حكايات من زمن فات (كتاب)
غلاف الكتاب | |
المؤلف | كمال خليل |
---|---|
البلد | مصر |
اللغة | العربية |
الناشر | بيت الياسمين للنشر والتوزيع |
الإصدار | 1 يناير 2012 |
عدد الصفحات | 320 |
ISBN | 9789776402348 |
حكايات من زمن فات.. من مذكرات كمال خليل، هو كتاب من تأليف كمال خليل، نُشر عن بيت الياسمين للنشر والتوزيع في يناير 2012.[1]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مقتطفات من الكتاب
في البداية، يقول خليل: اهداء لكل من لم يعاصر تلك الفترة 18 و19 يناير 1977 .. وفي كتابي حكايات من زمن فات ستجد تحليلاً وتسجيلاً لمعارك جماهيرية كثيرة خاضها شعبنا بدء من اعتصام طلاب كلية الهندسة، جامعة القاهرة عام 1972 وحتى اغتيال السادات في أكتوبر 1981. وفي كتاب آخر (لم ينشر ) سجلت تاريخ الحركة الجماهيرية في مصر (من عام 2000 وحتى ثورة 25 يناير 2011.
كانت مظاهرات وإضرابات العمال طوال أعوام (1975، 1976) مقدمات حقيقية للإنتفاضة الشعبية في يناير 1977 .... (مظاهرات عمال حلوان في 1 يناير 1975، مظاهرات مدينة المحلة في مارس 1975، اعتصام مصنع الكوك بحلوان 1975، إضراب عمال النقل العام 1976، تحركات عمال الغزل والنسيج بالإسكندرية 1976، إضراب الشركة الشرقية للدخان 1976، إضراب مصنع النصر للسيارات بوادي حوف 1976). [2]
وكانت الإنتخابات البرلمانية لمجلس الشعب 1976 إنتخابات ساخنة، شاركت فيها كل فصائل اليسار بفاعلية. وكانت هناك عشرات الدوائر الملتهبة بمعارك ساخنة في الشارع تمكن خلالها 17 مرشح من دخول البرلمان من أمثال (محمود القاضي، ممتاز نصار، الشيخ عاشور، أبو العز الحريري، كمال الدين حسين... الخ) وقاموا بمعارضة نشطة داخل البرلمان مما أدى بالسادات إلى حل البرلمان في عام 1979.
نزل العديد من مرشحي اليسار في العديد من الدوائر وتمكنوا من عمل معارك حقيقية بالشارع، ولعب شباب الجامعات دورًا هامًا في مظاهرات الشوارع والمؤتمرات بالدوائر الانتخابية، وطرحت كافة الشعارات التي كانت تطرح بالجامعة طوال أعوام 1973، 1975، 1976، ووزعت عشرات الآلاف من البيانات والمنشورات بالدوائر المختلفة، وتحرك شباب الجامعات في الدوائر المختلفة تحت مسمى "لجان الوعي الانتخابي" التي تمكنت من لعب دور فعال ومؤثر، ولذلك جاءت شعارات الإنتفاضة الشعبية بنفس شعارات اليسار في الانتخابات التي جرت قبلها.
ظل النظام بعد حرب أكتوبر يعد جماهير الشعب بالرخاء، لكن سياسات الانفتاح الاقتصادي كانت تراكم الثراء في جانب الطبقات الغنية والبؤس في جانب الطبقات الفقيرة، أحس الناس بالغلاء وتدهور أحوالهم المعيشية كل يوم وأن الرخاء لا يقترب منهم أبدًا.
لقد بلع الناس محادثات الكيلو 101 مع العدو الصهيوني، وإتفاقية الفصل الأول، وإتفاقية الفصل الثاني من أجل الرخاء القادم، ولكن الرخاء لم يأتي بعد. شم الناس رائحة الفساد في كل مكان. فكل يوم يلتهم الحريق مصنع أو شركة ما ويكون الفاعل المعلن هو حدوث ماس كهربائي، بينما كان تحت دخان كل حريق جريمة فساد وحرق دفاتر لإخفاء معالم الجريمة، كانت الهجرة إلى بلاد النفط عامل معاكس ضد كل هذه العوامل الموضوعية لكنها لم تستطع أن تلغي من الغليان الشعبي الذي كان يتأجج كل يوم، مر عام 1976 دون أي اعتقال لأي فصيل من فصائل اليسار.
نمت المنظمات الماركسية وتعددت منذ بداية السبعينات. وحتى قبل انتفاضة 18، 19 يناير كان كلها حلقات رغم أن كل حلقة كانت تسمى نفسها حزبًا. فمنظمة تضم عدة مئات من الكوادر يتمركز معظمهم في العاصمة وأغلبهم من المثقفيين لا يمكن أن تعد حزبًا عماليًا جماهيريًا.
خرج الشعب بأكمله في هبة شعبية من الإسكندرية إلى أسوان رافضًا ارتفاع الأسعار. لكن غياب الحزب الثوري (بالمعنى الحقيقي لكلمة حزب جماهيري) أدى إلى فشل الانتفاضة. خرجت الجماهير بشكل عفوي وتلقائي عقب إعلان المجموعة الاقتصادية برئاسة عبد المنعم القيسوني عن زيادات مباشرة في أسعار البنزين والكيروسين والسجائر والخبز والسكر والأرز.
ليلة 17 يناير 1977، خرج الناس على لسانهم مطلب واحد هو إلغاء زيادات الأسعار. كانت بؤر تفجر الإنتفاضة في القاهرة بؤرتان:
- خروج عمال مصنع حرير حلوان في تظاهرة ضخمة أدى إلى خروج جميع عمال المصانع في حلوان والنزول إلى قلب المدينة.
- مظاهرة طلاب جامعة عين شمس بكلية الهندسة من ميدان عبده باشا إلى ميدان التحرير كانت بؤرة لإشتعال المظاهرات في جميع شوارع وميادين العاصمة.
أما الإسكندرية فقد لعب عمال الترسانة البحرية بالإسكندرية دورًا هامًا في إنتفاضة مدينة الإسكندرية بأكملها. في المنيا تم عقد مؤتمر جماهيري بأحد الميادين كانت منصته عربة كارو ساعد هذا المؤتمر في تفجير الإنتفاضة بمدينة المنيا.
كانت أية شرارة للغضب تندلع في أي مكان تحرك قطاعات عريضة من الشعب في إتجاه التظاهرلأن الكيل قد طفح. باغتت الجماهير المصرية بحركتها الجميع حكامًا ومعارضين. لم يكن يتصور أحد أو يتخيل إنتفاضة شعبية بمثل هذا الإتساع والعنفوان رغم أنه كانت هناك مقدمات وشواهد. ففي الساعات الأولى من الإنتفاضة تمكنت الجماهير من شل وتشتيت قوات الأمن المركزي وأصبحت كالبعوضة وسط المتظاهرين. كان الشباب يدخل إلى المطاعم ويحضر أنابيب الغاز الأسطوانية ويشعل مقدمتها ثم يدحرجها أفقيًا ناحية جنود الأمن المركزي فكانت هذه القوات تلوذ بالفرار أمام إسطوانات الغاز المشتعلة. تناولت المظاهرات كل رؤوس النظام الحاكم بدءًا من السادات وزوجته إلى ممدوح سالم إلى القيسوني.
وبعد أن كانت المظاهرات في عام 1975 تهتف بشعار: "حكم النازي ولا حكم حجازي" في مواجهة رئيس الوزراء عبد العزيز حجازي. أصبحت الشعارات: "الشعب المصري قال بثبات... يسقط حكمك يا سادات"، "بالطول... بالعرض... هنجيب ممدوح الأرض"، "أيه راح تاخد يا قيسوني... وأنا غرقان في همومي وديوني"، "يا أبن بلدنا أصحى وبص.. جوز جيهان غلىّ الرز"، "الانفتاح جاب لنا أيه... غير العاهر والكباريه"، "أربط أجرى بالأسعار... أصل العيشة مرة مرار"، "يضحكوا مرعي وعثمان... وينهبوكي يا خزانة... ويرقصوكي شمال ويمين...ويمصوا دمك ودمانا... يا مصر بس أنا عايز أفهم... ويا الكلاب ولا معانا"، "غلوا السكر غلو الجاز... والمكرونة والبوتاجاز...غلوا السكر غلوا الزيت... بكرة نبيع عفش البيت"، "عايزين حكومة حرة... دي العيشة بقت مرة".
أصيب السادات بالفزع حينما أبلغه قادة الأمن بالأنباء الأولى للمظاهرات... وأصيب بالهلع حينما أبلغوه أن المظاهرات بمدينة أسوان تقترب من الاستراحة التي كان يقيم فيها وقتها بأسوان... أخذ طائرته الهيلكوبتر التي كان يحلو له التنقل بها ونزلت به في مستشفى المعادي ومن المعادي أتجه إلى قصر الرئاسة بالجيزة...... ليعطي الأوامر للجيش النزول إلى الشارع وإطلاق الرصاص على المتظاهرين..... وفرض حظر التجول في جميع المناطق... كما أعطت أوامربشن أوسع حملة من الاعتقالات لجميع المعارضين وخاصة الشيوعيين والناصريين، وأخذ يطلق صيحاته الغاضبة:
"إنتفاضة الحرامية"...... وعين الشيخ متولي الشعراوي في أحد المواقع الوزارية والذي أخذ يتحدث أيضًا عن "إنتفاضة الحرامية"... و"طاعة الحاكم"..... و"الفتنة النائمة ولعن من أيقظها". |
شدد النظام من حملة إعتقالاته وهجومه على الشيوعيين والناصريين. ولم يعتقل أي فرد من جماعة الإخوان المسلمين أو غيرها من الجماعة الإسلامية نظرًا لأنهما كانا في شهر عسل طويل مع النظام منذ توليه الحكم.
