محاكمة سليمان الحلبي
الفصل الثانى عشر "محاكمة سليمان الحلبي" (1800) نموذج لعدالة الفرنسيس في مصر.(*)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مقدمة
فى تاريخ مصر الحديث شخصيات عديدة خرج منها البعض وهو يحمل هالات الشرف والعظمة والمجد مع أنه كان أفاقا أو مذنبا أو مضللا؛ كما خرج بعض الشرفاء والوطنيين بوصمة عار، وتوارى بعضهم في التاريخ عن الخزى الذى يلاحقهم ظلما وعدوانا مع أنهم كانوا لا يبغون سوى مصلحة الوطن. وما أكثر الشخصيات التى برزت في الأذهان بشكل يناقض الواقع، وظهرت في عالم الحقيقة بسيرة أخرى.
ودور الباحث في التاريخ ليس حشد الوقائع وإعادة عرضها، وإنما دوره يحتم عليه إظهار هذه الشخصيات على حقيقتها مبرأة من الزيف والمبالغة أو التشويه.
وهذا لا يعنى أنه يؤدى دور القاضى يدين من يدين ويبرئ، من يبرئ ؛ كما أنه لا يعنى استدعاء الموتى، وإنابة من يحضر عن الغائبين خاصة وإن العدالة في الأحكام التاريخية لا تتحقق بسهولة، وإنما يعنى أن البحث عن الحقيقة يتطلب الغوص في بطون الوثائق والمؤلفات المعاصرة للحدث دون افتراض سابق أو التمسك باتجاه معين يمكـن عن طريقه وضع المركبة أمام الحصان، وتقديم الأدلة والأسانيد المتسمة بالتعليل والنقد والتحليل والفحص والاستقصاء والموضوعية المجردة البعيدة عن الشطط أو المبالغة والتحيز حتى يتم وضع الأمور في سياقها الصحيح.
وقصة الصاق الوطنية بسليمان الحلبى، وعدالة الفرنسيس خلال محاكمته ربما توضح لنا أحد الأمثلة على ما يحدث في التاريخ من تزييف وتضليل. من المعروف أن العدالة كلمة مثالية رائعة، وهى من الكلمات الحية الخالدة التى كانت وما تزال رمز النظام والحق في الحياة الاجتماعية. فالعدالة عند الفلاسفة هى إحدى الفضائل الأربع للسلوك الانسانى وهى الحكمة، والشجاعة، والعفة، والعدالة. والعدالة في اللغة تعنى الإنصاف أى اعطاء الانسان حقوقه مقابل ما عليه من واجبات( )
كما عرف أحد القانونيين العدالة بأنها شعور كامن في النفس البشرية يوصى به الضمير المستنير من أجل اعطاء كل ذى حق حقه( ) دون تحيز لدين أو لون أو جنس، ورؤية المسائل من وجوهها المتعددة، وأن يستمع إلى كافة وجهات النظر بما فيهم الخصوم. وعلى الرغم من أن الشريعة الإسلامية تحث على العدل والأمر به، كما أن الآيات القرآنية تحرم الظلم، وتتوعد الظالم بالعقاب( ) فان سير العدالة في مصر خلال القرنين السابع عشر، والثامن عشر كانت تخضع لطائفة من أصحاب النفوذ والسطوة، خاصة وأن أنظمة الحكم في تلك الفترة لم تكن مستقرة أو منظمة، كما كانت مناصب القضاء تباع وتشترى، وتعرض في سوق المساومة، فترسو على من يدفع أكثر لذلك تفشت الرشوة، وعمت الفوضى في إدارة القضاء.
وأصبحت وظيفة القاضى موضع الزراية سواء في نظر الناس أو جمهور العلماء( )بعد أن أصبح أصحابها يحكمون وفق أهوائهم غير مبالين بأحكام الشريعة أو غيرها. ( ) وإلى جانب ذلك فقد كان الحكام واتباعهم يعتدون على الأهالى، ويقتلونهم متى شاءوا دون مبالاة لعدالة أو قانون. ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما حدث للمصريين خلال حكم مراد بك وإبراهيم بك قبيل قدوم الحملة الفرنسية على مصر، حيث عكف كل منهما على ملذاته وشهواته، والتحكم في أموال الناس، وأعراضهم، والاستيلاء على كل ما ليس من حقهما حيث لا نظام، ولا عدل ، ولا أمن ، ولا أمان. ومـا حدث أيضا بعد خروج الحملة عندما استعان الوالى العثمانى أحمد خورشيد باشا بالجند الدلاة (الدلاتية) ( ) الذين ظلموا أهالى البلاد وتهروهم لدرجة تمنى معها أكثر الناس وخصوصا الفلاحين عودة الحكم الفرنسى.
