ڤولفگانگ أماديوس موتسارت

(تم التحويل من Wolfgang Amadeus Mozart (1756–1791))
ڤولفگانگ أماديوس موتسارت
Wolfgang Amadeus Mozart
Wolfgang-amadeus-mozart 1.jpg
پورتريه لموتسارت من أعمال باربرا كرافت عام 1819
الميلاد 27 يناير 1756
سالزبورگ، النمسا
الوفاة 5 ديسمبر 1791
ڤيينا، فرنسا
موتسارت، ح. 1780، رسم Johann Nepomuk della Croce.

ڤولفگانگ أماديوس موتسارت Wolfgang Amadeus Mozart (ألمانية: [ˈvɔlfɡaŋ amaˈdeus ˈmoːtsaʁt]، English see fn.[1] [2] (27 يناير 1756 – 5 ديسمبر 1791)، كان مؤلف موسيقي بارز في الفترة الكلاسيكية. له أكثر من 600 عمل، ما بين السيمفونيات، موسيقى الكونشرتو، الحجرة، الاوپرات، والكورال.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

حياته

محل ميلاد موتسارات في Getreidegasse 9، سالزبورگ، النمسا.

عائلته والسنوات المبكرة

پورتريه لموتسارت طفلاً، محتمل أن يكون رسم پيترو أنطونيو لورنزو، رسم عام 1763.
عائلة موتسارت: ليوپولد، ڤولفگانگ، ونانرل، رسم كارمونتيل، ح. 1763[3]

كانت سالزبورج مخفراً موسيقياً لفيينا، شأنها في ذلك شأن براغ وبرسبورج واسترهاتسا، لها طابعها الخاص أولاً بسبب مناجم ملحها التي تعلل اسمها، وثانياً بسبب جبالها المجاورة ونهر زالتساخ الذي يشطرها شطرين، وثالثاً بسبب نموها حول الدير والكرسي الأسقفي اللذين أنشأهما هناك القديس روبرت الفورمزي حوالي عام 700م. وقد رقي رئيس أساقفتها لرتبة (الأمير الإمبراطور) في 1278، ومنذ ذلك التاريخ حتى عام 1802 ظل حاكم المدينة المدني والديني جميعاً. وفي 1731-32 أكره نحو ثلاثين ألف بروتستنتي على الهجرة، مخلفين سالزبورج كاثوليكية خالصة محكومة كلها بحكومة من رجال الدين الكاثوليك. وفيما عدا ذلك كان نير رئيس الأساقفة خفيفاً على سكان سنيي العقيدة، أقبلوا على المتع الجسدية وغيرها من مباهج الدنيا بعد أن اطمأنوا إلى حقائق الأبدية المؤكدة. وكان زيجسموند فون شراتنباخ رئيس الأساقفة أيام صبي موتسارت، رجلاً يتحلى بقدر كبير من الطيبة والشفقة إلا مع المهرطقين.

إلى هذه البلدة الجميلة إذن قدم ليوبولد موتسارت في 1737 وهو في الثامنة عشرة من وطنه أوجزبورج، ربما ليدرس اللاهوت ويمتهن القسوسية. ولكنه أسلم قلبه للموسيقى، وخدم ثلاث سنين موسيقياً وتابعاً في بيت أحد النبلاء، وفي 1743 أصبح رابع عازفي الكمان في أوركسترا رئيس الأساقفة. فلما تزوج آنا ماريا بيرتل (1747) عدهما القوم أجمل عروسين في سالزبورج. وقد ألف الكونشرتوات والقداسات والسمفونيات، كما ألف كتاباً مدرسياً لتقنية الكمان حظي طويلاً بالتقدير. وفي 1757 عين مؤلفاً موسيقياً لبلاط رئيس الأساقفة. ولم يبق الموت إلا على اثنين من أطفاله السبعة جاوزا سن الطفولة: ماريا آنا (ماريا "نانيزل") المولودة في 1751، وفولفجانج أماديوس المولود في 27 يناير 1756 (واسم الغلام الكامل-الذي تشفعت به الأسرة لدى قديسين عديدين- كان يوانس خريسوستومس فولفجانجس تيوفيلوس موتسارت، وقد ترجم تيوفيلوس من اليونانية إلى اللاتينية بأماديوس أي محب الله). وكان ليوبولد زوجاً وأباً طيباً، مخلصاً ومجتهداً. وخطاباته لولده تفيض محبة ولا تعوزها الحكمة. وكان بيت موتسارت-إذا أغضينا عن قليل من نابي الحديث يدور فيه-مرفأ للحب المتبادل، والتقوى الأبوية، والدعابات الطفلية، والموسيقى التي لا تنقضي.[4]

كان القوم يتوقعون من كل طفل ألماني أن يصبح موسيقياً إلى حد ما، يعزف على إحدى الآلات. وعلم ليوبولد أطفاله الموسيقى مع مبادئ القراءة. فكانت ماريانا قد أتقنت في الحادية عشرة العزف على الكلافيكورد. أما فولفجانج فقد عكف على الكلافير في شغف بعد أن حفزته قدوتها، فاستطاع في الثالثة أن يميز بين الأوتار، وفي الرابعة أن يعزف عدة قطع من الذاكرة، وفي الخامسة ابتكرا ألحاناً سجلها أبوه أثناء عزفها. وامتنع ليوبولد عن اتخاذ تلاميذ آخرين يلقنهم الموسيقى ليفرغ بجملته لطفليه وإن كلفة ذلك بعض التضحية. ولم يرسل "فولف" إلى المدرسة، لأنه نوى أن يكون معلمه في كل شيء. ولعل هذا التعليم اقتضى شيئاً من الضبط الألمانيين ولكن لم تكن الحاجة لكثير منه في هذه الحالة، ذلك أن الغلام كان يلزم لوحة المفاتيح من تلقاء نفسه ساعات طوالاً إلى أن يجبر على مبارحتها(1). وقد كتب إليه ليوبولد بعد هذه الفترة بسنوات يقول:

"لقد كنت في مرحلة الطفولة والصبى تسلك مسلكاً جاداً يختلف عن مسلك سائر الأطفال، وحين كنت تعزف الكلافير، أو تعكف على الموسيقى، لم تكن تسمح بأقل مزاح معك. لا بل إن سحنتك ذاتها كانت تتسم بطابع الجد الشديد، حتى لقد تنبأ الكثيرون ممن راقبوك بأنك ستموت قبل أوانك بسبب نبوغك المبكر ومظهرك الجاد(2)".

1762–1773: سنوات السفر

في يناير 1762، حين كانت ألمانيا مازالت تمزقها الحرب، اصطحب ليوبولد ابنته وابنه إلى ميونخ ليعرض على الأمير الناخب مكسمليان يوزف براعتهما في العزف، وفي سبتمبر استصحبهما إلى فيينا. ودعيا إلى شونبرون، وابتهجت ماريا تريزا وفرانس الأول بالطفلين، وقفز فولفجانج إلى حجر الإمبراطورة، وضمها إليه وقبلها، ولما تحداه الإمبراطور عزف على الكمان بأصبع واحد، وعزف على الكلافيكورد دون أن يخطئ رغم حجب المفاتيح بقطعة من قماش. وفيما كان فولفجانج يمرح وهو يجري مع الأميرات، زلت قدمه وسقط، فالتقطته الأرشيدوقة ماريا أنطونيا-وكانت في السابعة-وراحت تسري عنه. فقال لها "أنت طيبة"، ثم أضاف شاكراً "سوف أتزوجك(3)". وفتح الكثير من النبلاء بيوتهم لآل موتسارت وبهتوا للموسيقى التي سمعوها وأثابوا ثلاثتهم بالمال والهدايا. ثم ألزم الغلام الفراش أسبوعين لإصابته بالحمى القرمزية-وكان هذا أول الأمراض الكثيرة التي ستنغص عليه رحلاته. وفي 1763 عادت الفرقة إلى سالزبورج.

وأغضى رئيس الأساقفة المتسامح عن تجاوز ليوبولد فترة إجازته، لا بل رقاه نائباً لرئيس فرقة المرتلين ولكن في 9 يونيو شد ليوبولد رحاله مرة أخرى مضحياً بالمزيد من الترقيات، مصطحباً هذه المرة زوجته، ليعرض ولديه على أوربا، إذ لم يكن ممكناً أن يظلا أبد الدهر طفلين معجزين. وقدم الطفلان حفلتين موسيقيتين في ماينز وأربعاً في فرانكفورت وقد استعاد جوته بعد ستين عاماً ذكرى استماعه إلى إحداها، وكيف تعجب من "الرجل القصير ذي الباروكة والسيف"-لأنه هكذا ألبس ليوبولد ابنه فولفجانج كأنه عجيبة من عجائب السرك. ففي إعلان نشر في جريدة فرانكفورتية بتاريخ 30 أغسطس 1763 وعد المتفرجون في حفلة ذلك المساء بالآتي:

"ستعزف الفتاة الصغيرة ذات الإحدى عشرة سنة أعسر مؤلفات كبار الموسيقيين، أما الصبي الذي لم يبلغ السابعة بعد فسيعزف على الكلافيكورد أو الهاربسيكورد. كذلك سيعزف كونشرتو للفيولينة، ويصاحب سمفونيات على الكلافير ولوحة المفاتيح مغطاة بالقماش في يسر بالغ كأنه يبصر المفاتيح. وسيسمى جميع النغمات التي تعزف عن بعد، سواء مفردة أو متوافقة، على الكلافير أو على أية آلة أخرى-جرساً كانت أو كأساً أو ساعة. وأخيراً سيرتجل على الهابسيكورد والأرغن طوال ما يراد له أن يعزف، وفي أي مقام(4)". وربما أضرت هذه المطالب المرهقة التي فرضت على مواهب الصبي بعض الضرر بصحته أو أعصابه، ولكن يبدو أنه استمتع بتصفيق الجمهور استمتاع أبيه بدنانيره.

وقد عزفوا في كوبلنتز، وخاب أملهم في بون وكولونيا، ولكنهم أحيوا حفلة في آخن. وفي بروكسل توقعوا أن يشرف الحاكم العام الأمير شارل اللوريني الحفل بحضوره، ولكنه كان مشغولاً. كتب ليوبولد غاضباً:

"لقد انقضى علينا الآن قرابة ثلاثة أسابيع في بروكسل..دون أن يحدث شيء...وما من شغل لسموه غير الصيد والتهام الطعام والشراب، وقد تبين لنا في النهاية أنه مفلس...صحيح أننا لتقينا العديد من الهدايا هنا، ولكنا لا نريد أن نحولها إلى نقود...وسيكون في استطاعتنا بعد قليل أن نفتح متجراً بكل هذه الهدايا من علب النشوق والحقائب الجلدية وما إليها منة توافه رخيصة(5)".

وأخيراً وافق الأمير على الحضور فأحييت الحفلة، وجمعت الدنانير، وركبت الفرقة ميممة باريس. وفي 15 نوفمبر 1763 بلغوا باريس بعد معاناة ثلاثة أيام من السفر على طريق وعرة تملوها الحفر. وكانوا يحملون خطابات تقديم إلى كثير من الأعيان، ولكن تبين أن أثمنها خطاب إلى ملشيور جريم، الذي رتب أن يستقبل آل موتسارت مدام ديمبادور، والأسرة المالكة، وأخيراً لويس الخامس عشر والملكة ماري لسزنسكا. وفتحت الآن أفخم البيوت للزائرين، وحالف التوفيق حفلاتهم الخاصة والعامة، وكتب جريم إلى قرائه في حماسة يقول:

"إن المعجزات الحقيقية نادرة، ولكن ما أعجب أن تتاح لنا الفرصة لرؤية واحدة منها! لقد قدم لتوه رئيس فرقة مرتلين من سالزبورج اسمه موتسارت بصحبة اثنين من أجمل الأطفال في العالم في فاما ابنته البالغة من العمر أحد عشر ربيعاً فتعزف على البيان أروع عزف، وتؤدي أطول المقطوعات وأصبعها بدقة مذهلة. وأما أخوها الذي سيبلغ السابعة في فبراير القادم فظاهرة خراقة بحيث لا تكاد تصدق ما تراه بعينيك...فيداه صغيرتان جداً...وهو يرتجل ساعة، مستسلماً لوحي عبقريته، بذخيرة من الأفكار المبهجة...وليس لدى أكفأ رئيس لفرقة موسيقى ما لهذا الطفل من المعرفة العميقة يتآلف الألحان والتنقل بين النغمات...وليس أيسر عنده من حل أي رموز تضعها أمامه. وهو يكتب ويؤلف بيسر مدهش، ولا يجد ضرورة للذهاب إلى البيانو واختبار الأوتار التي يريدها. وكتب له "منويتا" وطلبت إليه أن يضع باصاً لها. فأمسك بقلم وكتب الباص دون أن يذهب إلى البيان...أن الطفل سيدير رأسي إن استمعت إلى المزيد من عزفه...ومن أسف أن الناس في هذا البلد لا يفقهون عن الموسيقى إلا أقل القليل(6)".

وبعد أن حققت الأسرة الكثير من الانتصارات في باريس غادرتها إلى كاليه (10 إبريل 1764). وفي لندن استقبلهم جورج الثالث. وفي 19 مايو، أمام الملك والحاشية، طوال أربع ساعات عزف فولفجانج موسيقى هندل وباخ. غيرهما من كبار الموسيقيين بمجرد النظر إلى المدونة وصاحب غناء الملكة شارلوت، وارتجل لحناً جديداً لباص أغنية لهندل. أما بوهان كرستيان باخ، الذي كان قد اتخذ لندن مقاماً له في 1762، فأجلس الصبي على ركبته وعزف معه صوناتا، وكان كل منهما يعزف فاصلة بدوره "في دقة بالغة ما كان في استطاعة أحد معهما أن يحسب العزف من عازفين لا من عازف واحد(7)". وبدأ بلخ "فوجة"، وتابعها فولفجانج، كما لو كان العازفان العبقريان عازفاً واحداً هنا أيضاً. وبعدها طلت مؤلفات موتسارت سنوات عديدة متأثرة بيوهان كرستيان باخ. وفي 5 يونيو أحيا الطفلان حفلة أبهجت قلب ليوبولد بمائة جنيه إنجليزي خالصة. ولكن الأب أصيب بالتهاب شديد في الحلق، واعتكفت الأسرة للاستجمام أسابيع عدة، ألف فيها فولفجانج سمفونيتين (ك16 و19)، وكان الآن يناهز الثامنة.

وفي 24 يوليو 1765 غادروا لندن إلى هولندا، ولكن في مدينة ليل مرض الوالد وولده، وأرجئت الجولة شهراً، وإن كان رئيس الأساقفة فون شراتنباخ قد طلب إلى ليوبولد أن يعود منذ زمن. ووصلوا إلى لاهاي في 11 سبتمبر، ولكن في الغد مرضت ماريانا بدورها، ولم تلبث أن تدهورت حالها حتى أنها في 21 أكتوبر تناولت الأسرار المقدسة الأخيرة. وفي 30 سبتمبر أحيا فولفجانج حفلة بدون مساعدة أخته. وما أن تماثلت للشفاء حتى دهمته الحمى، واضطرت الأسرة إلى تعطل كلفها غالياً حتى يناير1766. وفي 29 يناير و26 فبراير أحيوا حفلات في أمستردام، وعزفت الآن لأول مرة سمفونية لموتسارت (ك22) أمام الجمهور. وكان الصبي خلال هذه الشهور يؤلف في نشاط محموم. وفي مايو قفلوا إلى باريس حيث كانوا كثيراً من حقائبهم. وهيأ جريم لهم مسكناً مريحاً، وعادوا يعزفون في فرساي وفي حفلات عامة، ولم يقتلعوا أنفسهم من العاصمة الفاتنة إلا في 9 يوليو.

