ابراهيم الهلباوي
ابراهيم الهلباوي (و. 30 أبريل 1858 - ت. 1940) وكيل نيابة محكمة دنشواي وأول نقيب للمحامين في مصر. وهو من مؤسسي الجمعية الخيرية الإسلامية.
ابراهيم الهلباوي أعظم المحامين الذين أنجبتهم مصر في ذلك الوقت وصفه عباس محمود العقاد ذات مرةٍ بأنه "كان ذا ذلاقة لسانٍ لا تطيق نفسها ولا تريح صاحبها". وكان الهلباوي خطيباً مفوهاً وممثلاً رائعاً يمزج بين العربية الفصحى والعامية البسيطة ويتحرك بخفةٍ ورشاقة، يجبر المحكمة على سماعه ويجعل من يسمعه ويراه مشدوهاً بعبقرية هذا الرجل. قال عنه عبد العزيز البشري في "المرآة" إنه "شيخ يتزاحف على السبعين إن لم يكن قد اقتحمها فعلاً، عاش مدى عمره يحبه ناس أشد الحب ويبغضه ناس أشد البغض.. إلا أن هؤلاء وهؤلاء لا يسعهم جميعاً إلا التسليم بأنه رجل عبقري" وقال معاصريه: " كان الهلباوي يقف في المحكمة فيهز مصر كلها بفضل حججه القانونية البارعة التي جعلته يدعى أعظم طلاب المرحمة "
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
السنوات الأولى
ولد ابراهيم الهلباوي من أب وجد من أصل مغربي، ونشأ في بلدة العطف (المحمودية الآن) بمديرية البحيرة، عمل والده بالملاحة في النيل فلما قل رزقها عمل بالزراعة وتجارة الحبوب.
دخل كُتّاب المدينة ودرس على يد الشيخ الشامي وانتقلت إلى الأزهر ولبث به سبع سنين قبل دراسة المحاماه.
ابراهيم الهلباوي وحادثة دنشواي
في يوم 20 يونيو 1906، أصدر بطرس باشا غالي ناروز وزير الحقانية بالنيابة قراراً بتشكيل المحكمة المخصوصة لمحاكمة المتهمين في حادثة دنشواي برئاسة بطرس باشا غالي نفسه، وعضوية كلٍ من "المستر" هبتر نائب المستشار القضائي، و"المستر" بوند وكيل محكمة الاستئناف الأهلية والقائمقام لهادلو القائم بأعمال المحاماة والقضاء بجيش الاحتلال، وأحمد فتحي زغلول بك (حمل لاحقاً لقب: باشا) رئيس محكمة مصر الابتدائية وأن يكون انعقادها في شبين الكوم يوم الأحد 24 يونيو.
كان من المقرر أن يحضر إبراهيم الهلباوي التحقيق مع المتهمين الأبرياء في حادثة دنشواي يوم السبت الموافق 16 يونيو عام 1906 لكنه لم يحضر لعدم عثوره على وسيلة انتقال مباشرة إلى دنشواي ولارتفاع درجة الحرارة في ذلك اليوم.
وعلى رصيف القطار في القاهرة، وجد الياور الخاص برئيس الوزراء مصطفى فهمي باشا يخبره بأن "الباشا" ينتظره في مكتبه لأمرٍ مهم. ثم التقى الهلباوي محمد محمود بك رئيس حزب الأحرار الدستوريين فيما بعد، وكان يعمل آنذاك سكرتيراً خاصاً لمستشار وزير الداخلية الإنجليزي "المستر" ميتشل، الذي سأله عما إذا كان أحد من المتهمين في حادثة دنشواي قد وكله للدفاع عنه..فلما نفى ذلك أخطره بأن الحكومة قد اختارته ليمثلها في إثبات التهمة ضد المتهمين أمام المحكمة المخصوصة، باعتباره من أكبر المحامين سناً وأقدمية.
وهكذا استقبل الهلباوي في مكتبه "المستر" موبيرلي المفتش الإنجليزي لوزارة الداخلية لوزارة الداخلية و"المستر" مانسفيلد الحكمدار الإنجليزي لبوليس القاهرة اللذين أبلغاه أنهما مكلفان بأن يكونا في خدمته في كل ما يتعلق بقضية دنشواي، واقترحا عليه أن يحضر التحقيق وأن يشارك في استجواب المتهمين، لكنه اعتذر عن ذلك وفضلَ أن يزور مسرح الأحداث ليعاينه. وفيما بعد، قال الهلباوي – إن قبوله القيام بدور المدعي العام قد مكَنه من صد المحاولات الإنجليزية التي استهدفت تضخيم الحادثة (مذكرات ابراهيم الهلباوي: تاريخ حياته، إبراهيم الهلباوي بك (1858-1940)، تحقيق عصام ضياء الدين؛ تقديم د. عبد العظيم رمضان).
وكان رد الفعل البريطاني قاسياً وسريعاً، فقد قدم 52 فلاحاً مصرياً للمحاكمة بتهمة القتل المتعمد.