وقد صور الجبرتى الذى يعد تاريخه صورة صادقة لعصره ما حدث، وحكم على وقائع تلك الفترة، وعلى رجالها ما شاء له تقديره فبين أن الشريعة شئ، وتنفيذ أحكامها شئ آخر، وأن المصريين تعرضوا للكثير من الظلم والعنت فذكر أن أوباش العساكر (يقصد العثمانيين) الذين يدعون الإسلام، ويزعمون أنهم مجاهدون يجترئون على أزهاق الأرواح، وعلى هدم البنية الانسانية لمجرد ما فيهم من شهوة حيوانية فاستباحوا النساء والأموال دون وازع من دين أو خلق. ( ) وإلى جانب ذلك فقد كان الحكام يقتلون المتهم أو من يرغبون في جعله متهما فور القبض عليه سواء كان بريئا أو مذنبا، وسواء اعترف بجريمته أو لم يعترف. وكانت طريقة القتل المتبعة عندهم تتم بأبشع الطرق التى تتنافى مع أبسط حقوق الإنسانية، مثل الخوزقة أى وضع المتهم على الخازوق، أو التوسيط بمعنى قطع جسمه من وسطه بالمنشار أو السيف( ) أو السلخ أى سلخ جلده من جسمه، ووضعه تحت أشعة الشمس الحارقة أو التمزيق أى ربط كل من يديه ورجليه بأربعة أحصنة تضرب بشدة فيجرى كل منها في اتجاه مما يؤدى إلى تمزيق جسم المتهم. ونتيجة لانعكاس تلك الأساليب على فكر الجبرتى فقد أعجب بالطريقة التى اتبعها الفرنسيون أثناء التحقيق مع سليمان الحلبى وقدم شرحا وافيا لنظام المحاكمة،( ) ولم يقتصر ذلك الإعجاب على الجبرتى بل أن الكثير من الناس كانت تتشوق نفسه إلى الإطلاع عليها لتضمينها خبر الواقعة، وكيفية الحكومة ولما فيها من الاعتبار، وضبط الأحكام من هذه الطائفة التى تحكم العقل. ( ) وهكذا يبدو واضحا الفرق بين المماليك والفرنسيين في تنفيذهم للعدالة، فالمماليك وجنودهم كانوا يتصرفون بطيش وحمق يعدمون المتهم دون محاكمة فهو في نظرهـم مذنبا حتى تثبت براءته بينما كان الفرنسيون يجرون أحكامهم وفقا لأصول التحقيقات الحديثة المرسومة في قوانين الإجراءات التى تنص على الميل إلى العدل، وعلى أن المتهم برئ حتى تثبت ادانته. هذا بالإضافة إلى تشدقهم بآراء روسو في كتابه العقد الاجتماعى( ) بضرورة الوقوف في العقوبات عند الحدود اللازمة. لذلك كانت إجراءات التحقيق، ونظام المحاكمة أمرا عجيبا لدى الجبرتى، وهو ما دفعه إلى سردها ، وحث الناس على معرفتها.
شخصية القاتل والهدف من فعلته
وقبل أن نتطرق إلى القبض على سليمان الحلبى، وطريقة محاكمته ينبغى أن نلقى الضوء على شخصية هذا الشاب الوافد من الشام إلى مصر، والذى ارتكب أول جريمة عنف سياسي في تاريخ مصر الحديثة، ولم يشاركه في معرفتها أو التخطيط لها أى مصري.
