الدور المصري في حرب اليمن
الدور المصري في حرب اليمن، هي المشاركة التي قدمتها مصر في الحرب التي دارت في شمال اليمن بين الموالين للمملكة المتوكلية اليمنية والفصائل الموالية للجمهوريّة العربية اليمنية من 1962 إلى 1970. وقد سيطرت الفصائل الجمهورية على الحكم في نهاية الحرب.
كان الجانب الملكي يتلقى الدعم من المملكة العربية السعودية، بينما تلقى الجانب الجمهوري الدعم من مصر والاتحاد السوفيتي. وقد جرت معارك الحرب الضارية في المدن والأماكن الريفية، وشارك فيها أفراد أجانب غير نظاميون فضلاً عن الجيوش التقليدية النظامية.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قيام الثورة اليمنية
حسب شهادة الفريق عبد المنعم خليل، من كبار العسكريين المصريين المشاركين في حرب اليمن، والتي نشرتها جريدة المصري اليوم في أبريل 2015. ما يميز هذه الشهادة أنها كاشفة إلى حد بعيد عن الصعوبات التى واجهها قائد ميدانى مصرى على المسرح اليمنى، الذى يختلف عن المسرح المصرى على صعيد طبيعة الخصم والأرض وربما الطقس، وكلها عوامل أساسية تدخل فى حسابات القادة عند تقديرهم للموقف أثناء القتال أو التخطيط له. كما تكشف إلى أى مدى أدى تدافع الحوادث إلى تورط مصرى كامل فى اليمن بعد أن كان الهدف فى البداية محدودا جدا، عبر عنه حجم القوات المحدود الذى ذهب للأراضى اليمنية، ثم ما لبث أن أخذ فى الزيادة حتى وصلنا إلى انتشار للقوات المصرية فى معظم الأراضى اليمنية.[1]
كانت القاهرة خلال شهر أغسطس 1962 على علم بوجود تنظيم للضباط الأحرار في اليمن يقوده العقيد علي عبد المغني، وأن هذا التنظيم يرتب للقيام بانقلاب على حكم الإمام أحمد بن يحيى حميد الدين الطاغية كما كانوا يسمونه هناك، وكان أنور السادات على علاقة ببعض اليمنيين هنا وهناك، وكان تقدير مصر الرسمى فى حالة حدوث ثورة يمنية ضد حكم الإمام أحمد هو أن السعودية فى الشمال والإنجليز فى عدن فى الجنوب قد يقفون ضد الثوار ويدعمون موقف الإمام أحمد، ولما توفى خلفه ابنه الأمير محمد البدر ولى العهد وفى صباح يوم 26 سبتمبر 1962 أذاعت صنعاء أن العميد عبد الله السلال قاد الانقلاب ضد الأمير محمد البدر - إمام اليمن الجديد - واستولى الجيش اليمنى على السلطة بعد معركة مسلحة قيل إن الإمام البدر قد قتل فيها.
واعترفت مصر بالنظام الجمهورى فى اليمن، وقرر جمال عبدالناصر التعرف على الموقف فى اليمن على الطبيعة فأرسل السادات ومعه كمال رفعت عضوى مجلس الثورة لاستطلاع الموقف ومعهما وفد من ضباط العمليات، ولما عاد السادات من صنعاء بعد 36 ساعة كان تحمسه للتدخل المصرى فى اليمن واضحا؛ فقد اقترح إرسال سرب من الطائرات المصرية إلى اليمن، فهو وحده كفيل بإجبار القبائل على التجمهر (أى تأييد الجمهورية، التى جاءت على أنقاض الملكية). وكانت هذه الفكرة بداية التدخل الإجبارى الجوى والبرى والبحرى بالرجال والعتاد والسلاح والمال والذهب وكل شىء.
وكان الأمير الحسن عم الإمام محمد البدر قد عاد إلى السعودية، حيث اتخذ نجران قاعدة لإمداد القبائل بالذهب والريالات والسلاح والذخيرة والمعدات، للوقوف مع الملكية ضد الثورة، وكان الذهب له بريقه الخاص فى جذب النفوس إلى تحقيق ما تريده اليد التى تعطى.
ومع بداية الثورة لمع بريق الذهب مع قبائل الشمال وهاجمت صعدة عاصمة الشمال مما أجبر رجال الثورة على تحريك قوة من الجيش اليمنى تقدر بنحو كتيبة مشاه للدفاع عن صعدة، ودارت معارك هناك كان نتيجتها بعض القتلى وعلى رأسهم العقيد على عبدالمغنى الذى قيل عنه إنه المحرك والقائد الحقيقى للثورة اليمنية ضد الإمام.
وهذا القتال الذى حدث فى الشمال ونتائجه دعا المشير السلال ورجال الثورة إلى طلب معاونات أكثر من مصر، واستجابت مصر وجاءت القوات تحملها الطائرات وسفن الاسطول المصرى الحربى والتجارى إلى صنعاء والحديدة فى سياق لدعم الثورة اليمنية. وكان القتال فى اليمن ضد القبائل التى لم تؤيد الجمهورية يحرك قواتنا إلى حيث ترغم هذه القبيلة أو تلك على التجمهر وإعلان الولاء بقوة السلاح أو بقوة الريال وأحيانا بقوة الذهب! أو تصمد ضد هذا التيار الجديد لأن ذهب الأمير الحسن ربما يكون أكثر لمعانا وأسلحته أشد فتكا.
