بلاده بروسيا. ولهذا فعندما اندلعت الحرب بين روسيا والدولة العثمانية مرة أخرى في 1809 كان كاراديورديه يستعد لمساندة جيوش روسيا. غير أن التعاون بين الطرفين لم يكن مؤثراً فرغم أن كاراديورديه شن هجوماً ناجحاً على نوفي بازار Novipazar إلا أنه هزم هزيمة شديدة في نيش أمام القوات العثمانية التي واصلت تقدمها إلى بلجراد, مما أدى إلى فرار عدد كبير من الصربيين عبر الدانوب في أغسطس 1809 بما فيها المبعوث الروسي رودوفنكين. ومع أن الصرب لم تهزم تماماً في هذه المواجهة إلا أنه حدث تحول ملحوظ في حركة المتمردين, إذ كان عليهم البقاء في خط الدفاع للإحتفاظ بالمقاطعات التي تحت سيطرتهم.
وبناء على تلك التطورات عادت القوات الروسية إلى الصرب في يونية 1810 للمرة الثانية بقيادة المارشال كوتوزوف Kutuzov مزودة بأسلحة ومعدات ومواد طبية لللإشتارك مع الصربيين في وضع خطة مشتركة للمواجهة مما جعلهم يشعرون بأن انتصارهم في قضيتهم بات قريباً أو قاب قوسين أو أدنى. غير أن مجريات الأمور على المسرح السياسي في أوروبا عصفت بآمال الصربيين وخيم التشاؤم عليهم.
والحاصل أن قيصر روسيا ألسكندر الأول وكان يواجه غزواً فرنسياً وشيك الوقوع أصبح راغباً في عقد معاهدة صلح نهائية مع الباب العالي حتى يكون بإمكانه سحب قواته المشاركة مع العثمانيين لمواجهة ذلك الغزو المتوقع. لكن كما حدث عند توقيع هدنة سلوبوزيا تصرفت روسيا ضد مصالح حلفائها إذ لم يعلم الصربيون مسبقاً بمفاوضات الروسي في هذه المرة الثانية في وقت كانت توقعات الصربيين فيه عالية في حقيق الإستقلال, وكان كاراديورديه قد بلغ أوج قوته.
وفي المفاوضات الروسية-العثمانية التي انتهت بعقد بوخارست في مايو 1812 حاول المفاوضون الروس عمل شيء للصربيين حلفاؤهم السابقين فكانت المادة الثامنة من المعاهدة تختص أثناء الثورة ما لم تكن لها قيمة معينة لدى الحكومة العثمانية, وتعاد الأجهزة العثمانية والمنشآت التي كانت قائمة في بلاد الصرب قبل عام 1804 وتكون تحت حماية قوات عثمانية. وفي المقابل وعد الباب العالي بإصدار عفو عام عن المعارضة الصريبية, ومنح حقوق حكم ذاتي مؤكدة, وأن يقوم الصربيون "بإدارة شؤونهم الخاصة", وتثبيت الضرائب وجمعها بمعرفتهم وتوريدها إلى الخزانة العامة في استنبول.
كان رد فعل تلك المعاهدة لدى الصربيين شديداً ذلك أن عودة العثمانيين لاحتلال قلاع ومدن الصرب مرة أخرى كان أمراً مرفوضاً ومن ثم توقع الجميع اندلاع موجة من الثأر المخيف خاصة وأن حكومة الصرب لم يكن لديها ضمانة با، الحكومة العثمانية سوف تنفذ المادة الثامنة من المعاهدة, بل أن قيام روسيا بتشجيع الصربيين على التفاوض المباشر مع العثمانيين أشعرهم بعدم الأرتياح خاصة عندما أصبح واضحاً أن روسيا للصرب في المرحلة التالية مجرد دعم دبلوماسي. ولقد تأكدت مخاوف الصربيين فور رجوع القوات الروسية إلى بلادهم إذ أصبح بإمكان الدولة العثمانية تركيز قواتها في الصرب بعد صلحها مع روسيا إلى بلادها إذ أصبح بإمكان الدولة العثمانية تركيز قاوتها في الصرب بعد صلحها مع روسيا (صلح بوخارست) . وسرعان ما تقدمت ثلاثة جيوش عثماينة في أراضي الصرب دفعة واحدة واضطر كاراديورديه ومعه عدد من القادة لعبور نهر الدانوب في يوليو 1813 إلى أراضي النمسا وهنا دخلت القوات العثمانية بلجراد وهي المدينة التي أجبروا على مغادرتها في 1806 كما رأينا ووقع أهالي المدينة ضحية أعمال ثأر بشعة وعقوبات شديدة. وبهذا انتهت ثورة الصرب الأولى بعد حالة من الحروب دامت تسع سنوات استنزفت خلالها مصادر الصربيين بشرياً ومادياً.
ورغم فشل الصربيين في ثورتهم إلا أن بلادهم حققت الكثير تحت قيادة كاراديورديه إذ تم تنظيم التمرد, وتم تأسيس أول حكومة صربية منفصلة عن الدولة العثمانية, ووقعت في يدهم كثير من ممتلكات العثمانيين بما فيها أراص ومنازل ومحلات ومخازن. ومن ناحية أخرى لفتت الثورة انتباه دول العالم وخاصة روسيا إلى المسألة الصربية التي أثبتت الحوادث بدرجة غالية أن مستقبل الحكم الذاتي للصربيين مرهون بموقف روسيا وعلى مدى رغبتها في استعادة الحكم الذاتي للصربيين. والأكثر أهمية أن محاولات جرت للإجابة على سؤال جوهؤي بمسألة سياسية كبرى ألا وهو: هل وجود نظام حمن مركزي لأقاليم تابعة متنوعة الأعراق والأديان أكثر فائدة أم قيام حكومة تمسك بزمام السلطة فيها مختلف الأقليات والجاليات المحلية القائمة؟.
والملاحظ أنه بعد الغزو الفرنسي لروسيا في يونيو 1812 تركزت أنظار الدولة العثمانية وكل دول أوروبا على المنطقة ثم على المعارك التي دارت في وسط أوروبا حتى هزيمة نابليون واحتلال فرنسا ذاتها. وخلال تلك الفترة من الإضطرابات كانت الحكومة العثمانية تزيد السلام على أراضيها, ومن ثم اتبعت سياسة لتوفيق الأوضاع مع الصربيين ومن ذلك أنها أعلنت في اكتوبر 1813 العفو العام الذي أفاد منه بكثير من قيادات الصرب بما فيهم زعيم المرحلة التالية من حركة الصرب القومية ميلوش أوبرينوفيتش Milos Obrenovic حيث عادوا إلى مواقعهم في السلطة المحلية. ومع عودة الصربيين إلى وطنهم غادر العساكر العثمانية المناطق الريفية وكذا كثير من المسلمين.وهكذا كان الصربيون ما يزالون أقوياء ولكن زيادة عدد خصومهم كان أمراً محتملاً أيضاً.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
حاجي پرودانوڤا بونا (1814)
ورغم الإجراءات التي اتخذتها السلطات العثمانية للوفاق مع رعاياها إلا أن المشاعر السيئة بين المسيحيين والمسلمين ظلت قائمة ولم يتم اتخاذ مواقف محددة بشأنها. وهكذا وفي 1814 انفجرت ثورة في مدينة رودنيك Rudnik في باشاوية بلجراد وعرضت السلطات العثمانية على رئيس المدينة (Kens) ميلوش أوبرفيتش إنهاء الثورة في مقابل العفو العام عن المتمردين. ورغم أن محافظ بلجراد سليمان باشا أكد هذا العرض إلا أنه تم ذبح كثير من المتمردين بعد القضاء على التمرد. وهنا عادت مخاوف الصربيين مرة أخرى فهرب بعضهم واستعد البعض الآخر للثورة. وفي أبريل 1815 تخلى ميلوش عن سياسة التعاون مع العثمانيين وتولى زعامة الثورة. وفي هذه المرة كانت الظروف المحلية والدولية في صالح الصربيين, فأولاً كان الصربيون أفضل عدداً مقارنة بالقوات العثمانية, وثانياً أن حالة الحرب العامة التي كانت سائدة في أوروبا ووترلو في ويونية 1814 بهزيمة نابليون وفي الوقت نفسه لم تكن الحكومة العثمانية مستعدة لمواجهة ثورة كبرى.