وأطالوا المكث في ديجون ضيوفاً على أمير كونديه، وأنفقوا أربعة أسابيع في ليون، وثلاثة في جنيف، وأسبوعاً في لوزان؛ وآخر في برن، وأثنين في زيورخ، واثني عشر يوماً في دوناوشنجن ثم وقفات قصيرة في بيبراخ، وأولم، وأجزبورج، وفترة أطول في ميونخ، حيث مرض فولفجانج مرة أخرى. وأخيراً ، في آخريات نوفمبر 1766، وبعد غيبة ثلاث سنين ونصف، وصلت الأسرة إلى سالزبورج. وصفح عنهم رئيس الأساقفة الشيخ، واستطاعوا الآن أن ينعموا بأسباب الراحة المتاحة في بيتهم. وبدا أن كل شيء على ما يرام، ولكن موتسارت لم يستعد بعدها صحته موفورة قط.

كان ليوبولد رب عمل صارماً لا يعرف هوادة ولا لين له قناة. درب ولده تدريباً شاقاً على دراسة الكونترابنط. والباص الدقيق الكامل، وغير ذلك من عناصر التأليف الموسيقي التي تلقاها من الموسيقى الألمانية والإيطالية. وحين سمع الأسقف أن فولفجانج يؤلف الموسيقى تساءل ألم يتعاون معه أبوه في هذا التأليف. ولكي يقطع الشك باليقين دعا الغلام معه أسبوعاً ثم عزله عن كل معونة خارجية، ودفع إليه ورقاً وقلماً وأعطاه هاربسيكورداً وطلب إليه أن يؤلف قسماً من أوراتوريو عن الوصية الأولى. وفي ختام الأسبوع قدم إليه موتسارت نتيجة عمله، وقيل لرئيس الأساقفة. إنها جديرة بالثناء. وكلف رئيس أوركستره ميخائيل (أخا يوزف) هايدن بأن يؤلف قسماً ثانياً، وعازف أرغنه أن يؤلف قسماً ثالثاً، ثم عزف الكل في قصر رئاسة الأسقفية في 12 مارس 1767، وروي أنه يستحق الإعادة في 2 إبريل. وقسم موتسارت وارد الآن تحت رقم 35 في كتالوج كوشل.

وبلغ ليوبولد أن الأرشيدوقة ماريا يوزفا ستزف قريباً إلى فرديناند ملك نابلي، فخطر الاحتفالات التي ستقام في القصر الإمبراطوري ستتيح فرصة جديدة لولديه. وعليه قصدت الأسرة فيينا في 11 سبتمبر 1767. فاستقبلوا في القصر، وكانت النتيجة إصابة فولفجانج وماريانا كليهما بالجدري الذي التقطا عدواه من العروس. وأخذ الأبوان التعسان طفليهما المعجزين إلى أولموتز بمورافيا، حيث قدم لهما الكونت بوتستاتسكي المأوى والرعاية وظل موتسارت أعمى تسعة أيام. وفي 10 يناير عادت الأسرة إلى فيينا. واحتفلت بهم الإمبراطورة ويوزف الثاني، ولكن البلاط كان في حداد على وفاة العروس، ولم يكن هناك محل لأحياء حفلات موسيقية.

وبعد غياب طويل لا نفع فيه عادت الأسرة إلى ساليزبورج (5 يناير 1769) وواصل موتسارت دراسته مع أبيه، ولكن في أواخر ذلك العام قدر ليوبولد أنه علم الصبي كل ما يستطيع أن يعلمه، وأن ما يحتاج إليه فولفجاج الآن هو الإلمام بحياة إيطاليا الموسيقية. ومن ثم حصل الأب وابنه على خطابات تقديم لكبار الموسيقيين الإيطاليين من يوهان هاسي وغيره، ثم انطلقا في رحلتهما في 13 ديسمبر 1769 تاركين ماريانا وأمها ليحتفظا بموطئ قدم في سالزبورج. وفي الليلة التالية أحيا موتسارت حفلة في إنزبروك، وعزف بمجرد الإطلاع على النوتة كونشرتو غير مألوف وضع أمامه امتحاناً لمهارته، وهللت الصحافة المحلية لـــ"معلوماته الموسيقية الخارقة(8)". وفي ميلان التقيا بسامارتيني وهاسي وبتشيني، وحصل الكونت فون فرميان لفولفجانج على تكليف بتأليف أوبرا، وهذا معناه مائة دوقاتية تدخل الأسرة. وفي بولونيا استمعنا إلى صوت فارينللي الذي لم يزل معجزاً، وكان قد عاد من انتصاراته في أسبانيا، ورتبا مع بادري مارتيني أن يعود فولفجانج ليدخل الاختبارات المؤهلة لدبلوم "الأكاديميات فيلارمونيكا" المرموق. وفي فلورنسة، في قصر الأرشيدوق ليوبولد، عزف موتسارت على الهاربسيكورد مصاحباً فيولينة نارديني. ثم هرع الأب وولده إلى روما ليلحقا موسيقى أسبوع الآلام.

ووصلا في 11 إبريل 1770، أثناء عاصفة رعدية برقية، فحق لليوبولد أن يكتب أنهما "استقبلا استقبال عظماء الرجال بإطلاق المدافع(9)". وكان وصولهما بالضبط في وقت سمح لهما بالذهاب إلى كنيسة السستين والاستماع إلى "ميزريري" (لحن المزمور الخمسين "أرحمني") الذي ألفه جريجوريو الليجري، والذي كان يرتل هناك كل عام. وكان من العسير الحصول على نسخ من هذا الكورال الأشهر المكتوب لأربعة أصوات أو خمسة أو تسعة، فأصغى إليه موتسارت مرتين ثم كتبه من الذاكرة. ومكثا في روما أربعة أسابيع، وأحييا حفلات موسيقية في بيوت النبلاء مدنيين وكنسيين. وفي 8 مايو انطلقا في رحلتهما إلى نابلي. وكان الطريق خطراً لانتشار اللصوص فيه، فسافر موتسارت وأبوه مع أربعة رهبان أوغسطينين لينالا الحماية الدينية أو يظفرا بتناول القربان قبل الموت في هذه الضرورة الملحة. واستبقتهما نابلي شهراً بأكمله لأن النبلاء ابتداء من تانوتشي فتازلا دعوهما لأمسيات ووضعوا كل أسباب الترف تحت تصرفهما. فلما عزف فولفجانج في "الكونسر فاتوريو ديللا بييتا" غزا الجمهور المؤمن بالخرافات براعته لضرب من السحر كامن في خاتم يلبسه. وأدهشهم أنه واصل العزف بالبراعة ذاتها بعد أن خلع خاتمه.

وبعد أن استمتعا بالمقام في روما مرة أخرى عبرا الأبنين ليصليا للعذراء في كنيستها "سانتا كازا" بلوريتا، ثم اتجها شمالاً لينفقا ثلاثة أشهر في بولونيا. وكان موتسارت يتلقى كل يوم تقريباً دروساً من بادري مارتيني في أسرار التأليف الموسيقي. ثم تقدم لاختبار القبول في "الأكاديميا فيلارمونيكا"، فأعطى قطعة من ترنيمة بسيطة جريجورية، طلب إليه أن يضيف إليها وهو محبوس وحده في حجرة نوتات عليا ثلاثاً بالأسلوب التقليدي الدقيق "Stile Osserrato" وأخفق في المحاولة، ولكن البادري الطيب صحح إجابته، وقبل المحلفون الصورة المنقحة "نظراً إلى الظروف الخاصة"-ربما لصغر سن موتسارت.

وفي 18 أكتوبر كان الوالد والولد في ميلان. هناك حقق فولفجانج أول انتصاراته مؤلفاً موسيقياً، ولكن بعد الجهد الجهيد والمعاناة الكثيرة وكان موضوع الأوبرا التي كلف بها "مترداتي، ملك بنطس"، وقد اخذ النص من راسين. وراح الفتى الذي لم يتجاوز الرابعة عشرة يكد ويكدح تأليفاً وعزفاً وتنقيحاً حتى كلت أصابعه واستحالت حماسته ضرباً من الحمى، فاضطره أبوه إلى أن يحدد ساعات عمله ويهدئ من اضطرابه بنزهة على الأقدام بين الحين والحين. وأحس موتسارت أن هذا الاختبار، وهو أول أوبرا جادة يؤلف موسيقاها، أشد خطراً له من ذلك الامتحان العتيق الذي أداه في بولونيا. فقد يكون مستقبله مؤلفاً لموسيقى الأوبرا رهنا بنتيجته. وتوسل الآن إلى أمه وأخته أن يصليا من أجل نجاح هذه المغامرة رغم أنه لم يكن شديد الميل إلى التقوى والورع، "حتى ننعم كلنا بالعيش معاً مرة أخرى"(10). وأخيراً حين كادت تضنيه كثرة البروفات، قدمت الأوبرا للجمهور (26 ديسمبر 1770)، وقادها مؤلفها، وكان انتصاره كاملاً. وقوبلت كل أغنية هامة بالتصفيق الحاد، وبعضها بهتافات يحيى المايسترو يحيى المايسترو الصغير. أعيد عرض الأوبرا عشرين مرة. كتب الأب الفخور التقي "بهذا نرى كيف تعمل قوة الله فينا حين لا ندفن المواهب التي منحنا إياها فضلاً منه"(11).

واستطاعا الآن أن يعودا إلى موطنهما برؤوس مرفوعة. ففي 28 مارس 1771 وصلا إلى سالزبورج. وما أن بلغاها حتى تلقيا طلباً من الكونت فون فرمان، باسم الإمبراطورة، يرجو أن يكتب فولفجانج سريناتا أو كنتاتا، ويحضر إلى ميلان في أكتوبر ليقودها جزءاً من الاحتفالات التي ستقام بمناسبة زفاف الأرشيدوق فرديناند إلى أميرة مودينا. ووافق رئيس الأساقفة زجسموند على أن يتغيب ليوبولد مرة أخرى عن أعماله، وفي 13 أغسطس يمم الوالد والولد من جديد شطراً إيطالياً، فلما وصلا إلى ميلان وجدا فيها هاسي يعد أوبرا للاحتفالات ذاتها. وقد رتب المديرون-ربما عن غير عمد منهم-لقاء للعبقرية يتنافس فيه أشهر مؤلفي الأوبرا الإيطالية الأحياء، البالغ آنذاك ثلاثة وسبعين عاماً، مع غلام الخامسة عشرة الذي لم يكد يفرغ من اختبار جناحه في التحليق الأوبرالي. وأديت أوبرا هاسي المسماة "رورجيرو" في 16 أكتوبر فقوبلت بتصفيق حار وفي الغد رتلت كنتاتا موتسارت المسماة (Aseanio in Alba) تحت عصا قيادته، وكان التصفيق خارقاً. وكتب ليوبولد لزوجته "يؤسفني أن سريناتا فولفجانج طمست أوبرا هاسي طمساً تاماً(12). وكان هاسي كريماً سمح النفس، فشارك في الثناء على موتسارت، وفاه بنبوءة مشهورة "إن هذا الفتى سيلقينا كلنا في زوايا النسيان"(13).

وعاد الوالد والولد إلى سالزبورج (11 ديسمبر 1771). وبعد خمسة أيام مات زجسموند الطيب. وكان خلفه في رئاسة الأسقفية، وهو هيرونيموس فون باولا، كونت كوللوريدو رجلاً عقلاني الثقافة، معجباً بروسو وفولتير، مستبداً مستنيراً يتوق إلى تنفيذ الإصلاحات التي كان يعدها يوزف الثاني. ولكنه فاق حتى يوزف في استبداده مع استنارته، فكان يشترط الانضباط والطاعة ولا يطيق المعرضة. ولم يقنع من موتسارت إسهاماً في حفل تنصيبه في 29 إبريل 1772 بأقل من أوبرا يؤلفها لهذه المناسبة. واستجاب الفتى الذي ذاع صيته سريعاً بأوبرا "حلم سكيبيو"، وقد وفت بالغرض منها ثم نسيت. واغتفرها كوللوريدو، وعين فولفجانج لفرقة الموسيقى براتب سنوي قدره 150 فلوريناً. وعكف الفتى شهوراً على تأليف السمفونيات الرباعية والموسيقى الدينية، ولكنه أكب أيضاً على أوبرا "لوتشيو سيللا" التي طلبتها ميلان لتعرض في 1773.

ولم يحل 4 نوفمبر 1772 حتى كان ليوبولد وصانع ثروته في عاصمة لومبارديا مرة أخرى، وراح فولف بعد قليل يكدح ويكدح ليوفق بين أفكاره الموسيقية ونزوات المغنين وقدراتهم. وبدأت مغنية الأوبرا الأولى "البريمادونا" بالغطرسة والبرم بكل شيء، وكان "المايسترينو" صبوراً طويل الأناة معها، وانتهت بحبه وصرحت بأنها "قد متنتها المعاملة الفذة التي عاملها بها موتسارت"(14). ولم تلق حفلة الافتتاح (26 فبراير 1772) النجاح الأكيد الذي لقيته "متريداتي" قبل عامين، فقد مرض المغني التينور أثناء البروفات، واقتضى الأمر إحلال مغن آخر محله لم يكن له سابق خبرة على خشبة المسرح، ومع ذلك احتملت الأوبرا تسعة عشر عرضاً. وكانت موسيقاها صعبة، والأغاني منشودة بالانفعالات فوق ما ينبغي. ولعل أثراً من الحركة الأدبية الألمانية المسماة Sturm und Drang (أي الدفع والجهاد، وهي ثورة على التنوير الفرنسي) وقد دخل هنا دخولاً معارضاً إلى الأوبرا الإيطالية(15). على موتسارت جلب معه نظير هذا وضوح الغناء الإيطالي الجميل (البيل كانتو)، وزادت أجواء إيطاليا المشرقة وحياة هوائها الطليق من إشراق روحه السعيدة بفطرتها. وتعلم غب إيطاليا أن الأوبرا الهازلة، كما سمعها في أعمال بتشيني وبايزييللو، يمكن أن تكون فناً رفيعاً، فدرس شكلها، وأبلغه الكمال في "دون جوفاني" لقد كانت كل تجربة يمر بها تعليماً لذهنه اليقظ وأذنيه المرهقتين.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

1773–1777: قصر سالزبورگ

وشهد 13 مارس 1773 الوالد والولد مرة أخرى في سالزبورج. ولم يكن رئيس الأساقفة الجديد متسامحاً في فترات غيابهما الطويل كما كان زجسموند، ولم ير مبرراً لمكافأة ليوبولد بترقيته، وعامل فولمفجانج كأنه مجرد فرد في حاشيته الخاصة. وتوقع من موتسارت وأبيه أن يزودا كورسه وأوركستراه بالموسيقى فورية، جديدة، جيدة. فظلا يشقيان عامين ليرضياه. ولكن ليولولد لم يدر كيف يستطع أن يعول أسرته دون هذه الجولات الإضافية، أما فولفجانج الذي تعود على سماع تصفيق الاستحسان له فلم يستطع تقبل وضعه خادماً موسيقياً. ثم أنه أراد أن يكتب الأوبرات، وكان مسرح سالزبورج، وكورسها، وأوركستراها وجمهورها-كل أولئك أصغر من أن يسمح لهذا الفرخ الألمعي بأن يرفرف جناحيه النامين.