أنه سليمان بن محمد أمين (1777-1800) له من العمر 24 سنة، سورى الأصل. ولد ونشأ في حلب، وأقام في القاهرة ثلاث سنوات بهدف تلقى العلم في الأزهر ثم غادر مصر، وعاد إلى حلب للالتحاق بأحد الجوامع كقارئ للقرآن الكريم وهناك قابل بعض الأغوات العثمانيين الذين كلفوه بقتل جان بايتسيت كليبر Jean Baptist Kleber سارى عسكر الفرنسيس فعاد إلى مصر في 14 مايو 1800. والسؤال هل كان دافع سليمان في قتل كليبر له أهداف وطنية أو دينية. الواقع أن دوافع سليمان في تنفيذ جريمته رغم حماسه الدينى لم تكن بهدف وطنى أو ديني محض، وإنما كان دافعه تخليص والده الحاج محمد أمين تاجر الزبد والسمن في مدينة حلب من اضطهاد ابراهيم باشا التركي حاكم حلب نظرا لأن هذا الحاكم فرض عليه غرامة كبيرة. وكان قد وعده أحمد أغا رئيس فرقة الانكشارية بحلب بتخليص والده من هذه الغرامة، كما وعده يسن أغا حاكم غزة برفع الاضطهاد عن أبيه، وان يشمله هو بحمايته في جميع المناسبات إذا قام باغتيال قائد الجيش الفرنسى، الذى هزم الصدر الأعظم يوسف باشا في ساحة هليوبوليس وزوده بالتعليمات المناسبة واعطاه أربعين قرشا تركيا لمصاريف سفره( )ومعنى ذلك أن ما حدث يمكن تصنيفه بأنه جريمة اغتيال قام بها مأجور دفعته إلى فعلته روح المصلحة وليس تعصبا لدين أو لوطن كما ورد في كثير من الكتابات.
ويوضح ذلك أن سليمان الحلبى بعد أن أتم فعلته قام خلال التحقيق معه بتوريط بعض زملائه الذين كان قد بين لهم نواياه في قتل كليبر، هذا إلى جانب صياحه أثناء تنفيذ الحكم عليه، واستغاثاته وتفوهه بكلمات غير مفهومة وكأنه يطلب النجاة وامساكه بالجلاد يبعده عن نفسه تارة، ويسأله العفو والرحمة تارة أخرى. وهذا لا يفعله صاحب مبدأ أو عقيدة، وإنما يدل على ضعف العزيمة، وعدم القدرة على ضبط النفس، وعلى شعوره بارتكاب خطأ مما يبعد فكره إلصاق قيامه بمهمة وطنية أو دينية كان يمكن عن طريقها الصمود، وتذكرنا واقعة تاريخية مماثلة مر عليها حوالى ثلاثة قرون قبل مقتل كليبر بالفرق البين بين موقف رجل يدافع عن بلاده وهو طومان باي الذى قاوم الغزو العثماني لمصر ولم يهتز أو يفزع او يستسلم أثناء تنفيذ حكم الإعدام فيه بل ظل صامدا، وطلب من الناس أثناء ذهابه إلى المشنقة ان يقرءوا عليه الفاتحة ثلاث مرات، ثم قرأ هو الفاتحة ثلاث مرات. وقرأت الناس معه ثم قال للمشاعلى أعمل شغلك. فلما شنق وطلعت روحه صرخت عليه الناس صرخة عظيمة، وكثر عليه الحزن والأسف. أما سليمان الحلبي فلم يكن يمثل هذه الشجاعة، كما أنه لم يمتلك عطف الناس، ولم يحزن عليه أحد، بل وصل الأمر بالجبرتى ان وصفه بأنه رجل "أفاقى أهوج".
قد يقول البعض أن أوجه الشبه بين طومان باى وسليمان الحلبى بعيدة فالأول كان قائدا عسكريا بينما سليمان كان مدنيا. أقول ان التاريخ يذكرنا بالعديد من الوطنيين المدنيين لم يجزع أو يستنجد مثلما فعل سليمان عندما ذهب إلى ساحة الاعدام، وأن الانسان الذى يدافع عن دين أو وطن يتمسك دائما برباطة الجأش والقدرة على التحكم في النفس طالما ظل مقتنعا أنه يدافع عن قضية عادلة يستشهد في سبيلها.