العملية 9000
قامت ثورة اليمن فى 26 سبتمبر 1962 وطلب مجلس قيادة الثورة اليمنية مساعدات عسكرية من الجمهورية العربية المتحدة (اسم مصر فى ذلك الوقت) وبدأت مصر بعد 30 سبتمبر 1962 فى الاستجابة لهذه الطلبات وأرسل المشير عبدالحكيم عامر نائب رئيس الجمهورية والقائد العام للقوات المسلحة اللواء أ.ح على عبدالخبير ومعه بعض الضباط من الصاعقة والمظلات وغيرهما إلى اليمن لمقابلة أعضاء مجلس القيادة ومعرفة مطالبهم، وبدأت مصر فى إرسال بعض سرايا من رجال الصاعقة والمظلات للمعاونة فى حماية الثورة فى أول أيامها، ثم تطور الموقف بسرعة غير متوقعة وكلف اللواء أ.ح على عبدالخبير وهو فى اليمن بتولى مسئولية مساندة الثورة وبدأ يفكر فى تكوين قيادة صغيرة لتعاونه للقيام بالمهمة المكلف بها فقد يحتاج الأمر إلى مزيد من القوات المصرية ترسل إلى اليمن. وقد اختار اللواء أ.ح سعدى نجيب رئيسا للأركان، ثم اختار اللواء عبد المنعم خليل مديرا للعمليات، واختار العقيد أ.ح نوال سعيد مديرا للإمداد والتموين والعقيد محمد تمام مديرا للتنظيم والإدارة وشئون الأفراد، وسافر الثلاثة فى طائرة «انتينوف» إلى مطار صنعاء وصلوا فجر يوم 18 أكتوبر 1962 وقابلوا اللواء أ.ح على عبدالخبير فى المكان الذى اختاره مؤقتا للقيادة، وهو منزل ريفى صغير فى صنعاء قرب مبنى مركز قيادة الثورة برئاسة المشير السلال، وبدأوا العمل منذ وصولهم كل فى اختصاصه، وكان مكان اللواء خليل الدائم دائما مع اللواء على عبدالخبير يعملا فى المندرة فى مدخل المنزل والاستراحة فى المقعد أعلى الدار وسارت الأمور هكذا عدة أيام وخلال هذه الفترات كان يحضر لزيارتهم يوميا أو عدة مرات فى اليوم المشير السلال حاملا رشاش تومى قصير وهو بملابسه الرسمية، ومعه حرسه من اليمنيين بالبنادق والخناجر والرشاشات، وكان يطلب ان تقوم الطائرات المصرية بضرب منطقة كذا أو منطقة كذا لأنها لم تتجمهر (أى تؤيد الملكية). كما كان يطلب قوات لإرسالها إلى مناطق نفوذ قبائل اليمن المتعددة لإرغامها على التجمهر وإعلان الولاء للثورة.
وفعلا تم ارسال كتيبة صاعقة إلى صرواح، وبقيت كتيبة صاعقة وكتيبة مظلات فى صنعاء للدفاع عن مقر السلال ومركز قيادة الثورة وأرسلت القيادة المصرية الكتيبة 77 مظلات إلى عمران.
وكان الموقف قد تطلب التقدم إلى مأرب عاصمة مملكة سبأ القديمة، وتم اسقاط سرية مظلات قبل غروب شمس يوم 22 أكتوبر 1962 شرقى صرواح، وتقدمت كتيبة صاعقة من صنعاء برا للاتصال بها وتدعيمها ولكن للأسف الشديد تشرد عدد كبير من رجال المظلات فى عملية الاسقاط، حيث لا توجد خرائط واضحة لليمن وحتى الخرائط التى أمكن الحصول عليها لا توضح إلا المعالم الرئيسية وكلها جبال ووديان ومرتفعات وخيران.
وللأسف أيضا وقعت عناصر كتيبة الصاعقة فى تقدمها إلى صرواح فى كمين عند رأس العرقوب واضطررت القيادة المصرية باليمن إلى إصدار أوامر لها بالعودة إلى جيحانة، ولكنها وصلت صنعاء ثم أصدرت لها الأوامر مرة أخرى بالعودة إلى جيحانة على طريق صنعاء - رأس العرقوب - صرواح - مأرب وكانت كل الاتصالات بالبرق المدنى وبالطبع باليمنى.
وفى 28 أكتوبر 1962 وصل المشير عبدالحكيم عامر إلى صنعاء واختارت له القيادة المصرية باليمن منزلا مواجها للدار التى ككانت تتولى إدارة العمليات منها وهو بجوار مبنى السفارة المصرية، وعقد القيادة المصرية باليمن مؤتمرها وكان الفريق أنور القاضى قد سبقه إلى اليمن فى مهمة ويعود بعدها للقاهرة، ولكن صدرت الأوامر له ان يتولى قيادة القوات العربية (يقصد القوات المصرية، حيث ان مصر كانت اسمها الجمهورية العربية المتحدة) فى اليمن والتى أصبح يتدفق عليها يوميا وحدات وأسلحة ومعدات من القاهرة. وفى المؤتمر الذى عقده المشير فى استراحته كان كل ما يدور هو كيفية معاونة ثورة اليمن وتأمين قواتنا.
وحضر المؤتمر بعد ذلك المشير السلال وبعد أيام قلائل انتقلت القيادة المصرية إلى مبنى أكبر يستوعب عددا أكبر من أسرة القيادة التى بدأت تنمو وتنمو إلى عشرات الضباط ومئات الجنود والصف ضباط والمدنيين المصريين والعربات الحربية والمدنية والمدرعات والمركبات المصفحة.
وبدأت بشائر أفراد المظلات الذين اسقطوا فى صرواح تصل إلى صنعاء بعضهم سيرا على الأقدام وبعضهم مع أفراد من القبائل بركبون الدواب وأصدر المشير أوامره للواء خليل بتوزيع ريالات لكل من يحضر جنود مظلات.
وهكذا تورطت مصر فى اليمن وبدأت فى إنشاء جسر جوى وبحرى ضخم عبر آلاف الكيلومترات لنقل الرجال والعتاد والأسلحة والمهمات والتعيينات والذهب إلى أرض اليمن التى ابتلعت خيرة وحدات القوات المسلحة وأهلكت أفرادها ومعداتها وأسلحتها وطائراتها واستنفدت أنفاسها.
وبدأت عمليات قطع الطرق على القوات المصرية خاصة القوات الإدارية التى كانت تتحرك لامداد القوات بالذخائر والأسلحة والتعيينات والمياه إلى بعض المناطق وبالطبع الزيوت والوقود والشحومات، وفى نوفمبر 1962 قامت قبيلة تسمى «بنى مطر» بقطع طريق الحديدة - صنعاء عند الكيلو 135 من الحديدة، ولكن تم فتح الطريق بعد نحو 48 ساعة متحملين بعض الخسائر فى الأرواح والسيارات.
وكانت الحكومة اليمنية تطلب من القيادة العربية (القيادة المصرية) مزيدا من القوات للمعاونة فى السيطرة على مناطق اليمن المتعددة والمترامية الأطراف سواء إلى صعدة شمالا أو مأرب شرقا أو تعز جنوبا أو الحديدة غربا، أو ميدى فى الشمال الغربى أو حجة فى أعلى جبال اليمن بمهمة ايقاف عمليات التسلل وتهريب الأسلحة والمعدات والأموال إلى داخل اليمن، واظهارا للقوى واجبار القبائل على إعلان الولاء للثورة.
وثبت رسميا وصول الأسلحة الآتية إلى داخل اليمن للعمل ضد ثورتها حتى نهاية عام 1963:
- 130 ألف بندقية أى تسليح مائة وثلاثين ألف جندى
- 5 آلاف مدفع رشاش متنوع الأحجام
- 130 مدفعا مضادا للدبابات
- 90 مدفع هاون خفيف
- 16 مدفعا مضادا للطائرات
- 20 مليون طلقة
- 8600 لغم مضاد للدبابات.