كنت قد تخرجت من كلية الهندسة في يونيو 1976، ومن يونيو إلى 25 نوفمبر كنت أحضر داخل الجامعة مع أعضاء نادي الفكر الاشتراكي رغم أنني خريجًا... كان الدخول والخروج من الجامعة فيه حرية كبيرة وبلا كارنيهات .
في منتصف ديسمبر دخلت في مرحلة الجيش وتم إلحاقي كعسكري مجند، وذهبت إلى معسكر التدريب الأساسي بسلاح المهندسين ببني يوسف لمدة 45 يومًا. وكان يوم 17، 18 يناير أجازة وسمية للسرية التي كنت ملحق بها وهي س 509، وكان في جيبي تصريح من وحدة الجيش بهذه الأجازة... وظهر يوم 18 يناير كنت بالمنزل جالسًا أقرأ في كتاب "تاريخ الثورة الفيتنامية" وحزب العمال الفيتنامى وهوشى منه والجنرال جياب ....وكنت مندمجا تمامًا في القراءة... وفجأة سمعت صوت أخي عبد المنعم خليل يقول لأمي:
- أوعي تخلي أبنك ينزل الشارع... أنا جاي من حلوان من الشغل والمظاهرات مالية البلد.
فقالت له بصوت منخفض: هو قاعد جوه وماسك في كتاب.. خليه ملهي فيه...... خرجت إلى أخي عبد المنعم وقلت له: مظاهرات فين؟... قال في حلوان وفي كل مكان أوعي تنزل... أنت في الجيش والمرة دي بقى محاكمة عسكرية.... تظاهرت بإقتناعي بكلامه... صعد إلى شقته العلوية.
أخذت أجمع في كافة الأوراق السياسية بالمنزل، وكان المنزل مكتظًا بالوثائق فطوال عام 1976 لم تحدث أي هجمات بوليسية... جلست أمام المرحاض البلدي بدورة المياه أحرق في الأوراق والوثائق... هذه الوثائق أندم الآن كثيرًا على حرقها... لم يتبقى منها أي أثر... تحت الضغوط الأمنية حرقنا العديد من الوثائق الهامة والنادرة والتي لم لا يوجد نسخًا منها الآن إلا في أراشيف جهاز مباحث أمن الدولة وجهاز الأمن القومي... آه كم كانت الخسائر فادحة؟!!! لم نكن في عصر الكمبيوتر وقتها!!!!!!...
الدخان يتصاعد في دورة المياه بغزارة وتسرب من قاعدة المرحاض البلدي إلى مواسير الصرف الصحي إلى غرف التفتيش بمدخل المنزل وأمامه... ومن شدته أخذ يتصاعد من أحدى غرف التفتيش... وفجأة سمعنا صراخ من أسفل وصوت عالي لنساء الحارة:
- الحقوا المجاري بتولع... الدخان طالع من البلاعة...
خرجت مع أمي إلى النافذة وكنا في الدور الثالث.. فعلاً المنظر غريب جدًا الدخان يتصاعد من غرف التفتيش بغزارة... والنساء بالحارة تولول... تصرفت أمي بذكاء وقالت:
- ما تخافوش أنا بولع ورق وقماش علشان الدخان يطرد الصراصير من مواسير المجاري!!!
دخلت إلى الغرفة ضاحكًا... لم أكن أتصور أن غزارة الدخان لهذه الدرجة.. دخلت أمي ورائي قائلة:
- أعمل معاك إيه.. أنت دايمًا مدوخني... عايزني أقول للناس أبنى بيحرق المنشورات عشان فيه مظاهرات برة... والله دي عيشة جنان في جنان... أحرق وخلصنا يا أبني... بكرة بتوع أمن الدولة هيطبوا عليك... أحرق بسرعة وأوعي تنسى أي ورقة.
"رحمك الله يا أمي الغالية... كم تعذبتي معي؟!!"
ظللت أحرق في الأوراق لمدة ساعتين... وبعد أن أنتهيت أرتديت ملابسي وأمي تصرخ: على فين العزم يا أبو عرام؟... أوعي تخرج يا أبني المرة دي محاكمة عسكرية.. قلت لها: أبدًا أنا راجع حالاً..
ذهبت إلى زملائي أعضاء نادى الفكرالإشتراكي... كان الكثير منهم نزل إلى المظاهرات..... وقمت أنا والزملاء بصياغة منشور باسم نادي الفكر الاشتراكي تضامنًا مع الانتفاضة الشعبية... كنا قد تعرفنا على مطبعة خارج الجامعة بالجيزة... كان صاحبها يتعاطف مع أفكار النادي، ويطبع لنا بسعر أعلى من السوق شوية لأن كلامنا يودي في داهية.. كنا قد طبعنا طوال عام 1976 جميع مطبوعات النادي ومجلته ودراساته عند هذه المطبعة... قررنا أن نطبع 12 ألف نسخة من المنشور... وخططنا لشبكة توزيع المنشور صباح يوم 19 يناير.... وأخذنا نبلغ التكليفات للزملاء بمواعيد إستلام المنشور... أنجزنا ذلك خلال ساعات.
قرر جميع زملائي ذهابي إلى وحدتي العسكرية عقب إنتهاء الأجازة الرسمية.. رددوا جميعًا ما قاله أخي وأمي: أنت لو أتمسكت من أي مظاهرة أو بأي منشور هتتقدم لمحاكمة عسكرية... وأعتبر زملائي هذا القرار تكليف بالنسبة لي ورضخت لقرارهم... وبالفعل لم اشترك في مظاهرات 18، 19 يناير وأنا الذي اشتركت في جميع المظاهرات... "وها أنا أسلم نفسي كالبعير لوحدتي العسكرية".
ذهبت في الفجر للوحدة العسكرية س 509 ببني يوسف، كنت أنا وزميلي عماد صيام خريج كلية الزراعة في وحدة عسكرية واحدة وننام على سريرين متجاورين، وتوطدت الصداقة بيننا أيام الجيش، في الصباح قامت الوحدة باختبارات في الرماية بالرصاص الحي، وفي المساء تسلمنا سلاح من الوحدة لحراسة مخزن ذخيرة 2 ببني يوسف... كنت أنا وعماد متلازمين... كنا نتلهف لسماع أي خبر بالخارج... وكان عماد صيام يساريًا صارمًا ومن أجدع شباب عين الصيرة... كان تلميذًا وفيًا لزعيم الحركة الطلابية في عام 1972 ورئيس اللجنة الوطنية العليا للطالب (أحمد عبد الله رزه)..... وكان هو وأحمد عبد الله ولفيف من الشباب يلعبون دورًا ثوريًا في الجامعة وفي حيهم الشعبي... ولقد خاضوا معركة سياسية هامة في حي مصر القديمة مع المناضل الثوري عزت عامر والذي كان مرشحًا في دائرتهم الانتخابية والتى كانت من أبرز الدوائر الساخنة حقًا.
وتقريبًا في يوم 20 يناير... في المساء جاء أحد الضباط ونادي بأسمي ثم بأسم عماد.... وتم إقتيادنا إلى قائد سلاح المهندسين..... وكان ضابطًا شريفًا برتبة عميد (لا أتذكر أسمه الآن)... قال لنا في أبوة:
- فيه أيه يا ولادي... ضباط من مباحث أمن الدولة جايين يقبضوا عليكم... أيه الحكاية؟ أنا أطلعت على الأوراق... أنتم هنا من مساء 18 يناير وكنتم أجازة يوم 17 يناير مع بقية زملائكم.
أفهمناه أننا كنا في حركة الطلاب عام 72، 73... هز الرجل رأسه وقال: أنا كاتب تقرير بيوصف الحقيقة كلها وموقع عليه... وأنتو دلوقتي هاتناموا في سجن الوحدة... والصبح هاتستلمكم المخابرات الحربية... أنا آسف يا ولادي... بس دي أوامر. نمنا في سجن الوحدة... كنت أحلم بمنشور نادي الفكر الاشتراكي.. يا ترى ماذا حدث؟ وهل نجحت شبكة التوزيع في عملها؟... كنت أضحك كلما تذكرت منظر الدخان وهو منبعث من مواسير المجاري.
في الصباح تم ترحيلنا على وحدة التحريات بمنشية البكري... قابلنا ضابط من المخابرات الحربية... قال لنا بتعجرف شديد:
- لازم تتكلموا على كل حاجة... أحنا عارفين عنكم كل حاجة.
قلت له: وإيه لزمة الكلام طالما أنتو عارفين كل حاجة... معندناش كلام نقوله غير التقرير اللي وصلك من وحدتنا العسكرية.
أبتسم قائلاً: طب مش عايزين أي حاجة؟
قلنا: عايزين جرائد... عايزين نعرف إيه اللي بيحصل؟
أمر بشراء جميع الجرائد... جلسنا نقرأها فيهم.