ثم انقشعت السحب قترة حين كلف مكسمليان يوزف أمير بافاريا الناخب موتسارت بأن يكتب لأوبرا هازلة لكرنفال ميونخ لعام 1775، وحصل على موافقة رئيس الأساقفة، بمنح المؤلف وأبيه إجازة من العمل. فغادرا سالزبورج في 6 ديسمبر 1774. وعانى فولفجانج من البرد القارس الذي ابتلاه بوجع في الأضراس أسى من أن تخفف من الموسيقى أو الفلسفة ولكن حفلة الافتتاح لأوبرا "البستانية المزعومة" التي قدمت في 13 يناير 1775 حملت كرستيان شوبارت-وكان مؤلفاً مرموقاً-على التنبؤ بأنه "ما لم يثبت موتسارت في النهاية أنه نبات ربه ربي في مستنبت زجاجي (أي عجلت بنموه العناية البيتية المكثفة)، فست أشك في أنه سيصبح من أعظم المؤلفين الموسيقيين حتى يومنا هذا"(16).وعاد موتسارت إلى سالزبورج ورأسه يدوم بنشوة النجاح ليقوم بخدمة أحس أنها ضرب حقير من العبودية.

وأمر رئيس الأساقفة بدراما موسيقية احتفالاً بزيارة الآرشيدوق مكسمليان ابن ماريا تريزا الأصغر، وأخذ موتسارت نصاً قديماً لمتاستازيو وألف "الملك الراعي". وقد أديت في 23 إبريل 1775. والقصة سخيفة، أما الموسيقى فرائعة، وما زالت مقتطفات منها تظهر في ربرتولا الحفلات الموسيقية. وكان موتسارت في غضون هذا يتدفق بالصوناتات والسمفونيات والكونشرتوات والسرينادات، والقداسات، ومن مؤلفات هذه الأعوام التسعة قطع تعد من روائعه الخالدة-مثل كونشرتو البيانو في مقام E (ك250). على أن رئيس الأساقفة قال له إنه لا يفقه شيئاً في فن التأليف الموسيقي، وإن علبه أن يذهب ليدرس في كونسرفتوار نابلي(17).

وطلب ليوبولد بأن يأخذ ابنه في جولة بعد أن عجز عن احتمال الموقف فوق ما احتمل، فرض كوللوريدو وقال إنه لا يسمح بأن يظل أفراد من موظفيه "يستجدون الرحلات" فلما عاود ليوبولد الطلب فصله رئيس الأساقفة هو وابنه من وظيفتيهما. وأغتبط فولفجانج، ولكن ليوبولد روعته فكرة القذف به وهو في السادسة والخمسين في خضم عالم لا يميز الطيب من الخبيث. ولانت قناة رئيس الأساقفة ورده إلى منصبه، ولكنه لم يسمح له بأي غياب عم عمله. فمن تراه يصحب فولفجانج الآن في الغزوة البعيدة التي اختطت له؟ لقد بلغ موتسارت الحادية والعشرين، وهي سن المغامرة الجنسية والقيود الزيجية، ولقد كان الآن أحوج إلى الإرشاد منه في وقت مضى. ومن ثم قرر أن تصحبه أمه. أما ماريا التي حاولت أن تنسى أنها هي أيضاً كانت فيما مضى فتاة عبقرية فقد مكثت لتبذل لأبيها أكرم الرعاية والمحبة. وفي 23 سبتمبر 1777 غادرت الأم وأبنها يالزبورج ليغزوا ألمانيا وفرنسا.

1777–1778: رحل باريس

Circa 1777; Portrait of Mozart wearing the Order of the Golden Spur, received in 1770 from Pope Clement XIV in Rome.[5]
عائلة موتسارت ح. 1780. الپورتريه المعلق على الحائط لوالدة موتسارت.

كتب موتسارت لأبيه-من ميونخ في 26 سبتمبر يتغنى بما ظفر به من تحرر: "إنني أفضل حالاتي النفسية، فرأسي تخفف من الأثقال كـأنه الريشة منذ انطلقت بعيداً عن ذلك الهراء، وفوق ذلك أصبحت أسمن من ذي قبل"(18). ولابد أن هذا الخطاب تقاطع مع خطاب من ليوبولد، الذي قد يذكرنا انفعاله مرة أخرى بأن أحداث التاريخ كتبت على أجساد البشر:

"بعد أن رحلتما كلا كما صعدت سلمنا في غاية التعب، وألقيت بنفسي على مقعد. وحين تبادلنا عبارات الوداع بذلت جهوداً كبيرة لأتماسك حتى لا أجعل فراقنا شديد الإيلام؛ وفي غمرة الزحام والاضطراب نسيت أن أمنح ولدي بركة الأب. فعدوت إلى النافذة وأرسلت بركتي خلفك ولكني لم أرك...وقد بكت نانيرل بكاء مراً...وكلانا نرسل التحيات ونقلك أنت وهي ملايين المرات"(19).

وعلمت ميونيخ فولفجانج إنه لم يعد معجزاً في عالم الموسيقى، إنما هو موسيقى فرد بلد يفوق فيه المعروض من مؤلفي الموسيقى وعازفيها عدد المطلوب منهم. وكان الأمل قد راوده في الحصول على وظيفة طيبة في حاشية الناخب الموسيقية، ولكن كل الوظائف كانت مشغولة. فمضت الأم وولدها إلى أوجزبورج، حيث أفنيا نفسيهما في زيارة أصدقاء ليوبولد أيام شبابه استجابة لإلحاح ليوبولد، ولكن أحياء منهم كان أكثرهم الآن يشكو السمنة والركود، ولم يجد فولفجانج فيهم ما يثير اهتمامه اللهم إلا ابنه عم مرحة تدعى ماريا أنا تكلا موتسارت سوف يخلد اسمها بعبارات بذيئة. وكان أدنى إلى غرضه صانع بيانات يدعى بوهان أندرياس شتاين، هنا ولأول مرة بدأ موتسارت الذي كان إلى الآن يعزف على الهاربسيكورد يقدر إمكانيات الآلة الجديدة، وما أن بلغ باريس حتى كان قد تم انتقاله إلى البيانو. وفي حفلة موسيقية في أوجزبورج عزف على البيانو والفيولينة فظفر بتصفيق شديد وربح ضئيل.

وفي 26 أكتوبر مضت الأم وابنها إلى مانهايم. هناك استمتع موتسارت بالصحبة والتشجيع من موسيقيين بارعين، ولكن الأمير الناخب كارل تيودور لم يستطيع أن يجد له وظيفة، واكتفى بأن أثابه على أدائه في البلاط بساعة ذهبية لا أكثر. وكتب موتسارت إلى أبيه يقول "كان أصلح لي أن ينفحني بعشرة كارواينات...إن النقود هي ما يحتاج إليه المرء وهو في رحلة، وأعلم أنني الآن املك خمس ساعات...وأنا أفكر جدياً في عمل جيب للساعات في كل سروال من سراويلي، وحين أزور شريفاً كبيراً سألبس ساعتين...حتى لا يخطر له أن ينفحني بساعة(20)". ونصحه ليوبولد أن يبادر بالرحيل إلى باريس حيث يتلقى المساعدة من جريم ومدام دبينيه، وكلن فولفجانج اقنع أمه بأن الرحلة أشق من أن تطيقها في شهور الشتاء. وإذا افترض ليوبولد أنهما راحلان عما قليل إلى باريس، فقد حذر فولفجانج من نسائها وموسيقييها، وذكره بأنه الآن الأمل المرجو في إعالة الأسرة. وقال ليوبولد إنه استدان سبعمائة جولدن، وإنه يعطي دروساً خصوصية في شيخوخته.

"وهذا أيضاً في بلدة يبخس فيها أجر هذا العمل المرهق...إن مستقبلنا رهن بفطنتك الكبيرة...وأنا عليم بأنك تحبني، لا بوصفي أباك فحسب، بل أصدق أصدقائك وأوفاهم، وأنك تفهم وتقد أن سعادتنا وشقاءنا، وأكثر من ذلك طول أجلي أو التعجيل بموتي، كلها...في يديك أنت بعد الله. وإذا كنت قد أصبت في قراءة أفكارك، فإني لا أتوقع منك غير الفرح والاغتباط، وهذا وحده خليق أن يعزيني وأنا محروم لغيابك من بهجة الأب وأما أسمعك وأبصرك وأضمك بين ذراعي..من صميم قلبي أمنحك بركتي الأبوية(21)".

وفي إحدى خطابات ليوبولد (9 فبراير 1778) أضافت "نانيريل" التي بلغت الآن السادسة والعشرين والتي كانت لعدم توفر المهر تواجه مستقبل العوانس، سطوراً تكمل صورة هذه الأسرة المتاحة: "إن بابا لا يترك لي أبداً كتب لماماً ولكن...إني أتوسل إليها إلا تنساني...وأتمنى رحلة سعيدة سارة إلى باريس مقرونة بالصحة السابغة. على أنني أرجو صادقة أن أستطيع عناقكما سريعاً. والله وحده عليم متى يحدث هذا. كلانا تواق لأن تحقق لنفسك الثراء، فهذا معناه سعادتنا جميعاً. إني أقبل يدي ماما وأعانقك، وآمل أن تذكرنا وتفكر فينا دائماً. ولكن عليك ألا تفعل إلا إذا كان في وقتك متسع، ولو ربع ساعة تتخفف أثناءه من التأليف والتدريس"(22).

في هذا المزاج من التفاؤل العظيم والثقة المشربة بالحب تلقى ليوبولد خطاباً كتبه فولفجانج في 4 فبراير يعلن إليه فيه وصول كيوبيد. ذلك أن رجلاً من صغار الموسيقيين في مانهايم يدعى فريدولين فيبر، حباه الحظ وأثقل كاهله بزوجة وخمس بنات وولد. وكانت السيدة فيبر تلقي شباكها لتقتنص الأزواج، لا سيما لكبرى بناتها يوزيفان ذات التسعة عشر ربيعاً، التي بلغت سن الزواج وخيف أن تفوتها سوقه. ولن موتسارت تعلق بألويسيا ذات الستة عشر ربيعاً، التي جعلها صوتها الملائكي ومفاتنها الرائعة حلماً يراود خيال الموسيقي الشاب. ولم يكد يلحظ مونستانتسي ذات الأربعة عشر ربيعاً التي قدر لها أن تكون زوجة. وقد ألف لألويسيا بعضاً من أرق أغانيه. فلما غنتها نسي مطامحه وفكر في مرافقتها-مع يوزيفان وأبيهما-إلى إيطاليا حيث تستطيع الحصول على تدريب صوتي وتتاح لها فرص أوبرالية، بينما يعينهم هو على العيش بإحياء الحفلات الموسيقية وتأليف الأوبرات. كل هذا شرحه العاشق الصغير الشجاع لأبيه قال:

"لقد أحببت هذه الأسرة التعسة حباً جعل أعز أماني أن أسعدهم....ونصيحتي إليهم أن يقصدوا إيطاليا. والآن أود أن تكتب لصديقنا الطبيب لوجاتي، وخير البر عاجله، وتستفسر منه عن أفضل الشروط التي تُعطى لمغنية أوبرا أولى في فيرونا...أما عن غناء ألويسيا فأني أراهن بحياتي أنها ستجلب لي الشهرة..فإذا نجحت خطتنا-فإننا-الهرفيبر، وأبنتا وأنا-سنشرف بزيارة أختنا العزيزة أسبوعين في طريقنا مروراً بسالزبورج...وسيسرني أن أكتب أوبرا لفيرونا لقاء خمسين تسكيني (650 دولاراً) ولو تتاح لها فرصة الشهرة...وسوف تكون الأبنة الكبرى نافعة جداً لنا، لأنها تستطيع أن تدير شؤون بيتنا، فهي خبيرة بالطهو، وبالمناسبة، لا تدهش كثيراً إذا عرفت أنه لم يبقَ معي سوى اثني وأربعين جولديناً من السبعة والسبعين، وليس هذا إلا نتيجة ابتهاجي لوجودي مرة أخرى في صحبة قوم شرفاء على شاكلتي في لتفكير...

"وافني برد سريع. ولا تنس مبلغ شوقي لكتابة الأوبرات. وأنا أحسد أي إنسان يؤلف أوبرا. وأكاد أبكي غيظاً حين أسمع...لحناً (آرباً). ولكن أوبرا إيطالية لا ألمانية، وجادة لا هازلة..والآن قد كتبت كل ما يثقل صدري. وأمي راضية تمام الرضى عن أفكاري...وفكرة مساعدة أسرة فقيرة دون الإضرار بي تبهج نفسي في الصميم. إنني أقبل يديك ألف مرة، وما زلت حتى الموت ولدك المطيع جداً(23)".

ورد ليوبولد في 11 فبراير:

"يا ولدي العزيز: لقد قرأت خطابك المؤرخ 4 الجاري بدهشة ورعب..لقد جفاني النوم الليل كله...يا إلهي الرحيم!...لقد ولت تلك اللحظات السعيدة حين كنت وأنت طفل أو غلام لا تمضي إلى فراشك دون أن تقف على كرسي وترتل لي...وتقبلني المرة بعد المرة على طرف أنفي وتقول لي إنني حين أشيخ ستضعني في صندوق زجاجي وتحميني من كل نسمة هواء، حتى تحتفظ بي دائماً وتكرمني. أصغِ إليّ إذن وتذرع بالصبر!..."

ومضى يقول إنه كان يأمل أن يؤجل فولفجانج زواجه حتى يؤمن لنفسه مكاناً مكيناً في عالم الموسيقى، وعندها يبني بزوجة صالحة، وينجب أسرة طيبة، ويعين أبويه وشقيقته. ولكن هذا الابن ينسى الآن أبويه بعد أن فتنته "سيرانة" شابة، ولا يفكر إلا في أن يتبع فتاة إلى إيطاليا كأنه فرد من بطانتها. فياله من هراء لا يصدق!

"انطلق إلى باريس، ومن فورك، وأبحث عن مكانك بين عظماء القوم، فأما أن تكون شيئاً عظيماً أو لا شيء إطلاقاً، فمن باريس يدوي اسم الرجل ذي الموهبة العظمى وشهرته ويجلجلان في أرجاء الدنيا بأسرها. هناك يعامل النبلاء العبقريين بأعظم احترام وتقدير ومجاملة، وهناك سترى أسلوباً مهذباً في الحياة هو النقيض المذهل لخشونة رجال حاشيتنا الألمان ونسائهم، وهناك تستطيع التمكن من اللغة الفرنسية"(24). وأجاب موتسارت في تواضع بأنه لم يأخذ مأخذ الجد الشديد خطة مرافقة آل فيبر إلى إيطاليا، ثم ودع الأسرة وداعاً باكياً، ووعد بأن يراهم في طريقه إلى أرض الوطن. وفي 14 مارس 1778 اتخذ هو وأمه طريقهما إلى باريس مستقلين المركبة العامة.