وبسبب ظروف القتال الصعبة وتوزيع القوات المصرية فى معظم مناطق اليمن الجبلية الوعرة إلى ضرورة دعم القوات العربية بمزيد من طائرات النقل «اليوشين» الروسية الصنع والهليكوبتر «مى 4»، و«مى 8»، ثم «مى ٦» وهى التى مكنها نقل مدافع ومعدات وسيارات ثقيلة.
وكذا أسراب من الطائرات القاذفة المقاتلة المعاونة فى تأمين قواتنا مما دعا إلى تكوين قيادة كبيرة للقوات الجوية المصرية فى اليمن.
وجاءت الحاجة إلى طائرات أكبر، ووافق المشير عامر على تخصيص عناصر من الطائرات الروسية بعيدة المدى «انتينوف/ تى يو ١٦» لتقوم من مطاراتها بمصر لتلبية طلباتنا فى اليمن والعودة إلى الوطن. وكان الاسم الكودى الذى اصطلحت القيادة العامة عليه لطلب هذه الطائرات هو «مبارك»، حيث كان يقود هذا السرب العقيد طيار أ.ح محمد حسنى مبارك.
تمرد قبيلة أرحب
فى أوائل رمضان تمردت قبيلة أرحب وقامت قوة مصرية مكونة من 3 دبابات ومعها فصائل مشاه ورشاشات بالتقدم تجاه بيت مران فى أرحب بقيادة الرائد إبراهيم العرابى لفك حصار القوات اليمنية والتى كان يقودها النقيب حمود بيدر من أعضاء مجلس قيادة الثورة اليمنى وتم تخليص القوة اليمنية والسيطرة على المنطقة بعد قتال مرير. وفى الأيام الأولى من رمضان أيضا وكنت اشغل رئيس عمليات القوات العربية باليمن، وكان موقف القبائل مظلما ومحيرا وإذا بالمشير عامر يطلبنى ويقول لى «قبائل جيحانة قلبت وقطعت طريق الإمداد الرئيسى للقوات واحنا بنستبشر بيك يا منعم وعليك فتح الطريق واختار ما تشاء من قوات والعقيد طيار أيوب معك لمعاونتك فى استطلاع المنطقة».
تمرد قبائل جيحانة
نزلت مع العقيد طيار أيوب وركبنا معا طائرته الصغيرة ذات المقعدين وطاف بى فوق المنطقة وتمكنت من استطلاع بعض الدروب والوديان التى تلتف حول المواقع المحتمل أن يكون العدو قد احتلها وقطع منه الطريق.. وعدت إلى القيادة وإذا بالمشير يقول لى إن الوزير الزبيرى سيكون معك فى هذه المهمة أيضا اتصل به ونسق معه.. وتم تكوين قوة من 3 دبابات «ت ٥٤» من القيادة المصرية وعربة مدرعة تسمى «ب ت ر» روسية الصنع وفصيلة مشاه وبعض الرشاشات وأخذت طبيب القيادة لمرافقة القوة وبعض عربات نقل الجنود.
وكان المقدم صلاح خيرى مرافقا معى لقيادة قوات المشاه والأسلحة المعاونة وتحركنا فى اليوم التالى مع الفجر على طريق (صنعاء ــ جيحانة) وعند قرية «ريمة حميد» الصغيرة توقفنا حيث بدأ الكمين القول الإدارى المصرى منها.. وأمرت قائد الفصيلة المشاه النقيب قدرى بدر بالتقدم وتقدم القائد أمام الجنود واقتحم القرية. وبعد تأمين القرية قررت اتخاذها قاعدة للانطلاق بباقى قواتى إلى مهمتها واخترت التقدم من الجنوب الشرقى فى المدقات التى تم استطلاعها جوا فى اليوم السابق، وما كدنا نتقدم نحو كيلومتر أو أكثر قليلا حتى قابلتنا مظاهرة ضخمة من الرجال والنساء والأطفال يرفعون الأعلام البيضاء رمزا للتسليم ومعهم 3 عجول وعدد من الخراف وهى عادة فى اليمن لإثبات الولاء للأقوى! وكان معى دليل يمنى قال إن هذه عادة يجب قبولها ولكنى اعطيتهم الأمان، وطلبت منهم العودة إلى قراهم على ان يخطرونى بأى متسلل غريب عنهم وموجود فى منطقتهم.. وعند هذه المنطقة اعتذر الوزير الزبيرى عن مواصلة التقدم معنا وعاد إلى صنعاء.
وتطوع أحد أفراد هذه القبيلة ليعمل دليلا معى ليرشدنى على مسالك المنطقة إلى جيحانة على الطريق إلى مأرب، وخلال هذه الفترة مر الوقت بسرعة وكانت الساعة تقترب من الواحدة بعد الظهر، وكنا فى شهر رمضان وكنت والحمد لله صائما كعادتى دائما، فالصيام يعطينى قوة وصمودا وجربت هذا فى حرب فلسطين عام 1948.
وتحركت ميلا آخر وإذا بى أشاهد نفس المظهر السابق من قبيلة أخرى فى مظاهرة تضم الرجال والنساء والأطفال، وحدث ما تم مع المجموعة الأولى من أمان واطمئنان وقرأت فى عيونهم الفرح وسمعنا زغاريد النساء تدوى فى المكان.
وأمرت القوات بالتقدم.. وتقدمت أمامى ثلاث دبابات «ت 54» الأمامية منها مجهزة لتفجير الألغام وتسمى دبابة دقاقة، وكنت اركب عربتى المدرعة خلف الثلاث دبابات، وفى لحظات شعرت بانفجار عنيف ودخان كثيف واتربة وتوقفت العربة فجأة ونصفها الأمامى قد تدمر، ولم أجد السائق بجوارى ولما وجدت نفسى بخير وكذا السائق والصحفى المرافق لى، قررت مواصلة التقدم بدون العربات الأخرى التى أمرتها بالعودة إلى قاعدتها.
وركب اللواء خليل الدبابة الأولى الدقاقة مع قائدها وركب على مقدمتها من الخارج الدليل اليمنى الذى تطوع بأن يكون دليلا للقوات المصرية وكان له الفضل فى إرشادنا للوصول للمنطقة التى كان بها الكمين المعادى الذى قطع طريق الامداد إلى جيحانة.. وهناك وجدت عربات القول الإدارى المعطل وقد أصيبت جميع اطارات السيارات برصاص المعتدين فتعطلت ونهبوا كل حمولتها.