المرحلة الأخيرة: الانتفاضة الصربية الثانية (1815-1817)
وعلى هذا انفتح الطريق للإتفاق بين الصرب والحكومة العثمانية، فالباب العالي كان في حالة مزاجية إيجابية، وميلوش اوبرنوڤيتش يرغب في التفاوض في الوقت نفسه. وهكذا ذهبت وفود صربية لاسطنبول لتعلن أن تمرد الصرب لم يكن ضد السلطان وإنما كان ضد سليمان باشا بسبب حكمه السيء. وقد زاد من قوة الصرب في الحقيقة موقف روسيا التي أفهمت الباب العالي بأنه إذا لم يتوصل إلى اتفاق مع الصرب فإنها سوف تثير مسألة تطبيق المادة الثامنة من معاهدة بوخارست، فما كان من الحكومة العثمانية إلا أن سحبت سليمان باشا وعينت بدلاً منه علي باشا المرعشلي.
المفاوضات/ الوضع القانوني لصربيا
وهكذا وفي إطار هذا المناخ الجديد تم التوصل في نوفمبر 1815 إلى تفاهم شفاهي بين المعشلي باشا وميلوش الذي طالب بتنفيذ الشروط التي سبق أن وافقت عليها الحكومة العثمانيةةة في عام 1807 والتي كان كاراديورديه قد رفضها عندما قرر الدخول في حرب من أجل الإستقلال. وتم الإتفاق على الإعتراف بميلوش كبيراً للصربيين Kens, وأن يزود كل إقليم بموظفون صربيين وعثمانيين رسميين لتولي القضاء في الحالات التي يكون فيها الصربيون طرفاً في الخصومة, وإنشاء مجلس قضائي في بلجراد يكون بمثابة محكمة عليا في البلاد, وأن يتولى مسئولون صربيون مهمة جمع الضرائب المقررة, وتسوية ضرائب الأطيان مبقتضى فرمان. وبالفعل وبعد ثلاثة أشهر من هذا الإتفاق الشفاهي أصدر السلطان محمود الثاني فرماناً يؤكد على هذه الترتيبات. كما تم منح الأراضي ميزات في التعريفة الجمركية والتجارية, وتم إبعاد عائلات الإنكشارية عن الأراضي المملوكة للصربيين, وأن يعمل مسئولون صربيون وعثمانيون معها في إدارة شؤون المدن والمواقع العسكرية,كما تم إصدار العفو العام.
غير أن تلك الشروط الجديدة لم تجعل من الصرب حكومة ذاتية حقيقية داخل الإمبراطورية العثمانية وهو الأمر الذي لم يتحقق إلا في عام 1830, لكنها أنهت أعمال الثورة والمعارك العسكرية, ثم أخذت خطوات الحكم الذاتي تتحقق تدريجياً بفضل المفاوضات الدبلوماسية وضغط روسيا على الحكومة العثمانية. وفي كل الأحوال تمكن الصربيون من إدارة شؤون بلادهم بانفسهم وأصبح لهم قائدأ وطنياً معترف به, وأقاموا قاعدة وطنية أسهمت في تحقيق التطور القومي في المستقبل.
أجهزة الدولة
حكومة الصرب الذاتية
بتوقيع اتفاقيتي عامي 1815-1816 مع السلطات العثمانية أصبح الصربيون يتمتعون بحكومة شبه ذاتية, ومن ثم كان على قادتهم أن يتفقوا على كيفية تشكيل الحكومة وتنظيم إدارة البلاد. وفي السنوات التالية واجهوا المشكلات الكبرى التي واجهت كل رجال السياسة في بلاد البلقان فور استقلالهم عن الدولة العثمانية, فقد كان عليهم أولاً تحديد الإطار السياسي لعمل الحكومة وعلاقتها بالسلطات الفرعية والمحلية في الأقاليم, وثانياً تحديد مسار السياسة الخارجية للبلاد, وثالثاً الاهتمام بالأوضاع اٌجتماعية والإقتصادية الداخلية.وكانت المشكلات الرئيسية هي المشكلات نفسها التي كانت قائمة أيام الثورة وتتلخص في العلاقة بين ميلوش والنبلاء المعارضون وضرورة تسويتها,وتشكيل جمعية شعبية لمراقبة السلطة التنفيذية, فضلاً عن تحديد مكانة الكنيسة الأرثوذكسية في الحكومة العلمانية الجديدة.
أما فيما يتعلق بالعلاقات الخارجية فقد واجهت الحكومة الجديدة مشكلتين غاية في الأهمية أولهما عدم وضوح حقيقة وضع الصرب داخل الإدارة العثمانية رغم الإتفاقيتين, ومن ثم ظل هدف الصرب التوصل إلى حكومة ذاتية كاملة تكفلها معاهدة دولية. وثانيهما أن "دولة" الحكومة الجديدة وفق حدودها المقررة كانت تضم أقلية من الصرب, وكان هذا يعني ضرورة توسيع الحدود في المستقبل بحيث تشمل المناطق التي يعيش فيها كل الصربيين, وتنظيم العلاقات مع الدول الكبرى والباب العالي فيما يتعلق بالشؤون الخارجية, ذلك أنه بالرغم من أن روسيا كانت "الدولة الحامية" للصرب إلا أن النمسا وفرنسا وبريطانيا كانت تتدخل في شؤون الصرب حسب مقتضى الحال وخاصة النمسا التي كانت أراضيها متاخمة لأراضي الصرب عكس روسيا التي لم تكن بينها وبين الصرب حدود مشتركة.
وأخيراً كان على قادة الصرب الجديدة مواجهة مشكلة إنهاض بلدهم من وهدة التخلف الشديد وإدخاله إلى العالم الحديث من حيث إقامة شبكة من الإتصالات, وتوفير شروط ملائمة للتجارة والتبادل التجاري, وإقامة نظام تعليمي وطني, وهي مسائل ظلت مهملة في القرن التاسع عشر إلى حد كبير بسبب الانشغال بالصراع السياسي الداخلي والاهتمام بالتوسع الخارجي. ولما كان أغلب الصربيين من الفلاحين فقد كانت مشكلة الأرض الزراعية من حيث التملك والاستغلال وعلاقات الإنتاج لها أولويتها على سائر المشكلات.
كانت أول مشكلة سياسية واجهت حكومة الصرب الجديدة وجود ميلوش اوبرنوفيتش نفسه على مسرح السياسة مسيطراً على الأمور في العاصمة بلجراد. وقد استند في هذا إلى دوره في الثورة ضد كاراديورديه التي شارك فيها وهو في الثالثة والعشرين من عمره ضمن مجموعة كان يرأسها شقيقة ميلان. وعندما مات ميلان مسموماً اتهم أنصاره كاراديورديه الذي لم تثبت مسئوليته عن ذلك أبداً, واستمر ميلوش في العمل مع أصدقاء أخيه وزادت مكانته بين مواطنيه عندما هرب كارديورديه في 1813.