وبلغاها في 23 مارس، وصادف وصولهما بالضبط حركة تمجيد فولتير التي طغت على نبأ قدومهما. واتخذا لهما مسكنا بسيطاً، وأنطلق موتسارت باحثاً عن عمل يكلف به. واستجمع جريم ومدام دبينيه جهدهما ليلفتا بعض النظر إلى الشاب الذي هللت له باريس عجيبة موسيقية قبل أربعة عشر عاماً. فعرضت عليه فرساي وظيفة عازف أرغن البلاط لقاء ألفي جنيه لخدمة ستة أشهر كل سنة ونصحه ليوبولد بقبول العرض، وعرض جريم، ورفض موتسارت الوظيفة لأن الأجر بخس، وربما لأنها لا تناسب موهبته. وفتحت له بيوت كثيرة إن قبل العزف على البيانو لقاء وجبة غداء أو عشاء. ولكن حتى الوصول إلى هذه البيوت اقتضى رحلة غالية في عربة تشق طريقاً موحلة. ولاح بصيص من الأمل في أحد النبلاء المدعو الدوق دجين، وألف موتسارت له ولابنته الكونشرتو الرائع في مقام "C" للفلاوته والهارب (ك 299)، وأعطى الشابة النبيلة دروساً في التأليف الموسيقي لقاء أجر طيب، ولكنها لم تلبث أن تزوجت ولم يدفع الدوق سوى ثلاثة جنيهات ذهبية "لوي دور" (75 دولاراً) لكونشرتو كان خليقاً بأن يطرح باريس تحت قدمي موتسارت. ولأول مرة في حياته فارقته شجاعته. فكتب إلى أبيه في 29 مايو يقول "إنني في صحة لا بأس بها ولكنني كثيراً ما أتساءل هل الحياة تستحق أن يعيشها المرء". وانتعشت روحه المعنوية حين كلفه لجرو، مدير الكونسير سيرتيوبل بكتابة سمفونية (ك 297) أديت بنجاح في 18 يونيو.

ثم ماتت أمه في 3 يوليو. وكانت قد بدأت حياتها الجديدة بالاستمتاع بتخففها من متاعب سالزبورج وعناء الزوجية، ولكن سرعان ما حنت إلى بيتها وواجباتها واتصالاتها اليومية التي تضفي على حياتها غنى ومغزى. وحطمت صحتها رحلة الأيام التسعة إلى باريس في مركبة مهتزة ورفقة منفرة ومطر غزير، وألقى فشل ابنها في أن يجد له وظيفة في باريس ظلاً من الكآبة على روحها المرحة عادة. وراحت تقضي الأيام وحيدة وسط بيئة غريبة وألفاظ لا تفهمها، بينما يذهب ابنها إلى تلاميذه وإلى الحفلات الموسيقية والأوبرات...ورآها موتسارت الآن تذبل في هدوء، وأنفق الأسابيع الأخيرة بجوارها يرعاها ويحنو عليها ولا يكاد يصدق أنها قد تموت بهذه السرعة.

وقدمت له مدام دبينيه حجرة في منزلها مع جريم، ومكاناً على مائدتها، وحرية استعمال بيانها. ولم ينسجم تماماً مع جريم في هذه الجيرة، القريبة فلقد كان جريم يمجد فولتير وموتسارت يحتقره، وصدمه زعم مضيفيه وأصدقائهم بأن المسيحية ليست سوى أسطورة نافعة في ضبط المجتمع. وأراده جريم أن يقبل التكليفات الصغيرة سبيلاً إلى الكبيرة، وأن يعزف دون أجر الأسر ذات النفوذ، بيد أن موتسارت أحس أن عملاً كهذا سينضب قوته التي يؤثر أن يدخرها للتأليف. وحكم جريم بأنه كسلان، وأخبر ليوبولد بحكمه هذا فأمن عليه(25). وزاد الموقف سوءاً اقتراض موتسارت المرة بعد المرة من جريم مبالغ بلغت جملتها خمسة عشر جنيهاً ذهبياً (375 دولاراً). وأخبره جريم أن في إمكانه تأجيل السداد إلى أجل غير مسمى. وكذلك كان(26).

وحسم الموقف خطاب (31 أغسطس 1778) من موتسارت الأب يقول إن رئيس الأساقفة كوللوريدو عرض أن يرقى الأب رئيساً للمرتلين إذا عمل فولفجانج عزفاً على الأرغن ورئيساً للموسيقيين، على أن يعطي كل منهما خمسمائة فلورين في العام، يضاف إلى هذا "أن رئيس الأساقفة صرح أنه على استعداد لأن يسمح لك بالسفر حيث تشاء إن أردت كتابة أوبرا". ثم أضاف ليوبولد طعماً قدر أن موتسارت لابد مبتلعه، فقال أن ألويسيا فيبر ستدعى على الأرجح للانضمام إلى كورس سالزبورج، وفي هذه الحالة "لابد أن تعيش معنا"(27). ورد موتسارت (11 سبتمبر) "حين قرأت خطابك هزني الطرب لأنني شعرت بأنني أصبحت فعلاً في حضنك. صحيح أن العرض لا يحمل أملاً كبيراً لي في المستقبل كما أخالك معترفاً، ولكن حين أتطلع إلى لقائك وعناق أختي العزيزة جداً لا أفكر في أي أمل آخر".

وعليه ففي 26 سبتمبر استقل المركبة إلى نانسي. وفي ستراسبورج كسب بضعة جنيهات لقاء حفلات شاقة في مسارح كادت تخلوا من روادها. وتلبث مايهايم أملاً في تعيينه قائداً للأوبرا الألمانية، ولكن هذا الأمل أيضاً خاب كغيره ومضى إلى ميونخ وهو يحلم بألويسيا فيبر. ولكنها كانت قد وجدت مكاناً في كورس الأمير الناخب، ربما في قلبه، فاستقبلت موتسارت بهدوء لم يبدُ فيه أي رغبة في أن تكون عروساً له. فألف وغنى أغنية مرة، ثم راضَ نفسه على قبول سالزبورج.

وصل إلى البيت في منتصف يناير، واستقبل باحتفالات ألقى عليها ظلاً من الحزن إدراكه الأليم الآن لحقيقة موت الأم. وسرعان ما شد إلى نيره عازفاً للأرغن ورئيساً لفرقة الموسيقى، وسرعان ما أصابه القلق والتبرم وقد تذكر هذه الأيام فيما بعد:

"في سالزبورج كان العمل عبئاً عليّ، ولم أكن أستطيع أن أسكن إليه قط. فلم ذلك؟ لأنني لم أكن قط سعيداً...فليس في سالزبورج-من وجهة نظري على الأقل-تسلية لها أي قيمة. وأنا أرفض الاختلاط بأشخاص كثيرين هناك-أما غيرهم فأكثرهم لا يرونني صالحاً لصحبتهم أضف إلى ذلك إنه ليس هناك من حافز لموهبتي. وكأن الجمهور خشب مسندة لا تستجيب حين أعزف أو حين تؤدى قطعة من تأليفي. أتمنى لو كان في سالزبورج ولو مسرح واحد متوسط الجودة(28)".

وتاقت نفسه إلى كتابة الأوبرات؛ ورحب بطلب الأمير الناخب كارل تيودور أن يكتب أوبرا لمهرجان ميونخ التالي. فشرع يكتب "إيدومنيو ملك كريت" في أكتوبر 1780، وفي نوفمبر ذهب إلى ميونخ لعمل البروفات. وفي 29 يناير 1781 أخرجت الأوبرا بنجاح رغم طولها غير العادي. ومكث موتسارت في ميونخ ستة أسابيع أخرى، يستمتع بحياتها الاجتماعية، حتى استدعاه رئيس الأساقفة كوللوريدو ليلحق به في فيينا. هناك سره أن يسكن القصر الذي يسكنه رئيسه، ولكنه كان يأكل مع الخدم. "يجلس التابعان على رأس المائدة؛ وأنا أحضى بشرف الجلوس مقدماً على الطباخين(29)". وكان هذا عرفاً شائعاً في ذلك العصر في بيوت النبلاء، وقد احتمله هايدن باستياء مكظوم، أما موتسارت فقد تمرد عليه في علانية متزايدة. وقد سره أن تعرض موسيقاه وموهبته في بيوت أصدقاء رئيس الأساقفة؛ ولكنه استشاط غيظاً حين رفض كوللوريدو معظم توسلاته أن يأذن له بقبول ارتباطات خارجية قد تأتيه بدخل إضافي وشهرة أوسع. "حين أفكر في أنني سأغادر فيينا دون أن يكون في جيبي ألف فلورين على الأقل يغوص قلبي في باطني(30)".

وصحت نيته على أن يترك خدمة كوللوريدو. ففي 2 مايو 1781 ذهب ليسكن نزيلاً مع آل فيبر الذين كانوا قد انتقلوا إلى فيينا. فلما أرسل إليه رئيس الأساقفة تعليماته بالعودة إلى سالزبورج، أجاب بأنه لن يستطيع الرحيل قبل 12 مايو. وتلا ذلك لقاء مع رئيس الأساقفة، وروى موتسارت ما دار فيه لأبيه فقال: "إنه رماني بأقذع الشتائم-أوه! إنني في الحق لا أستطيع حمل نفسي على أن أكتبها كلها لك! وأخيراً، حين أحسست بالدم يغلي في عروقي، لم أطق أن أحتمل أكثر مما احتملت؛ فقلت له "إذن فسموك لست راضياً عني" ماذا! أتريد أن تهددني؛ أيها الوغد أيها النذل؟ دونك الباب إذن، لن يكون لي صلة بعد اليوم برجل تعس مثلك! "وأخيراً قلت" ولا أنا بك. "إذن فأخرج!" وفيما أنا خارج قلت "فليكن، وغداً سيصلك مني خطاب". قل لي يا أبي العزيز أما كان لزاماً عليّ أن أقول هذا عاجلاً أو آجلاً؟..."

"أكتب لي سراً بأنك مسرور-لأن لك الحق في أن تسر حقيقة-وانتقدني انتقاداً قاسياً علانية، حتى لا يقع عليك أي لوم أو تثريب. ولكن إذا نالك من رئيس الأساقفة أي إهانة فتعال إليّ فوراً في فيينا. ففي وسعنا نحن الثلاثة أن نعيش على دخلي(31)".

ودفع بليوبولد في أزمة أخرى. وبدا أن منصبه تعرض للخطر، وكان لابد أن ينقضي بعض الوقت حتى تصلني تأكيدات من كوللوريدو. وأفزعه نبأ مساكنة ابنه لآل فيبر. فقد مات رب الأسرة، وتزوجت إليوسيا الممثل يوزف لانجي، ولكن كان للأرملة بنت أخرى تدعى كونستانتسي تنتظر زوجاً. أفهذا طريق مسدود أخر أمام فولفجانج؟ وتوسل إليه ليوبولد أن يعتذر لرئيس الأساقفة ويعود. ورفض موتسارت لأول مرة أن يطيع أباه. "إنني في سبيل رضاك يا أبي مستعد لأن أتخلى عن سعادتي وصحتي بل وحياتي ذاتها، ولكن شرفي فوق كل شيء عندي، وكذلك يجب أن يكون عندك. يا أعز الآباء وأكرمهم، طالبني بما شئت إلا هذا(32)". وفي 2 يوليو بعث إلى ليوبولد بثلاثين دوقاتي عربوناً لمساعدته المقبلة.


وتوجه ثلاث مرات إلى مسكن رئيس الأساقفة لفيينا ليقدم استقالته الرسمية. ورفض حاجب كولليوريدو أن ينقلها لسيده، وفي المرة الثالثة "ألقى بموتسارت خارج حجرة الانتظار وأردف ذلك بركلة في ظهره"-وهي العبارة التي وصف بها موتسارت المشهد في خطابه المؤرخ 9 يونيو(33). ولكي يرضى أباه أنتقل من بيت فيير إلى مسكن آخر. وأكد لليوبولد أنه إنما كان "يمزح" فقط مع كونستانتسي. "ولو كان على أن أتزوج كل من ضحكت معهن لكان لدي على الأقل مائة زوجة(34)". على أنه كتب لأبيه في 15 ديسمبر يقول إن كونستانتسي غاية في اللطف والسذاجة وحب البيت، وهو لذلك يريد أن يتزوجها".


پورتريه عام 1782 يصور Constanze Mozart by her brother-in-law Joseph Lange.


"أترعبك الفكرة؟ ولكني أتوسل إليك يا أعز أب وأحبه أن تصغي إلي...إن صوت الطبيعة يتكلم في باطني عالياً كما في غيري-بل ربما أعلى مما يتكلم في رجل ضخم قوي غليظ. إنني ببساطة لا أستطيع أن أعيش كما يعيش معظم الشباب في هذه الأيام. أولاً لأنني متدين جداً، وثانياً لأنني أشد حباً للجار، وأرفع إحساساً بالشرف من أن أغوي فتاة بريئة، وثالثاً لأن بي من الرعب والتقزز، ومن رهبة الأمراض والخوف منها، ومن الرعاية لصحتي، ما يعصمني من العبث مع النسوة الفاجرات. وفي وسعي أن أقسم أنه لم يكن لي قط علاقات من هذا النوع مع أي امرأة...وأراهن بحياتي على صدق ما قلته لك...

"ولكن من هي موضوع حبي؟..أليست إحدى بنات فيبر؟ بلى..إنها كونسانتسي...أرقهن كلهن وأذكاهن وأفضلهن جميعاً...قل لي هل في استطاعتي أن أتمنى لنفسي زوجة خيراً منها..قصارى ما أطمع فيه أن يكون لي دخل مضمون صغير (وهذا رجائي الوطيد بحمد الله)، وعندها لن أكف عن رجائك بأن تسمح لي أن أنقذ هذه الفتاة المسكينة وأن أحقق لي-ولنا جميعاً إن جاز لي القول-السعادة الكاملة. فلا أشك في أن سعادتي تسعدك؟ وستحظى بنصف دخلي الثابت...أرجوك أن تشفق على ولدك!(35)"

ولم يعرف ليوبولد ماذا يصدق. فقد بذل كل جهد ليثني ولده المفلس تقريباً عن الزواج، ولكن موتسارت أحس بأنه بعد أن قضى ستة وعشرين عاماً من الطاعة لأبيه آن الأوان لينقذ مشيئته ويحيا حياته. وظل سبعة أشهر يلتمس عبثاً موافقة أبيه، وأخيراً، في أغسطس 1782، تزوج دون هذه الموافقة. وفي 5 أغسطس وصلت الموافقة، وأصبح موتسارت الآن حراً في أن يكتشف إلى أي حد يستطيع المرء أن يعول أسرة بتأليف حشد من أكثر أنواع الموسيقى الرائعة تنوعاً في تاريخ الإنسان.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

1786–1787: العودة إلى الاوپرا

1788–1790

رسم لموتسارت في silverpoint, made by Dora Stock during Mozart's visit to Dresden, April 1789

كان له عذره في الثقة بنفسه، لأنه كان قد أشتهر عازفاً على البيان، وحصل على دروس خاصة لتلاميذ يدفعون أجور مجزية، وأخرج أوبرات ناجحة، فلم يمض شهر على تركه خدمة رئيس الأساقفة حتى تلقى من الكونت أورسيني-روزتبرج مدير مسارح بلاط يوزف الثاني، تكليفاً بتأليف (دراما منطوقة) تتخللها الأغاني، وعرضت النتيجة في 16 يوليو 1782، في حضرة الإمبراطور، تحت اسم (الاختطاف من السراي). وأدانها فريق من خصومه، ولكن كل السامعين تقريباً فتنتهم الأغاني المرحة التي ازدان موضوع عتيق: حسناء مسيحية يأسرها القراصنة، ويبيعونها لحريم تركي، ثم ينقذها حبيبها المسيحي بعد دسائس لا تصدق. وكان تعليق يوزف الثاني على الموسيقى "أنها يا عزيزي موتسارت أجمل مما تحتمله آذننا، وأنغامها كثيرة جداً". وهو تعليق أجاب عنه المؤلف المتهور "إنها بالضبط يا صاحب الجلال بالكثرة التي يقتضيها المقام".(36) وأعيد عرض الأوبريت ثلاثاً وثلاثين مرة في فيينا في سنيها الست الأولى. وقد أطرها جلوك، وإن أدرك أنها أغفلت تماماً "إصلاحه" للأوبرا، وأعجب بالتأليفات الآلية لهذا الشاب العنيف، ودعاه لتناول الغداء معه.