في الصباح تم تسليمنا إلى مباحث أمن الدولة والتي رحلتنا سويًا إلى سجن طرة العمومي والذي كان مكتظًا بالمعتقلين من مختلف الأعمار ومن كل الإتجاهات الناصرية والماركسية. وجهت لي النيابة تهمة الاشتراك في المظاهرات يوم 19 يناير فقلت لوكيل النيابة أقرأ تقرير عميد سلاح المهندسين... يوم 19 يناير أنا كنت في وحدتي في الجيش وعمومًا هذه تهمة لا أدفعها وشرف لا أدعيه، وفي النهاية وجهت لي تهمة الانتماء للحزب الشيوعي المصري ونفيت ذلك.
في سجن طرة كان هناك معتقلين من عمال المصانع الحربية في حلوان، ومعتقلين من عمال الغزل والنسيج بالإسكندرية الذي شردوا من مصانعهم عقب احتجاجاتهم عام 1976 إلى مصانع الصعيد (عطية سالم – إبراهيم سلام – خليفة عمران – عطية قيبع – عطية عياد... الخ).....
وكان سلاح التشريد إلى مصانع بعيدة سلاحًا رئيسيًا في يد نظام الحكم لإرهاق قيادات العمال وتشتيت جهودهم..... فقد نقلوا من الإسكندرية إلى مصانع بأسوان ونجح حمادي والأقصر.... فيضطر العمال إلى الإنفاق على بيتين: بيت أسرته بالإسكندرية وبيت بالصعيد للمكان الذي شرد إليه.
وكن فى المعتقل العديد من المثقفين والشعراء والكتاب (أحمد فؤاد نجم – سمير عبد الباقي – عزت عامر... الخ)..... وكانت هناك مجموعة من الصعيد تم إعتقالها بتهمة حزب العمال الشيوعي.
وكنت أنا وعماد صيام معتقلين بالزي العسكري ممثلين عن س 509....
وفي صباح أحد الأيام جاء التعيين (فول مدمس – أرز – عدس)...... وجاء في التعيين صحن من البنجر الأحمر المسلوق... فأخذه شباب الصيعد... وفي الساعة الواحدة ظهرًا كتبوا بالبنجر الأحمر على الحائط المجاور لباب زنزانتهم وكان مدهونا باللون الأبيض: "عاش كفاح حزب العمال الشيوعي" وذلك بالبنط العريض... وحينما دخل الضباط بالعنبر صعق مما هو مكتوب على الحائط، وأخذ يصرخ وينهر في شاوشية العنبر: "أنتم عايزين نروح في داهية".. وجاءوا بالجير الأبيض وأخذوا يطلون الحائط، بعد فترة اكتشفوا أن ملامح الكتابة مازالت ظاهرة فدهنوا مرة ثانية، وبعد فترة تم إعادة الكاتبة بالبنجر مرة ثانية... وأمر الضابط بتفتيش الزنازين للبحث عن البوهية التي يتم بها الكتابة...
لم يدرك أن (طارق مهندس الصعيد وعضو حزب العمال الشيوعي) يكتب بالبنجر الذي أتت به إدارة السجن في التعيين... أين أنت يا طارق الآن لم نلتقي منذ عشرات السنين؟ قامت صداقة بيني وبين عطية سالم، وإبراهيم سلام عمال النسيج بالإسكندرية أعظم وأشرف وأنبل من قابلت من القيادات العمالية في مصر (وعي ثوري عالي – حس طبقي صادق – خبرة كفاحية في المصانع والسجون) .....لا أدري أيضًا أين أنتما الآن؟... أحياء أم أموات؟... كيف حالكما؟... ماذا فعل الزمن بكم؟... كيف حال أولادكم وبناتكم؟... رغم الفترة القصيرة والتي لا تزيد عن شهرين في سجن طره إلا أنكما معي دائمًا. في كل مرة أذهب للتضامن مع العمال في أي مصنع وفي أي موقع أحس أنني ذاهب إلى عم عطية سالم وعم إبراهيم سلام.
حكي لي إبراهيم سلام أنه حينما أعتقل في عام 1959، وكانت مسئولته بالتنظيم سيدة.... كان يتكلم عنها بإعتزاز وإحترام كبير، وكانت قبل الاعتقال حامل في الشهر السابع... وقابلها في المعتقل في ردهات مباحث أمن الدولة، كانوا يودون أن يعرفوا:
هل كان أبراهيم على صلة تنظيمية بها أم لا؟.
وأستطاع أن يخفي عليهم صلته بها..... لكنه كان يتألم بشدة من أجل إعتقال هذه الزميلة وهي حامل وقد قاربت على الوضع... بعد الخروج من السجن بعامين ذهب إبراهيم سلام على منزلنا بداير الناحية وكنت قد تركته لظروف ما... فقال لأمي: أنا إبراهيم سلام من الإسكندرية كنت معتقل مع كمال في 1977، أنا بقالي أسبوعين أبحث عن عنوانكم... بلغي كمال أن السكن الجديد اللي هوه عزل إليه مرصود من الأمن... وقوليله إبراهيم سلام بيقولك خد بالك".
جاء من الإسكندرية ليدرء خطر عن زميله... كم أنت أصيل يا إبراهم يا سلام... سمعت يا إبراهيم أنك بعد المعاش تبيع الساندوتشات في محطة مصر بإ سكندرية سعيًا لكسب الزرق... في كل مرة أنزل للإسكندرية أظل أبحث عنك يا شريان دمي... أيضًا أكيد أنت تعرف أين عطية سالم؟... ربما نلتقي يومًا نحن الثلاثة... وربما نموت بلا لقاء!!! بعد قضاء حوالي عشرة أيام بسجن طره... تم ترحيلنا أنا ومجموعة من العمال بالإسكندرية إلى سجن القلعة... قالوا لنا في عربة الترحيلات... أنكم أفراج.. وظن البعض إننا إفراج.... وكنت أحذر الزملاء من ذلك قائلاً:
- هذه لعبة للتأثير على المعنويات وزرع الإحباط تتقنها الأجهزة.. تبلغك بالإفراج الكاذب وفجأة تجد نفسك في سجن آخر...... "طالما أنك لست في الشارع حرًا طليقًا فلا تفكر في الإفراج... فأنت ذاهب من سجن إلى آخر" وعرجت عربة الترحيلات نحو سجن القلعة... وكنت قد ذهبت إليه أعوام 72، 73 فأخذت أوصفه من الداخل للزملاء كيف يتعاملون فيه:
"سجن القلعة غيرة طرة... القلعة خاضعة بالكامل لمباحث أمن الدولة.... طرة خاضع لمصلحة السجون... لا تتحدث مع أي مخبر، ولا تتكلم مع زميلك أو في الزيارة بصوت عالي.... كل شيء مراقب... هذا السجن يحتوي على ثلاثة عنابر وتقريبًا على ستون زنزانة... سوف يضعون غماية على العين عند الدخول .... قل لأي ضابط يحقق معك... التحقيق في النيابة وليس من سلطة مباحث أمن الدولة...."
جمل سريعة قلتها للزملاء قد تنفع بعضهم وقد لا تنفع...
هاجمني أحد اليساريين القدامي وأنا أقول للمعتقلين ليس هناك قرار إفراج والأكيد أنه ترحيل لسجن آخر قائلاً: لماذا هذا التشاؤم؟!... نحن مفرج عنا... ولما عرجت عربة الترحيلات نحو سجن القلعة.. نظرت إليه في صمت... دخلنا سجن القلعة ووضعنا متفرقين في زنازين انفرادية... وفي تمام الساعة الواحدة فجرًا تم استدعائي إلى نيابة أمن الدولة العليا... بدأ التحقيق غريبًا بسؤال:
هل تعرف أحمد مصطفى إسماعيل؟... قلت له لا أعرف وفعلاً كنت لا أعرف أحد بهذا الاسم... قال: لقد ضبط المدعو أحمد مصطفى إسماعيل يوزع منشورات تحرض عمال المحلة على التظاهر وموقعة باسم حزب العمال الشيوعي، ولقد أعترف بعضويته في الحزب، وأعترف بأنك عضو في اللجنة المركزية لحزب العمال الشيوعي... قلت له: في التحقيق الماضي كنت متهم بعضوية الحزب الشيوعي المصري، في هذا التحقيق (والذي لا يفصله عن الأول أكثر من عشرين يوم) أنا متهم بعضوية اللجنة المركزية لحزب العمال الشيوعي... كيف حدث ذلك؟ وكيف انتقلت خلال 20 يوم من حزب إلى حزب آخر، ومن عضو قاعدي إلى عضو لجنة مركزية!!
كيف حدث ذلك وأنا معتقل لديكم؟!! وكيف أنتمي لحزبين في وقت واحد فأنا مقدرش أحب أتنين علشان ماليش قلبين... ضحك وكيل النيابة قائلاً:
خلاص أختار لك تهمة من الأتنين... قلت ضاحكًا: طبعًا أبقى عضو لجنة مركزية أحسن... قال: كل ما زاد موقعك في الحزب تبقى العقوبة أشد... قلت له: مش مهم... أطلعت على إعترافات أحمد مصطفى إسماعيل وجدتها شملت أكثر من 25 زميل منهم (عزت عامر – محمود الشاذلي – شهرت العالم – فريد زهران – عبد المنعم كراويه - ... الخ) .... من ذا الذي يدعي أحمد مصطفى إسماعيل؟!!! شيء ما يدبر لم يكتمل بعد!!!
فى السجن صرخت بأعلى صوت لي:... يا شاويش...