كيفية حدوث الجريمة
بعد أو وصل سليمان إلى القاهرة، واتخذ مقامه في الجامع الأزهر كاشف أربعة من مقرئي القرآن من طلاب الأزهر مولودين مثله في بلاد الشام –وكان على سابق معرفة بهم- بما عزم عليه من قتل قائد الفرنسيس وهم محمد الغزي، والسيد أحمد الوالي، وعبد الله الغزي، وعبد القادر الغزي وخلال ذلك أخذ سليمان يتربص لضحيته، فعبر النيل إلى الجيزة- التى كان كليبر يقيم فيها مؤقتا ريثما يتم إصلاح قصره بسراى الألفي بالأزبكية- بهدف تتبع خطوات كليبر وهناك عرف بساعات وجوده في داره بالأزبكية، فعبر النيل مرة أخرى على هيئة سائل واتجه إلى الروضة وظل يتتبع الأمر حتى علم بموعد نزول كليبر إلى بستانه للمشى كعادته كل يوم. وتمكن سليمان من دخول البستان وهو يحمل خنجرا أخفاه في سرواله دون أن يشعر به أحد من الحراس وهناك وجد كليبر بصحبه بروتان Protaian المهندس المعمارى وعضو لجنة العلوم والفنون لتفقد أعمال بعض الترميمات والاصلاحات، فاقترب منه وكانه يريد أن يستجديه أو يتوسل إليه.
فأشار عليه كليبر بالرجوع وقال له "مافيش" وكررها فلم يرجع، وأوهمه أن له حاجة وهو مضطر في تقديمها إليه، فلما دنا منه مد إليه يده اليسار وكأنه يريد تقبيل يده فمد إليه الآخر يده، فقبض عليها، وضربه بخنجر كان قد أعده في يده اليمنى أربع ضربات متوالية حتى مزق بطنه، وظهرت أمعاؤه، وسقط إلى الرض صارخا تحت ضربات الجانى. وعبثا حاول المهندس "بروتان" انقاذ الجنرال فلم تنفعه شجاعته، ولم ينفعه عصاه التى حاول بها ابعاد سليمان عن ضحيته، وأصيب هو الآخر بستة جروح قضت على مقاومته.
القبض على الجاني ومحاكمته
وبعد أن انتهى "سليمان الحلبي" من جريمته، وانزوى عن الأنظار جد الفرنسيون في البحث عن الجانى ولم يتمكنوا من ضبطه إلا بعد أن قامت جارية سوداء كانت قد شاهدت ما وقع من شباك بمنزل سيدها المطل على بستان منزل كليبر. وقد رأت القاتل عندما اختفى وراء حائط متهدم في الحديقة الملاصقة لدار القيادة الفرنسية فصاحت على الجند الذين كانوا يبحثون عنه، ودلتهم على مكانه. ( ) وكانت دلائل الجريمة ظاهرة في المكان الذى قبض عليه فيه؛ فالحائط الذى كان مختفيا وراءه كان به آثار دماء، كما أن ملابسه كانت هى الأخرى ملوثة بالدم، يضاف إلى ذلك أن آلة القتل (الخنجر) التى استخدمها القاتل في جريمته قد عثر عليها مخضبة بدماء القتيل في الحديثة نفسها، كما عثر على بعض أثمال تتعلق بالمتهم( ) منها جزء من عمامته التى تمزقت اثناء محاولات المهندس "بروتان"- الذى كان مرافقا لكليبر- تعقب الجانى، ومنها قطعة قماش مصبوغة باللون الأخضر وهى من لباس القاتل.