وقد استمد موتسارت إلهامه من إيطاليا لا من ألمانيا، وآثر اللحن والتوافق البسيط على البوليفونية "تعدد الأصوات" المعقدة المتعمقة. ولم يشعر بتأثيرات قوية من هندل ويوهان سبستيان باخ إلا في عقده الأخير. وفي 1782 انضم إلى الموسيقيين الذين كانوا يحيون الحفلات تحت رعاية البارون جوتفريد فان زفيتن، وأكثرها من تأليف هندل وباخ، في المكتبة القومية أو في بيت فان زفيتن. وفي 1774 كان البارون قد جلب من برلين إلى فيينا كتاب (فن الفوجة) و (الكلافورد الحسن الضبط) وغيرهما من أعمال ي.س. باخ. واستنكر الموسيقى الإيطالية لأنها تفتقر إلى الإتقان الشديد، ورأى أن الموسيقى الحقة تتطلب الالتفاف الدقيق للفوجة، والبولوفونية، والكونترابنط. أما موتسارت فهو وإن لم يسمح قط للبناء أو القاعدة أو التشكل بأن تكون غالية في ذاتها، فقد أغد من نصيحة فان زفيتن وموسيقاه، ودرس هندل وآل باخ الكبار بعناية. بعد 1787 قاد موسيقى هندل في فيينا، وسمح لنفسه بشيء من الحرية في توفيق مدونات هندل لأوركسترا فيينا. وفي موسيقاه الآلية اللاحقة زواج بين الميلوديا الإيطالية والبولفونية الألمانية في وحدة متسقة.

والنظرة العجلى إلى كتالوج كوشل لمؤلفات موتسارت هي إحدى التجارب الشديدة الوقع في النفس. فهناك قائمة ضمت 626 عملاً-وهي أكبر حجم من الموسيقى خلفه أي مؤلف عدا هليدن، وكلها أنتج في حياة صاحبها التي لن تتجاوز ستاً وثلاثين سنة، وتحوي روائع من شتى الأشكال: 77 صوتا، و8 ثلاثيات، و29 رباعية و5 خماسيات، 51 كونشرتو، و96 قطعة خفيفة (ديفرتمنتي) أر رقصات أو سرينادات، و52 سمفونية، و90 لحنا أو أغنية، 60 مؤلفاً دينياً، و22 أوبرا. وإذا كان بعض ن كانوا قريبين من موتسارت حسبوه كسولاً، فربما كان السبب أنهم لم يدركوا تماماً أن عناء الروح قد يضني الجسد، وأن العبقرية إذا حرمت فترات الكسل انزلقت إلى الجنون. وقد قال له أبوه (إن التأجيل خطيئتك التي لا تفتأ محدقة بك)(37). وكان موتسارت في كثير من الحالات يؤجل ساعة تدوين الموسيقى التي كانت تتخلق في رأسه. قال "إنني-إن شئت-منقوع في الموسيقى. فهي في عقلي طوال اليوم، وأنا أحب أن أحلم بها، وأدرسها، وأتأملها"(38). وقد روت زوجته "كان دائم النقر على شيء ما-على قبعته، أو كاتينة ساعته-أو المائدة أو المقعد وكأنها لوحة المفاتيح".(39) وكان أحياناً يواصل هذا التأليف الصامت حتى وهو يبدو مصغياً لإحدى الأوبرات. وكان يحتفظ بقصاصات من ورق تدوين الموسيقى في جيوبه أو في جيب العربة الجانبي وهو مسافر، ثم يدون عليها نوتات متناثرة، وقد ألف أن يحمل علبة من الجلد تتلقى هذه الأشتات. فإذا تأهب لم يجلس إلى لوحة المفاتيح بل إلى المنضدة. وتقول كونستانتسي "كان يكتب الموسيقى كما يكتب الخطابات، ولم يحاول قط عزف حركة حتى تكتمل". أو قد يجلس إلى البيان ساعات بأكملها يرتجل ويترك خياله الموسيقي حراً طليقاً في الظاهر ولكنه في نصف وعي يخضعه لبناء متميز-كشكل الصوناتا، أو الآريا، أو الفوجة...وكان الموسيقيون يستمتعون بارتجالات موتسارت لأنهم كانوا يستطيعون أن يتبينوا في ابتهاج خفي النسق المتواري خلف أنغام تبدو عفوية في ظاهر الأمر. قال نيمتشك في شيخوخته "لو جرؤت على أن أصلي لفرحة أرضية أخرى لكانت أن أسمع موتسارت يرتجل"(40).

وكان في استطاعة موتسارت أن يعزف أي موسيقى تقريباً بمجرد الإطلاع نوتتها لأن طول خبرته بارتباطات النوتات وتعاقبها المعينة أتاح له قراءتها كأنها نوتة واحدة، وكانت أنامله المدربة تعزفها كأنها جملة أو فكرة موسيقية واحدة، تماماً كما يستوعب القارئ المدرب سطراً كأنه كلمة، أو فقرة كأنها سطراً. واقترنت ذاكرة موتسارت بهذه القدرة على إدراك الكليات، والإحساس بالمنطق الذي يلزم الجزء بالدلالة على الكل. وفي السنوات اللاحقة كان يستطيع أن يعزف أياً من كنشرتواته تقريباً عن ظهر قلب. وفي براغ كتب أجزاء الطبلة والبوق للخاتمة الثانية في "دون جوفاني" دون أن تتاح له نوته الآلات الأخرى، وكان قد حفظ تلك الموسيقى المعقدة في ذاكرته. وذات مرة دون جزء الفويولينه فقط من صوناتا للبيانو والفيولينه، وفي الغد، ودون بروفا، عزفت رجينا سترينا زاكي جزء الفيواينه في حفلة، وعزف موتسارت جزء البيانو من مجرد ذكرى تصوره دون أن يتسع له الوقت لتدوينها على الورق(41). ولعل صحائف التاريخ لا تحوي ذكرى رجل آخر استغرقته الموسيقى إلى هذا الحد.

ونحن ننظر إلى صوناتات موتسارت على إنها أقرب إلى الخفة والمعابثة، وأنها لا تقف في صف مع ألحان بيتهوفن المشبوبة القوية من نفس النوع، وقد يكون السبب أنها كتبت لتلاميذ محدودي المهارة في العزف، أولها ربسيكوردات ذوات تصويت محدود، أو البيانو لم يؤت وسيلة لمواصلة نغمة(42). والصونات في مقام A (ك331). وما حوت من "منويته" ممتعة، و"الروندو اللأتوركا" ومازالت (1778) بأسلوب الهاربسيكورد.

ولم يكن موتسارت أول الأمر يهتم بموسيقى الحجرة، ولكن في 1773 وقع على رباعيات هايدن المبكرة، وحسد ما فيها من براعة كونترابنطية، وقلدها قارب النجاح في الرباعيات الست التي ألفها في تلك السنة. وفي 1781 نشر هايدن سلسلة أخرى، وحرك هذا موتسارت ثانية للمنافسة فأصدر (1782-85) ست رباعيات (ك 387، 421، 428، 458، 464-65) تعترف الجمع الآن بأنها من أرفع الأمثلة في بابها. وشكا العازفون من صعوبتها الهائلة، وانتقد النقاد الرباعية السادسة على الأخص لتنافراتها المتعارضة ومزجها الصاخب بين المفاتيح الكبيرة والصغيرة ورد موسيقي إيطالي النوتة للناشر محتجاً بأن من الواضح أنها تزخر بالأخطاء الفظيعة. ومزق أحد المشترين أوراقها وقد استشاط غضباً حين وجد إن التنافرات متعمدة. ومع ذلك فإن هايدن قال لليوبولد موتسارت بعد عزفه الرباعيات الرابعة والخامسة والسادسة مع موتسارت وديترسدورف وغيرهما "أمام الله وبصفتي رجلاً صادقاً، أقول لك إن ابنك أعظم من عرفت من المؤلفين قاطبة سواء شخصياً أو بالاسم. فهو ذواقة، وأكثر من ذلك يملك أعمق معرفة بالتأليف الموسيقي(42)". فلما نشرت الرباعيات الست (1785) أهداها موتسارت إلى هايدن بخطاب يتألق بتفرده حتى وسط ما تبادلا من رسائل كلها رائع:

"إن أباً قرر أن يدفع بأبنائه إلى الدنيا الواسعة فرأى من واجبه أن يكلهم إلى رعاية وإرشاد رجل كان ذائع الصيت في ذلك الحين، واتفق فوق ذلك إنه كان أصدق أصدقائه. وبالمثل أدفع بأبنائي الستة إليك، أيها الصديق الأعز الأشهر. حقاً أنهم ثمرة درس طويل شاق، ولكن الأمل الذي عللني به أصدقاء كثيرون بأن تعبي فيهم سيعوضه بعض الجزاء...يملوني زهواً بهذه الفكرة، وهي أن أبنائي هؤلاء سوف يكونون يوماً ما مبعث عزاء لي.

"لقد أعربت لي أثناء مقامك بهذه العاصمة...عن استحسانك لهذه المؤلفات، ويشجعني تقديرك لها أن اهديها إليك ويغريني بالأمل بأنك لن تراها غير جديرة برضائك. فأرجو أن تتفضل بقبولها، وكن لها بمثابة الأب والمرشد والصديق. ومنذ هذه اللحظة أنزل لك عن جميع حقوقي عليها. على أنني التمس منك أن تعفو عن الأخطاء التي ربما غابت عن عين مؤلفها المتحيزة، وأن تواصل برغمها صداقتك الكريمة لرجل يقدر هذه الصداقة أسمى تقدير(44)".

وكان لموتسارت ولع خاص بخماسياته. وكان يرى أن خماسيته بمقام E المنخفض للبيانو والأوبرا والكلارنيت والهورن والباصون (ك 452) "خير ما ألفت قاطبة(45)". ولكن هذا كان قبل أن يكتب أوبراته الكبرى. وكانت قطعة Einekleine Nachtmusik "موسيقى ليلية صغيرة" في الأصل (1787) مؤلفة كخماسية، ولكن سرعان ما تلقتها الأوكسترات الصغيرة، وهي الآن تصنف بين سرنادات موتسارت. وكان يقدر السرينادة بمقام E المنخفض (ن 375) لأنها مكتوبة "بشيء من العناية"، وهي القطعة التي عزفت له هو نفسه ذات أمسية في 1781، ولكن الموسيقيين يؤثرون عليلها في المرتبة السرنادة بمقام C الصغير (ن 388)-التي تعدل في قتامتها ألحان بتهوفن وتشايكوفسكي الحزينة (الباتتيك).

ووجه موتسارت الأوركسترا بعد أن اكتشفه إلى عشرات التجارب: افتتاحية، وموسيقات حالمة، ومتتاليات، وكاساسيونات Cassations (وهي تنوعات للمتتالية) وموسيقات راقصة، وأخرى خفيفة (ترفيهية Divertimenti)، وقصد بالأخيرة عادة إن تخدم هدفاً عابراً لا أن يتردد صداها في بهاء التاريخ، وعلينا أن نستمتع بها لا أن نزنها. وحتى مع هذا، فإن القطعة الخفيفة رقم 15 (ك 334) عملان قيمان، وأبعث للبهجة من معظم السمفونيات.

واستعمل موتسارت كما استعمل هايدن لسمفونياته "فرقة" من خمسة وثلاثين عازفاً، ومن ثم تقصر دون توصيل قيمتها الكاملة لآذان ألفت الجهورية المضاعفة في أوركسترات القرن العشرين ويطري النقاد السمفونية رقم 25 (ك 183) لأنها "مشبوبة العاطفة(46)". و"آية في التعبير العنيف(47)". ولكن أقدم سمفونيات موتسارت المشهورة هي "باريس" (رقم 31 ك 297) التي طوعها موتسارت لحب الفرنسيين للرقة والفتنة. أما سمفونية هافنر (رقم 35 ك385) فقد ألفت أصلاً على عجل لتزدان بها المهرجانات التي أعدها زجسموند هافنر، عودة سالزبورج السابق، لزفاف ابنته (1782)، وفي تاريخ لاحق أضاف موتسارت إليها أدواراً للفولاوته والكلارنيت ثم قدمها في فيينا (3 مارس 1783) في حفلة حضرها يوزف الثاني "وصفق لي الإمبراطور تصفيقاً حاراً"، ونفحه بخمسة وعشرين دوقاتيه(48). وفي هذه السمفونية ورقم 36، التي كتبها في لنتز في نوفمبر 1783، ظل موتسارت محافظاً على الشكل والطابع-المبهجين دائماً، العميقين فيما ندر-اللذين طبع بهما هايدن السمفونية، وفي السمفونيتين تقع الحركة البطيئة من الآذان المسنة موقع الاغتباط والعرفان. وعلينا أن نتكلم باحترام أكثر على السمفونية رقم 38 التي ألفها موتسارت لبراغ في 1786، هنا تبهج الحركة الأولى الموسيقى بمنطقها الغنائي ومهارتها الكونترابنطية، أما حركتها المعتدلة البطء (الأندانتي) التي أضافت التأمل إلى اللحن، فقد حملت الخبراء على الإشادة بــ "كمالها الخالد(49)" وبــ "عالمها السحري(50)".

وهناك إجماع على أن أعظم سمفونيات موتسارت قاطبة هي الثلاث التي سكبها في سيل متدفق من الإلهام في صيف 1788، في حقبة من حياته ألم به فيها فقر كئيب وأثقلته ديون متفاقمة. والأولى مؤرخة 26 يونيو، والثانية 25 يوليو، والثالثة 10 أغسطس-ثلاثة أطفال أنجبت في ثلاثة أشهر. وعلى قدر علمنا لم تعزف واحدة منها في حياته قط، ولم يسمعها قط، بل ظلت في ذلك العالم الخفي الغامض الذي كانت فيه البقع السوداء المسطورة على فرخ من الورق في نظر مؤلفها-"قصائد معدة للغناء لا صوت لها"-علامات وإيقاعات لا يسمعها غير الذهن. والثالثة التي تسمى خطأ "جوبيتر" (رقم 41 بمقام C ك551) تعد عادة خيرها، ويرى شومان أنها تعدل أعمال شكسبير وبيتهوفن(51)، ولكنها لا تصلح لتذوق الهواة. والسمفونية رقم 40 في مقام G الصغير (ك 550) تبدأ بقوة ترهص بموسيقى Eroich ثم تتطور تطوراً دعا المعلقين-في نضالهم للتعبير عن الموسيقى بالألفاظ دون جدوى-إلى أن يقرؤوا فيها "ليرا" أو "مكبثا" من المأساة الشخصية(52)، ولكنها للآذان الأبسط تبدو مبهجة بهجة ساذجة تقريباً. وهذه الآذان نفسها تجد أن أعظم السمفونيات إشباعاً لها هي رقم 39 في مقام E المنخفض (ك543)، فهي لا يثقلها كرب، ولا تعذبها التقنية، إنما هي الإيقاع واللحن ينسابان في غدير هادئ مطمئن، وهي من نوع الموسيقى التي قد تبهج قلوب الآلهة في إجازة ريفية من الأعباء السماوية.

و "السمفونية كونشرتانتي" هي هجين بين السمفونية والكونشرتو، وقد نبتت من الكونشرتو جروسو بمقابلة آلتين أو أكثر للأوركسترا في حوار بين الميلوديا والموسيقى المصاحبة. وقد ارتفع موتسات بهذا الشكل إلى ذروته في "السمفونية كونشرتانتي" في مقام E المنخفض (ك364) للفلاوته والفيولينه والفيوله (1779)، وهي لا تقل روعة عن أي من سمفونياته الأخرى.