جاء صوت المخبر من الخارج: عايز إيه؟...
قلت له: أفتح اللجنة المركزية عايزة تغسل هدومها (كانت كل ملابسي الداخلية والأفرول العسكري على درجة عالية من القذارة)...
فتح لي باب الزنزانة.... خرجت لابسًا الافرول على اللحم وأخذت الملابس الداخلية على يدي... قررت غيسل الملابس الداخلية للجنة المركزية... أخذت أهرج بصوت عالي على موضوع اللجنة المركزية والملابس الداخلية... وكان أحد المعتقلين القدماء جالسًا على كرسي في الطرقة أمام الزنازين أخذ يضحك في هدوء ويقول لي:
شد حيلك يا لجنة يا مركزية.. عرفت فيما بعد أنه المناضل "إبراهيم عبد الحليم" فقد تم اعتقاله رغم كبر سنه (كان فوق السبعين عامًا)..... لكن أبتسامته كانت بشوشة... وكان يلوح لي كلما خرجت إلى دورة المياه ويقول لي: هه أخبار اللجنة المركزية إيه... منه عرفت أن هناك مجموعة كبيرة من المتهمين بعضوية الحزب الشيوعي المصري (زكي مراد – نبيل الهلالي – رفعت السعيد ... الخ).... وأن عددهم يزيد عن 20 شخص.. وهمه يبلغوك السلام... قلت له بضحك: همه لجنة مركزية برضه؟!!
ضحك الرجل قائلاً: أيوه...
في الصباح فتح المخبر باب الزنزانة وأعطاني طبق من الحلوى والبسكوت والجاتوه وقال لي:
الأستاذ زكي مراد من العنبر التاني باعت لك ده... أخذت الطبق دون أن أنطق.. بعد نصف ساعة وجدت الأستاذ زكي مراد (رحمه الله)........ (وعشقت نيل أسمر نوبي) أمامي في طرقة العنبر... فجريت نحوه مسلمًا عليه فقد كنت أعرفه هو والأستاذ نبيل الهلالي حينما كانوا يترافعون عن الطلاب في جلسات سماع الأقوال في أعوام 72، 1973 وبادرني بقوله المعتاد: - يا واد يا كمال أنت لسة رفيع كده... همه أخواتك بياكلوا أكلك ولا أيه؟ في الصباح جاءتني زيارة وكان الزائرين (محمد خليل – أمي – أختي سميحة)...... وعندما شاهدوني مرتديًا بدلة الجيش.....أنهمرت أمي وأختي في بكاء شديد أربكني بدرجة عالية.... وأردت أن أخفف عنهما فقلت مسرعًا: أنتوا بتبكوا ليه... دا الأستاذ/ زكي مراد المحامي معايا جوه... ولسه باعت لي جاتوه وكحك... أنا بأكل هنا أحس منكم... وماتخافيش يا أمي مفيش محاكمة عسكرية ولا حاجة... بكت أمي قائلة: أمال ليه سايبنك بلبس الجيش... علشان أخدوني من الجيش ومش معايا أي هدوم غير لبس الجيش... ها ألبس الهدوم اللي أنت جايباها بعد ما تمشي.... وأستمرت الزيارة عشر دقائق... كان هناك ضابطًَا جالسًا يراقب الأمور... بعد الزيارة قام بنقل المخبر ووقع عليه جزاء ما... لأنه عرف أن الأستاذ زكي مراد من خلال المخبر نقل الجاتوه والكحك من عنبر إلى عنبر... شرحت بعد ذلك حينما التقيت بالأستاذ زكي مراد بعد شهور في سجن أبي زعبل أنني أخطأت... وسبب الخطأ كنت أود أن أقول كلمات تطمئن أمي وأختي... ضحك زكي مراد قائلاً: معلهش... غلطنا كتير زيك وأحنا صغيرين.
أبلغتني أمي أثناء الزيارة أن ضابط المباحث كان بيحلف لي:
أنك بتقود المظاهرات في الشارع يوم 19 يناير عند الجامعة... وأنا أحلف له وأقوله: والله أنت كداب لأن أبني في الجيش.... قعد يقول: أنا شايفه بعيني وهوه بيقود المظاهرات (بالطبع كان يقصد الضابط زميلي مصطفى الخطيب بكلية الهندسة وهو الذي كان يقود المظاهرات بالفعل عند الجامعة يوم 19 يناير.. وكان هناك بعض أوجه الشبه يجمع بيني وبين مصطفى الخطيب مثل نحافته وأرتداءه البلوفر أسود يشبه نفس البلوفر بتاعي) ولما قلت له: أبني في الجيش... قعد يسأل: طب هوه في أنهي حتة في الجيش؟
مارضتش أقوله أنك في بني يوسف... قلت له: أنت بتسألني أنا..... أسأل الحكومة أنتو حكومة زي بعض... قول للداخلية تسأل الجيش... قعد لايص... وهو بيفتش لقي في جيب الجاكتة تصريح قديم بـ 48 ساعة أجازة... قاللي صحيح دا أبنك في الجيش قلت له: اللهي اللي يقبض على أبني من الجيش يتشل في دراعه وما يوعي يروح لعياله... الراجل خاف.. وخد المخبرين ونزلوا...
قلت لها: ما شافش الدخان اللي خارج من مواسير المجاري... ابتسمت وقالت: يا واد أسكت لحسن يسمعوك...
تم ترحيلي ثانية على سجن طرة، ولما وصلت إلى العنبر سمعت الزملاء يتحدثون عن القانون رقم 2 لسنة 1977 وفصل كمال الدين حسين من البرلمان، والقبض على طلعت رميح، وأحداث كثيرة جرت حينما كنت في سجن القلعة وخاضع للحبس الانفرادي ولا تصلني أي جرائد، الحبس الانفرادي يضعك في عزلة تامة عن العالم، أخذت أجمع الجرائد وأرتبها زمنيًا، وجلست لعدة ساعات أتابع ما حدث:
فلقد صدر القانون رقم 2 لسنة 1977 والذي يعطي عقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة لكلك من شارك في الإعداد والتنظيم لمظاهرة أو إضراب عن العمل، وكان قانون جائرًا وظالمًا يضاف إلى ترسانة القوانين المقيدة للحريات، وكان الهدف منه تصفية الحركة فى أوساط الطلاب والعمال بعد الضربة البوليسية الواسعة التي أعقبت الانتفاضة الشعبية، وقد عارض هذا القانون نواب المعارضة بالبرلمان وقد أدت هذه المعارضة لفصل كمال الدين حسين على أثر مشادة ضخمة مع أنور السادات... وقرأت أيضًا الجرائد نبأ القبض على طلعت رميح بمنشور نادي الفكر الاشتراكي، كناقد أتفقنا مع صاحب المطبعة على طبع 12 ألف نسخة من المنشور، وكان طلعت هو رأس شبكة التوزيع، تم توزيع حوالي 3 آلاف.... وحينما قبض على رأس الشبكة لم تصل المنشورات لباقي الأعضاء، وتراكم بالمطبعة أكثر من9 آلاف منشور..... قام صاحب المطبعة بحرقها حينما قرأ الخبر في جرائد الحكومة، وكان يعتقد أن طلعت سيتم تعذيبه ويعترف على مكان المطبعة، لكن ذلك لم يحدث (طبعًا بعد الخروج من السجن ألتقينا بصاحب المطبعة وأخذ يشرح ما حدث وأبدى إعجابه بطلعت لعدم ذكره أسم وسكان المطبعة بعد الاعتقال)، عرفت أن طلعت رميح في سجن آخر ولم ألتقي به إلا في سجن الاستئناف.
مكثت بسجن طرة طوال 15 أو 20 يوم، وبعدها جاء قرار ترحيل من سجن طره إلى سجن الاستئناف: (أحمد فؤاد نجم – رفيق الكردي – كمال خليل – عبد كراوية - نادر عناني .......)
دخلنا على السجن في المساء، وأغلقت علينا زنزانة واحدة، وبعد ساعة أحضر شاويش العنبر ترمسًا ضخمًا من الشاي وقال:
- المعلم ميمو بيمسي على أحمد فؤاد نجم.
وقف أبو النجوم على شباك الزنزانة قائلاً:
- أحمد فؤاد نجم بيمسي على المعلم ميمو.
ثم نزل وأخذنا نفرغ الشاي من الترمس في الأكواب وسألنا نجم:
- من هو المعلم ميمو... فرد قائلاً:
- والله ما أنا عارف... ميمو يبقى مين يا نجم؟... ميمو يبقى مين يا نجم؟.... مش فاكر... المهم أهو شاي هبط علينا من السماء.
بدأنا نسمح أصوات من خارج العنبر من المساجين الجنائيين تطالب نجم بأن يسمعهم بعض قصائده... وصعد نجم إلى الشباك يغرد بأشعاره وسط تصفيق وتهليل من المساجين عقب كل قصيدة..
والمدهش أن المساجين كانوا يحفظون عناوين القصايد... وأخذ نجم يتلو قصيدة عقب قصيدة... بعد أن أنهى وصلته الشعرية.. أخذنا نعد طعام العشاء ونأكل... وأثناء الأكل صرخ نجم:
- ميمو.. أيوة افتكرته... دا واحد من عندنا من حوش آدم في الدرب الأحمر... في الصباح فتح علينا باب الزنزانة وأخدنا نتعرف عن المعتقلين بالسجن.... فوجدنا مجموعة من السياسيين والمثقفين أتذكر منهم:
(فيليب جلاب "رحمه الله" – محمد يوسف الجندي "رحمه الله" – حسين عبد الرازق – محمد سلماوي – أحمد الجمال).... وكانت هناك مجموعة لا تقل عن 25 شابًا تتراوح أعمارهم بين 18 – 25 سنة كانوا من الشباب (الغير مسيس) والذين اشتركوا في مظاهرات 18، 19 يناير (وكان معظمهم من الحرفيين وقلة من طلاب دبلومات الصنايع والثانوي العام) وأتهموا بالشغب. والغريب في الأمر أنه كان هناك إنفصال تام بين مجموعة السياسيين والمثقفين وهذه المجموعة من الشباب (والتي كانت تضم أحد أبناء عمال حلوان بالمصانع الحربية (بكر حسن أبو الخير)... لم يهتم هؤلاء السياسيون بأمر هذه المجموعة، ولم يشركوهم في الحياة العامة، ولم يوفروا لهم أي اتصال بالمحامين للدفاع عنهم.
وحينما وجد نجم هذا الوضع بالسجن، ذهب لمجموعة السياسيين وقال لهم:
- لماذا لم تهتموا بأمر هؤلاء الشباب... أجاب أحدهم:
- أنهم متهمين بالشغب!!
رد نجم على الفور:
دول اللي عملوا إنتفاضة 18، 19 يناير... هوه أنتو فاكرين أن أنتم اللي عملتوها... ولاد الشعب يتسابوا كده جوه السجن!!!
اجتمعنا بمجموعة الشباب في أحد الزنازين، أدخلناهم الحياة العامة، كل الزيارات والأطعمة أصبحت تقسم بالتساوي على الجميع، أخذنا عناوينهم وأسماؤهم وأتصلنا بالمحامين للدفاع عنهم، وكلفنا زملاءنا خارج السجن بالاتصال بذويهم وإبلاغهم بمكان سجنهم من أجل زيارتهم، حضر الشباب الندوات الثقافية التي كنا نعقدها بالسجن، حكوا لنا ماذا فعلوا أثناء الانتفاضة، أصبحوا بعد فترة جزء لا يتجزأ لا ينفصل عنا، يطرحون علينا مشاكلهم داخ السجن.
كلما حصل أي زميل على أفراج أو يتم ترحيل زميل إلى سجن آخر..... كنا نصطف صفين متواجهين بالدور الثاني بسجن الاستئناف ونغني له أغنية الوداع:
كان الشباب يقف ويغني معنا... وزال الإنفصال بيننا وبينهم تمامًا... وذات يوم جاء بكر أبن القائد العمالي حسن أبو الخير يقول لي:
"أبويا كل ما ييجي قدام السجن.....يشاور لي من درب سعادة والشارع الخلفي لسجن الاستئناف) ألقاه رافع أيده ومطبق صوابعه وفارد صباعين بس لفوق"... وأشاور له زي ما بيعمل... وأنا مش فاهم إيه الحكاية ده... أول مرة افتكرت أنه عايز سيجارة... بعد كدة لقيت الموضوع مش موضوع سجاير... عايز أفهم أيه معنى المشاورة دي.
قال له المهندس نادر عناني زميل أبيه بالمصانع الحربية:
دي علامة النصر يا بكر وبيعمل صوابعه على شكل حرف V وكلمة نصر بالانجليزية Victor... يعني بيقولك النصر لنا... وأنك قريب هتروح بيتك بسلام.
ضحك بكر مستغربًا من حكاية الصباعين دول قائلاً:
كلمتين يا بكر يمكن... همه آخر كلمتين...
حكي بكر مغامراته مع أبيه... حيث علم أن أبيه يشكك من عند أحد الفرارجية... فكان كل أسبوع يذهب إلى الفرارجي قائلاً:
- أبويا بيقولك هات فرخة... أو هات أرنب... أو هات بطة... ويروح هوه وأصحابه واكلين الوليمة في بيت أي حد...
أظن أبويا لما هيعرف الموضوع ده... هيرفع صوابعه مش بعلامة النصر... لا دا هيرفعهم ويحطهم في عينيا... لا يا عم خلينا في السجن أحسن... توافد علينا بعد أسبوعين مجموعة أخرى من الزملاء أتذكرتهم: (فريد زهران – مجيد سكرانة – شوقى الكردي – مجدي الجلاد "أصبح بعد ذلك حزبًا وطنيًا وعضو في لجنة الهمبكة والسياسات"- سمير عبد الباقي – طلعت رميح – محمد فتحى – ماهر "كلية العلوم" – فتحي فرج.. الخ)...
وأصبح السجن عامرًا ونقاش هناك ونقاش هنا... وخلافات... وقيادات وبيانات وأوراق تخرج خارج السجن... أهم ما يميز سجن الاستئناف هو وجوده في وسط البلد، ولذا فإنه يصبح في متناول الأهالي وقريب منهم، كما أن درب سعادة خلف السجن من يقف فيه في الجهة المجاورة للسجن يشاهد السجين وهو في الدور الثاني أو الثالث، ويكون قريبًأ جدًا منه لو صعد دور وأستأجر شباك حجرة من أم حسن"....
وأم حسن هذه وجدت من قرب شبابيك منازلها لشبابيك السجن وسيلة للرزق.... فكانت تؤجر شبابيك الغرفة لكل زائر لمدة ربع ساعة أو نصف ساعة حسب التسعيرة..... فكنا نتعلق على الشبابيك المرتفعة للزنزانة بربط البطاطين في حديد الشباك من الجهتين، ونجلس عليها كالمرجيحة، والزائر يستأجر شباك أم حسن لمدة ربع ساعة فتصبح المسافة بين السجين والزائر قريبة ولا يفصلهما إلا سور السجن الذي يصير في هذه الحالة منخفضًا...... وكنا نهرب البيانات والأوراق، بوضعها في نصف رغيف إلى شبابيك أم حسن أو إلى درب سعادة في الشارع فتصل في سهولة ويسر... وفعلاً درب سعادة كان مصدرًا للسعادة وصلة دائمة بالأهل والأحباب والأصدقاء... وكانت أم حسن تدعو ربها أن ينقذها من العين ومن الحسد وذلك لقرب شبابيك بيتها من شبابيك السجن...
كما أن سجن الاستئناف يوجد به غرفة الإعدام (فإعدام الرجال يتم في سجن الاستئناف – وإعدام النساء يتم بسجن الحضرة بالإسكندرية)، وبالطبع دخلنا غرفة الإعدام للتعرف عليها وعلى طريقة الإعدام، وشاهدنا أيضًا عدة حالات إعدام داخل السجن لمساجين جنائيين مثل (عماد الذي وضع قنابل في مجمع التحرير) وأيضًا لمساجين سياسيين أحدهم يدعى (صالح وكان يساري يمنى شارك في إغتيال أحد الدبلوماسيين اليمنيين).. وللإعدام قصص طويلة وعديدة في السجون لا داعي للخوض في تفاصيلها لأنها عقوبة بشعة وغير إنسانية يجب إلغائها........ إلا ما أود ذاكرة حادثتين:
أولهما: أحد الجواسيس لإسرائيل وكان يرتدي البدلة الحمراء (بدلة الإعدام) داخل سجن الاستئناف .......كان يتحدث معنا ببجاحة شديدة، ويؤكد لنا أنه لن يعدم وسيتم مبادلته مع إسرائيل... ويقول أنه متأكد من ذلك وسيحدث ذلك خلال عام أو أكثر قليلاً. فعلاً في 1978 وقع السادات على إتفاقية كاقب ديفيد وأفرج عن الجاسوس وكنا نحن آخر من يعلم.
ثانيهما: رأيت سجينا جنائيًا حكم عليه بالإعدام، وكان يرتدي البدلة الحمراء، وفي اثناء سجنه في إنتظار الإعدام، ظهرت دلائل جديدة في القضية.... فنزل إلى محكمة الاستئناف بالبدلة الحمراء، ولما عاد إلى السجن (وكان القاضي أمر بإعادة المحاكمة لظهور دلائل على برأة المتهم).....شاهدت شاويش العنبر يخلع عنه البدلة الحمراء ويلبسه بدلة بيضاء (لأنه أصبح تحت التحقيق).... وكان المنظر في غاية العجب والغرابة...
كأنك تشاهد طفل يولد من جديد، فقد تحول وجهه من الأبيض الشاحب الإصفرار.... إلى وجه ذو حمرة تنطق بالحياة... حقًا إنه ميلاد جديد.
لكن أغرب ما شاهدته في سجن الاستئناف في حبسة عام 1977 وما قبلها وما بعدها من حبسات (أغرب من غرفة الإعدام وأغرب من درب سعادة وغرفة أم حسن) كان ثلاثة أشياء:-
أولهما: في ذات ليلة وقد قفلت جميع الزنازين على كل نزلاء السجن، وفي تمام الساعة الحادية أو الثانية عشرة مساءًا فتح علينا باب الزنزانة، ودخل ضابط شاب من ضباط السجن في رتبة ملازم أول أو نقيب وسلم علينا وبالأخص على أحمد فؤاد نجم وقال لنجم:
- أنا ضيفكم في هذه الزنزانة الليلة.. اليوم نبطشية لي وأنا المسئول عن السجن، فاسمحولي بالجلوس على ارض الزنزانة معكم نشرب الشاي واسمع أشعار أحمد فؤاد نجم. وبعد تشاور سمحنا له بالدخول لبراءة وجه.... وألتمسنا فيه الصدق وجلس الضابط معنا على البرش والبطانية... وسهر حتى الفجر مستمعًا لأشعار نجم، وكانت جلسة سمر طوال الليل، وكان الضباط الشاب متعاطفًا بشكل كبير مع انتفاضة 18، 19 يناير، ويظهر عداءه للنظام الحاكم.
ثانيهما: سجن الاستئناف هو سجن سبهللة، سجن ترانزيت... ناس داخلة وناس طالعة... وناس في درب سعادة وناس في درب تعاسة... ناس أفراج وناس إعدام... السجن في أدواره الثلاثة كالسوق... ناس قاعدة بتبيع شاي وسكر وطعمية وجاز... وناس مبرشمة جوه السجن وماشية تايهة.. تسمع مسجون مبرشم بينادي:
- يا جماعة محدش شاف فوطة ضايعة فيها 120 ألف فتلة!!!!
وناس بتبيع مياه ساخنة في دورات المياه... وجلسات طالعة وجلسات جاية من المحكمة... مولد بجد.. وجوه السجن مقام السيدة صفية... وفي حجرة الزيارات لا تعرف مين اللي مسجون؟ ومين الزائر؟... وغرفة الزيارات قريبة جدًا من باب السجن... والشيء الغريب اللي حدث أن زميلنا العزيز محمد محمد فتيح الطالب بهندسة عين شمس (فينك يا محمد يا أجدع الناس أنت وأحمد فتيح صاحب مجلة الكوسة) كانت له زيارة، وحضرت عائلته ودامت الزيارة ربع أو نصف ساعة ولما أنتهت الزيارة أخذ محمد يصطحب أسرته حتى باب السجن.. ومن شدة اشتياقه لهم واشتياقهم له أخذ يتبادلاً أطراف الحديث حتى خرج معهم محمد فتيح من باب السجن إلى خارجه وتم قفل باب السجن خلفه.. ولا حد هنا... ولا حد دريان... سوق يا عم ومولد مالوش صاحب...
وبعد فترة سمع الحارس على الباب خبط شديد على البوابة الخشبية للسجن فصرخ قائلاً: - والله ما أنا فاتح... الزيارات خلصت خلاص.
وإذ بصوت فتيح ينادي عليه من الخارج:
- أفتح يا عم أنا مسجون عندكم.
ودخل فتيح يحكي ما حدث قائلاً:
-أنا سرحت ومش واخد بالي لقيت نفسي بره السجن!!!
وكانت قصة هروب عظيمة لمحمد فتيح... طبعًا هذه القصة ألغت فكرة الهروب التي كنا نتبادلها دائمًا داخل السجن.
ثالثهما: وهو شيء مازلت أفكر فيه حتى الآن... فلقد تقابلت في هذا السجن مع أحد قيادات حزب التجمع... وفي ليلة أستضافنى في زنزانته لنتناقش في موضوعات سياسية حول طبيعة السلطة الطبقية... وفي أثناء النقاش وجدته يتحدث بالمادية الجدلية والمادية التاريخية فقلت له:
- كيف تتكلم عن المادية الجدلية والمادية التاريخية وتقول ماركس وأنجلز ولينين وأنت تعلن داخل السجن أنك ناصري... الموضوع غريب شوية!!!....رد قائلا:
- أنا عضو في الحزب الشيوعي المصري... بس أنا عندي تكليف من الحزب أني أقول أني ناصري وأخفى هويتي الشيوعية.
أدركت وقتها أن هناك خرابًا شديدًا يحدث... عبد الناصر يعذب الشيوعيين ويعتقلهم ويجبرهم على حل حزبهم... فيحلوا.... ثم يدخلون التنظيم الطليعي والإتحاد الاشتراكي.. ثم يموت عبد الناصر.... ثم يعودون لتشكيل الحزب الشيوعي المصري من جديد.. ثم في العلن يقولون أنهم ناصريون... في السر يقولون أنهم شيوعيون... لخبطة شديدة... انتهازية فجة رغم مرور أكثر من 30 سنة على هذه القصة إلا أن دلالتها مازلت تحفر الذاكرة.
مرت الأيام بسجن الاستئناف يومًا وراء يوم.. وذات يوم نزلنا جلسة سماع أقول بمحكمة الإستئناف... وفي داخل القفص بالقاعة (كنا حوالي 25 زميلاً من سجون مختلفة) كنا نتصافح جميعًا ونتبادل السلامات والأحضان... ووجدنا شخصًا معنا لا يعرفه أحد منا... فلما سألناه أجاب:
أنا أحمد مصطفى إسماعيل... فصرخنا في وجهه:
- وكيف تشهد علينا بكل هذه الشهادات الباطلة؟!!! لقد كان أحمد إسماعيل شاهدًا على الجميع... قال أحمد إسماعيل وهو في حالة من الارتباك الشديد... أعطوني الفرصة سأحكي للقاضي ما حدث... أنتم مظلومين وأنا مظلوم كمان... أنا وقعت تحت تهديد مباحث أمن الدولة وضعفت ففعلت لهم ما يريدون... أعطوني فرصة لأصحح أخطائي... وفعلاً في الجلسة حكي أحمد إسماعيل تفاصيل الضغوط التي وقعت عليه في قصة مفادها:
لقد أنفق جهاز مباحث أمن الدولة أكثر من (ستة أو سبعة ملايين جنيه) طوال العامين السابقين على انتفاضة يناير 1977، وكان الهدف هو تحديد أعضاء اللجنة المركزية لحزب العمال الشيوعي وضبط الجهاز الفني للتنظيم الذي يتم عليه طباعة كافة الأوراق التنظيمية..... ولما حدثت الإنتفاضة وكان قد تم إنفاق كل هذه الملايين على بغددة ضباط أمن الدولة في صورة بدلات وإمتيازات كان لابد من تقديم تحريات عن تنظيمات شيوعية كانت وراء الانتفاضة...... وبالفعل تم الضغط على أحمد إسماعيل وتهديده وإجباره على القيام بكتابة منشوربخط يده ضد النظام الحاكم وموقع باسم حزب العمال الشيوعي ليقوم بتوزيعه أمام مصنع المحلة الكبرى، وحينما يتم القبض عليه يعترف بعضويته لحزب العمال الشيوعي ويعترف أن أعضاء اللجنة المركزية هم فلان وفلان وفلان وبعد ذلك بشهر أو فترة ما يتم القبض على مجموعة ثانية بتهمة الجهاز الفني لحزب العمال الشيوعي..... كان مخططًا ملفقًا من قبل حفنة من تيران أمن الدولة... ولم يكن أحمد إسماعيل عضوًا في حزب العمال... ولا كان من شهد عليهم جمعيًا أعضاء في اللجنة المركزية لحزب العمال الشيوعي.
جهاز عفن يستخدم كل سطوته وجبروته في تلفيق أي شيء... جهاز كلب حراسة للنظام الحاكم... البشر في ظله أدوات وماكينات... لا ضمير لجنرالاته... فهم خدم مطيعون... وهم أشخاص مختارون بعناية.... يعرفون ما المطلوب منهم..... دون أية أوامر علوية... وكل لبيب بالإشارة فيهم.
ذهب كل منا إلي سجنه... وجاء لنا بعد أسبوع أحمد إسماعيل في سجن الاستئناف وحكي ما حدث له في سجن القلعة عقب الجلسة التي أعترف فيها بالحقيقة أمام القاضي: - لقد جلدوني بالكرابيج، وأجلسوني على خازوق من الخشب...... وكانت أثار الدم بملابسه وأثار الكرابيج على ظهره.
لقد أعتدى بعض الزملاء بالضرب على أحمد إسماعيل عقب دخوله سجن الاستئناف، وكان ذلك موقفًا صبيانيًا وثورية زائفة... وللحق فإن أحمد إسماعيل أستمر على موقفه (في تصحيح خطأ أرتكبه تحت ضغوط شديدة من قبل هذه الأجهزة) طوال القضية ولم يتزحزح عن موقفه وهذا شيء يحسب له... فكم من الناس تموت ضمائرهم ولا يقدرون على تصحيح أخطائهم.. لقد دفع أحمد إسماعيل ثمنًا غاليًا منذ الجلسة التي روى فيها الحقيقة أمام القاضي... وفي نفس الوقت كانت شهادته فضحًا عمليًا لجهاز أمن الدولة، وكانت قصة أحمد إسماعيل وشهادات حاتم زهران (مخبر أمن الدولة) كافيتان لتعرية حجم التلفيات التي قام بها جهاز أمن الدولة في قضية 18، 19 يناير لدرجة أنها وصلت إلى السنيما في رائعة عاطف الطيب "زوجة رجل مهم"...
أصبت في سجن الاستئناف بمغص كلوي شديد واحتباس التبول، وتم نقلي إلى مستشفى سجن طرة، ووصلت إلى حافة الموت الذي أنقذني منه أحد المساجين الجنائيين يدعى (محمد سكلانة) بعمل خلطة خاصة من الأعشاب وغليها لعدة ساعات، وأعطاهاني على هيئة فنجان بطعم العلقم مما أدلى إلى فك حالة الاحتباس.