كان ميلوش كما رأينا يفضل تحقيق مكاسب لبلاده عن طريق التفاوض مع الباب العالي أكثر من اللجوء إلى التمرد والعصيان المسلح.ورغم أن هذا الأسلوب كان يتفق مع ظروف دولية مواتية وأدى إلى تحقيق مكاسب للصرب, إلا أن شخصية ميلوش نفسه ظلت مثار اختلاف وجدل كبير بين معاصريه, فلقد تولى السلطة (1816) في وقت لم تكن الصرب قد أقامت حكومة مركزية أو نظام إداري أو قوانين وتشريعات. وعلى هذا كان عليه أن يعمل من أجل إقامة بناء دولة نفسه يتعامل مع الحكومة العثمانية أصلاً في الحصول على حقوق أكثر ضمان عدم التعدي على حقوق التي تم اكتسابها فعلاً وفي إطار تلك الظروف قام ميلوش بتركيز كل مظاهر السلطة في يده حتى لقد قيل أنه كان يدير أمور البلاد كأحد الباشاوات الأتراك. ولقد جاءت المعارضة الأساسية له من أولئك الذين يساندونه إلى حد ما وخاصة النبلاء الذين كانت لهم مكانة زمن الثورة ولكنه ظل محتفظاً بشعبيته بين الغالبية العظمى من الفلاحين الذين اعتادوا لقرون طويلة العيش في مجتمع أبوي تحت سلطة مطلقة, ولهذا لم يجدوا في أسلوب حكمه تناقضاً مع فهمهم لمعنى القوة السياسية.
على أن ميلوش لم يتردد في تسخير منصبه السياسي ومكانته بين الناس للحصول على أكبر قدر من المكاسب لنفسه, ورغم أن زعماء الحركات الثورية الأخرى كانوا سواء في هذا السلوك بدرجات متفاوتة إلا أن ميلوش اختلف عنهم جميعاً من حيث درجة النجاح الذي حققته وطبيعته . . فرغم أنه ينحدر من أسرة فقيرة إلا أن ثروته بلغت في عام 1837 أي قبل تنازله عن العرش بعامين فقط مليون وستمائة ألف جروسه Groschen أي ما مقداره 17% من دخل الدولة وقدره تسعة مليون ونصف مليوناً. ولكي يحقق هذه الثروة استخدم عدة وسائل كالاستيلاء على أراضي الملاك الأتراك السابقين, واحتكار تصدير الثروة الحيوانية وبيع الملح, والإبقاء على سخرة الفلاحين في الأراضي التي استولى عليها, ومن ثم توفرت له أموالاً اشترى بها أثنا عشر إقطاعية في ولاشيا حتى لقد كان وهو في المنفى في أربعينات القرن التاسع عشر يعد واحداً من أغنى أغنياء العالم.
على كل حال . . فرغم فساد ميلوش الواضح وفق المقاييس الغربية على الأقل, إلا أنه أقام حكماً وطنياً, واكتسب اعترافاً دولياً بحكومة بلاده الذاتية وربما كان هذا أفضل شيء جدير بالاعتبار حققه الرجل في تاريخه. وفي هذا الخصوص ينبغي أن نعرف أن الشروط التي منحت لحكومة الصرب الذاتية بمقتضى اتفاقية فيينا التي سبقت الإشارة إليها لم تكن مرضية لميلوش إذ تم الاعتراف به حاكم عالي المقام دون أن يكون حكمه وراثياً في أسرته, كما أن حدود دولته الجديدة لم تكن قد حددت بعد, والموظفون العثمانيون ما يزالون يقومون ببعض الوظائف في بلاده. وهكذا كان أول هدف له الحصول على حق الوراثة في حكمه, وتسوية الحدود بأكبر قدر ممكن من التوسع, والتخلص من كل الموظفين العثمانيين والعساكر التي تعسكر في بلاده.
وفي علاقته بالباب العالي واصل ميلوش إتباع سياسته التقليدية من حيث التفاوض واستخدام الرشاوي وإظهار الولاء للسلطان والتعاون معه, وكان أحد مظاهر هذه السياسة قيامه بتسليم رأس كاراديورديه, والامتناع عن تقديم مساعدات لليونانيين في ثورتهم ضد السلطان. وأما بخصوص رغبته في أن يكون حكمه وراثياً نجده يكون جمعية في 1817 انتقى أعضاءها بنفسه بادرت بإعلانه "أميراً وراثياً" ولكنه كان بحاجة إلى موافقة الباب العالي لكي يجعل الأمر نافذاً.
الجدير بالذكر أن النجاحات الأولى التي حققها ميلوش لم تكن بسبب مهارته الخاصة فقط بقدر ما كانت بسبب تأييد روسيا ومساندتها له وخاصة في العلاقات الدولية. فمن المعروف أن معاهدة القرم عام 1826 اشترطت تنفيذ المداة الثامنة من معاهدة بوخارست الخاصة بوضع الصرب تحت حماية روسيا, ثم تأكدت هذه النقطة في معاهدة آدريانوبل عام 1829. ثم أصدر السلطان العثماني في 1830 "خط شريف" أصبحت الصرب بمقتضاه حكومة ذاتية حقيقية . . أي أنه بحلول عام 1830 أصبح ميلوش حاكماً على الصرب معترف به ويتمتع بحق توريث الحكم في أسرته, وسيطر زعماء الصرب على شؤون بلادهم الداخلية, وتولى الموظفون الصربيون أمور الإدارة من حيث جمع الضرائب, وتم تنظيم شؤون الكنيسة وكافة المسائل المتعلقة بالوطنيين. وتقرر منع العثمانيين من البقاء في قرى البلاد, ومنع تركز المسلمين في المدن الرئيسية الحصينة, ومصادرة أراضي العثمانيين بإتفاق مع الباب العالي على تعويض أصحابها من حصيلة الجزية المقررة على الصرب.
على أن مشكلة رسم حدود الصرب مع جيرانها ظلت قائمة, وفي هذا الشأن طالب ميلوش بتنفيذ ما تقرر في اتفاقيتي القرم وآدريانوبل من أن تشمل الصرب على الستة أحياء التي كان كاراديورديه قد ضمها. ولما كان السلطان العثماني آنذاك مشغولاً بمواجهة توسع محمد علي باشا والي مصر في بلاد الشام فلم يفكر في مقاومة مطالب ميلوش فبادر بالتنازل عن الستة أحياء للصرب في نوفمبر 1833. وبهذا التنازل امتدت حدود الصرب حتى نهر تيموك Timok شرقاً وإلى نهر الدانوب شمالاً وفي الجنوب امتدت من الشرق إلى الغرب شمال مدينتي نيش وراشكا Ruska باتجاه شمالي غربي حتىنهر درينا مكونة الحدود نمت بلاد الصرب وتطورت حتى عام 1878.
وبتسوية قضايا الحكم الذاتي الأساسية وترسيم حدود البلاد أصبح بالإمكان الالتفات لسؤال قديم له أهميته يتعلق بكيفية مراقبة القوة السياسية في الدولة الجديدة, وكانت هذه المسألأة مثار صعوبات واجهت كاراديورديه حتى في أثناء الخطر المحدق بالبلاد زمن الثورة. وفي هذا الخصوص كانت الحكومة أمام أحد اختيارين عميلين: إما أن تخضع لسيطرة قائد قوي, وإما لمجموعة من النبلاء. والحق أن إقامة حكومة مركزية بالمعنى الاصطلاحي كان يتناقض مع التقاليد التي كانت قائمة في البلاد تحت الحكم العثماني, فقد كانت السلطة الصربية عشضية الثورة سلطة أبوية بطبيعتها تقوم على لامركزية الإدارة حيث يدير شؤون الريف والمدن في القرى والأحياء أحد الكبراء Kens كل في مكانه. وكذا النبلاء باعتبارهم زعماء شرفيين. وكاراديورديه يرغب في استبدال هذا النظام بحكم مركزي يقوم على سيطرة فرد قومي, غير أن خصومه الذين يستخدمون مصطلحات الغرب الأوروبي في النظم الدستورية, كانوا يرغبون في الإبقاء على الشكل اللامركزي العثماني مع إيجاد نوع من "الوحدة بين الأقاليم" في إطار حكومة جمهورية جماعية بيد أبناء البلاد لحماً ودماً, ومن هنا طلبوا دعم روسيا.
