جسر على قناة السويس (كتاب)
المؤلف | فتحي رزق |
---|---|
البلد | مصر |
اللغة | العربية |
الناشر | |
الإصدار | 1969 |
جسر على قناة السويس، هو كتاب من تأليف الصحفي المصري فتحي رزق، نُشر عام 1969. يضم هذا الكتاب يوميات قام فتحي رزق بكتابتها فى الفترة من 1967 حتى أكتوبر 1974، وقام فيها باستعراض ما كان يجرى فى خطوط النار فى جبهة قناة السويس وسيناء. تحكى هذه اليوميات حالة غير عادية عاشها المؤلف على امتداد 2500 يوم وكان البطل فيها أرض المعركة التى شهدت بطولات فذة ومواقف إنسانية خالدة.[1]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
محتويات الكتاب
- تمهيد: رحلة الشجاعة والحب والصمود.
- الجزء الأول: 9 يونيو 1967 - 28 فبراير 1969: الزهور تموت على ضفاف القناة.
- الجزء الثاني: أول مارس 1969 - 30 سبتمبر 1973: الطيور تتجه شرقا.
- الجزء الثالث: 6 أكتوبر 1973 - 6 أكتوبر 1974: العبور إلى الشرق.
- ملحق الوثائق 1969.
مقتطفات من الكتاب - قصف الإسماعيلية
ما حدث لمدينة الإسماعيلية مساء أمس كان شيئاً مروعاً. بل أنه فوق كل تصور بالفعل. لقد قام جيش اسرائيل (الشجاع) بدور رائع حقا فى ضرب المواطنين ومنازلهم، وذبح السكان والأشجار والحيوانات، واستطاع أن يؤكد أن اسرائيل ليست دولة بالمفهوم المتعارف عليه فى عالمنا الحالي.[2]
ويبدو أن الدولة التى قامت على الدم والأرهاب لاتستطيع أن تعيش بغير المزيد من الدم والمزيد من الارهاب.. إنها تعيش بمفاهيم ودساتير العصابات وليست الأمم والشعوب المتحضرة.. إنها دولة عسكرية فاشية نازية متخلفة خقا.. إننى - وأنا أكتب هذه السطور بعد أن امضيت ليلة بشعة ونهاراً قاسياً باكياً حزينا - أؤكد أن هؤلاء الصهاينة لن يستطيعوا الهرب من عقاب الشعب المصري ولابعد 10 أجيال، على ما اقترفته ايديهم المخضبة بالدماء ضد المواطنين العزل من النساء والاطفال والشيوخ، وبيوتهم التى دمرت فوق رؤوسهم بلا سبب جنوه. لقد عشت طوال الليل فيما يشبه الكابوس المروع لهول ما رأيت.. إن القتلى والجرحى من ابناء الاسماعيلية كانوا بالعشرات والمئات فى الشوارع وحول المنازل، فى الازقة والحارات، وعلى سلالم المنازل ومحطة السكة الحديد.. لم يسلم حى واحد من أحياء المدينة من القصف الوحشى بالمدفعية الثقيلة ومدافع الهاون والصواريخ. وقد خرج المئات من رجال الحكم المحلى والدفاع الشعبي والمدنى والمقاومة الشعبية والتنظيم السياسي، يشاركون مع رجال الإسعاف فى إنقاذ مايمكن من انقاذه من المصابين والجرحى، ونقل الموتى الى المقابر، وحصر تلك الأعداد الكبيرة من الذين سقطوا فى مذبحة رهيبة لايمكن تصورها، وتفوق فى بشاعتها مافعله الجيش النازى فى المدن الأوربية عشرات المرات. لقد أمضيت الليل بطوله اتنقل من مكان الى مكان داخل المدينة مذهولا. وبكيت عدة مرات فى الظلام الدامس وبجوار الأمكنة التى اشتعلت فيها النار وظلت مشتعلة لساعات طويلة.
الصورة كئيبة ومؤلمة وحزينة الى درجة تعجز الكلمات عن وصفها.. لقد استهدف العدو ضرب الانسان البسيط العادي فى انسانيته وصموده إلى أقصى درجة ممكنة. فتح نيران المدافع الثقيلة على المنازل مباشرة والشوارع، كل الشوارع، فى طول المدينة وعرضها. وضرب محطة التيار الكهربائي ومحطة المياه ومبنى السنترال فى وقت واحد، فتحولت المدينة إلى جثة هامدة.