أين أنت يا سكلانة... أكيد دهستك الحياة كما دهست صديقك محمد فتحي السجين الجنائي الذي كان يتحدث بطلاقة عن جيفارا والثورة والمجتمع والذي تعلم كل ذلك من الأستاذ/ فريد عبد الكريم حينما ألتقى به في مستشفى سجن طره أعوام 73، 74، 75.
حصلت على إفراجين من القضاء، وفي أفراج المرة الأولى أعترضت مباحث أمن الدولة على قرار الإفراج، ونزلت خلال 15 يومًا لجلسة أمام قاضي يدعي الصدفي فأمر بإستمرار الحبس، وبعد شهر حصلت على إفراج ثاني... وأثناء وجودي بمستشفى سجن طره وكان موعد جلسة الصدفي التي سيتم الاعتراض فيها على الإفراج قد تحدد، أقترح على محمد فتحى "السجين الجنائي" بأن أتناول وجبة "حلاوة طحينة بالشطة"... قلت له: لماذا؟... فقال لي:- - هذه الوجبة ستجعل حرارتك مرتفعة جدًا في الصباح... وسيشخصها أي طبيب بأنها حالة حمى.. والحقيقة أن الارتفاع في درجة الحرارة يكون ظاهريًا فقط ... فسيضطرون إلى عدم نزولك الجلسة... وتنزل بعدها بأسبوع يكون الصدفي أتغيرت دائرته.
تناولت الحلاوة الطحينية بالشطة في المساء (أعدها لي محمد فتحي) "رحمه الله"، وفعلاً في الصباح كانت درجة حرارتي 40o م، وجاءت عربة الترحيلات ولم أذهب للجلسة لسوء الحالة كما قال أطباء المستشفى.. لكن الخبر جاء في عصر اليوم..... لقد أعطاني الصدفي إستمرار حبس رغم عدم مثولي أمامه وسماع أقوالي (قضاه آخر شياكة وجليطة) وفشلت خطة محمد فتحي ضد الصدفي.
لقد توفي محمد فتحي بفعل هذه الوصفات الطبية... فقد أعد لنفسه خليطًا من مواد غريبة كان يتفنن في تصنيعها داخل السجن، ووضعها في حلقه ليلتهب البلعوم.. وفعلاً حينما ألتهب بلعومه نقل إلى مستشفى القصر العيني، والتي كان يعد منها خطة للهروب (فقد كان محكومًا عليه بالسجن لمدة 25 عامًا في تهمة قتل خطأ لم يرتكبها وإنما لفقت له) إلا أن جرعة المواد التي أعدها كانت زائدة.... فأدت إلى إنسداد البلعوم مما نتج عنه حالة الوفاة (رحمك الله يا محمد يا فتحى أنت وصديقك سكلانة)..... لقد أنقذتما حياتي وكنتما خير صديقين لي من المساجين الجنائيين.
ثم عدت إلى سجن الاستئناف مرة ثانية.
مع بداية صيف عام 1977 تم تجميع جميع من لم يفرج عنهم في سجن واحد هو سجن أبي زعبل... أما الزميلات فكن دائمًا في سجن القناطر نساء..
وتم ترحيلنا من سجن الاستئناف إلى [سجن أبو زعبل|سجن أبي زعبل]] وكنا حوالي أربعين فردًا مربوطين سويًا بسلسلة طويلة بها كلبش (كل 1/2 متر) يوضع في اليد وتسمى هذه السلسة كما سمعت من زملاءنا القدامي (بالحجلة)...
تجمعنا في سجن أبي زعبل تقريبًا في سبع زنازين كل زنزانة تضم عددًا يترواح بين (20 – 30 فرد) وكانت الزنازين واسعة وبها حمامات داخلية، وكان السجن مريحًا للغاية... وكانت هناك حديقة واسعة غنية بالزهور، حرص منسقها وراويها والمشرف عليها من المساجين الجنائيين على أن يعطينا الزهور في كل زيارة لإهدائها للأهل والأصدقاء، وكنا نشكره طوال اليوم بالحديقة، وقد كان هناك العديد من الملاعب (كرة قدم – كرة سلة – كرة طائرة) ومناضد تنس طاولة والتي كنا نستخدمها طوال اليوم ......كان السجن جميلاً.. وقد هربنا إليه ونحن عائدون من أحد الجلسات مكتبة تضم ما لا يقل عن 200 كتاب من كتب الماركسية اللنينية... وفي الصباح قمنا بمعرفة أحد المساجين الجنائيين بختم الكتب بختم السجن... حيث أنه عند تفتيش الزنازين كان أي كتاب لا يحمل ختم السجن يتم مصادرته... وبالفعل كانت فترة السجن بأبي زعبل فترة جيدة للقراءة والرياضة والعيشة الهنية في سجون الديكتاتورية.
قام الزميل طلعت رميح بتصنع أباجورة لكل زميل يستخدمها عند الليل في القراءة والكتابة، حيث كنا نطفًا النور الرئيسي للزنزانة في الحادية عشرة مساءًا، ويضيء كل زميل أباجورته أو يطفأها حسب مزاجه.
في هذا الجو ألف نجم قصيدة "العنبرة" وألقاها ليلاً على المساجين الجنائيين ولاقت قبولاً رهيبًا عندهم، وكانوا يطلبون سماعها يوميًا..
وفي هذه الفترة أو قبلها تم اغتيال الشيخ الذهبي بمعرفة جماعة التكفير والهجرة، وتمت إعتقالات واسعة لفرق من التيار الإسلامي، وأصبح الشيوعيون والإسلاميون في سجن واحد بأعداد كبيرة لكل طرف...
كان الشيوعيون يحتلون الدور الأول للسجن، وكان الإسلاميون يحتلون الدور الثاني، وكان الدور الأرضي وبعض أجزاء من الدورين الأول والثاني لصالح الجنائيين، وكانت المشاهد كوميدية للغاية عند الصلاة وخاصة عند أذان المغرب أو العشاء بعد قفل الزنازين على الجميع...
فقد كان هناك أكثر من خمس أو ست فرق إسلامية، وكانت كل فرقة تكفر الأخرى وتعتبر أذانها باطلاً، لكل فرقة آذان... ولكل فرقة إمام....
في يوم صرخ أحد الجنائيين من شباك زنزانته قائلاً:-
- يا ولاد ال... فهموني أصلي وراء أي أذان... الصلاة كلها 5 دقائق... والآذان نصف ساعة... أنتو طلعتم الدين منا... إسلام جديد ودين جديد... والله دي حاجة تكفر. وفي يوم ما ذهب أحد سجناء التكفير والهجرة لضابط السجن، وقاله له: أنني عدت إلى صوابي وأكتشفت أن الأفكار التي تتبناها جماعة التكفير والهجرة التي كنت أنتمي إليها ليست من صحيح الدين... فقام الضباط بوضعه في زنزانة بمفرده بعيدًا عن زملائه الذين أنشق عنهم... وبعد يومين جاءه فرد ثان كرر عليه نفس ما قاله الأول... فقال الضابط: خير وبركة... وأخذه ليضعه مع زميله الأول... وعند فتح باب الزنزانة هاج من بداخلها وطلب عدم دخول أي فرد لزنزانته... ولما أستفسر الضابط عن سبب رفضه قال له:
- أنه جاء ليقتلني فمن لائحة الجماعة أن من يدخلها ويرتد عن أفكارها يتم قتله، وزميلي جاء يمثل عليك كي تضعه معي في زنزانة واحد فيقتلني بتكليف من الجماعة. وضع الضابط الشخص الثاني في زنزانة بمفرده بعيدة عن زميله الأول... بعد عدة أيام طلب الثاني عودته إلى زملائه لأنه كان يكذب على الضابط وجاء بالفعل لقتل زميله الذي أرتد عن الجماعة. شاهدنا هذا أما م أعيننا وفسرناه تفسيرًا سطحيًا... لم نكن ندري أن هناك تغييرات جذرية داخل الفرق الإسلامية، ولم نكن على دراية جيدة بالواقع الذي يتغير من حولنا... ذهلنا من أعدادهم ومن طريقة تفكيرهم... لكن النار كانت تسرح تحت الرماد وتميد الأرض من تحت أقدامنا دون أن ندري!!!
كان هناك سجناء من قضية تنظيم الفنية العسكرية (وهي محاولة جرت من بعض طلاب إسلاميون بالكلية الفنية العسكرية بالإستيلاء على السلاح من مخازن الكلية والتخطيط للإستيلاء على مجلس الشعب... وتم القبض عليهم عام 1973).. كنا نعرف تاريخ الأخوان المسلمين... لكن في هذا الوقت لم نكن نسمع عن تنظيمات:
الجماعة الإسلامية أو الجهاد أو غيرهم من الفرق الإسلامية.
كيف كان تنظيم التكفير والهجرة بقيادة "شكري مصطفى" ينضم إليه الآلاف في غضون سنوات قليلة ويصبح حجمه أكبر بكثير جدًا من جميع التنظيمات الماركسية مجتمعة؟!!! هل هم كتلة واحدة ومتحالفة مع الدولة؟... أم أن التكفير والهجرة والفنية العسكرية هي نتواءت نشاز عن هذه الفرق الإسلامية؟... لم نكن نتخيل على الإطلاق وقتها أن الحركة الإسلامية سوف تفرز جماعات مسلحة تتصدى بل وتغتال رأس النظام في عقر داره وفي منصته العسكرية بعد أربع سنوات من هذا التاريخ (عام 1977)!!!