ولقد استمر الصراع السياسي حول نموذج الحكم في البلاد قائماً خلال فترة حكم ميلوش وكانت الحياة السياسية في البلاد بشكل عام محل اهتمام قلة قليلة من الناس انتظمت في جمعيات معينة لعل أبرزها جماعة الاسكوبشتينا Skupstina وهي مؤسسة ديموقراطية تقليدية تكونت من رجال مسلحين يلتقون في الهواء الطلق لتقرير مسائل ذات أهمية عامة. وقد حرصت الحكومة على دعوة تلك الجمعيات من آن لآخر ليس بهدف تكوين مجلش شورى منها وأنما للتصديق على قرارات أو برامج أعدتها الحكومة. كما واجه ميلوش مثلما واجه كاراديورديه من قبل تحديات متكررة من جانب النبلاء الذي أصبحوا يتمسكون بإصدار دستور يمكنهم من تكوين جمعية تشريعية لمراجعة الحاكم وانضم إليهم التجار ورجال الحكومة وآخرون ممن كانوا يكرهون الأسلوب الاستبدادي التعسفي الذي يدير به ميلوش شؤون البلاد. ولما كان اتفاق 1815 بين ميلوش وعلي باشا المرعشلي قد نص على إقامة مجلس قضائي صربي فقد قام ميلوش بتعيين إثني عشرة من أعوانه من النبلاء في هذا المجلس الذي تعمد تجاهله فيما بعد. ووقعت ضده عدة تمرادات في عشرينات القرن التاسع عشر تمكن من قمعها. ورفض تشكيل مجلس من النبلاء طبقاً لخط شريف أصدره السلطان في 1830. والحال كذلك كان من الطبيعي أنتحشد المعارضة في عام 1835 حوالي أربعة آلاف مؤيد لها في اجتماع أسفر عن إعداد "دستور" نصت مواده على تأسيس جمعية عمومية, فما كان من ميلوش إلا أن قام بتعيين مجلس نبلاء بمعرفته لا حول له ولا قوة.واللافت للنظر أن كل من السلطان العثماني وإمبراطور النمسا وقيصر روسيا ووقفوا إلى جانب ميلوش لأنهم جميعاً كانوا ضد إصدار دساتير توفر مؤسسات نيابية حقيقية.
غير أن هذا الموقف لم يكن يعني تدخل تلك القوى الكبرى في شؤون الصرب بشكل مباشر مثلما كان حال بلاد اليونان وإمارتا الدانوب (ولاشيا ومولدافيا – رومانيا). ولكن وجدنا أن كل من ميلوش والمعارضة يسعون للحصول على مساندة القنصليات الأجنبية التي كانت قد بدأت تتأسس منذ ثلاثينات القرن, ففي 1835 افتتحت النمسا مقر بعثة دبلوماسية لها, تلتها بريطانيا في 1837, ثم فرنسا 1838. ولما كانت الصرب ما تزال دولة مستقلة آنذاك فقد كان يتعين موافقة الباب العالي على أية تغييرات تطرأ على نظامها السياسي. وفي تلك الأثناء وقفت فرنسا وبريطانيا إلى جانب ميلوش ودعما حكمه المطلق على حين كانت روسيا تساند عملية تكوين مجلس من النبلاء طبقاً لما جاء في خط شريف 1830.
وفي هذا الخصوص تمت عدة مفاوضات في استانبول أصدر السلطان العثماني عل أثرها ما يعرف بالدستور التركي الذي كان أساس حكومة الصرب حتى عام 1869. وهذه الوثيقة التي تشبه القانون الأساسي المعمول به آنذاك في إمارتي الدانوب كان قانوناً إدارياً أكثر منه دوستورياً, إذ لم يتضمن مبادئ عامة عن حقوق المواطنين وواجباتهم, بل إن السلطة الحقيقية للحكومة وضعت في أيدي مجلس مكون من سبعة عشر عضواً قام الأمير بتعيينهم ويبقون ووظائفهم مدى الحياة إلا في حالة فصلهم نتيجة ارتكاب جرائم معينة, فضلاً عن اشتراك الحاكم والمجلس في الوظائف التشريعية, والوزراء مسئولون أمام المجلس الذي يصدق على القوانين والضرائب لكن للأمير حق الأعتراض المطلق. وفي 1839 أدخل تعديل على هذا الدستور نص على تعيين الوزراء من بين أعضاء المجلس, وتنظيم القضاء وشغل الوظائف المدنية ووضع ملامح لإدارة الدولة في المجالات الأخرى.
ورغم أوجه القصور التي شابت هذا الدستور, إلا أنه أنهى فترة الحكم المطلق في بلاد الصرب, فلم يعد الحاكم أكثر من كونه أعلى سلطة تنفيذية وتشريعية وقضائية في البلاد, وأصبحت الحكومة قائمة على أساس ميثاق مكتوب. وخلال العقدين التاليين كان المجلس يمثل القوة الحقيقية في حياة الصرب السياسية انطلاقاً من هذا الدستور أو القانون الأساسي.
وبالإضافة إلى تأسيس حكومة مركزية على قاعدة تشريعية قوية فرض ميلوش نظام مركزي في الإدارة المحلية في البلاد, وبمقتضاه بهذا أصبح موظفو الإدارة المحلية تابعون للحكومة المركزية وينفذون تعليماتها حفاظاً على وضعية الأمير.وتأكيداً لهذا الوضع كان الأمير يعين بمعرفته مسئول الناحية ويدفع له مرتبه بل لقد أعاد الجمعيات المحلية التي لا حول لها ولا قوة مما أدى إلى تحطيم النظام التقليدي للحكم المحلي, وأصبح رؤساء الطوائف ورجال الشرطة تحت مراقبة الحكومة المركزية, ومن ثم أصبحت الطوائف مركز المعارضة لحكمه.
ولكن . . لكي يؤسس ميلوش نظاماً إدارياً قومياً وفعلاً كان بحاجة إلى مسئولين متعلمين وهو طلب لم يكن متوفراً بين الصربيين آنذاك وعلى هذا فقد اضطر لتوظيف صربيين يعيشون في النمسا توفر لهم قدراً معتبراً من التعليم. لكن مشكلة الإدارة لم تكن في عدم توفر المتعلمين في الصرب بل كانت في أن ميلوش كان يحتقر كل من يعمل تحت رئاسته ويتعامل معهم كأنهم خدم شخصيين له. ومع هذا زاد عدد الموظفين زيادة ملحوظة في عهده حتى بلغ عددهم مع نهاية حكمه 672 موظفاً منهم 201 من رجال الشرطة. وكان من الطبيعي أن يكون هؤلاء الموظفون جماعة مصالح استهدفت حماية وضعهم وساتمرارهم في وظائفهم.