وبعد التحقيق من سليمان وسؤاله عن أصله وسبب فعلته واعترافه بأنه تربص بكليبر، وأنه كان مصمما على قتله، وانه حضر إلى مصر من أجل ذلك لم يتعجل الفرنسيون قتله( ) أو قتل من أخبر عنهم رغم إقراره بجريمته بعد ضربه بالعصا وتعذيبه عذابا إليما( ) بل أصدر الجنرال مينو- الذى تولى قيادة الجيش الفرنسى بعد مقتل كليبر- أصدر أمرا بتشكيل محكمة عسكرية من تسعة أعضاء لمحاكمة القتلة، فرتبوا محاكمة على طريقتهم في أخذ القصاص( )، واحضروا القاتل، وكرروا عليه السؤال والاستفهام مرة بالقول ومرة بالعقوبة في محاولة منهم لمعرفة شركائه في الجريمة،( ) وكان التحقيق في القضية يتجه في أحيان كثيرة إلى ذكر الشيخ عبد الله الشرقاوي شيخ الجامع الأزهر،( ) وإلى اصطياد القرائن أو الأقوال التى تثبت علمه أو علم غيره من العلماء بنية القاتل كما ندبت المحكمة الجنرال "رينيه" والقوميسر سارتلون لجمع البيانات للوصول إلى معرفة المتهمين.
وقد عقدت المحكمة أولى جلساتها في 15 يونيو 1800 –وكانت سرية- وطلبت من الجناة أن يوكلوا محامين للدفاع عنهم. ولما أوضحوا أنهم لا يعرفون أحد من المحامين اضطرت المحكمة إلى ندب المترجم "لوماكا" للتحدث باسمهم.
وفى 16 يونيو انعقدت المحكمة بصورة علنية، واستمتعت إلى مرافعة المدعى العمومى الذى طالبت بتوقيع أقصى العقوبة على القاتل وشركائه. وقامت المحكمة باستجواب الشهود الذين قرروا بأن القاتل كان يتتبع خطوات الجنرال كليبر منذ عدة أيام، وأنهم عثروا على القاتل مختبئا في الحديقة وقد دفن فيها الخنجر الذى استعمله في القتل، كما انتقل المحقق بعد ذلك إلى دار المهندس "بروتان" Protain الذى كان مرافقا للجنرال كليبر وقت حدوث الجريمة.
وقد استطاع "بروتان" التعرف على القاتل من بين جماعة من العمال وضع بينهم للتأكد من صحة كلامه، كما أقر برؤيته للقاتل أثناء طعنه كليبر وأنه –أى بروتان- أصيب بعدة طعنات أثناء دفاعه عن الجنرال. لذلك اضطر إلى ملازمة الفراش.
وفى أعقاب ذلك تم احضار القاتل ومن أخبر عنهم "وسألوهم على انفرادهم ومجتمعين" فكرر سليمان اعترافاته السابقة بأنه قتل كليبر عامرا متعمدا. ولم يكتف المحقق بذلك بل أمر بمواجهة سليمان بالأزهريين الثلاثة المقبوض عليهم واستجوبهم، وكان الضرب مصير كل من يتباطأ في الاعتراف أو ينكر التهمة.
وبعد انتهاء المحاكمة أعيد المتهمون إلى السجن، وصدرت الأوامر باخلاء قاعة الجلسة من الحاضرين، وخلا القضاة للمداولة وتدوين كل الإجراءات من أوراق ذكروا فيها صورة الواقعة وكيفيتها، وطبعوا منها نسخا كثيرة باللغات الفرنسية، والتركية، والعربية. وانتهى الأمر بصدور الحكم بإحراق يد سليمان اليمني التى استعملها في جريمته، ثم تحريقه وإعدامه على الخازوق( ) وترك جثته في العراء لتأكلها الطير- بحجة أن هذه الطريقة كانت الأسلوب المتبع لمعاقبة المتهمين في مصر في ذلك الوقت- والتى تتناسب مع شخصية المجنى عليه. كما صدرت الأوامر بأن يتم تنفيذ الحكم على هضبة القلعة التى فيها المجمع العلمي في تمام الحادية عشر من صباح يوم 28 من ابريل 1800. وإلى جانب ذلك فقد صدر الحكم على الأزهريين الأربعة الذين أبلغ عنهم سليمان بقطع رءوسهم ، وإحراق جثثهم في موقد يقام لهذا الغرض في نفس المكان، ورفعت رؤوسهم على بنا بيت ليطاف بها في شوارع القاهرة جزاء لهم على عدم إبلاغهم السلطات الفرنسية بما سمعوه أو عرفوه من نوايا سليمان الحلبى في قتل كليبر، ولم يقوموا بالإبلاغ عنها.