وكان الكونشرتوات مبهجة، ففيها تعين فقرات العزف المنفرد الأذن غير المدربة على تتبع مواضيع وأنغام قد يحجبها في السمفونيات التعقيد التقني أو التفنن الكونترابنطي. والحوار فيها طريف، ويزداد طرافة إذا كانت المناظرة بين واحد والكل "Solo Contra Tutti" كما نرى في شكل الكونشرتو كما اقترحه كارل فليب إيمانويل باخ وطوره موتسارت. ولما كان موتسارت يستطيب هذه المواجهات الهارمونية، فإنه كتب نعظم كونشرتواته للبيانو، ففيها كان يعزف دور العازف المنفرد بنفسه مضيفة عادة في أواخر الحركة الأولى قفلة تتيح له أن يسرح ويمرح. وأن يتألق عازفاً بارعاً لآلته.

وأول ما بدأ يتفوق في هذا الضرب كان في كونشرتو البيانو رقم (9) في مقام E المنخفض (ك 271). وأول كونشرتواته التي مازالت محببة للسامعين هي رقم 20 في مقام D الصغير (ك466) الشهرة بــ"الرومانتسي" الطفلية الطابع تقريباً. ويجوز لنا أن نقول أنه في هذه الحركة البطيئة بدأت الحركة الرومانسية في الموسيقى. وسواء كان السبب هو الكسل أو الشواغل، فإن موتسارت لم يكمل تدوين موسيقى هذا الكونشرتو إلا قبل ساعة من الزمن المحدد لأدائه (11 فبراير 1785)، ووصلت نسخة العازفون وأدى موتسارت دوره أداء خبير صناع، حتى لقد طلبت إعادة الكونشرتو مرات كثيرة في السنوات التالية. وقدم موتسارت موسيقى رفيعة لآلات منفردة أخرى. ولعل الكونشرتو الرخيم في مقام A للكلارينت (ك622) يصلنا مذاعاً مراراً أكثر من أي مؤلفاته الأخرى. وفي شبابه المرح (1774) كان يستمتع أيما استمتاع بكونشرتو في مقام B المنخفض للباصون. وكانت كونشرتوات الهورن فقاعات تنفخ في مرح على النوتة-التي كانت أحياناً تحوي تعليمات مضحكة للعازف. "Da Bravo! Corraggio! Bestia!" لأن موتسارت كان خبيراً بأكثر من آلة نفخ واحدة. ثم يرفعنا كونشرتو الفلاوته والهارب (ك299) إلى السماء الأعلى.

وفي 1775 حين كان موتسارت في التاسعة عشرة ألف خمسة كونشرتوات للفيولينة وكلها رائع، وثلاثة منها ما زالت تحتويها ربرتوارات حية إلى اليوم. والكونشرتو رقم 3 في مقام G (ك226) فيه حركة بطيئة (أداجو) انتشى لها رجل كآينشتاين(53)، ورقم 4 في مقام D من روائع الموسيقى، ورقم 5 في مقام A فيه حركة غنائية معتدلة البطء تنافس معجزة صوت المرأة.

لا عجب إذا كان موتسارت قد أنتج بعضاً من ألذ الألحان في التأليف الموسيقي قاطبة، لا سيما في سنوات حبه لألويسية فيبر. وهي ليست أغاني (ليدات) مكتملة التفتح كالتي حققت تطويرها الناجح على يد شوبرت وبرامز، إنما هي أبسط وأقصر، تزين في الغالب كلمات سخيفة، ولكن موتسارت إذا وجد شعراً بمعنى الكلمة كقصيدة جوته (البنفسجية) "ارتفع إلى ذرى الشكل (ك476). فها هنا بنفسجة مرتعشة فرحاً باقتراب راعية حسناء تقول في نفسها ما أحلى الرقاد على صدرها؟ ولكن بينما كانت الراعية تمشي وهي تغني في جذل إذا هي تسحقها تحت قدمها دون أن تلحظها"(54). أكانت هذه ذكرى ألويسية القاسية؟ لقد كتب لها موتسارت من قبل لحناً من أرق ألحانه Non So D'onde Diene. ولكنه لم يلقِ بالاً إلى مثل هذه الأغاني المنعزلة، فقد احتفظ بموارد فنه الصوتي الخفية لألحان أوبراته وللمؤلفات التي وضعها للكنيسة.

على أنه قل أن سمعت موسيقاه الدينية خارج سالزبورج، لأن الكنيسة الكاثوليكية لم ترضَ عن المحسنات الأوبرالية التي كان رؤساء الأساقفة الذين خدمهم موتسارت يتوقعونها منه فيما يبدو. فالقداس المطول في سالزبورج كان يرتل في مصاحبة الأرغن، والوتريات، والأبواق، والترنبونات، والطبول، وكانت فقرات من المرح تنطلق فجأة في أكثر المواضع وقاراً ورهبة في قداسات موتسارت. ومع ذلك فإن الروح الدينية لابد تحركها موتينات نسجد لك (ك327) و"القديسة مريم أم الرب" (ك341 ب)، وأبدع نغم يفوق جماله الموصول كل أنغام موتسارت يظهر في "سبحوا الرب" في القسم الرابع من تسبيحة الاعتراف المسائية (ك339)(55).

يمكن القول عموماً أن موسيقى موتسارت هي صوت عصر أرستقراطي لم يسمع بسقوط الباستيل، وحضارة كاثوليكية لم يكد إيمانها مكدر، حرة في الاستمتاع بمباهج الحياة دون أن تسعى هذا السعي الحثيث لتجد مضموناً جديداً لحلم أفرغ من مضمونه القديم. وهذه الموسيقى في جوانبها الأخف تتسق مع رشاقة الزخرف الركوكي، ومع رومانسيات فاتو التصويرية، وأولمب تيبولو الطافي في هدوء، وابتسامات مدام دبومبادور وأروابها وخزفها. وهي في عمومها موسيقى هادئة صافية، تشوبها بين الحين والحين لمسات من الألم والغضب، ولكنها لا ترفع صلاة متذللة ولا تحدياً بروميثياً للآلهة. لقد بدأ موتسارت موسيقاه في طفولته، وكانت تكمن في مؤلفاته خصيصة طفلية حتى اتضح له أن القداس الجنائزي الذي كان يكتبه لرجل غربياً كان قداساً لجنازته هو.

1791

لقد بدأ حيات الاحتراف موسيقياً مستقلاً في فيينا بنجاح قرت به عينه. فكان يتقاضى أجراً طيباً على الدروس التي يعطيها، وأتاه كل كونشرتو عزف في 1782-84 بنحو خمسمائة جولدن(74). ولم ينشر من مؤلفاته في حياته سوى سبعين، ولكنه تقاضى عنها ثمناً معقولاً. وأعطاه الناشر أرتارين مائة دوقاتية نظير الرباعيات الست المهداة إلى هايدن-وكان ثمناً طيباً في تلك الأيام(75). وخسر ناشر آخر يدعى هوفمايستر بطبعه رباعيات موتسارت للبيانو في مقام G الصغير (ك478) وE الخفيض (ك493)، فقد وجدها الموسيقيون عسيرة جداً (وهي الآن تعد سهلة)، وأنذر هوفمايستر قائلاً: "أكتب بشعبية أكثر وإلا فلن أستطيع أن أطبع المزيد من مؤلفاتك أو أنقدك عنه"(76). وكان موتسارت يتقاضى الأجر العادي عن أوبراته، وهو مائة دوقاتية، ولكنه تقاضى عن "دون جوفاني" 225 دوقاتية مضافاً إليها حصيلة حفلة موسيقية أحييت لصالحه. واجتمع له في هذه السنين "دخل طيب جداّ"(77) كتب أبوه وقد زاره في 1785 يقول "إذا لم يكن على ولدي ديون مستحقة ففي ظني أنه يستطيع الآن أن يودع في المصرف ألفي جولدن"(78).

ولكن موتسارت لم يودع ذلك المال في المصرف، بل أنفقها على مصروفاته الجارية، وعلى الترفيه، والملابس الفاخرة، وعلى تلبية حاجات الأصدقاء المتسولين. لهذا السبب وغيرها من أسباب أكثر غموضاً وقع في هوة الدين في ذروة الطلب على خدماته ومؤلفاته. وفي تاريخ مبكر (15 فبراير 1783) كتب إلى البارونة فون فالدتشتيتن يقول إن أحد دائنيه هدده بأن "يقاضيني...وأنا في هذه اللحظة لا أستطيع الوفاء بالمبلغ-ولا حتى بنصفه...أتوسل إليك يا سيدتي بحق السماء أن تعيني على الاحتفاظ بشرفي وسمعتي(79). وجاءه الفرج المؤقت من نجاح حفلة موسيقية أحييت لصالحه في مارس، إذ أتته بألف وستمائة جولدن، وقد أهدى بعض هذا المال لأبيه.

وفي مايو 1783 انتقل إلى منزل حسن في رقم 244 بميدان يودن. هناك ولد له طفله الأول (17 يونيو) "صبي جميل قوي، ملفوف كالكرة". ولان جانب الأب بفضل هذا الحدث والهدية بعد أن ساءه زواج ابنه. واستغل فولفجانج وكونستانتسي هذا اللين ليزورا ليوبولد ونانيرل في سالزبورج، بعد أن تركا الطفل في فيينا مع مربية. وفي 19 أغسطس مات الطفل. وبقي أبواه في سالزبورج لأن موتسارت كان قد رتب أن يعزف فيها قداسه في مقام C الصغير الذي سترتل فيه كونستانتسي. وأطال فولفجانج وكونستانتسي مكثهما فوق أصول الضيافة، لأن ليوبولد كان عليه أن يحسب حساب كل درهم، ورأى أن زيارة ثلاثة أشهر أطول مما يحتما. وفي طريق عودتهما إلى فيينا تخلفا في لنتز، حيث كلف الكونت فون تون موتسارت بكتابة سمفونية.

فلما عاد إلى بيته عكف بهمة على التدريس والتأليف والعزف والقيادة. وفي ثلاثة أشهر (26 فبراير إلى 3 إبريل 1784) أحيا ثلاثة حفلات موسيقية وعزف في تسع عشرة حفلة أخرى(80). وفي ديسمبر انضم إلى أحد المحافل الماسونية السبعة بفيينا، وأستمتع باجتماعاتهم، ولم يتردد في الموافقة على تأليف الموسيقى لأعيادهم. وفي فبراير قدم أبوه في زيارة طويلة بعد أن ألانه مولد ولد أخر لكونستانتسي. وفي 1785 دخل لونتسودا بونتي حياة موتسارت.

وقد عاش لورنتسو هذا حياة فيها من المغامرة ما يقرب من مغامرة صديقه كازانوفا. كان قد ولد في 1749 ابناً لدباغ جلود في حي يهود تشينيدا. فلما بلغ الرابعة عشرة أخذ أبو إيمانويلي كونليانو وإخوان له الأطفال إلى لورنتسودا بونتي، أسقف تشينيدا، ليعمدهم اتباعاً للكنيسة الكاثوليكية. واتخذ إيمانويلي أسم الأسقف، وأصبح كاهناً، واتصل في البندقية بامرأة متزوجة، فنفي، وانتقل إلى درسدن، ثم إلى فيينا، وفي 1783 استخدمه المسرح القومي شاعراً وكاتباً لنصوص الأوبرات.

واقترح عله موتسارت إمكان تأليف نص لأوبرا يؤخذ من كوميديا "زواج فيجارو" الحديثة التي ألفها بومارشيه. وكانت الكوميديا قد ترجمت إلى الألمانية لتمثيلها في فينا، ولكن يوزف الثاني حظر عرضها بحجة احتوائها على نزاعات ثورية تسيء إلى بلاطه. فهل في الإمكان إقناع الإمبراطور، الذي لم يكن هو نفسه مفتقراً إلى النزعة الثورية، بأن يسمح بأوبرا تستخلص من التمثيلية بحكمة وحصافة؟ وكان بونتي معجباً بموسيقى موتسارت، وسيبدي فيه الرأي التالي في تاريخ لاحق، وهو أنه رجل "لم يستطع حتى الآن، برغم ما أوتي من مواهب تفوق مواهب أي مؤلف موسيقي في الماضي أو الحاضر أو المستقبل، أن يستغل عبقريته السماوية في فيينا بسبب دسائس خصومه"(81). ثم حذف من التمثيلية الحواشي المتطرفة التي كتبها بومارشيه، وحول ما بقي إلى نص إيطالي يضارع خير نصوص متاستازيو.

كانت قصة "زوتج فيجارو" هي المتاهة القديمة التي تتشابك فيها الاستخفاءات والمفاجآت والاكتشافات واستغفال الخدم الذكي لسادتهم: وكل هذا مألوف في الكوميديا منذ عهد ميناندر وبلوتس. وسرعان ما أحب موتسارت الموضوع، وألف الموسيقى بسرعة تكاد تبلغ سرعة تشكل النص، فتم الاثنان في ستة أسابيع. وفي 29 إبريل 1786 كتب موتسارت الافتتاحية، وفي أول مايو حالف النجاح العرض الأول للأوبرا. وربما كان بعض الفضل في نجاحها لبنوتشي، الباصو المرح الجهوري الصوت، الذي غنى دور فيجارو ولكن لابد أن الفضل الأكبر لحيوية الموسيقى وملاءمتها للمناسبة، والألحان رائعة مثل شكاة كيروبينو "ما الذي تعرفونه (Voi Che Sapete)، وتوسل الكونتيسة توسلاً حاراً فيه ضبط للنفس إلى إله الحب في لحن الحب "Porgi Amor" وقد استعيدت الألحان غير مرة حتى استغرق العرض مثلي الوقت العادي، وفي نهايته طلب الجمهور موتسارت مرات ليظهر على خشبة المسرح.

وكانت حصيلة إخراج "فيجارو" في فيينا وبراغ خليقة بأن تعين موتسارت على الوفاء بديونه عاماً لولا إسرافه ولولا تكرار مرض زوجته وحملها. وفي إبريل 1787 انتقلا إلى بيت أقل تكلفة، في رقم 224 شارع لاند شتراسي. وبعد شهر مات ليوبولد مخلفاً لولده ألف جولدن.

وكلفته براغ بأوبرا أخرى. واقترح بونتي مغامرات دون جوان الجنسية موضوعاً لها. وكان ترسو دي مولينا قد عرض "الدون" الأسطوري على المسرح بمدريد في 1630 تحت اسم "مخادع إشبيلية"، وروى موليير القصة في باريس وسماها "وليمة الحجر" (1665) وقدمها جولدوني في البندقية باسم "دون جوفاني تنوريو" (1736) وكان فنتشنتي ريجيني قد عرض "وليمة الحجر" في فيينا عام 1777، وفي عام 1787 هذا نفسه كان جوزيبي جاتسانيجا قد أخرج بالعنوان ذاته أوبرا سطا بونتي على أسطر كثيرة منها، ومن بينها قائمة مرحة بخطايا جوفاني.