كما كان على ميلوش أن يتعامل أيضاً مع وضع الكنيسة في "دولته", وكانت مشكلته تبدو في أن الكنيسة في إمارة ذات حكم ذاتي لا يصح أن تظل في نطاق بطريركية استانبول التي هي مؤسسة غالبيتها العظمى من اليونانيين كما هو معروف, وبالتالي استند في تكوين كنيسة مستقلة في بلاده على موافقة السلطان في خط شؤيف 1830 على إعادة كنيسة الصرب التي كانت قد ألغيت في 1767, وهي تسوية وافق عليها بطريرك استانبول عام 1832. وبهذا تخلصت الأرثوذكسية الصربية من هيمنة الفنارين اليونانيين, وأصبح بإمكان ميلوش تنظيم الأمور الكنسية (الإكليروس) كما يحلو له. وكانت أول خطوة في هذا السبيل أنه اعتبر الكنيسة المستعادة الأسقف يوفانوفيتش Jovanovich الذي كان أقدر من يتولى هذا المنصب واستمر فيه ستة عشر عاماً 1833-1859, ولما كان قد تلقى تعليمه في النمسا فقد تقدم بإصلاحات للكنيسة الجديدة على أساس نظام كنيسة الصربيين في النمسا.
وفي السياسة الخارجية حرص ميلوش في المقام الأول كما رأينا على توسيع نطاق الحكم الذاتي لصرب فنراه بشكل ثابت الدخول في مغامرات خارجية, ويرفض المشاركة في الانتفاضات القومية في أي بلد من بلاد البلقان, وظل هدفه الحصول على أقصى مكاسب ممكنة لبلاده من الباب العالي عن طريق التفاوض.
أما مسألة التنمية الإقتصادية والإجتماعية في الصرب فقد كانت تنطوي أساساً على حل مشكلات الفلاحين الذين يمثلون 95% من السكان. وكان هؤلاء الفلاحون يهدفون إلى امتلاك الأراضي التي يفلحونها ملكية تامة, خاصة وأن ثورة الاستقلال التي اشتركوا فيها أنهت الملكية العقارية للأتراك في الريف,وأصبحت الحياة مستحيلة بانسبة لهم بعد أن تم إلغاء الجفالك في 1815, وحرمان السباهية في 1830 من حق جمع الضرائب من الفلاحين. لكن هذا التطور لم ينتج عنه أية فوائد مالية للفلاحين الذين أصبحوا يدفعون ضريبة للدولة مقدارها 10% وتحولت أعمال السخرة في أملاك الأتراك إلى العمل في المشروعات العامة مثل شق الطرق وبناء الكباري, أي أن الحكم الذاتي للصرب في الواقع جلب على الفلاحين تبعات أكثر من التبعات التي كانوا يتحملونها في الأيام السابقة.
على أن زيادة عبء الضرائب على كاهل الفلاحين لم يكن يرجع فقط إلى مساعدة الحكومة لمواجهة نفقاتها العالية, بل كان يرجع أيضاً إلى تغير الأوضاع الإقتصادية. ففي أثناء الحكم العثماني كان الفلاح يعيش في إطار إقتصاد الحاجة وليس إقتصاد السوق حيث ينتج فقط كل ما يحتاجه تقريباً, ويدفع الضرائب المقررة عيناً. ولكن بتأسيس دولة جديدة تسعى لإقامة نظام سياسي حديث كان لا بد من دفع الضرائب نقداً وليس عيناً. وفي الوقت نفسه سيطرت موجة من شراء المصنوعات الأساسية والفاخرة كانت في متناول جميع الأهالي عدا الفلاح الذي كان بحاجة إلى مواد أساسية مثل الملح ثم أصبحت لديه رغبة محمومة لشراء منتجات أخرى مثل القهوة والسكر والدخان والشمع. وفي الوقت نفسه بدأت الآلات محلية الصنع أو المستوردة تصنع المنتجات المعدنية مثل المسامير والإبر والمحاريث بشكل أكثر كفاءة من تلك المصنوعات يدوياً. وفي إطار سيطرة التعامل بالنقد وليس بالمحصول اضطر الفلاح لأن يهتم أكثر بزراعة المحاصيل التي يمكنه تسويقها أكثر من اهتمامه بزراعة احتياجات أسرته. وهذا التعامل الجديد مهد الطريق إلى تصفية وحدات الزراعة الجماعية "الزادروجا"Zadruga التي انعدمت كفاءتها مع مرور الزمن.
وإذا كان ميلوش معني بصفة شخصية برفاهية الفلاحين الذين ساندوه ضد النبلاء, والذين حصلوا على حق استغلال أرضهم, إلا أنهم سرعان ما اكتشفوا سهولة فقدانهم إياها بسبب نظام الإقتراض الجنوني الذي كان يسحب الأرض منهم وفاء للقرض في حالة عدم التسديد. وكان قانون المساكن الذي صدر في 1836 لحماية الفلاحين من مصادرة ممتلكاتهم وفاء للديون قد قرر عدم جواز مصادرة ممتلكات الفلاح إذا كانت تتكون فقط من منزل, وقطعة أرض صغيرة, وبعض المواشي, إلا أنه حيث تراخ وتهاون في تطبيق هذا القانون حتى لقد احتاج الأمر في أعوام 1860, 1861, 1873 إلى إصدار تشريعات جديدة.
على كل حال . . فمن بين التغييرات ذات المغزى التي حدثت أثناء حكم ميلوش ذلك التغير التدريجي في ملامح المدن الصربية. ففي العهد العثماني كانت كل مدينة عبارة عن سوق ومراكز إدارية تحت سيطرة الأتراك واليونانيين واليهود, ولكن مع قيام الحكم الذاتي بدأ الأتراك والحرفيون يغادرون المدن, وأخذ التجار الصربيون يحلون محل نظراتهم من اليونانيين واليهود وسرعان ما سيطروا على تجارة الصادرات وخاصة في الثروة الحيوانية.
كما أثيرت أيضاً مسألة إقامة نظام تعليمي قومي لكن لم يفعل إلا القليل لبلوغ هذا الغرض الذي كان بحاجة إلى إمكانيات كبرى, فالمدارس تعاني من نقص الكتب والورق وقلة المدرسين الأكفاء. ولم يبدأ الإهتمام بالتعليم إلا بعد عام 1830 حين صدر في 1833 أول قانون خاص بالمدارس الإبتدائية. ولكن لم تؤسس مدارس ثانوية رغم الحاجة إلى موظفين متعلمين, وكل ما هناك إنشاء أول مطبعة في بلجراد في 1831 ولو أن مشكلة توفير الورق ظلت قائمة. وفي ضوء كل تلك الظروف ظلت النمسا تمثل مركز الحياة الثقافية الصربية.
وفي عام 1839 وبعد إصدار الدستور بفترة قصيرة ترك ميلوش البلاد مفضلاً ألا يحكم تحت شروط مقيدة لسلطاته, وخلفه في الحكم ابنه ميلان Milan الذي مات في غضون شهر, ثم تلاه ابنه الثاني ميخائيل الذي تولى الحكم من خلال مجلس وصاية لأنه كان في السابعة عشر من عمره. ولم تكد تمر ثلاثة سنوات حتى تمت الإطاحة بأسره ميلوش اوبرنوفيتش الحاكمة وفر ميخائيل هارباً. وعلى الفور انعقدت جمعية عمومية سيطرت عليها المعارضة السياسية واختارت ألكسندر كاراديورديه الثائر القومي.
لقد كان هذا التغيير الراديكالي في رئاسة حكم البلاد علامة على الانتصار التام لمؤيدي دستور 1838 والذين عرفوا فيما بعد بالحزب الدستوري. ولقد تكون هذا الحزب من النبلاء ورجال الإدارة وكبار التجار وآخرين من الذين وقفوا ضد الحكم المطلق الذي كان يمارسه ميلوش. وكانوا يرغبون في إقامة حكم القانون, وتنظيم أسلوب الإدارة بما يمكنهم من المحافظة على مالصحهم الخاصة, وأكدوا على الشرعية, والحرية الإقتصادية, وتقدم التعليم, وإصدار قوانين يطبقها القضاة في المحاكم تحقيقاً للعدالة بعيدأً عن سطوة الأمير الحاكم. وقد تزعم هذه المجموعة ثلاثة شخصيات وهم: تومافوشيك-بيرزيشيك Toma Vuucic-Perisic, وأفرام بترونيفيتش Avram Petronjevic, وثالثهم وهو أكثرهم أهمية إيليا جاراشنين IIija Garasnin. والحق أن أ‘ضاء هذه المجموعة لم يكونوا ديموقراطيون أو من أنصار المساواة, كما لم يكونوا مع فكرة قيام الدولة بتنظيم الحياة العامة.