ولما كان أحد هؤلاء وهو عبد القادر الغزي قد تمكن من الفرار فقد حكم عليه غيابياً مع مصادرة أمواله، وأخذ جميع ممتلكاته لخزينة الجيش. أما بالنسبة لمصطفى أفندي البروسة لي الذى بات عنده سليمان قبل الحادث فقد ثبت من التحقيق أنه كان يجهل نية القاتل، وعزمه على اغتيال كليبر لذلك فقد تم اخلاء سبيله.
وقد اتفق على أن يطبع من ذلك الحكم خمسمائة نسخة باللغات التركية، والعربية، والفرنسية لتعليقها على أبواب المحلات، وفى الأماكن العامة. وبعد دفن الجنرال كليبر في احتفال ضخم نفذ حكم الإعدام في المتهمين الثلاثة علناً أمام الجنود الفرنسيين والأهالى عند تل العقارب فقطعت رؤوسهم، ثم اعدم سليمان على الخازوق بعد ذلك. والسؤال إذا كان سليمان قد تم إعدامه طبقا للقوانين الجنائية التى تنص على أن كل من قتل نفسا عمدا مع سبق الإصرار على ذلك أو الترصد يعاقب بالإعدام وهذا ما ينطبق عليه فان اعدام المتهمين الثلاثة الذين عرفوا بنية سليمان، ولم يبلغوا السلطات الفرنسية كان به بعض الشطط خاصة وأنهم كانوا قد نهوه عن فعل ذلك.
كما أنهم لم يشاركوه في التخطيط للجريمة او تنفيذها كما ذكر سليمان نفسه يضاف إلى ذلك أن قانون العقوبات يخير القاضى في مثل هذه الحالات بين الاعدام والأشغال الشاقة، ويجوز له أيضا النزول بالعقوبة الأخيرة كما يحدث أحيانا وفقا للقوانين الحديثة إلى عقوبة السجن، ولكن القسوة التى لا مبرر لها سوى روح التشفى أطاحت بكل ما عرفه الفرنسيون من كتابات روسو، ومن مبادئ الثورة الفرنسية فلم تكن العدالة شعارهم أو هدفهم خلال هذه المحاكمة. علما بأن هذه لم تكن المرة الأولى التى قام بها الفرنسيون بذلك فقد سبق لهم أن حاكموا محمد كريم وأعدموه رميا بالرصاص في 6 سبتمبر 1798 ثم قطعوا رأسه ورفعوها على نبوت، وطافوا بها في جهات الرميلة والمنادي يقول "هذا جزاء من يخالف الفرنسيس" مما يوضح أن محاكمتهم سواء اتسمت بالاجراءات الشكلية أو لم تتسم فإنها تمثل سلطة المعتدين، وقوة الغاصبين.
وبالنسبة لإصرار الفرنسيين على تعيين أحد المحامين للدفاع عن المتهمين، واختيار المترجم لوماكا لهذه المهمة فان هذا المحامى كما يظهر من نص المحاكمة لم يدافع عنهم ولم يطالب بتخفيف العقوبة عليهم أو يشكك في بعض الاجراءات كما يحدث عادة في مثل هذه الأمور. ومما سبق يتضح لنا أن اعجاب الجبرتي بتلك المحاكمة كان له ما يبرره فقط من ناحية القرائن الشكلية والاجرائية ومثل طلب اثبات التهمة على المتهم مهما كانت واضحة، ومثل طلب ندب محامين للدفاع عن المتهمين، والاستماع إلى وجهة نظر الخصوم، وعدم التسرع في تنفيذ الأحكام إلا بعد استكمال التحقيقات خاصة وأن الجبرتى رأى صورة مختلفة عما يفعله العثمانيون الذين كانوا يقتلون الناس بالشبهة.