ووجد أن عربة اتصال لاسلكى معطلة أيضا وبها ضابط من الإشارة علمت منه بالموقف وتم تفتيش المنطقة والسيطرة عليها وتجميع السائقين وأفراد الحراسة وأخطرت قيادة القوات العربية فى صنعاء بتأمين الطريق فأصدروا الأوامر لقول إدارى آخر محمل بالاحتياجات بالتقدم إلى جيحانة ولم يغادر مكانه إلا بعد مروره ووصوله إلى جيحانة بأمان.
عات اللواء خليل إلى القاعدة فى «ريمة حميد» قرب الفجر، ولكنه فوجئ بضرورة التوجه إلى صنعاء لمقابلة المشير عبد الحكيم عامر (القائد العام للقوات المسلحة فى هذا الوقت) للأهمية، ولما وصل القيادة رحب به المشير مبتسما وقال «تصور يا منعم إن طريق رايدة قطع بكمين منذ 24 ساعة، والقول الإدارى (مجموعة سيارات تحمل بالوقود والمياه والتعيينات والذخيرة) المتجه إلى الشمال ومعه عربات محملة بأسلحة مضادة للطائرات هوجم من المتمردين، وتعطلت عرباته، وحدث به كثير من الخسائر، ورغم أننا أرسلنا نجدة من قوات مدرعة بقيادة المقدم الهجان واستطاعت العبور والوصول إلى رايدة إلا أن الطريق مازال يسيطر عليه المتمردون.. وعليك أن تعزل قائد الكتيبة.. وتتولى قيادة القوة ومعك ما تشاء من أسلحة وقوات وتفتح لنا الطريق بأسرع ما يمكن، فأقنعته بأن هذا القائد كفء وأعرفه جيدا وأنه سيكون تحت إشرافى وتحت قيادتى وهو أقدر منى على قيادة وحدته.
وبعد أن تلقى المهمة الجديدة من المشير عامر قام بالاستطلاع الجوى للمنطقة مع العقيد طيار أيوب، وشاهد من الجو المنطقة المطلوب التحرك إليها وكذا المناطق المجاورة، وتمكن من رؤية العربات المعطلة والمدمرة، وكذا وجد «قول» آخر كبيرا معطلا أيضا فى منطقة مجاورة علمت من القيادة أنه قول لكتيبة مشاة معطل أيضا رغم أن القيادة قد أسقطت لهم إمدادات فى اليوم السابق، وفى الناحية الأخرى من الجبل وعلى طريق فرعى يؤدى إلى عمران إلى الشمال الغربى، شاهدت من الجو «قول» مصريا مشتبكا مع العدو بالنيران والمدفعية، علم فيما بعد أنها قوة من مشاة ومدرعات بقيادة المقدم سعد صبرى فى طريقها إلى عمران.
فى يوم 22 فبراير 1963، وفى شهر رمضان أيضا، تولي اللواء خليل قيادة القوة التى جمّعتها لتنفيذ المهمة وتحرك إلى منطقة المعمر (هى إحدى قرى محافظة حجة الواقعة فى الشمال الغربى للعاصمة اليمنية صنعاء) لاتخاذها كقاعدة، وجاءه شخص يمنى يحمل بندقية آلية على كتفه وحياه تحية الإسلام، وعرفه بنفسه أنه الرائد حمود من الجيش اليمنى! أهلا وسلام. وقال إنه على علم تام بهذه المنطقة وعرض على المساعدة فى الاستطلاع والقتال والحقيقة أننى شككت فيه.. هل هو عدو أم صديق؟ الله وحده يعلم.. وهو بالطبع ليس معه ما يدل على شخصيته، ولكنى قابلته بمودة وثقة وقلت فى نفسى ربما تكون العناية الإلهية قد أرسلته لى فى الشهر المبارك، كما حدث منذ أيام قلائل عند فتح طريق جيحانة!
وبجوار عربته المدرعة وقف يصلى لله شكرا على هذه الرحمة المهداة.. فجاءه هذا الرائد اليمنى مرة أخرى، وقال له لقد قمت باستطلاع القرية والعدو مختبئ فى بعض منازلها، وحددها له وأنه مستعد للتقدم فورا مع القوة المكلفة بالاقتحام، فأصدر اللواء خليل أوامر للقائد باقتحام القرية ومعه الرائد حمود اليمنى وقد نجحت القوة فى اقتحام القرية وتأمينها، وأسر عدد من الأفراد وشكرت الله سبحانه وتعالى، وشكرت هذا الرائد اليمنى وأصبح من هذه اللحظة دليله وصديقه.
وبمجرد نجاح الكتيبة فى اقتحام القرية وتأمينها أصدر اللواء خليل لقائدها الأوامر بعمل قاعدة بها لتأمين المؤخرة، وتقدم ومعه المدرعات فقط وأخذ خبرة من التحرك السابق، وركب دبابة القيادة وانطلقوا إلى الشمال تجاه رايدة، وفى الطريق شاهدوا جثثا لشهداء مصريين فنزلوا، وأمر اللواء خليل برص احجار على هذه الجثث لستر عوراتها، ووضعنا علامات ارشاد عليها، واستمر التقدم ولم يعترض طريقهم أحد حتى وصلوا إلى مجموعة كبيرة من القوات المصرية بعضهم فى عربات وبعضهم تحت السيارات وفى ثنيات الأرض ونيران متقطعة تطلق هنا وهناك، وقابل قائدهم المقدم الأعصر، وعلم منه الموقف وأنه غير قادر على التحرك لإصابة معظم عرباته فى اطاراتها ونقص ذخيرته وتعييناته وكذا الوقود والمياه رغم ان الطائرات المصرية كانت قد ألقت عليه امدادات، ولكن كثيرا منها سقط خلف الجبال التى يسيطر عليها المتمردون.
وإذا بالرائد حمود اليمنى الذى صاحبه فى رحلته هذه وركب معه دبابته يقول له سأستطلع الموقف وسأتسلق هذا التل من الخلف وأعطيك اشارة للتقدم بدبابتين أو أكثر لتأمين الموقع والاستيلاء على هذه القرية خلف الجبل فهى مفتاح الموقع.