ورغم ما كان يبدو من قوة للمجلس بوجود هذه المجموعة, إلا أن الحقبة الدستورية في تاريخ الإمارة حفلت بالصراع المتواصل بين المجلس وبين الأمير الحاكم, كان الأمير (ألكسندر كاراديوريه) وهو الطرف الضعيف لأن شخصيته لم تكن قوية, ولم يكن له أنصاراً أقوياء, ولأنه تولى الحكم بالإختيار وليس بحق الوراثة الذي كان معمولاً به فقط في أسرة أوبرينوفيتش والتي كان منها ميلوش. ومن المسائل التي كانت محل نقاش وضعية مجلس الوزراء الذي كان أعضاؤه يعينون بمعرفة مجلس النبلاء فقط. وعلى هذا ازدادت حدة الصدام بين أنصار الأمير وبين أنصار المجلس وخاصة بعد عام 1855. وفي هذا الخصوص استاء مستشارو الأمير من ضعف سلطته أمام المجلس فأشاروا عليه بطرد جميع أعضاء المجلس وغيرهم من المسئولين دون انتظار لموافقة الباب العالي كما يقتضي الدستور بذلك, فأسرع الأمير بالتخلص من بعض المشئولين بطريقة غير قانونية منتهزاً اكتشاف مؤامرة لقتله, لكن الحكومة العثمانية أجبرته على إعادة الذين فصلهم إلى الحكومة.
وفي هذا الخصوص كانت المعارضة (الحزب الدستوري) تود تجاوز الأزمة عن طريق دعوة جمعية لتقرير حدود صلاحيات الأمير ألكسندر الحاكم وسلطته, ولو أنها تسعى من خلال هذا الإقتراح للتخلص منه. وهي دعوة أيدها كل الذين كانوا يرغبون في إعادة أسرة ميلوش اوبرنوفيتش للحكم, وكذا العناصرالتي شكلت فيما بعد "الحزب الليبرالي" وهو جماعة من المثقفين الشبان الذين تلقوا تعليمهم خارج البلاد وكانوا يتطلعون لتقديم ضمانات للحقوق وللإصلاح الديموقراطي وليس فقط مجرد إقامة حكم القانون. ولأن هؤلاء المثقفين كانوا رومانسيون حتى النخاع فقد رأوا في الدعوة إلى عقد الجمعية تجسيدأً لإرادة شعب الصرب في الوقت الذي لم يأنسوا فيه لبرنامج الدستوريين البيروقراطي.
على كل حال . . لقد وافق ألكسندر على دعوة الجمعية التي عرفت باسم سانت اندرو واجتمعت في ديسمبر 1858 في كراجيوفاش Kragujevac خارج سيطرة الدستوريين, وقررت عزل ألكسندر من الحكم, وأثنت على الأمير ميلوش. وهكذا كانت نهاية زمن الدستوريين في الحكم وعاد الحكم المطلق من جديد ولكن في هذه المرة كان بناء على إرادة شعبية. وررغم هزيمة الدستوريين في هذه الجولة إلا أنهم استطاعوا تحقيق هدفهم في تنظيم دولة مركزية بيروقراطية, وإقرار مدني تضمن قانوناً جنائياً وإدارياً, وتنظيمات تتعلق بالحرفيين والموظفين والتعليم والحكومات المحلية. على أن هذا التشريع الذي صدر في 1844 والذي اعتبر أكبر إنجاز للدستوريين كان منقولاً جملة وتفصيلاً من النموذج النمساوي وضمنوا به حماية مصالحهم في مواقعهم كرجال دولة مسئولين. ولا ينبغي يغرب عن البال أن وظائف الحكومة شغلتها عناصر قامت بتعيينهم, وضمنت أنهم التشريعات الجديدة البقاء في وظائفهم مدى الحياة. فإذا عرفنا أن معظم هذه العناصر قد ولدت ونشأت وتعلمت في النمسا, أي خارج باشوية بلجراد في زمانها, أدركنا أنها كونت طبقة بيروقراطية انفصلت عن الأغلبية من الفلاحين بامتيازاتها, وانفصلت عن عموم الناس بتفوقها الوظيفي في الحكومة.
والحقيقة أن توظيف الصربيين الذين يعيشون في النمسا في وظائف حكومة الصرب الجديدة كانت سياسة جارية زمن حكم ميلوش كما سبقت الإشارة نظراً لقلة عدد المتعلمين وقلة حتى الذين يعرفون القراءة والكتابة. وكان هؤلاء الصربيون القادمون من بلاد النمسا يعرفون لدى عامة الصربيين باسم "البريشانية" Precani (أي الذين جاءوا عبر النهر). ورغم أ، كثير منهم كانوا يمتازون بالقدرة والموهبة والشعور الوطني إلا أن آخرين لم تتوفر لديهم أية مواهب وجاءوا للفوز بوظيفة لم يكن من الممكن أن ينالوها في النمسا وكان ما يعيبهم أن لهم عادات وتقاليد مغايرة لأهالي الصرب. ولعل أطرف وصف لهؤلاء الموظفين ورد فعل البلاد تجاههم ما قاله أحد رجال الحكم عنهم: "إن أولئك الصربيون عابرو النهر ينظرون إلى أنفسهم على أنهم حملة ثقافة الغرب, وأن قدرهم فرض عليهم أن يديروا شؤون أهل الإمارة الأميين ونصف البرابرة المتوحشين, ولقد فصلهم ملبسهم ولغتهم ومظهرهم عن أهالي الصرب. إن "حملة القلم" الجدد هؤلاء يحتقرون الزراعة والعمل اليدوي, ويخجلون من أن يتعلم أولادهم إحدى الحرف, أو يزوجوا بناتهم لأحد أصحاب الحرف. وقد ظلوا لسنين طويلة يرتدون ملابس "ألمانية" بدلاً من زي الصرب القومي. وبدلاً منأن يخاطبوا بعضهم البعض بكلمة "أنت" "وأنا" كما اعتاد أهل الصرب كانوا يقدمون أنفسهم للغير بالطريقة الألمانية ذات الواقع السخيف على الأذن الصربية, بل كانوا يرفضون أن ينادوا كل صربي "بالأخ" طبقاً لعادة الصربيين في مجتمع "أبوي".
على أن هيمنة هؤلاء القادمين عبر النهر (البريشانية) لم تدم طويلاً إذ سرعان ما أخذت دولة الصرب الجديدة ترسل على نفقتها أبناءها الذين ولدوا على أرضها ويقيمون فيها في بعثات علمية للخارج نظراً لعدم وجود جامعات في الصرب آنذاك. وفي خلال الفترة 1839-1855 تم إيفاد حوالي خمسون طالباً للدراسة في باريس حلوا بالتدريج مكان البريشانية في مختلف الوظائف إلا أن هذا لم يقضي على الفجوة بين الإدارة وبين الفلاحين لأن المتعلمين الجدد تأثروا بالحضارة الفرنسية وأصبحت فرنسا مصدر الوحي والإلهام في السياسة والأدب والفن بدلاً من النمسا التي قدم منها البريشانية.