فقد استخدم الهلباوي دهاءه لتكييف واقعة اعتداء الفلاحين بالضرب على الضباط الإنجليز بحيث يثبت أن الحريق الذي وقع في الجُرن نتيجة رصاص الضباط الإنجليز أثناء رحلة الصيد في دنشواي، هو حادثٌ تالٍ للاشتباك بين الفلاحين والضباط –و أن الضباط الإنجليز لم يكونوا أصلاً السبب في حدوث حريق الجُرن..وأشار إلى أنه حريقٌ متعمد اصطنعه الفلاحون ليخفوا أدلة سبق إصرارهم وتعمدهم التحرش بالضباط الإنجليز والاعتداء عليهم بالضرب.
وهكذا تمكن الهلباوي من تبرئة الضباط الإنجليز من الأخطاء والجرائم التي ارتكبوها، في حين زاد من مسؤولية الفلاحين عن الحادثة. واتخذ الهلباوي من نجاح الفلاحين في إخماد النيران في الجُرن في غضون ربع ساعةٍ فقط دليلاً على أن الفلاحين هم الذين أطفأوا النيران بعد أن أشعلوها.
ولم يبق في إثبات ركن سبق الإصرار على القتل والشروع فيه سوى إثبات أن فكرة القتل لم تكن عرضيةً وغنما كانت نيةً مبيتة.
وصوّر الهلباوي الأمر أمام المحكمة وكأن الفلاحين رتبوا الأحداث بحيث صمموا على قتل الإنجليز إذا جاءوا للصيد في قريتهم. وكان الملازم بورثر قد ذكر أثناء إدلائه بأقواله أمام المحكمة أن المتهم التاسع عبد المطلب محفوظ قد حماه هو وزملاءه من العدوان عليهم، وقدم إليهم المياه ليشربوا، وهي شهادةٌ كانت كافية لتبرئته.
وعندما جاء الدور على الشاهد فتح الله الشاذلي نجل عمدة دنشواي، ورد في أقواله هو الآخر أنه قد قدم الماء للضباط..فتنبه الهلباوي إلى نقطةٍ جزم بأنها فاتت على الملازم بورثر، ووقف ليقول إنه يلاحظ شبهاً كبيراً في الملامح بين المتهم عبد المطلب والشاهد فتح الله، وإنه يعتقد أن الأمر قد اختلط على الملازم بورثر..فاستدعت المحكمة الضابط الإنجليزي الذي حسم الامر، وقال إن الذي سقاه هو ابن العمدة وليس المتهم. وبذلك حرم الهلباوي المتهم التاسع من فرصته للنجاة من الحكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة.
وعلى هذا النهج يروي لنا صلاح عيسى في كتابه "حكايات من دفتر الوطن" كيف بذل إبراهيم الهلباوي جهداً ضخماً في تفنيد كل ما جاء في أقوال المتهمين والشهود ليهدم كل واقعةٍ يمكن أن تتخذ ذريعةً للتخفيف عن المتهمين الأبرياء في حادثة دنشواي، وليثبت للمحكمة أن الحادثة ارتكبت عمداً ومع سبق الإصرار، بل إنه فند التقارير الطبية التي قالت إن الضحية الوحيدة في الحادثة وهو الكابتن البريطاني بول، قد مات متأثراً بضربة شمس، وأكد أن موت بول بضربة شمس لا ينفي أن المتهمين هم الذين قتلوه لأنهم هم الذين ضربوه، وألجأوه إلى الجري تحت أشعة الشمس اللاهبة. أضف إلى ذلك أن الهلباوي اتهم المتهم البريء حسن محفوظ بأنه "لم يكدر قريةً بل كدر أمةً بأسرها بعد أن مضى علينا 25 عاماً ونحن مع المحتلين في إخلاصٍ واستقامة وأمانة.. أساء إلينا وإلى كل مصري..فاعتبروا صوتي صوت كل مصري حكيمٍ عاقل يعرف مستقبل أمته وبلاده".
وفى 27 يونيو من ذلك العام صدر قلم المحكمة المخصوصة التى قضت بإعدام على حسن على محفوظ ويوسف حسن سليم والسيد عيسى سالم ومحمد درويش زهران وتم تنفيذ الحكم علنا في دنشواى فيما تم الحكم على ٢ بالأشغال الشاقة المؤبدة والحكم على آخر بالأشغال ١٥ سنة ثم حكم بالسجن ٧ سنوات على ٦ متهمين مع معاقبة كل منهم بخمسين جلدة علنا.
وفي الثانية من ظهر يوم 28 يونيو، جرى تنفيذ تلك الأحكام الجائرة، بعد محاكمةٍ استمرت بضعة أيام فقط وأمام أعين الأهالي. وتقول جريدة "المقطم" يوم [[18 يونيو عام 1906 إن المشانق أعدت داخل القرية قبل التحقيق.