وبعد دقائق كان قد تسلق الجبل ووقف فوقه رافعا سلاحه إشارة لى بالتقدم وتقدم إليه بدبابتين ركب احداهما مع قائدها الرائد محمد عبدالخالق حتى وصلوا القرية وقابله الرائد حمود، ووجدوا أن العدو فر بمجرد رؤية دباباته واعطى أوامره بتأمين القرية وتناولوا طعام الافطار الأخير فى رمضان، وقضى ليلته داخل دبابة، وفى الفجر سمعوا الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.. انه العيد، عيد الفطر وكانوا جميعا فى فرح وسعادة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
التقدم إلى زيفان
بعد أن تم تأمين منطقة الكمين، وإخلاء الجرحى ودفن الشهداء أصدر اللواء خليل أوامره إلى قائد الكتيبة بإعادة تنظيم قواته والاستعداد للتقدم.. وتحرك بدباباته ومعه الرائد حمود اليمنى تجاه موقع حيوى يسيطر سيطرة كاملة على الطريق الرئيسى إلى رايدة يسمى جبل زيفان باسم القرية المقامة عليه، ولما وصلوا إلى المنطقة قابلهم أهالى القرية بالزغاريد ومعهم عدد كبير من البقر والخراف إعلانا للولاء فأعطاهم الأمان.
واتخذ من هذه المنطقة مركزا للقيادة، وأرسل عناصر استطلاع وتأمين للمناطق المحيطة حتى رايدة للاطمئنان على سلامة الطريق، واعطى أوامر إلى قائد الكتيبة التى كانت فى الحصار بالتقدم، وأخطر القيادة فى صنعاء بنجاح قواته فى تأمين المنطقة.
وجاءته إشارة عاجلة من المشير عبدالحكيم عامر يهنئه فيها بالعيد وبترقيته استثنائيا إلى رتبة العميد اعتبارا من أول فبراير 1963.
وبعد نحو أسبوع عادت إلى وظيفته السابقة، رئيسا لعمليات القوات العربية (يقصد القوات المصرية، لكنه يسميها العربية لأن اسم مصر وقتها «الجمهورية العربية المتحدة) فى اليمن، ثم صدرت الأوامر بعودته إلى الوطن مع أول فوج من القوات المصرية فى 29 أبريل 1963.[2]
زيارة عبدالناصر لليمن
عاد اللواء خليل إلى اليمن مرة أخرى بعد 15 يوم إجازة فى القاهرة، وتتابعت الأحداث واستمر القتال فى مختلف المناطق إما لإجبار القبائل على الولاء للثورة، أو مقاومة هجمات متفرقة، أو تأمين طرق الإمداد أو الوجود فى أمكنة معينة لها أهمية لحماية الثورة، وهذا استدعى زيادة كبيرة فى القوات المصرية، وانتشارا كبيرا لوحداتنا فى كل نواحى اليمن وكانت قبيلة «خولان» فى مناطق (جيحانة- العرقوب - صرواح) وما حولها أشد القبائل اليمنية عداء للثورة، وكان الحسن (يقصد الأمير الحسن رئيس وزراء الإمام محمد البدر حميد الدين، الذى أطاحت الثورة اليمنية به من الحكم وأعلنت الجمهورية) دائم التردد عليهم والإقامة معهم، وظهر تأثير الذهب والأسلحة الحديثة التى يمدهم بها فى أعمال وتصرفات زعيمهم القوى المسمى «الغادر»، وحاولنا بكل الطرق هدايته إلى طريق السلم والسلام بالقوة مرات وبالمال والذهب المصرى مرات أخرى، ولكنه كان حقا غادرا، وأخيرا قبل مقابلة وفد مصرى مكون من اللواءات المسيرى وعثمان نصار وقاسم فى إحدى قلاعه.
وبدأت مرحلة مفاوضات محيرة، مرة طلب أن يقابله المشير عامر شخصيا ومرة يطلب أسلحة وذخائر محددة وبالطبع كان الذهب هو العامل المشترك فى كل هذه المطالب.
ولما وصل الرئيس جمال عبدالناصر لليمن فى 23 أبريل 1964 وتحولت صنعاء وخاصة مبنى القيادة المصرية بالطرف الشمالى منها إلى قبلة يتوجه إليها كل قبائل اليمن لمشاهدة عبدالناصر، ولم يحضر الغادر أى لقاء مع الرئيس المصرى أو حتى اليمنى.
وعندما طار عبد الناصر إلى تعز فى الجنوب استقبل استقبالا رائعا من قبائل الجنوب اليمنى وقبائل اليمن الجنوبى.. وسيحكى التاريخ نتائج هذه الزيارة وأثرها الكبير فى استقرار الثورة اليمنية داخليا وخارجيا ودوليا.. وقد أبلغت انجلترا هيئة الأمم المتحدة أن خطب الرئيس جمال فى اليمن تسببت فى عدم امكان الوصول إلى حل فى موضوعات الجنوب اليمنى.
فتح طريق الجوف الأعلى
فى نهاية عام 1965 كان اللواء خليل قائدا لوحدات المظلات وقائدا للاحتياطى العام فى صنعاء، وقد استدعى الموقف اسقاط مجموعة مظليين فى منطقة المطمة (إحدى المناطق التابعة لمحافظة الجوف الواقعة فى الشمال الشرقى من العاصمة اليمنية صنعاء) لدعم القوات بها للقيام بهجوم كبير لتأمين طريق الامداد الرئيسى للجوف، وكانت قوة العميد الشاذلى (يقصد الفريق سعد الشاذلى، وكان وقتها برتبة «عميد») فى الجوف قد تحركت للعودة إلى صنعاء عن طريق المطمة ــ الحميدات.
وبعد مرورها قطعت مجموعة من المتمردين طريق الامداد الرئيسى للجوف وهو الطريق البرى الوحيد الممكن إمداد الجوف منه، حيث أن طريق الشرق (صنعاء ــ جيحانة ــ صرواح ــ مأرب) مقطوعا منذ فترة طويلة بكمائن قوية بين صرواح ومأرب، ويصعب وصول قوات إليها، أما الامداد الجوى فرغم استمراره فلم يكن بالطبع كافيا.. وقد قمت بزيارة لقوات المظلات فى المطمة مستخدما طائرة هيلوكوبتر، وبمجرد وصولى إلى هناك كلفنى قائد القوات المصرية باليمن اللواء أ.ح أحمد فتحى عبدالغنى بالبقاء فى المطمة، وتولى قيادة قوات المظلات والصاعقة والقوات الأخرى المعاونة فى هذه المنطقة وفتح طريق الجوف الأعلى (المطمة ــ الحميدات) وتأمين جبل أسحر والجبل الأحمر المشرفين على المضيق المؤدى إلى الجوف.
وبعد قتال استمر نحو ثلاثة أيام وليالى متواصلة تمكنت قواتى من تأمين المنطقة وفتح طريق الامداد الرئيسى إلى الجوف.. ولم أستطع العودة إلى صنعاء إلا بعد فترة طويلة قضيتها قائدا لهذا القطاع الكبير إلى أن حضر المشير عامر، وزار هذا القطاع، ثم استدعينا إلى صنعاء لحضور مؤتمر كبير لقادة القطاعات فى اليمن.