أستمرت الحبسة في سجن أبي زعبل... حكي لنا الزملاء الذين قبض عليهم أثناء الانتفاضة في أيام 19 يناير وحضروا إلى سجن أبي زعبل (من بداية الحبسة):
كيف كان الأمن يعتقل المواطنين في الشارع بعد يوم 19 يناير: ... لقد كان يجهز الأمن بعض الميكروباصات في بعض الميادين ينادون على الركاب: الشرابية أو شبرا أو السيدة أو الزاوية الحمراء... الخ...
وحينما يكتمل الميكروباص يقوده السائق إلى السجن:... "جاء هنا إلى سجن أبي زعبل أكثر من عشرين معتقل... وقف أحدهم يصرخ وهو حاملاً كيسًا من البرتقال وآخر من الخيار... أنا كنت رايح الزاوية الحمراء إيه اللي جايبني هنا في السجن... وغيره... وغيره من نفس القصص والحوداديت".... دولة إجرامية... تحتقر المواطن إلى أقصى درجة... وتهدر آدميته.
وكانوا يجعلون المعتقلين من المواطنين يقفون داخل السجن صفًا واحدًا، وتصدر الأوامر بأن يقوم كل منهم بضرب زميله الذي يقف أمامه على قفاه... (إهانة وإذلال وتفريق للصفوف).
وكان كل من يرفض تنفيذ الأوامر يسحل في فناء السجن!!! (البني آدم دايمًا رخيص في ظل الديكتاتورية).
ومرت الحبسة أيام وراء أيام... وذات يوم فوجئنا جميعًا (في المساء عقب إغلاق الزنازين علينا) بدخول كميات ضخمة من غاز النشادر ذات اللون الأبيض الكثيف من أبواب وشبابيك الزنازين... غازات ذات رائحة نفاذة أثارت الذعر بين جميع الزملاء، وأصبحنا كالفيران في المصيدة... نسعل بشدة، البعض دخل إلى الحمامات وفتح صنابير المياه والدش، الكل أحس أن الموت قادم وتصرف بالغزيزة... لا ندري ماذا يحدث هل جن جنون الدولة وقررت إعدامنا داخل الزنازين بالغازات؟!!... هل هناك كارثة بالمنطقة؟!! ماذا يحدث؟ لا أحد يفهم شيئًا!!!
فجأة جاءنا صوت عالي من أحد المساجين الجنائيين القدامي: "أسمع كل الناس... الموضوع ده بيحدث دايمًا مرة كل سنة... جنب السجن مصنع كيماويات أبو زعبل... والمصنع ده بيخزن في خزان كبير الغازات الناتجة عن الصناعة... ولما الخزان يتملي... بيفرغه بهذا الشكل الهمجي.. كل واحد فيكم... يبل الفوطة بتاعته بالماء... ويعصرها جيدًا ويضعها على فمه... بالشكل ده مش هتحس بريحة النشادر... هتدوب في المياه داخل الفوطة...
سمع بعضنا هذا النداء وأخذ يكرره على جميع الزنازين، وبالفعل انتقلنا من حالة الإرتباك إلى حالة الهدوء... ووضع كل منا فوطة على فمه بعد بلها بالماء وعصرها... وأنتظرنا هكذا لمدة ساعة حتى خفت رائحة الغاز وأصبح الجو طبيعيًا... وبعد ذلك تاه الموضوع بين الضحك والمناقشات...
هل يعقل ذلك؟.. وهل لا توجد وسيلة لتفريغ الغاز بالخزان إلا هذه الوسيلة الهمجية؟ لماذا لا يتم تصريف الغاز وإذابته في أحواض من المياه داخل المصنع؟!!!!!!!!!... في أول يونيو صدر قرار الاتهام، وتسلم كل منا نسخة من قرار الاتهام، وتم الإفراج عن كل من لم يرد أسمه في قرار الاتهام (وكانوا قلة).. ضم قرار الاتهام 176 زميلا ثم تقسيمهم إلى ثلاث مجموعات:
- مجموعة حزب العمال الشيوعي.
- مجموعة الحزب الشيوعي المصري.
- المحرضون على الأحداث.
كنت المهتم الخامس أو السادس، وكان المتهم الأول هو الشاعر المناضل عزت عامر. وبالطبع أضيف إلى قرار الإتهام كل من تصدوا من طلاب الجامعات للقانون رقم 2 لسنة 1977 وتظاهرواعقب إفتتاح الجامعات في شهر فبراير 1977 لكسر هذا القانون الغاشم...... وكان على رأسهم الزملاء الأعزاء :(إيمان عطية عويس "كلية العلوم" – ماهر "سانتو" كلية العلوم- حمدي عبد الفتاح "كلية التجارة" – محمود مرتضى "كلية التجارة" – ناجي رزق"هندسة " – أبو المعاطي السندوبي "إقتصاد وعلوم سياسية" وغيرهم كثيرون)..... ويعذرني في البعض إن كانت سقطت أسماؤهم.
لقد تصدى هؤلاء الشباب للقانون الظالم بجسارة متناهية وتظاهروا عند افتتاح الجامعة، وتم التنكيل بهم والقبض عليهم ورشهم بمادة الإسبري وهي مادة حارقة للوجه وتشوهه، فهي غازات مسيلة للدموع تعبأ في أسطوانات مثل علب البيرسول، ويتم رش المطلوب القبض عليه في الوجه فتؤدي إلى حالة إحتقان شديد في الأنف، ونزول الدموع بغزارة، وتصيب الفرد بحالة من الغثيان والإرتباك فتسهل عملية القبض عليه، وحينما قدم إلينا الزملاء في سجن طره عقب القبض عليهم كان الأسبري يحرق وجوههم وتظهر بقع حمراء داكنة على الوجه، ولقلة خبرتنا في التعامل مع هذا الموقف تركنا الزملاء يغسلون الوجه بالماء والصابون وذلك يزيد إلتهاب الوجه أكثر. والخبرة التي خلصنا إليها هي ترك الوجه دون أي غسيل بالماء لمدة ثلاثة أيام متتالية..... بعدها تزول البقع الحمراء ويعود الوجه لحالته الطبيعية.
أيضًا واجه نفس المصير الزملاء شباب حزب العمال الشيوعي الذين قاموا بحملة لتوزيع المنشورات عقب الإنتفاضة، وقبض عليهم وتم التنكيل بهم:
أذكر منهم ناجي بولس، شوقية الكردى, فاتن، لبيبة وغيرهم. بعد صدور قرار الإتهام أخذنا ننزل جلسات أمام القضاة كانت تسمى جلسات سماع أقوال. وعلى بدايات شهر سبتمبر بدأ الصدفي (بتوجيهات من أعلى) يخف يده على قرارات الإفراج .... وبدأت مباحث أمن الدولة تخف يدها ولا تعترض على قرارات الإفراج .....بدأ عدد المعتقلين يقل رويدًا رويدًا.
حصلت على قرار إفراج في منتصف شهر سبتمبر بعد ثمانية شهور من القبض عليّ... وهناك زميلات يجب ذكرهم لم يفرج عنهم إلا بعد حوالي 12 شهر، ولم يخرجوا إلى في نهاية العام منهم:
البطلة الصادقة مع النفس والتي ضخت في صمت إيمان عطية.... أختي الرقيقة المناضلة شهرت العالم....... وبنت مصر الأصيلة شوقي الكردي وغيرهم وغيرهم وفي نهاية شهر ديسمبر جميعًا كان قد تم الإفراج عن جميع المعتقلين... وبعدها بشهور تم إحالة الجميع إلى دائرة من دوائر محاكم أمن الدولة العليا برئاسة القاضي حكيم منير صليب (رحمه الله).....
والذي قال ونطق بكلمة حق هو وزملائه عضوي اليمين واليسار (لا أذكر أسماءهما) وقاموا بتبرئة الجميع فى حكم تاريخى رائع رفضه ديكتاتور مصرأنور السادات قبل إغتياله بشهر..... وطلب إعادة المحاكمة من جديد!!!...
المؤلف
كمال خليل، ناشط يساري مصري منذ أن كان طالباً في السبعينيات. يدير حالياً مركز الدراسات الاشتراكية، وهو عضو قيادي في حركة كفاية، ومؤسس حزب العمال الديمقراطي، وعضو جماعة المهندسين الديمقراطيين. ووكيل مؤسسي حزب العمال الديموقراطي. وهو خريج كلية الهندسة عام 1976 ويعمل كمهندس استشاري في أعمال الترميم ومن قيادات الحركة الطلابية في السبعينات. وعضو اللجنة الوطنية للطلبة عام 1972. واشترك في مظاهرات الحركة الطلابية، وكان المتهم السادس في أحداث انتفاضة الخبز يناير 1977. اشترك في جميع المظاهرات المعارضة للوجود الصهيوني في معرض الكتاب. واشترك في حركات التضامن مع عمال الحديد والصلب، وعمال السكة الحديد، وعمال النقل الخفيف. واشترك في أحداث التضامن مع احتجاجات الفلاحين ضد تشريدهم من الأرض عام 1997. اعتقل أكثر من 15 مرة بسبب مواقفه ضد الصهيونية ومواقفه التضأمنية مع الحركات العمالية والفلاحية.
المصادر
- ^ "حكايات من زمن فات". نيل وفرات. Retrieved 2021-01-20.
- ^ "حكايات من زمن فات". كمال خليل. 2021-01-19. Retrieved 2021-01-20.