عاش الهلباوي 34 عاماً بعد هذه الحادثة ذاق أثناءها الذل والهوان من المصريين وطارده لقب "جلاد دنشواي" في كل مكان. وكانت له كلمته الشهيرة: "ما أتعس حظ المحامي وما أشقاه. يعرض نفسه لعداء كل شخص يدافع ضده لمصلحة موكله فإذا كسب قضية موكله، أمسى عدواً لخصمه دون أن ينال صداقة موكله".[1]
وصلت أنباء هذه المحاكمة الهزلية إلى الصحف حتى انطلقت كالنار في الهشيم داخل مصر وخارجها، حتى إن الكاتب الأيرلندى الشهير «برنارد شو» لم يجد سوى السخرية من عدل سلطات الاحتلال، التى أجهدت نفسها بحثًا عن «بروجرام» تشغل به المتفرجين على حفل الإعدام وتحول بينهم وبين الملل خلال نصف الساعة الذى كان مفروضًا أن يظل فيه جسد المشنوق معلقًا للتأكد من وفاته، ولإتاحة وقت كاف لأسرته كى تشاهده وهو يدور حول نفسه، وقد حلَّت المحكمة هذه المشكلة فقضت على ثمانية من المتهمين بالجلد لتتيح لفرقة التنفيذ ملء فراغ «البروجرام» بجلد اثنين بين كل مشنوقين، حتى يكتمل الطابع الاحتفالى والاستعراضى لعدل المحتلين، أما إبراهيم الهلباوى فقد عمَّر طويلًا بعد الحادث لأكثر من ثلاثين عامًا ذاق خلالها الذل والهوان من المصريين الذين قابلوه بالكراهية في كل مكان. يقول الأديب يحيى حقي: حضرته- أى الهلباوى- يخطب في سرادق ضخم ازدحم فيه أنصار حزب الأحرار الدستوريين من أجل تخليص البلاد من يد المحتلين، وقوبل خطابه بالهتاف والتصفيق، وامتلأ الرجل ثقة وزهوًا وظن أن الدنيا قد صالحته، ولكنه لم يكد يفرغ من خطابه حتى ارتفع صوت في آخر السرادق يهتف (يسقط جلاد دنشواى).
ومن الطريف أن الهلباوى انتدب نفسه فيما بعد عن ابراهيم الورداني، الذى قام باغتيال بطرس غالي، رئيس محكمة دنشواى، ربما محاولة يائسة للتكفير عما جنى سلفًا، كما أنجز العديد من الحسنات، وهو ما جعل الوطنيين المصريين يطلبون منه الدفاع عنهم في قضية التظاهر ضد قانون المطبوعات، وفى قضايا أخرى عديدة لبراعته المهنية في المحاماة، ولكن حكم الشعوب يصعب أن يتغير. ويذكر لنا التاريخ أن واحدًا من أهم أحداث عام 1913 هو ما حدث في 9 ديسمبر من ذلك العام، حيث استكملت نقابة المحامين وجودها القانونى هذه السنة، وكان اتجاه المحامين هو اختيار عبد العزيز فهمي لمنصب رئيس النقابة «النقيب»، ولم يكد الدكتور هيكل يفاتح عبد العزيز فهمى في أحقية إبراهيم الهلباوى بهذا المنصب حتى بادر على الفور بالموافقة قائلا: «أستاذنا وشيخنا»، وتحول فهمي من المرشح المختار إلى داعية لانتخاب الهلباوى الذى صار أول نقيب للمحامين في مصر. وكان إبراهيم الهلباوى بك، الذى عاش بين عامى (١٨٥٨-١٩٤٠) قد كتب مذكراته، التى أعادت الهيئة العامة للكتاب نشرها في عام ١٩٩٥ وقد غلب على هذه المذكرات الطابع الدفاعى التبريرى أكثر من الطابع التسجيلى التقريرى، وقام بتحقيقها د.عصام ضياءالدين وقدمها د. عبد العظيم رمضان الذى يقول في تقديمه لها: «إنه من المحقق أن الهلباوى وطنى مصرى كفَّر عن سيئة دنشواى بمئات من الحسنات، وقد تعامل معه الوطنيون المصريون على هذا الأساس، فلم يستبعدوه من الصف الوطنى وطلبوا منه مثلًا الدفاع عنهم في قضية التظاهر ضد قانون المطبوعات المقيد لحرية الصحافة كما حرص إبراهيم الوردانى، قاتل بطرس غالي، على أن يطلب من الهلباوى الدفاع عنه رغم معرفة دوره في محكمة دنشواى. كما كان للهلباوى (تلميذ الأفغانى) دور بارز في شن حملات صحفية في «المؤيد» على الحكومة والاحتلال البريطانى في مواقف عدة، ومنها تفنيد تبريرات الاحتلال. أما وصف «جلاد دنشواى» فقد كان صاحبه الشيخ عبد العزيز جاويش، لخصومة قامت بينهما وسجال على صفحات «المؤيد» و»اللواء» هكذا زعم الهلباوى، رغم أن صاحب هذا الوصف هو الشاعر حافظ إبراهيم حينما هجاه لموقفه في دنشواي، وظل ملازمًا له حتى مع حرصه في باقى حياته على نصرة المساكين والفقراء.
ذكراه
أطلق اسمه على شارع في حي المنيل بالقاهرة.
وفاته
لقد توفى الهلباوي في عام 1940 وهو في الثالثة والثمانين.
الهامش
- ^ "محامى الإدعاء". موسوعة التاريخ القبطي.