بعد فتحه الطريق إلى الجوف، قد تم استدعاء اللواء خليل لحضور مؤتمر (اجتماع) كبير للقادة فى صنعاء، كان المؤتمر الكبير يضم مع المشير عامر السيد أنور السادات والفريق أول عبدالمحسن كامل مرتجى (تولى قيادة القوات المصرية فى اليمن سنة 1963 إلى 1965)، واللواء فتحى عبدالغنى، بالإضافة إلى قادة قطاعات القوات المصرية باليمن.
وطلب المشير من القادة الإجابة عن ثلاثة أسئلة هامة:
1- ما هو موقف الروح المعنوية للقوات فى منطقة كل قائد؟
2- الموقف الحربى والعسكرى والكفاءة القتالية للقوات؟
3- موقف القبائل اليمنية ومشاكلها؟
قام القادة كل فى دوره يجيب على أسئلة المشير واستفساراته والحقيقة كانت الاجابات تمثل صدمة نفسية لى، خاصة فيما يتعلق بالإجابة على السؤال الخاص بموقف الروح المعنوية للقوات، فالجميع أعلنوا ارتفاع المعنويات والاستعداد للقتال، أما إجابتى عندما جاء دورى فقد افقدت بها المشير هدوءه عندما قلت: إن الروح المعنوية لقواتى سيئة؛ فدق بيده بقوة على منضدة المؤتمرات قائلا لى «ازاى تقول الكلام ده؟ احنا بنقول ان قواتنا المسلحة أكبر قوة ضاربة فى الشرق الأوسط؟».
وكان رده على سيادته فى هدوء «إذا كنت سيادتك زعلان بلاش اتكلم بصراحة!» وبسرعة رد على قائلا فى هدوء «لا لا اتكلم يا منعم بصراحة قول...».
ويومها تكلمت بصفتى قائدا للمظلات وقائدا لمنطقة (الجبل الأحمر ــ اسحر)، وقد سمح لى بأن أصدقه القول عن أسباب ردى على تساؤله عن الاستفسار الأول الخاص بالروح المعنوية، والذى أجبت فيه أنها سيئة وسببت هذا الهياج، قلت بثقة وأنا جالس على مقعدى بناء على تعليماته «هناك عدة أسباب رئيسية أثرت وتؤثر على الروح المعنوية لقواتى جعلتنى أصفها بالسيئة أولها:
- طبيعة العدو الذى نقاتله وتميزه بالغدر والخيانة وكيف نعرف العدو من الصديق؟
- طبيعة الأرض وصعوبة التحرك عليها خاصة المنطقة الجبلية التى نيعش بها الآن، وكثرة الأحجار الصخرية بها، وتأثيرها الخطير على أحذية الجنود التى تنزع نعالها من مشوار واحد إلى قمة الجبل.. فتصاب أقدام الجنود من الصخور والأحجار وتدمى أصابعهم، كما أنهم يعانون الكثير أثناء الصعود حاملين المياه والتعيينات والأسلحة والذخائر!
- عدم توافر المياه وطول المسافة وخطورتها إلى موارد المياه فى الوادى، ومتاعب الحصول عليها احتمالات تلوثها بفعل العدو.
- صعوبة وصول اللحوم والخضراوات الطازجة من صنعاء إلى الموقع، وإذا وصلت فمعظمها يصل تالفا، ولا يحصل عليها إلا المواقع القريبة من أرض الهبوط التى مهدتها للطائرات «الأليوشن» أو للطائرات الهليكوبتر لمصاعب ومتاعب النقل وطول المسافات إلى المواقع.
- صعوبة وصول الترفيه سواء الصحف والمجلات أو البريد وهو الأهم، والوسيلة الوحيدة هنا للاتصال هى الراديو، علاوة على أن اذاعة القاهرة لا تصل هنا إلا نادرا.. وبالطبع مشكلة اجازات الجنود ونقلهم من وإلى مطار صنعاء لقضاء اجازاتهم بالوطن مشكلة معقدة ولا حل لها عندى.
- اختلاف حالات الطقس فى المكان أو الموقع الواحد، ففى أعلى الجبال نعانى شدة البرودة ليلا ونعانى من دوامات الأتربة الصاعدة إلى أعلى والحاملة لكل أتربة وأوساخ اليمن.. وفى الوديان حرارة شديدة وفى الجبال برودة قاسية وهذا يتطلب وفرة من البطاطين والملابس الصوفية للجنود وملابس أخرى خفيفة نهارا.. أما الأمطار والصواعق والسيول فلن اتكلم عنها فمشاكلها يتعرض لها الجميع ويصعب التغلب عليها، وأرى صرف ضلع خيمة لكل جندى وضابط للإيواء وهى غير متوفرة كغيرها من المهمات الضرورية.
وحتى المتوفر منها نوعه ردىء أو قديم أو تالف، وهنا حدثت مناقشات كثيرة فى جميع هذه النقاط التى أثيرت، وبالطبع كان هناك هجوم ولوم على القادة والضباط والجنود، لماذا لم تطلبوا؟ أو يقال لقد تم صرف مهمات كثيرة ولكن اهمالكم يسبب تفلها! ولكن المشير عامر دافع عنا وأمر بحلول لهذه المشكلات.
وخلال هذه المناقشات قلت للمشير إننى رغم هذا فقد تغلبت على بعض هذه المشكلات؛ فمثلا مشكلة اللحوم الطازجة، أصدرت أوامرى بشراء عجول وخراف حية لجنودى من الريالات التى معى ومخصصة للقبائل والمشايخ لإعلان ولائهم الظاهرى وقت قبض الريالات فقط؛ فجنودى أولى وأفضل! وهنا سمعت همسا وأصواتا تقول «والله يا منعم جدع» وآخرون يقولون «يبقى تتحاكم يا منعم».
وانتهى المؤتمر والتف حول معظم قادة القطاعات والقادة من الزملاء يقولون «والله نفسنا كنا نقول الكلام اللى قلته.. ولكن احنا ما نقدرش نقول طبعا يا عم.. أنت مسنود والمشير بيحبك».
وقابلنى الفريق أول مرتجى وقال لى «المشير عامر مبسوط منك يا منعم وبيقول ان عندك شجاعة أدبية وبيقول يا ريت باقى القادة يكونوا زيك»، والحمد لله على هذه النعمة.