وفى نفس الوقت ضرب العدو الثم مبنى محطة السكة الحديد فى موعد قيام القطار الذى سيغادر المدينة للقاهرة، والقطار القادم من الشرقية للأسماعيلية، واصيب قطار الشرقية بإصابات مباشرة واشتعلت فيه النار، وحدث مايشبه الجنون للركاب الذين اصيبوا خلال لحظات باصابات قاتلة من الانفجارات وتناثر الشظايا واشتعال النار، وبداوا يلقون بأنفسهم من القطار والنيران مشتعلة فيهم، بينما كانت قذائف الهاونات تستقبلهم على شريط السكة الحديد وأرصفة المحطة، وأصيب الذين استطاعوا الخروج من مبنى المحطة فى ميدان عرابي المواجه له حيث كان القصف العشوائي الرهيب لايزال مستمراً. احترق عدد كبير من الركاب، واصيب عشرات أو قتلوا أمام المحلات العامة والتجارية والمقاهي ودور العرض، وفى الشوارع وداخل المنازل.. خرج الناس الى الشوارع هربا من الجحيم الذى حاصرهم داخل البيوت.. النساء بملابس النوم وصرخات الأطفال والأمهات تملأ الشوارع.. فهذا أب يبحث عن أبنه، وتلك أم تبحث عن طفلتها، وذاك شيخ يصرخ باحثا عن اسرته. وهنا بلغت المأساة ذروتها، حيث كان المواطنون الذين خرجوا من البيوت يصطدمون بالعائدين إليها، بينما القذائف تتساقط على الجميع والنيران مشتعلة فى عشرة أمكنة، كأنها مشاعل الموت تضىء المدينة للعدو لكى يزيد من وحشيته.. ويالها من ليلة حالكة السواد، شديدة الظلام، إلا من الحرائق التى شملت كل شىء.. ورغم ذلك فقد بذلت خلال الليل جهود إنسانية وبطولة من الدرجة الاولى، شارك فيها عدة مئات من رجال الدفاع الشعبي والمدني والمقاومة الشعبية ورجال الاسعاف الشباب، وتم ترحيل العدد الزائد من الجرحي والمصابين الذين لم تستوعبهم مستشفيات المدينة الى القاهرة والشرقية، وتم نقل الشهداء الى المقابر، وشكلت عدة مجموعات عمل قامت بحصر اسماء الشهداء وجميع حاجياتهم مثل البطاقات العائلية أو الشخصية والنقود والخواتم وأى شىء يعثر عليه فى ملابس الشهيد. واستخدمت فرق العمل الكشافات ليلا، وطافت بالاحياء والشوارع فى عمل مكثف نشط رغم الظلام والأحزان، وقد رأيت بعض ضالرجال يقومون بنقل أقاربهم القتلى ثم يواصلون عملهم بعد ذلك .. كان هناك شبه اتفاق على الانتهاء من هذه المهمة قبل شروق الشمس حتى لايرى الناس أولئك المصابين والقتلى فى الشوارع. توقفت أكثر من مرة أمام القتلى.. أنظر للوجوه بحثا عن الأقارب والأصدقاء. ومن بين مابكيت عليهم دون مقاومة ممرضة شابة كانت تعمل لدى أحد اطباء المدينة، وكانت قد أعطتنى عددا من حقن المضادات اليوية بسبب السعال الشديد الذى انتابنى خلال الأيام الماضية، وكانت أخرها قبل ضرب المدينة بساعات. كانت فتاة رقيقة الحديث دمثة الخلق، وقد أصابتها شظية فى صدرها عندما خرجت تعدو من عيادة الطبيب عندما قصف العدو العمارة المجاورة لها. وانهالت دموعي مرة ثانية عندما سقطت فى الظلام على رصيف شارع السكة الحديد أمام مبنى النادي بسبب اصطدامي بعدد من جثث القتلى.. وعندما حاولت الوقوف وجدت يدي داخل أمعاء واحد منهم، وأحسست بهلع لايوصف بينما كنت اتماسك وأمسح الدماء التى من على يدي بملابس.