أما عن جوهر المحاكمة فلم يختلف عن الاجراءات الظالمة التى كانت سائدة في مصر في تلك الفترة، والتى لم تكن تعرف مثل هذه الاجراءات الشكلية فانتزاع الاعترافات قسرا من المتهمين بعد تعذيبهم على يد Barthélemy "برتلمي الرومي" المعروف بشدة تعذيبه للمصريين والأساليب البشعة في تنفيذ الأحكام هى نفس الأساليب التى اتبعها المماليك ضد خصومهم. هذا إلى جانب رغبة المحققين الفرنسيين في توريط علماء الأزهر خاصة الشيخ الشرقاوى شيخ الجامع أثناء استجوابهم للمتهمين مما يؤكد أن روح الانتقام كانت واضحة في نفوس الفرنسيين وان الاجراءات التى اتخذوها وإن كانت قد اتسمت بمسحة من العدالة فان الغرض منها لم يكن انصاف المتهمين بقدر ما هو الكشف عن شركائهم في الجريمة.
حقيقة ان شخصية المجنى عليه، والظروف التى وقعت فيها الجريمة والنتائج التى ترتبت عليها لو كان قد حدث مثلها لأحد من حكام المماليك أو لأتباعهم في ذلك الوقت لكانت العواقب بالنسبة للمصريين أكثر وخامة وربما قتل على أثرها المئات، ومع ذلك فمثل هذا الشئ كان يمكن أن يحدث لو لم يقبض على سليمان الحلبى، فقد هدد الفرنسيون بعد وقوع الجريمة، وقبل القبض على سليمان هددوا بالانتقام وتوعدوا باحراق القاهرة، وبقتل سكانها عن آخرهم إذا لم يعثروا على الجانى واتخذوا من أجل ذلك اجراءات صارمة، فحاصروا المدينة وأعدوا المدافع لاستخدامها عند الضرورة حتى سرى الرعب والجزع بين الناس، ولاذوا بالفرار. ولم ينقذ الأهالى من ذلك الموقف الحرج سوى القبض على القاتل، يضاف إلى ذلك ان التمثيل بجثث المتهمين بعد قتلهم، وترك جثة سليمان في العراء حتى تنبشها الطيور الجارحة،( ) ورفـع رءوس باقى القتلى على بيوتهم كى ترى للناظرين وتكون عبرة لمن يحاول تكرار ما حدث. كل ذلك يعنى ان الفرنسيين قد تناسوا الحضارة الأوربية التى كانوا يتشدقون بعدالتها وحفاظها على كرامة الانسان كما يعنى ان الاجراءات الشكلية التى اتخذت خلال المحاكمة إذا قارناها بما كان متبعا في مصر في ذلك الوقت يمكن ان تعد في صالح الفرنسيين أما من الناحية الفعلية فالفرق ليس بكبير. وربما كان اعجاب الجبرتى أو غيره بالمحاكمة ان ما رآه يعد من الأمور الجديدة على الشرقيين مثل اتاحة الفرصة لمتهم اعترف بجريمته ان يحاكم محاكمة قانونية تطبق فيها مقاييس العدل بدلا من ان يعدم فورا هذا في الوقت الذى كان يرى فيه فوضى الحكم المملوكى العثمانى الذى لم يقم لدماء الأبرياء وزنا.
وإلى جانب ذلك فان تثبث البعض بوطنية سليمان الحلبى، والادعاء بانه الفتى الشهيد الذى قدم من حلب الشهباء لقتل الطاغية كليبر، وبأنه رمز البطولة والفداء والدليل الناصع على أواصر الإخاء والوفاء بين أبناء العروبة الأبرار وبأنه وضع روحه على كفيه، وقطع البرارى أياما إلى أن وصل إلى مكان الداء فاستأصله من جذوره حتى تتحدث به العرب في كل الأزمان كل ذلك عار تماما عن الصحة، وتكون على حساب الحقيقة والعدالة فسليمان الحلبى ارتدى رداء الوطنية بغير حق، ونضال الشعب المصرى ضد الفرنسيين ليس في حاجة إلى الادعاء ببطولة سليمان الحلبى أو غيره فقد استشهد منهم الكثيرون خلال ثورتي القاهرة الأولى والثانية، كما أنهم قاموا بقتل بعض القادة الفرنسيين خلال ثورتهم أمثال "ديبوي" قومندان القاهرة والكولونيل "سلكوسكي" ياور بونابرت مما يعد أبلغ دليل على وطنيتهم في مواجهة الغازى لبلادهم لذلك فهم ليسوا في حاجة إلى نسج بطولات خيالية طالما ان ذلك يتنافى مع الحقيقة والواقع.