حادثة دنشواي

نقل المتهمين في حادثة دنشواي للمحاكمة.

حادثة دنشواي، هو اشتباك وقع في 13 يونيو 1906 بين ضباط الجيش البريطاني والمواطنين بقرية دنشواي، مصر. لاشك في أن حادثة دنشواي هي من حوادث مصر التاريخية التي لا تنسى على مر السنين، لما كان لها من الأثر البلغي في تطور الحركة الوطنية، وفي مركز الاحتلال الإنجليزي، فهي نهاية عهد كان الاحتلال يتمتع فيه بالاستقرار والطمأنينة، وبداية مرحلة جديدة من مراحل الجهاد القومي عم فيها الشعور الوطني بعد أن كان يظن أن سواد الأمة راضي عن الاحتلال. في يوليو 1999 الموافق الذكرى التسعين للحادثة افتتح متحف دنشواي، على بعد 100 كم من موقع الحادثة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

تفاصيل الحادثة

ترجع هذه الحادثة إلى أن بعض الضباط من جيش الاحتلال وبعض الموظفين البريطانيين كانت لهم عادة أن يتجولوا في بعض القرى والبلاد ليصطادو الطيور ببنادقهم. وفي يوم الإثنين 11 يونيو 1906 غادرت كتيبة من نحو 150 جندياً بريطانياً القاهرة متجهة بطريق البر إلى الإسكندرية وبعد مسيرة يومين وصلت يوم الأربعاء 13 يونيو إلى منوف، فأبلغ خمسة من ضباطها مأمور المركز أنهم يرغبون في صيد الحمام في بلدة دنشواي، وهي بلدة صغيرة تابعة لنطقة بوليس الشهداء بمركز شبين الكوم، ومشهورة بكثرة حمامها، وهؤلاء الضباط هم: الميجور بين كوفن قومندان الكتيبة، والكابتن بول، والملازمات بورثر وسميث ويك، والطبيب البيطري بوستك، فطلب المأمور من عبد المجيد بك سلطان أحد أعيان بلدة الواط، أن يعد لهم مركبات عند السكة الزراعية الموصلة لبلدة دنشواي ففعل. فلما وصلوا إلى كمشوش، وقفوا هنيهة وعسكرا بها مع بقية الجند، ثم ركب الخمسة الضباط المركبات التي أعدها عبد المجيد بك سلطان مبتدئين من معدية الباجورية مارين على الناحية سرسنا، ومنها إلى دنشواي، وكان يرافقهم أومباشي من بوليس نقطة الشهداء وترجمان مصري، وذهب الأومباشي إلى العمدة ليبلغه خبر قدوم الضباط لكي يتاخذ التحوطات التي تكفل عدم احتكاكهم بالأهلين، ولكنه ألفى العمدة غائباً، ولم ينتظر الضباط حضوره، ولا رجوع الأومباشي، وانقسمو فريقين، فريق وقف على السكة الزراعية لصيد الحمام من خلال الأشجار الملتفة هنا: وهؤلاء لم يصبهم أحد بسوء، والفريق الآخر جاس خلال أجران القمح في دنشواي ليصطادوا ما بها من الحمام، فاتفق أن حمامتين كانتا واقفتين على جرن مملوك لمحمد عبد النبي مؤذن القرية، وكان يشتغل به أخوه شحاتة عبد النبي، فجاء أحد الضباط الإنجليز وصوب بندقيته على الحمان، فصاح به شيخ طاعن في السن يبلغ الخامسة والسبعين من عمره اسمه حسن علي محفوظ (وهو أول من حكمت عليه المحكمة المخصوصة بالإعدام) طالباً منه أن يكف عن إطلاق البندقية، وإلا احترق الجرن، وكذلك صاح به شحاتة عبد النبي، فلم يعبأ الضابط، وأطلق العيار، قاصداً إصابة الحمام، فأخطأ المرمى، وأصاب إمرأة تدعى أم محمد زوجة محمد عبد النبي المؤذن، كما أصاب الجرن، سقطت المرأة جريحة تتخبط في دمها، واشتعلت النار في الجرن، فأخذ يصيح ويستغيث، وهجم على الضابط وتجاذب وإياه بندقيته، وأقبل الرجال والنسوة والأطفال هاجئين صائحين: "الخواجة قتل المرأة وحرق الجرن، الخواجة قتل المرأة وحرق الجرن"، وأحاطوا بالضباط، وجاء بقية الضباط الإنجليز لإنقاذ زميلهم، فتكاثرت جموع الأهلين، ووصل في الوقت نفسه شيخ الخفر ومعه الخفراء لتفريق الجموع، وإنقاذ الضباط، فتوهم هؤلاء أنهم جاءوا يريدون بهم شراً، فأطلقوا عليهم العيارات النارية، فأصاب واحد منهم شيخ الخفر في فخذه فسقط على الأرض وأصاب عيار آخر اثنين أحدهما من الخفراء، فصاح الجميع" "شيخ الخفر قتل! شيخ الخفر قتل!"، وحملوا على الضابط بالطوب والعصى الغليظة وأثخنوا من لحقوا بهم ضرباً، فأصيب الميجور بين كوفين قومندان الكتيبة بكسر في ذراعه، وجرح الملازمان سميث ويك وبورثر جروحاً خفيفة وأحاط بهم الخفراء مع زميل رابع لهم وأخذوا منهم أسلحتهم وحجزوهم حتى جاء ملاحظ بوليس النقطة وأوصلهم إلى المعسكر.[1]

تنفيذ حكم الإعدام في حادثة دنشواي.

أما الكابتن بول والطبيب البيطري الإنجليزي فتركا مكان الواقعة، وكان الأول منهما قد أصيب إصابة شديدة في رأسه، وأخذا يعدوان حتى قطعا نحو ثمانية كيلو مترات في حرارة القيظ، إذ كانت الواقعة في صميم الصيف، فلم يكد الكابتن بولي يصل إلى باب سوق سرسنا حتى سقط من الإعياء، ومات بعد ذلك متأثراً بضربة الشمس، ولما سقط تركه زميله الطبيب البيطري وأخذ يعدو حتى وصل معسكر الكتيبة بناحية كمنتوش على ضفة الترعة الباجورية.

وما كاد نبأ الحادثة يصل إلى بقية جنود الكتيبة الإنجليزية في كمشوس حتى سارع الجنود الراكبة إلى مكان الواقعة، ولم يكادوا يقطعون بضعة كيلو مترات حتى بلغا سرسنا، وظنوا أنها دنشواي، وهناك وجودا ضابطهم ملقى على الثرى، ورأوا فلاحاً مصرياً وهو سيد أحمد سعيد يقدم إليه قدحاً من الماء، فظنوه من الضاربين، فأنحو عليه ببنادقهم طعناً ووخزاً حتى هشموا رأسه، ومات بين أيديهم، وذهب دمه هدراً ، ولم يحاكم أحد من قتلته، وقد عرف هذا القتيل بشهيد سرسنا.

ووصل نبأ هذه الحادثة يوم وقوعها إلى ولاة الأمور في المنوفية والقاهرة، وما أن علم بها رجال الاحتلال وعرفوا أن الكابتن بول قد مات عقب الحادثة، وأصيب الضباط الآخرون، حتى تولاهم الغضب، وعولوا على الانتقام من أهل القرية التي وقعت بها الحادثة انتقاما ذريعاً شنيعاً.


المحاكمة

رسم تخيلي لمشهد الاعدام في محاكمة دنشواي.

ثارت ثائرة الاحتلال من وقوع الحادثة، على أنها في الواقع راجعة أولاً إلى اقتحام الضباط البريطانيين بدون حق غيطان الأهالي وأجرانهم لاصطياد الحمام المملوك لهم وذهب المستر متشل مستشار وزارة الداخلية إلى مكان الحادثة يوم وقوعها، وجرى التحقيق فيها بمنتهى السرعة، وأخذ ولاة الأمور يقبضون على الأهلين جزافاً، ونشرت صحيفة المقطم الموالية للاحتالال يوم 18 يونيو قبل أن ينتهي التحقيق أن الأوامر صدرت بإعداد المشانق وإرسالها إلى مكان الواقعة، فدهش الجمهور لهذا النبأ، وتوقع أن أحاكماً صارمة بالإعدام ستصدرها المحكمة المخصوصة، وأن المحاكمة إنما هي مهزلة صورية لا ظل فيها للعدل، ولا حرمة للقانون.

وكان الأمر العالي الصادر في 25 فبراير 1895 بتأليف المحكمة المخصوصة التي تحكم فيما يقع بين الأهالي من الجنايات والجنح على عساكر أو ضباط جيش الاحتلال لا يزال قائمة، ففي 20 يونيو 1906 أي قبل انقضاء سبعة أيام على وقوع الحادثة، أصدر بطرس باشا غالي وزير الحقانية ذاته، وعضوية كل من المستر هيثر نائب المستشار القضائي، والمستر بوند وكيل محكمة الاستئناف الأهلية، والقائمقام لادلو القائم بأعمال المحاماة والقضاء بجيش الاحتلال، وأحمد فتحي بك زغلول باشا رئيس محكمة مصر الابتدائية، وأن يكون انعقادها في شبين الكوم يوم الأحد 24 يونيو وعين عثمان بك مرتضى رئيس أقلام وزارة الحقانية سكرتيراً للمحكمة، وبلغ عدد من قدمتم الادارة لمحاكمتهم في هذه الحادثة إثنين وخمسين متهماً، قدموا جميعأً مقبوضاً عليهم، وسبعة من الغائبين.

وقد انعقدت المحكمة المخصوصة بهيئتها السالف ذكرها يوم الأحد 24 يونيو بسراي المديرية بشبين الكوم الساعة العاشرة صباحاً، وكان يحيط بها جو من الرهبة يملأ النفوس فزعاً والقلوب جزعاً، والجنود الإنجليزية والمصرية ترابط حولها وعلى مقربة منها، وأخذت في سماع أقوال الشهود، وقد ثبت من شهادة الدكتور نولون الطبيب الشرعي أمام المحكمة، وكان إنجليزياً، أن وفاة الكابتن بول راجعة مباشرة غلى ضربة الشمس، وأنه لم لم يصب بها لما حدثت الوفاة من إصابة الرأس التي أصابته في الحادثة.

وكان تحامل المحكمة على المتهمين بادياً أثناء سماع الشهود، حتى أنه حين كان أحد الشهود واسمه عبد العال صقر يروي الحادثة بما يدل على تحذيره الضباط الإنجليزي من الصيد داخل اقرية، قال له المستر بوند: "ألا تعرف أن هذه المحكمة تعاقب الشهود الزور؟"، قال نعم، فقال المستر بوند: "أنا أعرف المصريين أمثالك كيف تكون شهادتهم". واستمرت المحكمة في سماع الشهود والدفاع ثلاثة أيام حتى يوم 26 يونيو.

الحكم

وانعقدت المحكمة في صباح اليوم الرابع (الأربعاء 27 يونيو) وتلا سكرتير الجلسة الحكم، وهو يقضي على كل من:

  • أولا: حسن علي محفوظ، ويوسف حسن سليم، والسيد عيسى سليم، ومحمد درويش زهران، بالإعدام شنقاً في قرية دنشواي.
  • ثانياً: محمد عبد النبي مؤذن القرية، وأحمد عبد العال محفوظ، بالأشغال الشاقة المؤبدة.
  • ثالثاً: أحمد محمد السيسي بالأشغال الشاقة خمسة عشرة سنة.
  • رابعاً: محمد علي أبو سمك، وعبده البقلي، وعلي علي شعلان، ومحمد مصطفى محفوظ، ورسلان السيد علي، والعيسوي محمد محفوظ، بالأشغال الشاقة سبع سنين.
  • خامساً: حسن إسماعيل السيسي، وابراهيم حسنين السيسي، ومحمد الغباشي السيد علي، بالحبس مع الشغل سنة واحدة، وبجلد كل واحد منهم خمسين جلدة، وأن ينفذ الجلد أولاً بقرية دنشواي.
  • سادساً: السيد العوفي، وعزب عمر محفوظ، والسيد سليمان خير الله، وعبد الهادي حسن شاهين، ومحمد أحمد السيسي، يجلد كل واحد خمسي جلدة بقرية دنشواي، مع تكليف مدير المنوفية بتنفيذ الحكم فوراً.

فيكون مجموع من حكم عليهم واحداً وعشرين متهماً، حكم بالإعدام على أربعة منهم، وبالأشغال الشاقة على إثنين، وبها لمدة خمسة عشر سنة وعلى واحد وبالسجن سبع سنوات على ستة، وبالحبس مع الشغل مدة سنة مع الجلد خمسين جلدة على ثلاثة، وبالجلد خمسية جلدة على خمسة.

تنفيذ الحكم

كان تنفيذ الحكم بطريقةوحشية زادت فظاعة المحاكمة، وفاقت كل ما يتصوره العقل، من وسائل الانتقام والتعذيب، وكان التنفيذ في اليوم التالي لصدور الحكم في المكان الذي مات فيه الكابت بول، وفي مثل الساعة التي وقعت فيها الحادثة، ففي الساعة الرابعة بعد منتصف الليل سيق المحكوم عليهم بالإعدام والمحكوم عليهم بالجلد إلى نقطة الشهداء، على مسافة نحو عشرين كيلو متراً من شبين الكوم، وأربعة كيلومترات من قرية دنشواي، وأنزلوا بها بحراسة الجنود البريطانيين والمصريين، حتى إذا اقتربت الساعة الأولى بعد الظهر جيئ بهم إلى دنشواي، وهناك نصبت المشنقة وآلة الجلد، ونفذ الحكم بقسوة وفظاعة، فبدأ التنفيذ في منتصف الساعة الثانية بعد الظهر، ونفذ الحكم في المشنوق الأول علناً، وعلى مرأى ومسمع من أهله وذويه، وبين صياح النساء ونواحهن، وبقى معلقاً بينما نفذ حكم الجلد في إثنين، ثم شنق الثاني بنفس الطريقة، يليه جلد إثنين آخرين، وهكذا تمت المجزرة في منتصف الثانية مساءاً.

ردود الفعل

قوبل هذا الحكم بالدهشة لصرامته، ولأنه فاق كل ما كان يتوقعه المتشائمون وخلا من كل انصاف وعدل، إذ كانت الحادثة راجعة أصلاً إلى عدوان الضباط البريطانيين، ولم يقعد اعتداء من الأهلين إلا بعد أن أصيبت إحدى نسائهم وحرق جرن لهم، ولم يمت من الضباط الإنجليز سوى ضابط واحد ثبت من تقرير الطبيب الشرعي الإنجليزي أن السبب المباشر لوفاته هو ضربة الشمس التي أصابته من شدة الحر، وقد دل هذا الحكم على أن العدل الإنجليزي لا يؤمن جانبه إذا كانت الخصومة تامس صالحاً إنجليزيأً.

قال الأستاذ أحمد حلمي المحرر وقتائذ بجريدة اللواء في ختام وصفه لمأساة التنفيذ:

«كاد دمي يجمد في عروقي بعد تلك المناظر الفظيعة، فلم أستطع الوقوف بعد الذي شاهدته، فقفلت راجعاً وركبت عربتي، وبينما كان السائق يلهب خيولها بسوطه كنت اسمع صياح ذلك الرجل يلهب الجلاد جسمه بسوطه، هذا ورجائي من القراء أن يقبلوا معذرتي في عدم وصف ما في البلدة من مآتم عامة، وكآبة مادة رواقها على كل بيت، وحزن باسط ذراعيه حول الأهالي، حتى أن أجران أغلالهم كان يدوسها الذين حضروا لمشاهدة هذه المجزرة البشرية، وتأكل فيها الأنعام والدواب بلا معارض ولا ممانع، كأن لا أصحاب لها ومعذرتي واضحة، لأني لم أتمالك نفسي وشعوري أمام هذا البلاء الوابع الذي ليس له من دافع إلا بهذا المقدار من الوصف والإيضاح.»

وقال شاعر النيل حافظ إبراهيم‏ في الحادثة:‏

قتيل الشمس أورثنا حياة‏ وأيقظ هاجع القوم الرقود

فليت كرومر قد بات فينا ‏يطوق بالسلاسل كل جيد

‏‏

لننزع هذه الأكفان عنا‏ ‏ونبعث في العوالم من جديد

‏وقال الشاعر أحمد شوقي‏:

يا دنشواي علي رباك سلام‏ ذهبت بأنس ربوعك الأيام‏
يا ليت شعري في البروج حمائم‏ أم في البروج منيّة وحِمام‏؟

وفي عام 1906، كتب الكاتب الإنجليزى الكبير جورج برنارد شو:

«إذا كانت الإمبراطورية البريطانية تريد أن تحكم العالم كما فعلت في دنشواى.. فلن يكون على وجه الأرض واجب سياسى مقدس وأكثر إلحاحا من تقويض هذه الإمبراطورية وقمعها وإلحاق الهزيمة بها».

انظر أيضاً

المصادر

  1. ^ عبد الرحمن الرافعي (1984). مصطفى كامل باعث الحركة الوطنية. دار المعارف.