وبكيت مرة ثالثة فى ميدان شامبليون عندما وجدت حوذيا عجوزا يبكى بصوت كالأنين وهو جالس على أرض الميدان بجوار جثة تبين أنها لحصان، وكان يتحدث إليه بصوت باك حزين.. وهو يقول : يا حبيب يا عزمي.. يا صديقي العزيز.. يا أخى الحبيب.. أرجو أن تقوم.. إصح يا عزمي.. ولم يصح عزمي، وهو الاسم الذى اطلقه الحوذى على حصانه.. فقد كانت اصابته قاتلة.. دخلت شظية كبيرة بطن الحصان فبقرته وخرجت امعاؤه، وبينما كانت الجثة غارقة فى بحر من الدماء.. حاولت اقناع الرجل المسكين بأن يسير معي ويترك الحصان، وسرعان ما تأتي عربات القتلى وتنقله.. غير أنه نظر إلى فى استغراب وقال لى فى تشنج متواصل.. كيف أتركه.. إما أن يقوم معي أو أدفن معه.. إنه كل حياتي يا سيدي. وقفت فى شارع الثلاثيني الذى يقع فى منتصف المدينة مذهولا.. فى هذا الشارع كان أكبر عدد من القتلى أمام المقاهي والمحلات العامة. وكان بين الذين أعرفهم محام اسمه عبد المنعم الطيب، ووجدت دموعي تنهمر من جديد بعد أن نظرت فى وجهه.. لقد كنا على موعد بعد أن أصر على المشاركة معنا فى إصدار النشرة اليومية التى كنا نطبعها ونوزعها على الاقدام، وقال لى صارخا فى أخر مرة قدمت فيها النشرة.. كيف تتركنى أجلس على المقاهي دون أن أعمل معكم ؟ إننى أخجل من نفسي عندما أقرأ النشرة.. لابد أن أجد لى مكانا معكم.. إننى مستعد للعمل كساع أو فراش أو موزع لهذه النشرة.. اليس من العار أن أنتظر الموت على المقهي ؟!.. وعرفت أن الطيب قد استشهد أمام باب المخبأ، لأنه أصر على أن يقوم بعمل رجل الدفاع المدنى، وأن يشرف على نزول المواطنين إلى أحد المخابىء العامة.. وقبل أن يتوقف القتال بدقائق اصابته شظية فسقط أمام المخبأ شهيداً. جلست فى غرفة عمليات الدفاع الشعبي مكدودا مهموما ملطخ النفس بالوحل.. ورأيت الوجوه يلفها وجوم كئيب، والأيدي تتحرك بصورة أليه.. التقارير الواردة مازالت غير مؤكدة.. فهى تتغير كل 5 أو 10 دقائق.. لكن الأرقام مفزعة، وكل شىء يؤكد أن الخسائر رهيبة.. ووصف أحد القادة العسكريين، وكان فى مهمة داخل غرفة العمليات، ماحدث للاسماعيلية بأن العدوان قد أعد له مسبقاً، وهو مبيت خبيث، وأن حجم القصف الذى تعرضت له المدينة وأنواع الأسلحة المستخدمة لم يحدث لأية مدينة فى العالم خلال الحرب العالمية الثانية. ومع بدايات الشروق الاولى خرجت من غرفة العمليات أريد أن أشم هواء أخر غير ذلك الهواء المكتوم والمعبأ بدخان السجائر الكثيف.. وفى الشارع الكبير هالنى منظر المدينة، فلم أكن قد رايتها فى ( النور ).. الاصابات فى المنازل والمنشأت بشعة، وبقايا دخان الحرائق لايزال يخرج من بعض الشوارع ومن الأبنية الواقعة على الشاطىء الغربي لبحيرة التمساح، ومن بعض الأماكن البعيدة فى غرب المدينة وأحيائها الشرقية والجنوبية. حاولت أن أملا صدرى المرهق بدخان السجائر طوال الليل من النسمات القليلة القادمة من الشمال.. إمتلأت أنفاسي برائحة غريبة.. لم يكن هواء المدينة بمثل تلك الرائحة فى أى وقت من الاوقات.. رائحة يختلط فيها دخان البارود برائحة الدماء.. وتراب المنازل والأبنية التى أنهارت نتيجة للقصف المدفعي مع رائحة الأشجار المحترقة التى لاتزال النيران مشتعلة فى بعضها كل هذه الروائه تختلط فى النهاية برائحة زهور الفل والياسمين النفاذة التى تمتلىء بها حدائق نصف المدينة.. المنطقة التى يطلق عليها حي التمساح أو الحى الشرقي. فى الشارع الكبير منازل كثيرة اصيبت اصابات مباشرة.. بعضها أحدثت فيه القنابل فتحات كبيرة والبعض الأخر تصدعت حوائطه وسقطت فى الشارع.. بعض المنازل يخيم عليها الصمت.. كان جميع السكان مازالوا نائمين.. أو تركوها فى الليلة الجهنمية مما اصابهم من ذعر وهلع. فى الشوارع الأخرى الجانبية عشرات من المنازل كانت إصابتها أكثر تدميراً. وبينما كنت أشعل سيجارة جديدة.. سمعت صوتاً غريبا.. كان هناك منزل يتصدع، ومالبث خلال ثوان أن سقط نصفة الامامي على الارض، وأحدث دويا تردد صداه بعنف داخل نفسي.. أسرعت الى هناك لكى ارى ماحدث.. أقتربت بحذر شديد من المنزل محاولا التأكد من أن المنزل لم يسقط على من فيه من سكان. فى اللحظات التالية رأيت مجموعة من رجال الدفاع الشعبي.. وبادرنى أحدهم بسرعة.. قائلا " لقد أخليناه ليلا من سكانه، ولايوجد به بشر.. لا تبتئس ".. مشيت إلى ميدان المحطة " عرابي " وفى الطريق التقيت بأعداد متناثرة من الناس يخرجون من المنازل فى صورة غريبة وكانهم يخرجون للحياة لأول مرة.. كل شىء مدمر تقريبا.. حتى الأشجار كانت قد اصابتها القنابل والهاونات والشظايا وقطعتها، وأشجار أخرى تكسرت كل أو بعض فروعها.. وأشجار اشتعلت فيها النار، فأحرقت كل أوراقها الخضراء.. غير أنها بقيت واقفة.. رأيت أجساداً وجثثا لكائنات صغيرة، كلها من الطيور وأكثرها من العصافير التى يسكن الألف منها أعالى الشجر.. كانت مبعثرة بأعداد لاحصر لها على الارض.. نزفت دماءها البريئة على أديم الشارع أو فوق الأرصفة. قبل الوصول إلى ميدان المحطة.. رأيت شخصاً مكوماً تحت شجرة كبيرة.. وتذكرت الحصان المقتول وصاحبه الباكي الحزين.. كان الشخص هو ذلك الحوذى العجوز شاحب الوجه الى درجة مخيفة زائغ البصر.. كان كمثال للحزن والقنوط واليأس والاحباط.
وفي الميدان كانت جثة الحصان " عزمي " لاتزال فى مكانها.. والدماء قد تجمدت حولها.. أخرجت الكاميرا سريعاً والتقطت صورة لجثة " عزمي "، وعدت الى الحوذى ( منجود ) محاولا اقناعه بالذهاب الى المستشفى وترك المكان حتى لايتعرض هو نفسه للموت.. غير أن الرجل كان ينظر إلى وكأنه ينظر من العالم الأخر.. نظرات لم استطع تفسيرها. فى ذات اللحظات وصلت إحدى عربات الدفاع المدني الكبيرة.. نزل فريق من الرجال وذهبوا نحو جثة الحصان.. وبسرعة بدأوا يحملون الجثة إلى السيارة، بينما بعضهم يقوم بتنظيف المكان من اثار الدماء والقطع المبعثرة من جسد الحصان.. فجأة أرتفع صوت " منجود " صارخاً : إلى أين تأخذون ( عزمي ) ؟.. اقتلوني أولا.. وأسرع محاولا ركوب العربة فأمسك به الرجال يمنعونه من الصعود، فأبلغت رئيس الفريق أن الحل هو نقل الرجل الى المستشفى فورا، بينما كان هو يصيح : اقتلوني.. لن أترك عزمي.. إنه حياتي كلها.. لن أعيش بعده. أسرعت عربة الدفاع المدني بعيدا بينما اشتد بكاء العجوز فى نشيج لم أر له مثيلا فى حياتي.. وبدأ وكأنه يحدث نفسه.. سأنتقم.. سأنتقم لعزمي.. وأشعلت سيجارة ثم قدمتها للعجوز الباكي أخذها وبدا يدخنها بسرعة وهو مستمر فى البكاء ووصلت سيارة الإسعاف وأشرت إلى رجل الاسعاف بسرعة نقل هذا الرجل قبل أن يموت إلى مستشفى الطوارىء القريب من الميدان. فى ميدان السكة الحديد رأيت أعمدة الكهرباء واقعة على الأرض، واسلاكها مبعثرة، ومبنى السنترال إصابته خطيرة، ومبنى البريد شبه مدمر، ومحطة السكة الحديد لايزال الدخان يخرج منها.. ومع ذلك وجدت عدداً كبيراً من الرجال داخل المحطة يعملون بسرعة وفى صمت شديد فى نظافة المكان وغسل الأرصفة وإزالة أثار مذبحة الأمس، بينما ناظر المحطة يجرى اتصالاته لتنظيم مغادرة قطارات الصباح إلى القاهرة والشرقية فى مواعيدها. كانت وجوه هؤلاء الرجال يرتسم عليها تصميم شديد على تغير تلك الصورة الكريهة بكل الوسائل قبل مواعيد العمل.. مشيت بخطوات متثاقلة نحو الحي الشعبي.. الذى كانت الاصابات فيه أكثر من الاحياء الاخرى.. رأيت مجموعات أخرى من العمال الأشداء ورجال الدفاع المدنى والشعبي ينشطون فى نقل مخلفات القصف وبقايا جثث الشهداء التى عثر عليها فى ساعات الصباح الأولى إلى المقابر.
رأيت عند المقابر مشهد الحرب القذرة، ممثلا فى أكوام عديدة من الجثث تنتظر دورها للذهاب الى مثواها الأخير.. وعدد كبير من العمال يحملون الجثث ويذهبون بها الى مقبرة ضخمة فى قلب المقابر، وهي مقابر قديمة أصبح موقعها مع الزمان فى قلب المدينة تقريبا. وجلس عدد من الشباب، وأمام كل منهم طاولة صغيرة، وكشف يسجل فيه أسماء الشهداء قبل نقلهم الى المقابر وتجمعت أمامهم أعداد كبيرة من بطاقات تحقيق الشخصية وصور لأفراد وعائلات الشهداء وقطع النقود الورقية والفضية وأوراق خاصة تحمل ذكريات غالية لهؤلاء الذين ماتوا باقصى قدر من البشاعة بلا سبب.. عدت الى المقابر داخل سيارة الحاكم العسكرى.. كان الرجل - وهو محافظ المدينة - فى حالة شديدة من السوء، فلم ينم طوال الليل، وتحمل على أعصابه مشهد مدينته وهي تذبح.. لم يتكلم خلال الطريق ، كان ماجرى قد أصابنى بالاعياء الشديد.. ولابد من التشبت بأكبر قدر من المقاومة الجسدية وقوة الروح.. جيش العدو يريد قتل ماتبقى من الحياة فى المدينة.. المدينة كما يبدو كانت هي الهدف الذى أراد تحطيمه، الانسان والروح.. ترى كم عدد القتلى والجرحى بالضبط.. هل كان من الممكن أن ينجو أحد من هؤلاء الذين قتلوا أو اصيبوا.. لا.. لم يكن من الممكن أن ينجو أحد. فى مبنى قيادة المقاومة الشعبية، وهو أحد الأبنية التابعة للتنظيم السياسي فى أكبر شوارع المدينة، وجدت عددا كبيرا من المواطنين من أبناء المدينة والقادمين من خارجها بدأوا يتوافدون للسؤال عن أقاربهم أو أولادهم وزوجاتهم.. وكل منهم يقول أنه ذهب إلى المنزل فلم يجد والده أو ابنه أو زوجته أو أقاربه.. الجميع يبحثون عن الذين خرجوا ولم يعودوا منذ ضرب المدينة بالامس.. البعض لديه أمل فى العثور على