على كل حال فرغم أن العهد الدستوري شهد تقوية أبناء الدولة وأجهزتها, إلا أنه لم يشهد أي تقدم في السياسة الخارجية. ومن المعروف أنالحكومة كانت مهتمة باستمرار بمسألة التوسع القومي, أي ضم المناطق التي يعيش فيها صربيون. ولعل أفضل تعبير عن وجهة النظر الصربية في هذه المسألة ما جاء في "خطة ناشرتانييا" Nacertanija التي وضعها جاراشين Garasnin في 1844 لتكون دليلاً للأمير ألكسندر الحاكم. وكانت الخطة تستهدف إحياء إمبراطورية قيصر دوشان Dusan التي كانت قائمة زمن العصور الوسطى, وفيها تكون حكومة الصرب الذاتية نواة لهذا التوسع القومي لتضم كل من البوسنة, والهرسك, والجبل الأسود, وسريم Esrm, وبانات Banat, وبشكا Backa, وشمال ألبانيا, ويكون لها مخرج على البحر الإدرياتي, وهي بلاد كان جاراشين يعتقد أن أهلها أساساً صربيون من الناحية الثومية. وكانت خطته في البداية تقوم على أن يبدأ حملة دعاية مكثفة وتفصيلية, وتعليمية ودعائية بين سكان تلك البلاد وبين صرب المجر. وقد وضع في اعتباره أن إمبراطورية الهاسبورج (النمسا) قد تكون خصماً دائماً لهذه الخطة لا يتغير, وأن روسيا قد لا تؤيد خطته, ومن ثم اقترح أن تسعى الصرب للحصول على المساعدة من فرنس وإنجلترا. والخلاصة أن هذا البرنامج كما اتضح من خطط حكومة الصرب فيما بعد أنه كان يركز تركيزاً واضحاً على الإستيلاء على البلاد التي يكون أهلها صربيون ومذهبهم أرثوذكسي.
غير أن سقوط نظام الحكم الدستوري وعودة ميلوش للحكم لم يحل مشكلات الصرب السياسية, فمع عودته كانت هناك ثلاثة مراكز قوى قائمة وهي: الأمير الحاكم, والمجلس, والجمعية الوطنية التأسيسية التي كانت بمثابة أداة لتغيير الحكام رغم أنها لم تكن منظمة تنظيماً طبقاً للأأصول البرلمانية. وفي الوقت نفسه بدأ يظهر على الساحة حزبان سياسيان من خلال الصراع على القوة بين مؤسسات الدولة. وفي هذا الخصوص ظل الليبراليون ينادون بأن تكون الجمعية الوطنية أعلى مؤسسات الدولة, على حين كان المحافظون يفضلون أن يكون الحاكم والمجلس هما أعلى سلطة في الدولة. وانتهى الجدل السياسي بين مختلف القوى بصدور قانون في يناير 1859 يدعو لتكوين جمعية وطنية كل ثلاثة سنوات تكون لها سلطة استشارية فقط. والحقيقة أن ميلوش كان يريد أن يكون حاكماً مطلقاً فأصبح كذلك وبعد وفاته في 1860 خلفه ابنه ميشيل الذي أصبح حاكماً للمرة الثانية.
كانت المرة الأولى التي حكم فيها ميشيل اوبرنوفيتش (ابن ميلوش) بين 1839-1842 فترة صعبة بسبب صغر سنه آنذاك. ولكن ععندما عاد للحكم مرة ثانية بعد وفاة والده كان في السابعة والثلاثين من العمر ناضجاً وسياسياً حصيفاً وداهية حتى لقد اعتبره البعض أعظم حاكم له تأثير في تاريخ الصرب الحديثة. ففي أثناء منفاه ارتحل كثيراً هنا وهناك, وتعلم تعليمأً جيدأً, واكتسب خبرات هائلة, وأصبحت له وجهة نظر واقعية في الموقف الدولي. وقد تزامن حكمه مع عصر الثورات القومية الكبير في وسط أوروبا, ففي 1859 اتحدث كل من ولاشيا ومولدافيا مكونتين دولة رومانيا الحديثة. وفي ستينات القرن التاسع عشر أعلنت دولتا إيطاليا وألمانيا بتوحيد قومية كل منهما. وكان من الطبيعي وهذه الحوداث تهيمن على المسرح الأوروبي أن يحول حاكم الصرب انتباهه الأكبر للتوسع الإقليمي-القومي. وكانت الخطوة التالية لميشيل في العلقاات الدولية كيفية ضمان إبعاد الوجود العثماني كلية من البلاد, أي الإحتلال التركي لعدد كبير من القلاع والحصون ولعل خطة إستيلاء الصرب على البلاد الصربية المجاورة كما سبقت الإشارة قد تم وضعها موضع التنفيذ. ومن باب الإستعداد لتنفيذ هذه الخطة كان ميشيل يريد تركيز سلطة الدولة في ديه ليتصرف بفاعلية أكثر, وتقوية الجيش, كما أعرب عن رغبته في عقد تحالفات مع شعوب البلقان المسيحيين من اجل تكوين جبهة ضد الإمبراطورية العثمانية.
كانت حكومة الصرب أثناء حكم ميلوش كما رأينا عبارة عن حكم ملكي مطلق, وتحت حكم دستوري شكلياً, وتخضع لأوليجاركية (أقلية عسكرية). وفي عهد حكم ابنه ميشيل لم يتغير الوضع كثيراً فقد أعطى نظام الحكم شكل الملكية الدستورية وليس مضمونها, ولأنه كان يريد أن يمسك بكل السلطات في يده فكان عليه أن يلغي كل القوانين القائمة التي تفيد سلطته ولكن بطريقة تبدو مشروعة. ومن ذلك أنه كان يعمل على أن يضمن دائماً أغلبية من انصاره في الجمعيات الوطنية التي تم انتخابها في سنوات 1861, 1864, 1867 حتى لو اضطر لاستخدام البوليس بحيث كانت تلك الجمعيات أدوات في يده دائماً.
كما لو تحرك ميشيل أيضاً ضد الجهاز البيروقراطي أي رجال الإدارة وذلك بإقرار إجراءات جديدة جعلتهم يخضعون للفصل من وظائفهم بناء على ظروف معينة. ولقد رحب عموم الناس بهذه الإجراءات لأن أولئك الموظفين (رجال الإدراة) فشلوا في اكتساب حب الناس ومودتهم, كما استعان بحزب المحافظين طوال فترة حكمه, وحرم الحزب الليبرالي المعارض من أن يكون له نفوذ وتأثير عن طريق ملاحقة أعضائه بإجراءات قمع بوليسية بدون ضوابط حتى لقد اضطرهم لمغادرة البلاد حيث أخذوا ينشرون كتاباتهم المضادة للحكم ويعملون على تنظيم مقاومته. وكان أقرب الشخصيات له إيليا جاراشنين رئيس وزرائه أكثر شخصيات الفترة شهرة في الحكومة الدستورية.
ولما كان ميشيل يهتم اهتماماً رئيسياً بالسياسة الخارجية من حيث التوسع القومي إقليمياً رأيناه يزيد عد الميليشيات. ويعيد للحياة الشعار الثوري "أمة مسلحة", ويصدر في أغسطس 1861 قانوناً بتجنيد الذكور الذين يتراوح عمرهم من 20-50 سنة. وبفضل هذه الإجراءات تمكنت الصرب في 1863 من توفير ألف جندي بينما كان عدد سكانها 1.138.000 نسمة, فضلاً عن إنشاء وزارة للحرب وتوفير تسهيلات لتدريب الضباط وإعدادهم الإعداد العسكري اللازم. ورغم سوء تجهيز هذا الجيش وضعف تدريبه, إلا أنه كان أعظم الجيوش التي كانت متمركزة في ستة مدن على رأسها بلجراد وكانت تعد آخر مظاهر الحكم العثماني. وقد نتج عن أحد هذه الإشتباكات في 1862 قيام الأتراك بقصف بلجراد بالمدافع فاستنجدت الصرب بالقوى الدولية الضامنة لاستقلالها. وفي النهاية أدى الضغط الخارجي على الدولة العثمانية إلى انسحاب حاميتين عسكريتين ثم انسحاب باقي الحاميات في 1867, فلم يتبق من مظاهر السيادة العثمانية على الصرب إلا العلم المرفوع على قلعة بلجراد ودفع الجزية السنوية.