وعرفت "أعظم الأوبرات قاطبة" (كما سماها روسين) أول مرة في براغ في 29 أكتوبر 1787). وذهب موتسار الكونستانتسي إلى العاصمة البوهيمية ليشهدا هذا الحادث، وكثرت الحفاوة بهما إلى حد دعاه إلى تأجيل تأليف الافتتاحية حتى عشية العرض الأول، وفي منتصف الليل "بعد قضاء أبهج أمسية يمكن تصورها(82)" ألف قطعة أقرب ما تكون إلى موسيقى فاجنر في إيذانها بالعناصر التراجيدية والكوميدية للتمثيلية. ووصلت نوتة الافتتاحية إلى الأوركسترا بالضبط في الوقت المحدد للأداء(83). كتبت جريدة فيينا تسايتونج تقول "مثلت اليوم الاثنين أوبرا الموسيقار موتسارت "دون جوفاني" التي طال انتظارها.....ويجمع الموسيقيون وأهب الخبرة على أن مثل هذا العرض لم يرَ في براغ قط من قبل. وقاد الهر موتسارت بشخصه الموسيقيين، وكان ظهوره في الأوركسترا إيذاناً بترديد الهتاف الذي تكرر عند خروجه(84)".

وفي 12 نوفمبر عاد الزوجان السعيدان إلى فيينا. وبعد ثلاثة أيام مات جلوك، وعين يوزف الثاني موتسارت ليخلفه رئيس موسيقيي الحجرة للبلاط. وبعد معاناة شديدة مع المغنين أخرجت "دون جوفاني" بفيينا في 17 مايو 1788 دون أن تلقى استحساناَ يذكر. وأدخل موتسارت وبونتي عليها المزيد من التغيير والتبديل، ولكن الأوبرا لم تحظَ قط في فيينا بالنجاح الذي حظيت به في براغ ومانهايم وهامبورج. وشكا ناقد برليني فقال أن "التمثيلية الهازلة" عدوان على الفضيلة. ولكنه أردف "إن كان لأمة من الأمم أن تفخر بأحد أبنائها، فإن لألمانيا أن تفخر بموتسارت مؤلف هذه الأوبرا(85)". وبعد تسع سنوات كتب جوته إلى شيلر "إن آمالك التي ترجوها للأوبرا تحققت بوفرة في دون جوفاني(86)" وتحسر أن موتسارت لم يعش ليكتب موسيقى فاوست.

لم تلبث حصيلة دون جوفاني أن نفذت، ولم يكفِ راتب موتسارت المتواضع لشراء الطعام إلى بالجهد. وقبل إعطاء التلاميذ دروساً خصوصية ولكن التدريس كان عملاً مرهقاً مضيعاً للوقت. وعليه فقد انتقل إلى مسكن أرخص في ضاحية فيرنجر شتراسي. ومع ذلك تكاثرت عليه الديون. فاقترض أينما استطاع-خصوصاً من تاجر كريم وأخ في الماسونية يدعى ميخائيل بوشبرج. وقد كتب إليه موتسارت في يونية 1788 يقول: "ما زلت مديناً لك بثماني دوقاتيات. ورغم أني في هذه اللحظة لست في وضع يمكنني من سداد هذا المبلغ لك، فإن ثقتي فيك لا حد لها، بحيث أجرؤ على التوسل إليك بأن تسعفني بمائة جولدن حتى الأسبوع القادم وهو الموعد المحدد لبدء حفلاتي الموسيقية في الكازينو. عندئذ سأكون بالتأكيد قد تسلمت نصيبي الذي وعدتُ به فأستطيع بغاية السهولة أن أرد لك 136 جولدناً مقروناً بأحر عبارات شكري(87)". وأرسل أليه بوشبرج المائة جولدن. وشجع هذا موتسارت، فرجاه (17 يونيو) في إقراضه ألف جولدن أو ألفين لمدة عام أو عامين بفائدة مناسبة "وكان قد ترك متأخرات من إيجار بيته القديم دون أن يدفعها، فهدده المالك بحبسه، فاستدان موتسارت ليؤدي له دينه. والظاهر أن بوشبرج لم يوافه بكل ما طلب، لأن المؤلف اليائس أرسل إليه توسلات جديدة في يونيو ويوليو. وفي تلك الشهور النكدة المزعجة ألف موتسارت "السمفونيات الكبرى" الثلاث.

ثم رحب بدعوة أتته من الأمير كارل فون لشنوفسكي ليركب معه إلى برلين. واقترض لتلك الرحلة مائة جولدن من فراتنز هوفدميل. وغادر الأمير والصعلوك فيينا في 8 إبريل 1789. وفي درسدن عزف موتسارت أما الأمير الناخب فردريك أغسطس فظفر بمائة دوقاتية. وفي ليبزج عزف في حفلة عامة على أرغن باخ، وتأثر بترتيل فرقة "تماستولي" ليموتيته باخ "أنشدوا للرب". Singet Dem Herron. وفي بوتسدام وبرلين (28 إبريل إلى 28 مايو) عزف لفردريك وليم الثاني، فنفحه بسبعمائة فلورين، مع تكليف بست رباعيات وست صوناتات. ولكن مكاسبه أنفقت بسرعة عجيبة، وقد عزت شائعة غير مؤكدة بعض هذا الإنفاق إلى صلة غرام بمغنية برلينية تدعى هنرييته بارونيوس.(88) وفي 23 مايو كتب إلى كونستانتسي يقول "أما عن عودتي فعليكِ أن تتطلعي إليّ أنا أكثر من التطلع إلى النقود(89)" ووصل أرض الوطن في 4 يونيو 1789.

واحتاجت كونستانتسي، التي كانت حاملاً مرة أخرى، إلى الأطباء والعقاقير وإلى رحلة غالية للاستشفاء بمياه بادن-باي-فيين. وفزع موتسارت إلى بوشبرج مرة أخرى:

"يا إلهي العظيم! لست أتمنى لأعدى أعدائي أن يكون في موقفي الراهن. إنكَ لو تخليت عني يا أعز صديق وأخ (ماسوني) لقضي علينا قضاء مبرماً-نفسي التعسة البريئة وزوجتي المريضة المسكينة وأطفالي...فكل شيء رهن...بموافقتك على إقراضي خمسمائة جولدن أخرى، وإلى أن تسوى أموري أتعهد بأن أرد لك عشرة جولدنات كل شهر، ثم أسدد لك المبلغ كله. يا إلهي! لا أكاد أقوى على حمل نفسي على إرسال هذا الخطاب، ومع ذلك فلابد مما ليس منه بد! اغفر لي بالله، فقط اغفر لي!(90)".

وأرسل له بوشبرج 150 جولدناً أنفق أكثرها في سداد فواتير كونستانتسي في بادن. وفي 16 نوفمبر، ولدت في بيتهم بنتاً ماتت في اليوم نفسه. وأعانه يوزف الثاني بأن كلفه هو وبونتي بكتابة، "مسرحية هازلة" عن موضوع قديم (استخدمه ماريفو في لعبة الحي والحظ 1730): خلاصتها إن رجلين يتنكران لاختبار وفاء خطيبتيهما فيجدان فيهما ليناً ورخاوة، ولكنهما يغفران لهما على أساس أن كل النساء هكذا "Cosi Fan Tutte" ومن هنا اسم الأوبرا "هكذا يفعلن جميعاً". ولم يكن الموضوع بالذي يتفق ومزاج موتسارت المأساوي آنئذ (إذا استثنينا قليلاً من العبث بدر من كونستانتسي في بادن)، ولكنه قدم للنص البارع الظريف موسيقى هي التجسيد الكامل للبراعة والظرف، وندر أن مجد هراء بمثل ما مجد به هذا الهراء. وقد لقي عرض الأوبرا الأول في 26 يناير 1790 نجاحاً لا بأس به، وأعيد العرض أربعة مرات في شهر واحد، وكانت الحصيلة مائة دوقاتية لموتسارت. ثم مات يوزف الثاني (20 فبراير)، وأغلقت مسارح فيينا أبوابها حتى 12 إبريل.

وراود موتسارت الأمل في أن يجد له الإمبراطور الجديد عملاً، ولكن ليوبولد الثاني تجاهله. وكذلك تجاهل بونتي فرحل إلى إنجلترا وأمريكا، وانتهى به المطاف (1838) مدرساً للإيطالية فيما هو الآن جامعة كلومبيا بنيويورك(91). واستنجد موتسارت بيوشبرج من جديد (29 ديسمبر 1789، 20 يناير، 20 فبراير، 1،8، 23 إبريل 1790)، ولم يرده خائباً قط، ولكن ندر أن تلقى منه كل ما طلب. وفي أوائل مايو طلب ستمائة جولدن ليؤدي ما استحق عليه من إيجار، فأرسل إليه بوشبرج مائة. واعترف ليوشبرج في 17 مايو "أنني مضطر للالتجاء إلى المرابين" وفي ذلك الخطاب ذكر أنه لم يبق له من تلاميذه سوى اثنين، ورجا صديقه "أن يذيع بين الناس أنني مستعد لإعطاء الدروس(92)" على أن ما به من توتر الأعصاب وضيق الخلق كان يحول بينه وبين إجادة التعليم. وكان أحياناً يخلف مواعيده مع تلاميذه وأحياناً يلعب معهم البليارد بدلاً من أن يعطيهم درساً(93). ولكنه كان إذا وجد طالباً ذا موهبة مبشرة بذل له نفسه دون تحفظ، وهكذا نراه يعلم يوهان هومل في اغتباط وبنجاح، وقد تتلمذ له (1787) وهو لا يزال في الثامنة، وأصبح عازفاً شهيراً للبيانو في الجيل التالي.

وأضافت الأمراض الخطيرة آلاماً إلى أحزان موتسارت. وقد شخص طبيب أوجاعه بأنها "التهاب مفرز لحويصلة الكلية مصحوب بتقيح، وتضررات بؤرية كامنة، تفضي بالضرورة إلى عجز كلوي تام(94)". وهذا معناه التهاب في الكلى صديدي مضعف. كتب إلى بوشيرج في 14 أغسطس 1790 يقول "إنني اليوم في منتهى التعاسة لم يغمض لي جفن في الليلة البارحة لشدة الألم...تصور حالي-عليل تتوشني الهموم والمنغصات...ألا تستطيع إعانتي بمبلغ تافه؟ إنني أرحب جداً بأقل مبلغ". وأرسل له بوشبرج عشرة جولدنات.

واتخذ موتسارت رغم سوء حالته الصحية خطوة يائسة ليعول أسرته. ذلك أنه تقرر تتويج ليوبولد بفرانكفورت في 9 أكتوبر 1790. وكان في حاشية الإمبراطور سبعة عشر موسيقياً للبلاط، ولكن موتسارت لم يدعَ. ومع ذلك ذهب بصحبة فرانتز هوفر زوج أخته وعازف الفيولينه. ورهن موتسارت آنية الأسرة الفضية ليغطي نفقة الرحلة. وفي فرانكفورت عزف وقاد في 15 أكتوبر كونشرتو البيانو في مقام D (ك537)، الذي ألفه قبل ثلاث سنوات، ولكن شاءت نزوة من نزوات التاريخ أن تسميه "كونشرتو التتويج"-وهو ليس من أفضل موسيقاه. كتب لزوجته يقول "لقد نجح نجاحاً باهراً من حيث الشرف والمجد، ولكنه أخفق من حيث المال(95)". وقفل إلى فيينا دون أن يزيد ما كسبه عما أنفق إلا قليلاً. وفي نوفمبر انتقل إلى منزل أرخص في راوهنشتاينجاسي حيث قدر له أن يلقى منيته.

مرضه ووفاته

وأعانته على الحياة عاماً آخر ثلاثة تكليفات وافته في تتابع سريع. ففي مايو 1791 عرض عليه إيمانويل شيكانيدر، الذي كان يخرج الأوبرات والتمثيليات الألمانية في مسرح بإحدى ضواحي، مخططاً لنص يدور حول ناي سحري، ورجا أخاه في الماسونية أن يؤلف موسيقى للنص، فقبل موتسارت. ولما ذهبت كونستانتسي وهي حبلى مرة أخرى إلى بادن-باي فيين في يونيو، قبل دعوة شيكانيدر أن ينفق نهاره في بيت وسط حديقة قرب المسرح حيث يستطيع تأليف "الناي السحري" تحت حث المدير وإلحاحه. أما الأمسيات فقد صحب فيها شيكانيدر في حياة الليل بالمدينة. يقول يان "كانت الحماقة والترف الرفيقين الحتميين لمثل هذه الحياة، وسرعان ما وصلت أنباؤهما إلى آذان الجماهير...فلوثت اسمه شهوراً بقدر من القدح فوق ما يستحق(96)". ووسط هذه الاسترخاءات وجد موتسارت وقتاً للركوب إلى بادن (على أحد عشر ميلاً من فيينا) ليزور زوجته التي ولدت له فولفجانج موتسارت الثاني في 26 يوليو.

في ذلك الشهر وافاه طلب من غريب مجهول الاسم، يعرض عليه مائة دوقاتية يؤلف لقاءها سراً قداساً جنائزياً، ثم يرسله إليه دون أي إعلان لاسم المؤلف. وتحول موتسارت من مرح "الناي السحري" إلى موضوع الموت، وإذا هو يتلقى في أغسطس تكليفاً من براغ بتأليف أوبرا لا كلمانزا دي تيتو، "La Clemenza Di Tito" "شفقة تيتو" تمثل هناك في مناسبة وشيكة هي تتويج ليوبولد الثاني ملكاً على بوهيميا. ولم يتح له غير شهر واحد لوضع موسيقى جديدة لنص متاستازيو القديم. وعكف عليه في مركبات مهتزة وفنادق صاخبة أثناء رحلته مع زوجته إلى براغ. وغنيت الأوبرا في 6 سبتمبر دون أن تحظى إلا باستحسان وسط. وكانت الدموع تترقرق في عيني موتسارت وهو يغادر المدينة الوحيدة التي ناصرته من قبل، ويدرك أن الإمبراطور شهد فشله. ولم يكن له من عزاء إلا أجر المائتي دوقاتية، والنبأ اللاحق بأن إعادة عرض الأوبرا في براغ 30 سبتمبر لقي كل النجاح.

في ذلك اليوم قاد من البيانو أول عرض للناي السحري. والقصة كانت في بعضها من قصص الجان، وفي بعضها تمجيداً لشعائر الدخول في الماسونية. وأفرغ موتسارت خير فنه في تأليف موسيقاها وإن اتبع معظم الألحان لخط ميلودي بسيط يناسب جمهوره المؤلف من الطبقة الوسطى. وقد أغدق فيضاً من الزوقات (الكولوراتورا) على "ملكة الليل"، ولكنه كان بينه وبين نفسه يسخر من غناء الكواوراتورا ويشبهه بــ"الشرائط المقطعة"(97). ومارس الكهنة الذي يفتتح الفصل الثاني موسيقى ماسونية، ولحن كبير الكهنة "In Diesen Leiligen Hallen" "في هذه القاعات المقدسة لا نعرف شيئاً عن الانتقام، ومحبة الداخلين في الإيمان لإخوانهم من البشر هو المبدأ الهادي"-هذا اللحن هو زعم الماسونية بأنها ردت أخوة البشر التي تبشر بها المسيحية من قبل. (قارن جوته بين الناي السحري والجزء الثاني من فاوست، الذي بشر هو أيضاً بالأخوة، وإذ كان هو نفسه ماسونياً فقد قال عن الأوبرا إن لها "معنى أسمى لن يغيب عن أعضاء الجماعة"(98). ولقي العرض الأول نجاحاً قلقاً، وصدم النقاد ذلك المزج بين الفوجة والمرح(99)، على أن الناي السحري ما لبث أن أصبح أحب أوبرات موتسارت إلى الناس، وأحب الأوبرات قبل فاجنر وفردي. وقد أعيد أداؤه مائة مرة خلال أربعة عشر شهراً من العرض الأول.