ولم أحاكم إلى الآن فى موضوع ريالات القبائل.. ولكنى كسبت الثقة والتقدير ودافعت عن رجالى حتى يمكننى أن أرد على تساؤلاتهم، لماذا نحارب هنا؟
بعض المصاعب والمتاعب
فقد قابلت قواتنا صعوبات كثيرة منذ بداية الثورة اليمنية، ولقد كان لها تأثير خطير على كفاءة الأفراد والمعدات والأسلحة وفى اعداد القوى والتدريب للحروب الأخرى التقليدية التى تختلف فى الأسلحة والمعدات والتكتيكات عما كنا نقابله فى مسرح عمليات اليمن، وكذا تختلف فى العدو الذى سنحاربه، والقيادة التى ستتولى توجيهه وإدارة معاركه ضدنا.. واختلاف طبيعة الأرض ومناطق القتال وتغييرات الجو وعدم ملاءمة الفرد ولا الأسلحة ولا المعدات لهذا النوع من القتال إذا أردنا تسميته قتالا.
وكان بالطبع عامل الإلمام بطبيعة السكان وعادات الأهالى والقبائل المختلفة الطبائع والصفات وتأثير القات على صحة الرجال، خاصة من الجنود اليمنيين وموضوع الخطاط (إغارة كل قبيلة على الأخرى وسبى نسائها ونهب مقدراتها) وخطورته ونتائجه الوخيمة على الأخلاق والمجتمع، وتفشى الأمية وكراهية العلم والمعلمين والمتعلمين وسوء الحالة الصحية للأهالى والفقر وغيرها.. كل هذه الأسباب مصاعب قابلتنا ولم نعمل لها حسابا فى أول الأمر.
والحمد لله فقد قامت القوات المصرية باليمن تعاونها كل أجهزة الدولة المصرية فى التغلب على كل هذه الصعاب ماديا ومعنويا، وحاربنا عنهم الفقر والجهل والمرض والتخلف ومقاومة التقاليد البالية القديمة العفنة، واليوم يشهد تقدم اليمن الشقيق على هذا المجهود الكبير الذى قامت به قواتنا فى اليمن ليس فقط فى حماية ثورتها، ولكن فى محاربة التخلف حتى وصلت جمهورية اليمن الشمالى إلى ما وصلت إليه الآن من تقدم وازدهار وحضارة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فداء الأرواح بالذهب
قامت الثورة فى اليمن فى 26 سبتمبر 1962 ولم تعلن كل قبائل اليمن ولاءها للثورة فى أول أيامها، وكانت الجبهة الشرقية من اليمن مملكة خاصة لقبائل خولان القوية والتى يتزعمها الشيخ الغادر.. وطلب المشير عبدالله السلال (قائد الثورة اليمنية) من القيادة المصرية فى اليمن ضرورة اخضاع هذه القبيلة القوية للثورة، والسيطرة على المنطقة الشرقية من اليمن، فهى مفتاح حضارة اليمن خاصة منطقة مأرب التاريخية حيث توجد آثار مملكة سبأ القديمة وسد مأرب، كما كانت توجد فى منطقة صرواح آثار الحضارة اليمية القديمة.[3]
وتحركت قوة برية ومعها بعض الدبابات والعربات المدرعة تدعيما لقوة من الصاعقة كلفت بالتقدم إلى جيحانة، ثم رأس العرقوب وصرواح ومأرب وكان يقودها الرائد حسن عبدالغنى من الصاعقة، وفى نفس الوقت تم إسقاط قوة من المظلات فى سماء صرواح بغرض تأمينها واحتلالها حتى تصل لها القوة البرية عن طريق رأس العرقوب وللأسف هبطت عناصر المظلات فى مناطق جبال صرواح وتاهت فى ظلمة هذه المرتفعات فلم تكن الخرائط الموجودة مع قائدها توضح شيئا عن حقيقة الأرض حولهم، وتشتت الجمع على هذه الأرض العجيبة، ولم نتلق أى إشارات لاسلكية أو أخبارا عنهم طيلة فترة طويلة مؤلمة.
وحتى القول (الرتل) البرى وقع فى كمين خطير عند منطقة وعرة تسمى رأس العرقوب وفقدنا الكثير من الأرواح، وبالطبع عدد كبير من السيارات والمصفحات واضطرت القوة للارتداد إلى منطقة جيحانة، ورغم فشل هذه المحاولة فى التقدم إلى صرواح فقد تم تكوين قوة أخرى أكبر تتكون من عناصر مشاة وصاعقة ودبابات لفتح طريق رأس العرقوب والتقدم إلى صرواح ومأرب.
ولم تنجح هذه القوة أيضا فى التغلب على الكمائن القوية الخاضعة لسلطان الغادر «ملك خولان»، وهكذا ظلت جبهة الخولان قوية صامدة معادية للثورة اليمنية رغم ما انفق من أموال وريالات اليمن الفضية لحل الموضوع سلميا وإعلان الجمهرة، أى الولاء للجمهورية اليمنية.
وقامت لجنة من اللواء عثمان نصار واللواء أحمد المسيرى والعميد محمد محمود قاسم المسئول عن القبائل اليمنية فى القيادة المصرية، واستطاعت اللجنة مقابلة الغادر فى منطقة نفوذه فى العرقوب حيث دارت مفاوضات طويلة مملة وركب الغادر رأسه وأراد ان يظهر قوته، وطلب ان يحضر لمفاوضته الرئيس جمال عبدالناصر شخصيا والمشير عامر، وكان الرئيس جمال عبدالناصر قد وصل إلى اليمن واجتمع مع جميع زعماء القبائل إلا الغادر الذى أصر على إعلان التمرد ضد المشير السلال أساسا، ولقد خيم الغضب على المشير السلال وكذا المشير عامر وقررا أن يستخدما القوة ضد هذا الغادر، فأصدر المشير عامر تعليماته بوضع الخطة الكفيلة بإخضاع قبائل الخولان وزعيمها الغادر بقوة السلاح.
وفعلا تم تخطيط العملية بحضور رئيس هيئة عمليات القوات المسلحة الفريق فريد سلامة، والفريق عبدالمحسن مرتجى قائد القوات المصرية باليمن ومجموعة عمليات القيادة، وتم تخصيص القوات المكونة أساسا من لواءين من المشاة تعززهما الدبابات والمدفعية وعناصر المهندسين وتعاونها قوة جوية من المقاتلات والقاذفات الخفيفة، وتمت مناقشة الخطة، وأصبحت جاهزة للعرض على المشير عامر الذى كان موجودا فى هذا الوقت باليمن.
وللحقيقة والتاريخ لم يكن أحد من المخططين لهذه الخطة وأنا منهم على اقتناع بنجاح هذه الخطة التى ستكلفنا الكثير من الأرواح؛ نظرا لوعورة المنطقة وكثرة الكهوف بها وشدة بأس رجال القبائل الشرقية وعنادهم ضد الثورة.. كما أن هذه القوات النظامية ذات التسليح التقليدى لن تكون كفاءتها القتالية عالية فى مثل هذا النوع من القتال.