الغائب، والبعض يسأل فى يأس عن أسماء القتلى والمصابين بحثا عن اسم أو اسماء من يبحث عنهم. كانت هناك ثلاث مجموعات عمل من الشباب تجلس حول طاولات صغيرة وأمامهم كشوف بأسماء الجرحى والمصابين الموجودين فى مستشفيات المدينة.. أو الذين نقلوا الى مستشفيات أخرى خارج المدينة.. وكشوف أخرى بأسماء الذين استشهدوا ويجرى دفنهم فى مقابر المدينة.. ياله من مشهد عاصف مشحون بالحزن الشديد والألم الجارح الغائر فى قرارة النفس. فى الثامنة والنصف من صباح اليوم التالي، كانت الصورة داخل المدينة قد بدات تتغير، نتيجة للحركة السريعة والعمل النشط من جانب كل الأجهزة. وفى غضون ذلك وصل حسين الشافعي مائب رئيس الجمهورية يرافقه عدد من الوزراء وأمين الاتحاد الاشتراكي العربي عبد المحسن أبو النور، وقاموا جميعا بجولة فى أحياء المدينة وشوارعها، وزاروا كل أجهزة الخدمات التى تعرضت للاصابة أو تعطلت، ورأس نائب الرئيس عدة اجتماعات عاجلة فى مبنى المحافظة والمقاومة الشعبية والتنظيم السياسي، وصدرت تعليمات بصرف تعويضات سريعة لجميع المصابين وأسر الشهداء وأصحاب المنشآت والمحلات التجارية التى أصيبت فى العدوان.
وقبل الظهر، وبعد أن تأكدت كل فرق المقاومة والدفاع الشعبي والمدني ورجال الحكم المحلى أنه لم يبق مكان واحد فى المدينة دون التأكد من خلوه من القتلى أو المصابين.. تم حصر كل الشهداء الذين دفنوا والمصابين فى مستشفيات المدينة وخارجها.. بدات الأرقام تتحدد، والصورة الحقيقية للخسائر تتضح.. كان هناك أكثر من 600 منزل ومبنى تعرض لأصابات من الدرجات الاولى والثانية والثالثة، من بينها محطات المياه والكهرباء والسنترال والسكة الحديد والبريد وسوق الجملة الذى يضم مخازن الدقيق ومواد التموين الحيوية، وعدد من محطات البترول، وقد تبين أن عددا من هذه الأجهزة الحيوية لن يعمل قبل عدة أيام، وإن كان بعضه يعمل الأن بكفاءة محدودة.. أما الخسائر فى البشر فكانت الأرقام مروعة.. كان هناك 362 شهيدا بين أمرأة وشاب وشيخ وطفل.. و 350 فردا تختلف إصاباتهم بين شديدة الخطورة ومتوسطة وخفيفة، وقال الاطباء أن عددا من هؤلاء المصابين معرضون للموت فى أى لحظة.
هكذا نجح جيش اسرائيل ( الشجاع ) فى ضرب المدنيين، بينما يطلب من الأمم المتحدة التدخل ثلاث مرات لوقف القتال من جانب الجيش المصري الذى كان يرد على عدوانه بالمثل، ولكن على المواقع العسكرية على الجانب الأخر من القناة.. وفى أحداث اليوم أجدنى أتذكر موقف أسر وعائلات الشهداء والجرحى، كان هؤلاء الناس من ابناء شعبنا صورة رائعة ممتازة من الصمود النادر.. لم أر واحدا منهم يبكي.. حتى النساء من امهات واخوات الشهداء كن صورة ممتازة لشعبنا.. لم ار دمعة واحدة فى عيون كل هؤلاء.. كن يقرأن كشف الشهداء وكشف الجرحى فى هدوء تام لم أر مثله فى حياتى.. كانت السيدات اقوى مما حدث رغم ماذرفته أنا شخصيا من دموع... وبعدين تكتبي:
انظر أيضاً
المصادر
- ^ جسر على قنوان السويس گوگل ريدز
- ^ "عندما بكى فتحى رزق على شهداء الاسماعيلية". المجموعة 73 مؤرخين. Retrieved 2019-06-20.