وفي الوقت نفسه نجح ميشيل في عقد محالفات مع جيرانه من دويلات البلقان ضد الحكم العثماني, ومن ذلك اتفاقية مع الجبل الأسود في 1866, ومع اليونان 1867, ومع رومانيا 1868 فضلاً عن علاقاته القوية مع المجموعات البلغارية الثورية. وتمشياً مع خطة جاراشنين وضع في اعتباره ضم بلاد الكروات الكاثوليك ضمن الأمة التي يريد تحقيقها حول نواة الصرب. غير أن المفاوضات التي انتهت بعقد تلك المحالفات كشفت عن مدى تناقض أفكار القومية ومعنى الأمة عند شعوب البلقان.
غير أن ميشيل لم يعش ليرى بنفسه تحقيق أي من أهداف سياسته الخارجية إذ انشغل انشغالاً شديداً بمواجهة المعارضة الداخلية التي ظلت تهاجم سياساته الأوتوقراطية حتى تم اغتياله في يونية 1868. ولما لم يكن له أبناء يخلفونه في الحكم تولى العرش ابن عمه ميلان اوبرنوفيتش الذي كان في الرابعة عشر من عمره يعيش طفولة مضطربة وبائسة بسبب سمعة أمه التي كانت عشيقة ألكسندر كوزا Cuza حاكم رومانيا. وسرعان ما تم تجهيزه للحكم في وقت قصير جداً تحت مجلس وصاية.
وفي العام التالي لتولي ميلان الحكم صدر دستور جديد في 1869 أعدته جمعية منتخبة من خمسمائة عضو, وتمت صياغته وهو أمر له مغزاه, دون تدخل خارجي على عكس دستور 1838 مع أن الصرب كانت لا تزال جزء من الإمبراطورية العثمانية. وفي أثناء مناقشات وضع الدستور سعى الليبراليون لكي تضمن مواده أفكاتر ليبرالية, بينما سعى مجلس الوصاية لوضع مواد لتقوية السلطة التنفيذية. وفيالنهاية وضع دستور أعطى للجمعية الوطنية دوراً تشريعياً قوياً بحيث تقرر ألا يصدر أي قانون أو يعطل أو يعدل أو يفسر دون موافقتها, وتقرر أن يكون 75% من أعضائها بالأنتخاب و 25% يعينهم الحاكم, وتقلص دور مجلس الوصاية ولم يعد أكثر من كونه لجنة إدارية. كما تقرر أن يكون الحكم في الصرب وراثياً في أسرة اوبرنوفيتش.
وبرغم هذا الدستور فقد احتفظ الحاكم بوضع قوي في نظام الحكم إن لم يكن قد احتفظ بكامل السيطرة والسيادة والهيمنة, فقد كان من حقه تعيين 25% من أعضاء الجمعية الوطنية, وإقالتها إذا ما رفضت الموافقة على الميزانية المقترحة وأن يتولى بنفسه تصريف ألأمور وفقاً للقواعد المعمول بها في العام السابق.
كما يلاحظ أن الدستور الجديد على عكس دستور 1838 احتوى على مبادئ عامة عن الحقوق المدنية, والمساواة بين جميع المواطنين,وحقوق الملكية, وحرية القول والمعتقد والصحافة, وكذا حق الشكوى. ولكن لم يرد نص بشأن حرية تكوين الجمعيات والروابط الأهلية, بل إن الحقوق المدنية التي تم منحها خضعت لقانون الأراضي.
ويتعين القول أنه في السنوات السابقة على اعتلاء ميلان العرش شهدت البلاد منجزات اجتماعية وإقتصادية رغم أن اهتمام الحكومة كان مركزاً على مشكلات السياسة الخارجية وليس على المسائل الخاصة بالتنمية الداخلية. وابتداء من حكم ميشيل التهمت النفقات العسكرية نسبة متزايدة من الدخل العام, ولكن استمرت عملية إنشاء المدن وتنميتها وإن ظلت الصناعة دون تطور حقيقي. فالصناعات الديوية هي الغالبة بينما الصناعة الثقيلة الوحيدة القائمة هي صناعة الحديد بغرض تموين الجيش باحتياجاته. وحدث بعض التحسن في المواصلات الداخلية حيث زاد عدد الطرق والكباري, وامتدت خطوط البرق عام 1855 داخل جهات كثيرة, وفي عام 1868 اتصلت بلجراد بكل من فيينا واستانبول برقياً. واستمرت العلقات التجارية مع النمسا الشريك الرئيسي ثم مع رومانيا ثم الدولة العثمانية وتمثلت الصادرات الرئيسية في الماشية والمنتجات الحيوانية وتمثلت الورادات الرئيسية في المصنوعات وأدوات الرفاهية.
واتجهت إقتصاديات الريف نحو زيادة إنتاج الحوب وخاصة القمح والذرة, ولكن أهملت تربية حيونات الفلاحة نظراً لإختفاء غابات شجرة البلوط التي كان الفلاح يعتمد على ثمارها في تغذية الماشية ولم يعد باستطاعته إلا تربية عدد قليل من الخنازير. وظل صغار الفلاحين يعانون مشكلة رهن الأرض مقابل القروض حتى صدر قانون زراعي في 1873 يمنع مصادرة الأرض وفاء للدين إذا كانت مساحتها تقل عن ثمانية أفدنة ونصف.
وخلال تلك الفترة بذلت جهود كبيرة لإصلاح التعليم فزاد عدد المدرسين وبلغت نسبة المتعلمين 4.2% من السكان عام 1866. ولما كان ميشيل معني بشكل خاص بأن تكون بلاده الصرب وليس النمسا مركزاً للثقافة الصربية رأيناه يقوم بتشييد مكتبة عامة وكتحف (خمسينات القرن التاسع عشر), ويؤسس الأكاديمية الصربية الملكية للعلوم (ستينيات القرن التاسع عشر) مع الاهتمام بالدراما الغربية والموسيقى.
لقد كانت الصرب خلال فترة الحكم الذاتي من 1830 حتى سبعينيات القرن التاسع عشر منشغلة بإقرار أوضاعها السياسية في المقام الأول, وكان السؤال الرئيسي بدور حول من له حق السطرة على البلاد . . الأمير, أم الأوليجاركية, أم جمعية تاسيسية ديموقراطية. وكالعادة كان الأمير يحتفظ بوضعه القوي, ولكن عندما كان يعجز عن القيام بمهامه في الحكم تتولى الأوليجاركية (العسكرية) إدارة شؤون البلاد. وخلال تلك الفترة أيضاً ضمت الصرب بعض الأراضي إلى حدودها, ووسعت من حقوق الحكم الذاتي حتى شؤون الصربيين الداخلية. وحدث أيضأً تحول راديكالي في إطار الاهتمامات السياسية حيث أخذت مسائل التوسع الإقليمي-القومي تسيطر على اهتمام حكام الصرب.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الأفكار الغربية (1789-1817)
المصادر
انظر أيضاً
- إمارة صربيا
- پاشالوك بلگراد
- ڤويڤودينا في صربيا وتاميس بنات
- صربيا هابسبورگ
- قائمة الملوك الصرب
- التاريخ العسكري لصربيا
- تاريخ الحروب الصربية التركية
الصحوة الوطنية في البلقان القوميات تحت حكم الدولة العثمانية |
---|
انظر أيضاً: الأرمن |