كل هذا جعلنا نأمل أن يرد الله المشير عامر عن غضبه ويهديه إلى قبول حل هذه المشكلة سلميا، ولكن احدا من الموجودين لا يستطيع أن يقول للمشير عامر هذا.. فألهمنى الله سبحانه وتعالى ان أعرض عليهم اقتراحا بمحاولة منى مع المشير عامر للكف عن هذا الانتقام الذى سيكلفنا الكثير من أرواح رجال أبرياء فوافقوا، وصعدت إلى المشير عامر فى مكتبه بالدور العلوى من القيادة، وقد لمست على وجهه لمحة من الإجهاد مع التفكير العميق، وأحسست أنه كان بحاجة إلى شخص يتحدث معه أو يقول له رأيه بصراحة، فأخبرته بحقيقة الموقف وان كل من اشترك فى وضع هذه الخطة غير مقتنع بنجاحها، وأن فداء هذه الأرواح الغالية بكل ما نملك من ذهب لهو ثمن رخيص، فوافق فى الحال على الغاء الخطة، ونزلت إلى حيث كان القادة حيث بشرتهم بانفراج الأزمة والحمد لله.
الدروس المستفادة من العملية 9000
1- إن طبيعة الحرب فى اليمن لم تكن غزوا بل كانت لمعاونة شعب عربى شقيق، وكان على حكومة اليمن فى عهد الثورة وعلى القوات المصرية التى تقدمت لتحمل أمانة حماية هذه الثورة ان تتقابل مع مجتمع قبلى تحكمه الخرافات والخلافات والانقسامات، ولذا سارت معارك السلاح جنبا إلى جنب مع معارك التوعية ومحاولة اشعار الانسان اليمنى بمدى التخلف الذى يعيش فيه، والسعى إلى نقله إلى ميدان الكفاح فى سبيل حياة أفضل لتغيير هذا القطاع من المجتمع العربى، ولقد قامت القوات المصرية بتنفيذ المهام المكلفة بها لمساندة ثورة اليمن عسكريا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا.
2- قاتلت القوات المصرية على مسرح عمليات اليمن تحت ظروف لم يسبق لها مثيل بالنسبة لأسلوب تدريبها فى مصر وأهمها الحرب الجبلية واسلوب قتال العصابات والكمائن الجبلية.
3- عدم توافر خرائط ذات مقياس مناسب ودقيق توضح طبيعة الأرض، وطرق الاقتراب والدروب والمسالك الجبلية، وكثر الاعتماد على الأدلاء (جمع دليل) من أهالى المنطقة، وبالطبع لا يمكن معرفة الموالى للثورة منهم من عدمه.
4- ان تسليح القوات المسلحة التى اشتركت فى عمليات اليمن لم تكن بالمرونة الكافية لمجابهة القتال فى هذه المناطق، الأمر الذى استدعى تطويرها وعمل ابتكارات فى التسليح والمركبات وأنواع الذخائر.
5- صعوبة السيطرة على المناطق المتسعة فى اليمن أو تنظيم التعاون بين الوحدات بها.
6- صعوبة الإمداد بالمياه والطعام بصفة مستمرة فى عدد من المناطق الوعرة أو التى فى قمم الجبال، مما أدى إلى إدخال ابتكارات غير نمطية فى أساليب الامداد.
7- طبيعة الجو وكثرة الأمطار واختلاف درجات الحرارة والرطوبة وتيارات الاتربة المرتفعة إلى أعلى، وشدة الحرارة فى مناطق وشدة البرودة فى نفس المناطق المرتفعة منها، أثر كثيرا على معنويات الرجال وصحتم ووقايتهم وكان لابد من ابتكار ملابس معينة ومهمات تعاون الجندى ضد هذه الصعاب.
8- نجح اسلوب التوعية والتوجيه المعنوى وزيارات الشباب اليمنى إلى مصر ومشاهدة التقدم الملموس بها، وفى عودتهم نقلوا الكثير من حياة التقدم الاجتماعى إلى اليمن.
9- قيام القوات المصرية بتعليم الصغار مبادئ القراءة والكتابة ومبادئ الدين الحنيف، مما ساعد كثيرا على النهوض بدعائم نهضة اليمن المستقبلة.
10- نجحت قوافل المعاونة الصحية للأهالى وعلاجهم والرعاية بهم.
11- اضطرتنا الظروف إلى إجراء كثير من التحركات للجنود سيرا على الأقدام مع تحميل الأسلحة والذخائر على الدواب من بغال وحمير، وهذا أعطى الجنود قدرة على الصبر والاحتمال والصمود.
12- من الصعاب التى واجهتنا فى مناطق اليمن، صعوبة سيطرة القائد المحلى على قواته فى قمم الجبال وفى الوديان، وبعد المسافات بينها، مما اضطرنا إلى استخدام اللاسلكى والتأثير المنظور بالصوت أو بالبيارق (الأعلام) أو بالإضاءة بالبطاريات والمصابيح ليلا.
13- ظهرت أهمية المهندسين فى أعمال شق الطرق وتمهيد أراضى هبوط الطائرات العمودية أو طائرات النقل، وانشاء وإدارة نقط توزيع المياه وحفر الآبار فى عدد كبير من مناطق اليمن.
14- ومن أبرز الدروس التى اكتسبتها قواتنا فى اليمن، هو الاهتمام باللياقة البدنية للفرد المقاتل حتى يمكنه تحمل متاعب الحياة فى هذه الظروف الصعبة.
المصادر
- ^ "حاربنا مرتزقة من كل مكان.. ولم نكن نعرف العدو من الصديق «الشروق» تنشر شهادة الفريق عبدالمنعم خليل عن العملية 9000 للجيش المصرى فى اليمن (1)". جريدة الشروق المصرية. 2015-04-10. Retrieved 2015-04-13.
{{cite web}}
: line feed character in|title=
at position 56 (help) - ^ "القوات المصرية تحارب الأشباح على الطرق الجبلية الوعرة «الشروق» تنشر شهادة الفريق عبدالمنعم خليل عن العملية 9000 للجيش المصرى فى اليمن (2)". جريدة الشرق الأوسط. 2015-04-12. Retrieved 2015-04-13.
{{cite web}}
: line feed character in|title=
at position 54 (help) - ^ "الدروس المستفادة من الحرب المصرية على الأراضى اليمنية «الشروق» تنشر شهادة الفريق عبدالمنعم خليل عن العملية 9000 للجيش المصرى فى اليمن (الأخيرة)". جريدة الشروق المصرية. 2015-04-13. Retrieved 2015-04-13.
{{cite web}}
: line feed character in|title=
at position 54 (help)