وجاء هذا النصر الأخير وموتسارت يشعر بيد الموت تمسه. وكأن القدر أراد أن يؤكد سخريته، إذ تلقى الآن من جماعة من نبلاء المجريين تعهداً باشتراك سنوي قدره ألف فلورين، ثم عرض عليه ناشر أمستردامي مبلغاً أكبر حتى من نظير اختصاصه بحق طبع بعض أعماله. ثم تلقى في سبتمبر دعوة إلى لندن من بونتي، فرد عليه قائلاً "كان بودي أن اتبع نصيحتك، ولكن كيف أستطيع؟...إن حالتي تنبئني بأن ساعتي قد حانت، وأنا موشك على فراق الحياة. وقد أتت النهاية قبل أن أستطيع إثبات موهبتي. ومع ذلك كانت الحياة جميلة"(100).

وفي شهوره الأخيرة أفرغ عافيته المتداعية في تأليف "القداس الجنائزي" وراح يعكف عليه أسابيع عديدة عكوفاً محموماً. فلما حاولت زوجته أن تصرفه عنه إلى شواغل أقل جهامة قال لها "إنني أكتب القداس الجنائزي لنفسي، وسيصلح صلاة لمأتمي"(101) وألف لحن "يا رب أرحم" Kyrie وأجزاء من "يوم الغضب" والبوق السماوي Yuba Mirum "والملك الموهوب" Rex Tremendae واذكرني Recordare و"الباكية" Lacrimosa و"أيها الرب" و"المدانون Confutatis" و"القرابين" Hostias. وقد ترك هذه الأجزاء المتناثرة دون مراجعة، وهي تشي باضطراب عقل يواجه الانهيار. وقد اكمل فرانتز زافير زوسماير "القداس الجنائزي" على نحو رائع.

وفي نوفمبر بدأت يدا موتسارت ورجلاه تتورم ورماً مؤلماً، وأصابه شلل جزئي. فاضطر إلى لزوم فراشه، في تلك الأمسيات حين كانت أوبرا "الناي السحري" تمثل كان يضع ساعته إلى جواره ويتابع كل فصل في خياله، مدندناً بالألحان أحياناً. وفي آخر يوم من حياته طلب نوتة القداس الجنائزي، ورتل دور الألتو، ورتلت السيدة شاك السوبرانو، وفرانتز هوقر التنور، والهر جيرل الباص. فلما بلغوا "الباكية" بكى موتسارت. وتنبأ بأنه سيموت الليلة. وناوله كاهن الأسرار المقدسة الأخيرة. وقرب المساء فقد الوعي، ولكنه فتح عينيه منتصف الليل بقليل ثم أدار وجهه إلى الحائط وسرعان ما انتهت آلامه (5 ديسمبر 1791).

ولم تستطع زوجته ولا أصدقاؤه أن يشيعوه كما ينبغي أن يشيع. صلي على الجثمان في كنيسة القديس إسطفانوس في 6 ديسمبر، ودفن في فناء كنيسة القديس مرقص. ولم يشتر له قبر، بل أدلي الجثمان في قبو عام صنع ليتلقى أجساد خمسة عشر أو عشرين من الفقراء المعدمين. ولم تحدد الموضع علامة من صليب أو نص، فلما ذهبت إليه أرملته بعد أيام لتصلي، لم يستطع أحد أن يدلها على البقعة التي ضمت رفات موتسارت.

شهرته وشخصيته

Unfinished portrait of Mozart by his brother-in-law Joseph Lange

لم يوهب موتسارت فتنة الجسد. فقد كان قصير القامة، رأسه أكبر مما يناسب جسمه، وأنفه اضخم من أن يلائم وجهه، وشفته العليا راكبة على السفلى، وحاجباه الكثيفان يحجبان عيناه القلقتين، لا يروع الناظر إليه غير شعره الأشقر الغزير. وفي سني عمره اللاحقة حاول التعويض عن عيوب قامته وقسماته باللباس البهي: قميص من الدنتلا، وسترة زرقاء، ذات ذيول، وأزرار ذهبية وسراويل تصل إلى الركبة ومشابك فضية فوق حذائه(56). ولم يكن الناظر إليه ينسى مظهره إلا وهو يعزف على البيانو، عندها تضطرم عيناه بالتركيز الشديد، وتخضع كل عضلة في بدنه نفسها لحركة ذهنه ويديه.

وكان في صباه متواضعاً طيب القلب، واثقاً بالناس محباً لهم، ولكن ما ظفر به من شهرة مبكرة، وما اغتذى عليه كل يوم تقريباً من التصفيق والاستحسان، أحدث عيوباً في خلقه. وقد حذره ليوبولد (1778) قائلاً "إنك يا بني سريع الغضب مندفع...شديد التحفز للرد في لهجة ساخرة على أول تحد"(57). واعترف موتسارت بهذا وبأكثر منه. فكتب يقول "لابد أن انتقم لنفسي إن أساء إنسان، فإذا لم أرد لعدوي الصاع صاعين أراني إنما جازيته صاعاً بصاع ولم أعاقبه"(58). ثم كان أشد الناس غلواً في تقدير عبقريته. "إن الأمير كاونتز أخبر الأرشيدوق بأن أمثالي لا يجود بهم الزمان إلا مرة كل مائة عام(59).

وكان يسود خطاباته ويظهر في موسيقاه روح الفكاهة حتى آخر سني عمره. وكان هذا الروح عادة ضاحكاً معابثاً في براءة، يشتد أحياناً فيصبح هجاء جاداً، وفي شبابه كان بين الحين والحين ينحرف إلى فحش القول وهجره. وقد مر بمرحلة من الافتتان بالغائط. وحين كان في الحادية والعشرين كتب لابنة عمه ماريا أنا تكلا موتسارت تسعة عشر خطاباً تلوثها سوقية لا تصدق(60). وأشاد خطاب كتبه لأمه بالتطبل (أي امتلاء البطن بالغازات) نثراً وشعراً(61) ولم تكن أمه شديدة الاحتشام، فقد نصحت زوجها في خطاب كتبته له فقالت "اعتن بصحتك يا حبيبي، وادفع عجزك إلى فمك" ويبدو أن هذه العبارات "القعرية" كانت عرفاً سائداً في أسرة موتسارت وبيئتها، ولعلها كانت ميراثاً من جيل أشد شبقاً. على أنها لم تمنع موتسارت من أن يكتب لأبويه وشقيقته خطابات تفيض بأرق الحب. وكان في زعمه عريساً بكراً. فهل كان زوجاً وفيا؟ لقد اتهمته زوجته بــ"مغازلات الخدم(63)" ويقول كاتب سيرته المخلص:

"وانتشرت الشائعات بين الجمهور وفي الصحف، وبولغ في وصف لحظات نادرة من الضعف عنده، فجعلت سمات مميزة لخلقه. فنسبت إليه مغازلة كل تلميذة من تلاميذه وكل مغنية كتب لها أغنية، وكان يعد من الفكاهات أن يلقب بالسلف الأول لدون جوان(64)".

وقد نجم عن كثرة لزوم زوجته الفراش للوضع، وتكرار أسفارها إلى المنتجعات الصحية وغيابه عنها في جولاته الموسيقية، وحساسيته لكل مفاتن النساء، واختلاطه بالمغنيات الفاتنات والممثلات المتحررات-نجم عن هذا كله موقف كانت فيه المغامرة لا مفر منها تقريباً. وقد روت كونستانتسي كيف أنه أعترف لها بــ"حماقة" من هذا النوع ولمَ غفرتها له-"لقد كان طيباً جداً بحيث يستحيل على الإنسان أن يغضب منه" ولكن أختها تقص أنباء تفجرات عنيفة بينهما بين الحين والحين(65). ويلوح أن موتسارت كان شديد التعلق بزوجته، وقد أحتمل عيوبها ربة للبيت، وكان يكتب لها أثناء فراقهما خطابات تفيض إعزازاً كإعزاز الأطفال(66).

ولم يكن موفقاً من الناحية الاجتماعية. من ذلك أنه قسا في الحكم على بعض منافسيه "إن صوناتات كلمنتي عديمة القيمة...فهو مشعوذ ككل الإيطاليين(67)". "بالأمس أسعدني الحظ بالاستماع إلى الهر فريهولت يعزف كونشرتواً من تأليفه التعس. ولم أجد فيه إلا القليل جداً مما يستحق الإعجاب(68)". ولكنه امتدح الرباعيات التي نشرها مؤخراً أجنازبلييل وإن نافست رباعياته. ووبخه أبوه لأنه يبغض الناس فيه بصلفه(69)، وأنكر موتسارت الصلف، ولكن لا نكران في أنه لم يكن له إلا قلة ضئيلة من الأصدقاء بين موسيقيي فيينا، وأن روحه المتكبرة ألقت العقبات في طريق تقدمه. ذلك إن حظ الموسيقى في النمسا وألمانيا كان يعتمد على الطبقة الأرستقراطية، وقد رفض موتسارت أن يقدم النبالة على العبقرية. ثم إنه عانى من معوق آخر هو أنه لم يختلف قط إلى المدرسة أو الجامعة. ولم يكن أبوه قد أتاح له متسعاً من الوقت للتعليم العام. وقد أقتنى موتسارت فيما اقتنى من كتب قليلة دواوين شعر لجسنر وفيلاند وجلليرت، ولكن يبدو أنه استعملها في الكثير الغالب مصدراً لنصوص ممكنة للأوبرات. وكان قليل الاكتراث للفن أو الأدب, وكان في باريس حين مات فولتير، فلم يستطع أن يفقه لم ضجت المدينة هذا الضجيج الكثير بسبب زيارة الثائر الهرم وموته. كتب لأبيه يقول "إن هذا الوغد الكافر فولتير قد نفق كأنه كلب، كأنه حيوان! وهذا جزاؤه الحق(70)". وقد تشرب بعض العداء لرجال الدين من أخواته الماسون، ولكنه شارك في موكب لعيد القربان المقدس وهو يمسك شمعة في يده(71).

ولعل سذاجة عقله هي التي جعلته محبوباً رغم أخطائه. فالذين لم ينافسوه في الموسيقى وجدوه أنيس المعشر بشوشاً رفيقاً هادئ الطبع عادة. كتبت أخت زوجته صوفي فيبر "لم أرَ موتسارت طوال حياتي هائج الطبع، ولا حتى غاضباً(72)". ولكن هناك روايات تناقض هذه. وكان بمثابة الحياة لكثير من الحفلات الخاصة، دائم الرغبة في العزف، دائم الاستعدادات لنكتة أو لعبة. وكان يحب البولنج، والبليارد، والرقص، ويبدو أحياناً فخوراً برقصه أكثر من موسيقاه(73). وإذا لم يكن كريماً سمح النفس مع منافسيه، فإنه كان أريحياً دون تفكير تقريباً مع كل من عداه. وندر أن رد سائلاً. فأقترض منه ضابط أوتار البيانو المرة بعد المرة دون أن يرد قروضه. وكان موتسارت لا يخفي احترامه الشديد للمال، ولكن مرد ذلك أنه كان يفتقر أشد الافتقار إلى الوقت أو الميل للتفكير في المال، حتى أنه كثيراً ما أعوزه هذا المال. وإذ اضطر إلى الاعتماد على وسائله في كسب المال، واضطر إلى أن يعول أسرة بمنافسة عشرات الموسيقيين الغيورين منه فقد أهمل شؤون ماله، وسمح لمكاسبه أن تتسرب من بين أصابعه دون اكتراث منه، وأنحدر إلى درك الإملاق اليائس وهو يكتب أروع موسيقى جيله في سمفونياته الثلاث الأخيرة وأوبراته الثلاث الأخيرة.


أعماله، أسلوبه الموسيقي، وابداعاته

برع موزارت في كافة أنواع التأليف الموسيقي تقريباً, منها 22 عملاً في الأوبرا و41 سيمفونية وأعمالاً كثيرة أخرى من الموسيقى الكنسية وموسيقى الكونشيرتو. اتسم أسلوبه في الكثير من أعماله بالمرح والقوة, كما أنتج موسيقى جادة لدرجة بعيدة, من أهم أعماله السمفونية رقم 41 (جوبيتر) ودون جيوفاني والناي السحري.


أسلوبه

توقيع موتسارت.
A facsimile sheet of music from the Dies Irae movement of the "Requiem Mass in D Minor" (K. 626) in Mozart's own handwriting. It is located at the Mozarthaus in Vienna.


تأثيره


فهرس كوخل

فهرس كوخل، أول مؤلف موسيقي يضع فهرساً لأعماله التي نشرت للمرة الأولى عام 1862.

في الثقافة العامة

عمال يثبتون لوحة تصور الموسيقي النمساوي موتسارت في صالة كريستيز بپاريس، نوفمبر 2019.

في 27 نوفمبر 2019، بيعت لوحة فنية نادرة للموسيقي النمساوي موتسارت مقابل أربعة ملايين يورو في مزاد بفرع دار كريستيز في پاريس لتفوق بفارق كبير تقديرات الدار قبل البيع والتي تراوحت بين 800 ألف و1.2 مليون يورو.[6]

ورُسمت اللوحة الفنية عام 1770، وهي واحدة من أربع لوحات فنية للموسيقار النمساوي رُسمت أثناء حياته ولا تزال جزءاً من مجموعة خاصة. وهي منسوبة للرسام الإيطالي جيامبيتينو تشينارولي.

وتصور اللوحة الزيتية المرسومة على قماش موتسارت في سن الثالثة عشر بشعر مستعار ومعطف أحمر وهو يعزف على القيثارة فيما تظهر النوتة الموسيقية بتفاصيلها عند حافة إطار اللوحة فحسب. وقالت أستريد سنتنر، رئيسة قسم اللوحات القديمة في فرع دار المزادات البريطانية بباريس "الأمر المثير للغاية في هذه اللوحة هو النوتة الموسيقية. في الواقع إنها لم تُعرف إلا من خلال تلك اللوحة، لذا قال بعض‭‭ ‬‬المتخصصين في الموسيقى إنها ربما من أعمال موتسارت نفسه". وكان موتسارت وقت رسم اللوحة يتنقل في إيطاليا حيث واصل تعليمه الفني وكان يقيم حفلات موسيقية في أنحاء ذلك البلد.

ورسمت هذه اللوحة بطلب من بييترو لوجاتي، المسؤول العام عن الضرائب في مدينة البندقية، والذي شاهد موتسارت وهو يعزف في حفل بمدينة فيرونا في يناير عام 1770.



انظر أيضاً

هناك كتاب ، ڤولفگانگ أماديوس موتسارت، في معرفة الكتب.


هوامش

  1. ^ Sources vary in how Mozart’s name should be pronounced in English. Fradkin (1996), a guide for radio announcers, strongly recommends [ts] for letter z, but otherwise considers English-like pronunciation fully acceptable; thus /ˈwʊlfɡæŋ æməˈdeɪəs ˈmoʊtsɑrt/.
  2. ^ Mozart's exact name involved many complications; for details see Mozart's name.
  3. ^ Solomon 1995, p. 44
  4. ^ ديورانت, ول; ديورانت, أرييل. قصة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود.
  5. ^ Vatican 1770
  6. ^ "بيع لوحة نادرة لموتسارت بمبلغ فاق التوقعات في مزاد بباريس". رويترز. 2019-11-27. Retrieved 2019-11-27.

المصادر

مراجع
مراجع أخرى

وصلات خارجية

Wikiquote-logo.svg اقرأ اقتباسات ذات علاقة بڤولفگانگ أماديوس موتسارت، في معرفة الاقتباس.
Wikisource
Wikisource has original works written by or about:
مواد مصورة، منشورة (كتب، نوتات موسيقية)
نوتات موسيقية




الكلمات الدالة: