مشروع خزان بحيرة تانا
شغل مشروع بناء خزان بحيرة تسانا الحكومة المصرية والرأي العام المصري فترة طويلة بلغت أقصاها سنة 1933 عندما عقد مؤتمر في أديس أبابا ضم مصر وأثيوبيا والسودان والشركة الهندسية الأمريكية التي اسند اليها بناء مشروع هذا الخزان. وكانت بريطانيا وراء هذا المشروع التي اهتمت به كثيرا لأمور سياسية بحتة هي الحفاظ على نفوذها ومصالحها في أثيوبيا وحماية منابع النيل الأثيوبية من أطماع الدول فيها.
ولقد ظلت بريطانيا تحرص دائما على أن تظل منابع النيل الاثيوبية في مأمن من وقوعها في أيدي أجنبية قد تكون معادية لها وبالتالي يضر بمركزها في مصر والسودان كما تضر الزراعة وسكان هاتين البلدين (195). لذلك ففي أواخر القرن الماضي وابان التنافس الفرنسي الانجليزي في أعالي النيل، وبالرغم من تحالف ايطاليا مع انجلترا، فان الأخيرة عقدت مع الأولى اتفاقية في سنة 1891 أبدعت بموجبها ايطاليا عن منابع النيل الأثيوبية، وكان كريسبي رئيس الوزراء الايطالي يرغب في ضمها اليه، كما تعهدت ايطاليا بعدم انشاء أي مشروع على نهر العطبرة قد يعدل من تدفق مياهه في النيل. واعترفت كذل بمنطقتين كانت من بينها منابع النيل الأثيوبية على أنهما خاضعتان للنفوذ البريطاني (196).
وتأكد حرص بريطانيا على هذه المنابع في المعاهدة التي وقعت مع الامبراطور منليك في سنة 1902 والتي تعهد فيها بعدم تنفيذ أي مشروع يعوق تدفق المياه منها الى مصر والسودان بدون موافقة بريطانيا وحكومة السودان. وقد تبع ذلك أن أرسلت مصر بعثة متخصصة في أعمال الري والمساحة لدراسة منطقة بحيرة تسانا والنيل الأزرق حتى تؤكد هذا الحق الذي حصلت عليه من منليك أمام الدول الأخرى. وكما استطاعت بريطانيا أن تحصل على اعتراف منليك بحقوق مصر والسودان في هذه المنابع، حصلت أيضا على اعتراف من ايطاليا وفرنسا سنة 1906 بهذه الحقوق بل وبأن منطقة بحيرة تسانا منطقة نفوذ ومصالح بريطانية (197). ويلاحظ هنا أن بريطانيا لم ترسل بعدها بعثة دراسة الى هذه المنابع لأنها كانت قد حصلت على اعتراف دولي منهم وبالتالي لم يكن هناك داعلي لارسال هذه البعثة.
على أن بوفاة منليك سنة 1913 وازدياد النفوذ الألماني في أثيوبيا كان لابد لبريطانيا من تأكيد ما حصلت عليه في سنة 1902 من الحكام الجدد في أثيوبيا وخصوصا عندما استجد عامل آخر هو قيام الحرب العالمية الأولى ودخول بريطانيا في حرب من ألمانيا. لذلك فقد دخلت بريطانيا في مفاوضات مع الحكومة الأثيوبية الجديدة أثمرت عن موافقتها على ارسال بعثة بكلي، واعتبرت بريطانيا أن موافقة أثيوبيا على ممارسة هذه البعثة لأعمالها في منطقة تسانا هو اعتراف ضمني منها لحقوق بريطانيا ومصر والسودان في هذه المنطقة. على أن الاضطرابات الشديدة التي عمت أثيوبيا في هذه الفترة أدى الى عودة البعثة الى مصر بدون أن تتم دراستها (198).
وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، والتي دخلتها بريطانيا في جانب الحلفاء على أمل أنه في حالة الانتصار، تحصل على بعض مستعمرات ألمانيا في أفريقيا، لم تأخذ ما كانت ترغب فيه واعتبر الحلفاء أن ما حصلت عليه ايطاليا في أوروبا أكثر قيمة مما كانت ترغب في الحصول عليه في أفريقيا وبالتالي أصيبت ايطاليا بخيبة أمل شديدة جعلها تفكر في العمل على ضم أثيوبيا اليها (199). وساعد على ذلك أن بريطانيا رفضت ما عرضته ايطاليا علهيا في نوفمبر سنة 1919 وهو الخاص بأن تؤيد ايطاليا بريطانيا عند حكام أثيوبيا في أن تحصل على امتياز بناء خزان على بحيرة تانا. في مقابل أن تؤيد بريطانيا ايطاليا في أن تحصل على امتياز بناء خط حديدي يربط أريتريا بالصومال الايطالي مارا بغرب اديس أبابا. وعللت بريطانيا عدم موافقتها على اقتراح ايطاليا هذا. بأنها ترفض فكرة الترخيص لدولة أجنبية (ايطاليا) بفرض أي نوع من الرقابة على منابع النيل الأثيوبية اللازمة لرخاء مصر والسودان (200).
وتلى هذا الرفض، أن أرسلت بريطانيا بعثة جرابهام التي أوصت ببناء خزان بحيرة تسانا وعندما وجدت أن الرأس تفري قد لا يعترف بتعهد منليك في معاهدة سنة 1902 ، بدأت تدخل في مفاوضات معه لكي تحصل على تعهد مشابهة لتعهد منليك (201).
من العرض السابق نجد أن بريطانيا لم تكن ترغب في بناء الخزان لأنه خارج عن نفوذها فهو يقع في أثيوبيا وبالتالي فوقوع هذا الخزان في حالة انشائه تحت نفوذ دولة معادية لبريطانيا تنجح في السيطرة على أثيوبيا يهدد النفوذ البريطاني في مصر والسودان (202). والدليل على ذلك أنها نالت تعهد منليك سنة 1902 ثم اعتراف الدول في المعاهدة الثلاثية في سنة 1906 فلماذا لم تبن هذا الخزان في هذه الفترة بالرغم من أن الظروف كانت متاحة لذلك، بل أنها عندما أرادت التوسع في الأراضي الزراعية في سهل الجزيرة بالسودان بنت سد مكوارا (203). واذا كانت بريطانيا لوحت ببناء خزان بحيرة تسانا فقد كان ذلك لهدفين الهدف الأول دولي وهو الحفاظ على هذه المنابع الأثيوبية من الأطماع الايطالية (204) والثاني استخدامه في تهديد الرأي العام المصري والحكومة المصرية لتحقيق أغراضها وتدعيم سيطرتها على مصر والسودان (205).
وبدأت المفاوضات بين بريطانيا وأثيوبيا، حاولت فيها بريطانيا أن تطمئن الحكومة الأثيوبية بأن بناء هذا الخزان لن يكون ماسا باستقلالها لهما الفوائد التي تعود من وراء هذا الخزان وتعهدت بدفع أثمان الأملاك والأبنية والأراضي التي تغمرها مياه الخزان. وقد اقتنعت الحكومة الأثيوبية وأرسلت الى القاهرة في سنة 1921 وفدا للوقوف على مطالب الحكومة الانجليزية والاطلاع على مشروع الخزان (206). وقد طلبت الحكومة البريطانية من الحكومة الأثيوبية استئجار البحيرة لمدة 99 عاما. على أن الحكومة الاثيوبية رفضت ذلك لأنه يعني وضع جزء من أثيوبيا تحت النفوذ البريطاني (207)، وهكذا فشلت هذه الجولة من المفاوضات بين بريطانيا وأثيوبيا.
وانتهزت بريطانيا فرصة زيارة الرأس تفري لها في جولته التي قام بها في سنة 1924، وتفواض معه رئيس وزراء بريطانيا. على أن هذه المفاوضات لم تثمر شيئا في هذا الموضوع (208). وعندما علم الرأي العام المصري بهذه المفاوضات طالبت حكومته بالتصدي لمحاولات بريطانيا هذه وذكروا أن الهدف من انشاء الخزان هو احكام سيطرتها على كل من مصر والسودان وذلك عن طريق السيطرة على مياه النيل الأزرق وتوجيهها الى مشروع الجزيرة (209). كما طالب أيضا بضرورة انشاء تمثيل سياسي مع أثيوبيا حتى تستطيع مصر بواسطته معرفة كل ما يحدث في هذا الموضوع من تطورات (210)، واقترح التنازل عن دير السلطان الذي يطالب به الرأس تفري حق لا ينساق لمطالب بريطانيا في منطقة بحيرة تسانا (211).
على أن الحكومة المصرية لم تفعل شيئا ازاء ذلك بل أنها قدمت استقالتها بعد أن رفضت انذار المندوب السامي البريطاني عقب مقتل السردار وحاكم السودان السير لي ستاك (212).
ولما لم تسفر المفاوضات البريطانية الأثيوبية عن شئ، بالاضافة الى التغيرات السياسية في ايطاليا ووصل الفاشيست الى الحكم فيها وانتهاجهم سياسة جديدة طابعها التوسع والاستعمار بهدف استعادة مجد الامبراطورية الرومانية ولم يكن هناك من مجال لهذا سوى المناطق المجاورة للمستعمرات الايطالية في شرق افريقيا. وكان القناصل الايطاليون قد مهدوا السبيل اذ مسحوا أثيوبيا واتصلوا ببعض زعمائهم لشراء ضمائرهم استعدادا لضمها الى امبراطوريتهم المقترحة (213). كذلك رأت بريطانيا أن التعاطف مع الايطاليين قد يخفض من خطورة تهريب السلاح الى السودان من المستعمرة الايطالية أريتريا (214). لذلك فقد قبلت حكومة المحافظين ما كانت عرضته ايطاليا على بريطانيا في سنة 1919. وتم ذلك في صورة خطابات متبادلة بين السفير البريطاني في روما وموسوليني رئيس الوزراء الايطالي ، اعترف فيه الأخير بحق بريطانيا في أن تحصل على امتياز اقامة خزان على بحيرة تسانا لخدمة الري في مصر والسودان واقامة طريق يصل بين البحيرة وحدود الوسدان. أي أنه يعترف بأن منطقة منابع النيل الأثيوبية منطقة نفوذ بريطانية، وذلك في مقابل أن تحصل الحكومة الايطالية من حكومة أثيوبيا على امتياز اقامة سكة حديد من أريتريا الى الصومال الايطالي. وقد احتج بشدة الرأس تفري، عندما علم بهذا الاتفاق، لدى حكومتي ايطاليا وبريطانيا وعصبة الأمم (215). وبالرغم من أنه لم يترتب شئ على هذا الاتفاق فانه أثار الرأي العام المصري ضد بريطانيا وطالب حكومته بضرورة التصدي لها لوقف محاولاتها هذه في السيطرة على مياه النيل وبالتالي على مصر والسودان وطالب بضرورة انشاء تمثيل سياسي مع أثيوبيا وهو ما تقرر فعلا في أوائل 1927 (216).
على أن بريطانيا – بالرغم من احتجاج أثيوبيا هذا – سعت بمفردها عند الحكومة الأثيوبية لكي تنال اعترافا منها بحق بناء هذا الخزان. ففي مايو سنة 1927 أرسل معتمد بريطانيا في أديس أبابا مذكرة الى الراس تفري أشار فيها الى تعهد منليك في معاهدة سنة 1902 ، وعلى أساسه تطلب بريطانيا الحصول على اذن لبناء الخزان على بحيرة تسانا حتى يمكنها الاستفادة بمياه الخزان في رفاهة شعبي مصر والسودان. وتعهدت الحكومة البريطانية بالحفاظ على الكنائس الموجودة داخل البحيرة وحولها كما أنها ستعوض السكان المحليين - حول البحيرة – عن أي ضرر قد يتسبب لهم بل سيستفيدون أيضا من اتمام هذا العمل كما أن أي حقوق قد تكسبها بريطانيا من الاشراف على الخزان أو النيل الأزرق لن تمس حقوق السيادة الأثيوبية أو استقلالها الذي هو نقطة أساسية في سياسة حكومة بريطانيا (217).
ولذلك فان حكومة بريطانيا تقترح على الحكومة الأثيوبية بناء على تعهد منليك في سنة 1902 ابرام معاهدة جديدة تقو م على أساس أن يسمح بانشاء الخزان على البحيرة، ودخول المهندسين والعمال المهرة وغير المهرة الضرورين لانشاء الخزان والمحافظة عليه. وبعد الانتهاء من بناء الخزان تخفض أعداد هؤلاء الفنيين الى العدد الملائم لتنظيم العمل بالخزان بعد ذلك. ويسمح لهم ببناء المباني الضرورية لاقامتهم. وعلى الحكومة الأثيوبية أن تسهل للحكومة البريطانية الحصول على المواد اللازمة للبناء في الأماكن القريبة من البحيرة، كذلك تسهيل استخدام الأثيوبيين في عملية البناء. كما تسمح الحكومة الأثيوبية أيضا لبريطانيا باستخدام البواخر الصغيرة والقوارب لنقل الأدوات المطلوبة، وانشاء طريق من القلابات الى البحيرة بهدف نقل الأدوات الضرورية للعمل وتكون معفاة من الجمارك والضرائب المحلية. وتتعهد الحكومة البريطانية بالمحافظة على حقوق السكان القاطنين على ضفتي النيل الأزرق على طول مجراه في الأراضي الأثيوبية في استعمال المياه لأغراضهم المدنية وللزراعة الضرورية لأرضهم ولكن لا تبذل أي محاولة لوقف سريان المياه الى النيل الأزرق أو فروعه بأي وسيلة مما يتعارض مع معاهدة سنة 1902 وترتبط بريطانيا بأنه بعد بناء الخزان لا يزيد سطح ماء البحيرة عن أعلى مستوى يسجله وقت الفيضان. وتعطي الضطان الكامل أن لا يحدث ضرر للكنائس، كذلك تعهدت بريطانيا بدفع المبالغ الآتية: 30 ألف جنيه عند اتمام الخزان، وفي حالة عدم اتمامه في مدى ثلاث سنوات بعد التوقيع تدفع عشرة آلاف جنيه سنويا بعد انتهاء هذه النسوات الثلاث حتى تمام العمل. كذلك تدفع 100 ألف جنيه عند اتمام الخزان ايجار قدره 20 ألف جنيه سنويات خلال السنوات الخمس الأولى من بناء الخزان و30 ألف جنيه في الخمس السنوات التالية ثم 40 ألف جنيه لخمس سنوات ثالثة وبعد انتهاء هذه المدد يبحث الموقف من أجل تقدير المخزون في البحيرة. ويتفق على أن مقدار الايجار يعادل الفائدة وحسابها يكون على أساس متوسط الخمس سنوات التالية لابرام الاتفاق ويعمل مثل ذلك كل عشر سنوات (218).
على أن الرأس تفري لم يوافق على المذكرة ولا على المقترحات التي عرضت عليه لابرام معاهدة جديدة مع بريطانيا بشأن هذا الخزان، الا أنه ذكر أنه سيبني خزانا على البحيرة بالأموال الأثيوبية اذا أمكن ذلك. وبعد حجز الماء الذي تحتاجه أثيوبيا لحاجتها فان الحكومة الأثيوبية تؤجر الباقي الى حكومة السودان. وفي حالة تأليف شركة لبناء الخزان، يمكن للشعب البريطاني أن يساهم فيها بقدر ما تسمح به أثيوبيا. ومع ذلك يجب أولا مناقشة الأمر للوصول الى اتفاق يبيح تاليف شركة لمعرفة مبلغ الايجار ومدة سريان الاتفاق وما شابه ذلك. وأشار أيضا الى أنه اذا كانت الحكومة البريطانية راغبة في حل لهذه المسألة فان – الرأس تفري – سيكتب تسويدة للاتفاق يعرضها عليها وذلك في ردها (219).
وبعد ذلك فترة أرسل الرأس تفري مندوبه د. مارتن الى أمريكا للتفاوض مع شركة هندسة أمريكية مركزها مدينة نيويورك بشأن خزان بحيرة تسانا (220). وكان الدافع وراء اختيار شركة أمريكية في أمريكا ليست لها أطماع في أثيوبيا كما أن هذا الاختيار يجنب أثيوبيا من تغلغل النفوذ البريطاني فيها وقد يؤدي بناؤها للخزان هذا الى السيطرة على هذه المنطقة. كذلك فان منح بريطانيا امتياز بناء الخزان، سيجبر الحكومة الأثيوبية الى منح ايطاليا بناء خط حديدي يربط بين إريتريا والصومال الايطالي (221). وكان السبب وراء اختيار شركة هوايت الهندسية الأميريكية انها قدمت أحسن عرض لبناء هذا الخزان لمندوب الرأس تفري ابان وجوده في الولايات المتحدة (222).
وبالرغم من أن رحلة مارتن الى أمريكا كانت للتفاوض فقط مع الشركة الأمريكية وليس الارتباط الذي لن يتم الا بعد أن تعرض نتائج هذه المفاوضات على الرأس تفري وعلى قراره يترتب عليه الارتباط أم لا ، بالرغم من ذلك فقد ثار الرأي العام الانجليزي وهاجم هذه المفاوضات وأثيوبيا وأمريكا التي لامها لوما شديدا ونعتها بالخيانة (223). أما بالنسبة للحكومة البريطانية فقد جاء أرسلت رسالة الى معتمدها في أديس أبابا ليبلغها الى الرأس تفري جاء فيها "وذلك ردا على رسالته التي أرسلها اليها في أواخر سبتمبر 1927 ، لفتت نظره فيها الى ارتباط أثيوبيا بتعهد منليك في سنة 1902 وضرورة الحفاظ على هذا التعهد. وأوضحت له أن السودان لا يحتاج الى مياه خزان بحيرة تسانا لمدة سبع أو ثمان نسوات. أي أنه لن يجد من يشتري منه الماء الباقي بعد أن تأخذ أثيوبيا احتياجاتها منه. أما بالنسبة لاختياره للشركة الأمركية فقد وافقت عليه حفظا لماء وجه الأثيوبيين واعتبرته ذا أهمية ثانوية. ولكنها اشترطت أنه بعد بناء السد يجب أن يكون الاشراف من حق سلطات الري في مصر والسودان، وأن تتعهد الحكومة الأثيوبية باستمرار سريان الماء المعتاد غير كاف. وقد رأت الحكومة البريطانية في اختيار هذه الشركة، وذلك في حالة موافقة الأخيرة على هذين الشرطين، وان التعاون معها قد يسهل كثيرا من اعتراضات الحكومة الاثيوبية أكثر من اختيار شركة بريطانية ذات وجهة أثيوبية (224).
وعندما علمت مصر بمفاوضات د. مارتن مع الشركة الأمريكية المتعلقة بخزان بحيرة تسانا، قامت ضجة كبرى فيها شملت الرأي العام المصري والحكومة المصرية. فقد هاجم الرأي العام المصري هذا المشروع المزمع تنفيذه، وطالب حكومته بالتدخل فورا فوقفه (225). وقال أحد زعماء مصر في ذلك الوقت (مصطفى النحاس باشا) أن هذا الأمر خطيرة فانشاء سد على مخرج بحيرة دون أن تضع مصر شروطه وشروط تصيرف مياهه بصورة يضمن لها حقوقها الثابته فيه عمل يعرض حياتها للخطر وليس في استطاعتها أن تقره أو تسكت عليه. وأبدى دعشته من أن تقدم أثيوبيا على هذا العمل وهي جارة مصر وعلاقاتها بها قوية من فجر التاريخ حتى اليوم الذي هي فيه أقوى مما كانت. فقد ساهمت الحكومة المصرية في حل مشكلة تعيين مطران مصري لكنيستها، كما تقرر انشاء تمثيل سياسي لمصر في أديس أبابا. وظهرت محبة المصريين للأثيوبيين في أسمى معانيها عندما زار الرأس تفري مصر في سنة 1924 ، وطالب في حالة صحة هذا الاتفاق، الحكومة المصرية ألا تغض الطرف عن هذا الأمر لأن فيه مساسا بحقوقها المكتسبة على مياه النيل الأزرق ولا يسوغ انشاء سد عليه من غير اتفاق على الحكومة المصرية للمحافظة على تلك الحقوق (226).
وقد كانت هناك عدة اقتراحات نادى بها الرأي العام المصري، كوسائل مختلفة يمكن أن يأخذ بها لحل هذه المشكلة منها أن تستنجد مصر بالشعب والحكومة الأميريكية مشيرة الى الأخطار التي تهددها من جراء تنفيذ هذا المشروع وتطلب منها ايقافه، والا ضاع موقف أمريكا في نظر الشرق (227). واقتراح آخر يقول أن بريطانيا التي دافعت عن حقوق مصر في مياه النيل منذ القرن الماضي ستدافع عن حقوق مصر مرة أخرى لصيانة مياه النيل الأزرق، ودعا الى التحالف معها والعمل على الانضمام لعصبة الأمم (228). واقتراح ثالث يدعو الى الاتصال بالحكومة الأثيوبية والتفاوض معها رأسا وتدعيم علاقات مصر بها ونبذ أي اتجاه معاد لها في مصر. كذلك فقد نادى بعضهم بالاحتياط من بريطانيا خشية أن تنتهز هذه المسألة وتوهم المصريين بأهميتها لهم ودعا الى الاتفاق مع أمريكا وأثيوبيا بدون تدخل الانجليز في هذا الموضوع (229).
وكما تأثر الرأي العام المصري بهذه المسألة تأثرت الحكومة المصرية أيضا فقد اجتمع مجلس الوزراء في دار أحدهم اجتماعا غير رسمي شرح فيه وزير الأشغال مشروع خزان بحيرة تسانا. وبعد أن بحثوا الموضوع قرروا أن يرسلوا نتيجة بحثهم بقريا الى عبد الخالق ثروت باشا رئيس الوزراء الذي كان في لندن وقتها (230)، وقد ذكروا بأن خبر منح حكومة أثيوبيا امتيازا في بانشاء الخزان على البحيرة الى شركة أمريكية أحدث قلقا شديدا في الرأي العام المصري دعا الحكومة على درء الخطر فاجتمع الوزراء وسمعوا لشرح وزير الأشغال الذي أكد الضرر الذي سيصيب مصر في حالة بناء هذا الخزان، اذ أن ايراد البحيرة في زمن التحاريق يمثل 6% من ايراد النيل الأزرق الذي يمثل 25% من المياه التي تصل مصر في هذه الفترة والباقي من النيل الأبيض. وتعتمد مصر مدة التحاريق على الكمية التي ترد اليها من مياه النيل الأزرق كل الاعتماد بحيث ترى ضرورة زيادتها وأعربوا في نهاية برقيتهم عن مدى خطورة اعطاء امتياز مشروع خزان تسانا بدون أن يكون لمصر في هذا العمل وبدون أن تحقق لها الرقابة الكاملة عليه (231). كما أرسل مجلس الوزراء برقية الى وزير مصر المفوض في واشنطن يطلبون منه اخبارهم بآخر تطورات هذا الموضوع أولا بأول (232).
ولم يهتم كثيرا عبد الخالق ثروت رئيس الوزراء بهذه البرقية لأنه بالتأكيد علم بالتعليمات التي أرسلتها وزارة الخارجية البريطانية الى معتمدها في أثيوبيا ليبلغها الى الرأس تفري والتي سبق أن ذكرت من قبل. وأكد ارتباط مصر ببريطانيا في هذا الموضوع، وتؤيدها في كل ما تقوم به من اجراءات تتعلق به (233). كذلك بدأ الرأي العام المصري يهدأ عندما صرح د. مارتن مندوب الرأس تفري في بيان نشرته الصحف المصرية وقتها، نفى فيه ما أشيع كذبا عن هذا الاتفاق المزعوم، وأكد أن أثيوبيا صديقة لمصر ولا يمكن أن تضرها وأنها تعمل كل ما في وسعها لخير مصر (234).
ومع ذلك فقد استمرت المفاوضات سرا بين بريطانيا وأثيوبيا وشركة هوايت الهندسية الأمريكية التي وافقت عليها انجلترا وتعاونت معها (235). ومع أن مصر لم تشترك في هذه المفاوضات فان قنصلها في أديس ابابا كان يخبرها بكل تطورات الموقف في العاصمة الأثيوبية (236). وقد انتهت هذه المفاوضات الى عقد مؤتمر يحضره مندوب كل من السودان وأثيوبيا والشركة الأمريكية للتفاوض في شأن الخزان (237). وعندما علمت مصر عن طريق قنصلها بعقد هذا المؤتمر طلبت من المندوب السامي البريطاني الاشتراك فيه الا أنه رفض. وأبلغها بأن بريطانيا سوف تتشاور معها في أي اتفاق قد يحدث بشأن الخزان أو تقسيم المياه الذي سيخزن فيه أو تكاليف العمل أو الايجار الواجب دفعه لأثيوبيا (238).
وتم عقد المؤتمر في أوائل سنة 1930 وحضره مندوب السودان مستر ماكجريجور مستشار الري بها، مستر لاردنر نائب رئيس شركة هوايت الهندسية الأمريكية، ووزير الخارجية الأثيوبية بلاتن جيتا هيروي، وقد ووفق في المؤتمر على بناء طريق يصل بين أديس ابابا والبحيرة بدلا من الطريق الذي يربط السودان بالبحيرة. وعندما أراد المؤتمر البحث في المسائل الفنية والمالية المتعلقة ببناء الخزان والطريق لم يجد في تقرير بعثة جرابهام البيانات اللازمة للاستعانة بها في بحثه هذا، وعلى ذلك قرر أن تنتدب الشركة الأميريكية لجنة من مهندسيها لتحضير هذه البيانات وبعد أن تنتهي منها، ويبدأ المؤتمر من جديد في عقد جلساته أي بعد عام تقريبا (1931) (239)، وقد دفعت حكومة السودان تكاليف هذه اللجنة المكلفة بتحضير البيانات اللازمة لبناء الخزان والطريق (240).
وقد قدمت اللجنة تقريرها بعد أن انتهت منه، وكان من المفروض أن يعقد المؤتمر مرة أخرى لدراسة هذا التقرير واتخاذ القرار في مصير الخزان، الا أن بريطانيا طلبت تأجيهل الى مارس 1932 وكان السبب في هذا التأجيل التكاليف الباهظة التي قدرتها اللجنة لبناء الخزان والطريق المقترح من أديس أبابا الى البحيرة. ولما كان السودان لا يستطيع أن يعينهم بشئ في أية مصاريف اضافية يتطلبها المسح الجديد للمنطقة والتي أوصت به الشركة الهندسية بسبب الظروف المالية التي سادت العالم في هذا الوقت. فان بريطانيا فاتحت الحكومة المصرية في اشتراكها في المفاوضات مقابل مساهمتها في تنفيذ هذا المشروع. وقد وافقت الحكومة المصرية على التمويل والاشتراك في المؤتمر (241).
واستغلت بريطانيا موافقة مصر على الاشتراك في المؤتمر وطلبت تأجيله الى شتاء عام 1933 وذلك لدعوة مصر الى حضوره ومنحها الفرصة لكي تنتهي من أبحاثها واحتياجاتها المالية، وبالفعل وجهت أثيوبيا الى مصر الدعوة لحضور المؤتمر الذي حدد له شهر فبراير عام 1933 (243).
وبمجرد أن علم الرأي العام المصري بعودة هذا المشروع مرة أخرى حتى ثار وشن هجوما شديدا على المشروع (244)، على أن هذا الهجوم لم يثن الحكومة المصرية عن اختيار من يمثلها في حضور المؤتمر وقد اختير عبد المجيد عمر مدير الخزانات بوازرة الأشغال (245). وبدأ وضع الخطة المشتركة بين مصر والسودان التي ستتبع في المؤتمر وكانت تتمثل في وضع العراقيل التي تؤدي الى تأجيل هذا المؤتمر مرة أخرى ، وعلى ذلك سافر المندوبان – مصر والسودان – الى المؤتمر واتفق فيه على ان تدفع مصر نفقات المسح الاضافي الذي عن طريقه تخفض التكاليف الكلية للمشروع وهذه النفقات تقدر بحوالي 50.000 جنيه مصري (247). وقد دفعت الحكومة المصرية هذا المبلغ بالرغم من المعارضة الشديدة التي وجدتها من البرلمان والرأي العام المصري (248).
وبالرغم من انتهاء الشركة من المسح الاضافي وتقديمها للتقرير فان هذا المؤتمر لم ينعقد مرة أخرى وظلت الحكومة البريطانية تؤجل فيه حتى لا تتخذ القرار ببنائه وذلك حتى سنة 1935 عندما استغلت بريطانيا تدهور الموقف بين ايطاليا وأثيوبيا وأجلت المؤتمر بحجة أن ايطاليا قد تعتبره تأييدا من بريطانيا ومصر لاثيوبيا ضدها (249). وهكذا يتضح من العرض السابق أن بريطانيا اتبعت كل الوسائل لتأجيله وان كانت في نفس الوقت لم تظهر هذه الرغبة بل أظهرت اهتمام به حتى تحافظ على مصالحها ونفوذها في مصر والسودان وأثيوبيا وتحمي منابع النيل الأثيوبية من الأطماع الدولية.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .