جريدة دمشق
شهدت دمشق ظاهرة فريدة في شهر آب (أغسطس) 1878 (أي قبل ولاية مدحت باشا) وهي تأسيس ثاني جريدة (كانت الأولى جريدة "سورية" الرسمية) في المدينة، ولكن هي أول جريدة خاصة باللغتين العربية والتركية. أنشأها أحمد عزت باشا وهو في الثالثة والعشرين من عمره، وهو بكر أنجال محيي الدين هولو باشا، الذي أحرز رتبة "بيار بيك" لأنه استترك متخليا عن أصله العربي. وبعد أن قرأ مبادئ العلوم الفقهية على أشهر جهابذة ذلك العصر الشيخ عبد الرحمن الإسنوي والشيخ أحمد الشطي والشيخ أحمد عابدين، تعلم مبادئ اللغات التركية والفرنسية والإنكليزية في مدرسة اللعازاريين، ثم انتقال الى المدرسة البطريركية في بيروت، حيث أخذ العلوم العربية العالية على الشيخ ناصيف اليازجي. وما كاد أحمد عزت باشا يعود الى دمشق حتى عهدت اليه الحكومة سنة 1873 تحرير القسمين العربي والتركي في جريدة "سورية" الرسمية، فضلا عن توليه رئاسة قلم المخابرات العثمانية والعربية أيضا.
وقد أكد المؤرخ فيليب الطرزي بكل وضوح أن أحمد باشا كان لدى تأسيس جريدة "دمشق" رئيسا لقلم المخابرات الحميدي، وليس بعد تعطيل الجريدة. كما يجزم كوتلوف بذلك. ولسنا بحاجة الى خيال مجنح كي نستنتج من هذه الشهاجدة أن مبادرة انشاء جريدة دمشق لم يكن بهدف جعلها شراعات لاستقبال رياح الميول الدستورية، بل كان في الحقيقة مشروعات معدا سلفا ليكون طعما لاصطياد أنصار مدحت باشا ومريديه عربا وأتراكا ولاسيما أنه كان قد عاد توا من منفاه في أوربا، ولما يزل خاضعا لرقابة مشددة تحصى عليه حركاته وسكناته. ولعل خير مصداق لقولنا القاء نظرة سريعة على رسم أحمد عزت باشا العابد، حيث لا يجد الناظر الى سترته مكانا شاغرا لتثبيت زر فيها، اذ علقت عليها أوسمة الشرف والمداليات الرفيعة الذهبية والفضية، والأوسمة المرصعة بالأحجار الكريمة التي "خلا رسمه منها لوفرة عددها" – على حد تعبير الطرزي. وان نسينا فلن ننسى أبدا، أنه بعد انتهاء ولاية مدحت باشا مباشرة، ترك أحمد عزت باشا الجريدة المذكورة فورا. حاثا الخطى الى قصر يلدز في العاصمة اسطنبول، حيث تقلب في مأموريات السلطنة حتى انتدبه السلطان عبد الحميد الثاني فجعله كاتبا وقرينا له. فكان مشمولا بعناية السلطان الخاصة المميزة، فأحرز من الجاه وعلو المنزلة ما لح يحرزه أحد من أبناء العرب المسلمين. وأصبح العابد من كبار المسؤولين عن نشر وترويج أفكار الجامعة الإسلامية في دنيا العرب، والمسؤول الأول عن شبكة التجسس والمخابرات التركية. وهذا ما أكدته المصادر التركية التي أفادت أن السلطان أصدر أمرا خاصا "بتطويق مدحت باشا بالعيون منذ اليوم الأول لتسلمه ولاية سورية". وعن أحمد عزت باشا قال أنطونيوس حرفيا: "كان العابد من أولئك المغامرين الذين ارتقوا دروب السلطة ونالوا الحظوة لدى السلطان عبد الحميد الثاني بفضل دسائسهم ومكائدهم. لقد توصل الى أسمى المناصب، فكان محور سياسة السلطان العربية ومحركها". ومما لا شك فيه أن هذه الحقائق التاريخية هي التي دفعت المؤرخ الطرزي الكبير الى القول: "ولكن نترك للمستقبل الحكم له أو عليه".
لهذا كله لم تكن جريدة "دمشق" تقتصر كنظيرتها الرسمية "سورية" على نشر الأخبار الجافة، بل احتوت فصولا مغرية تشير الى مآثر العرب ومفاخرهم وأمجادهم، وعن الأوضاح المأساوية في الولايات العربية عصرئذ. كما أعيد ترتيب أمورها بعد عودة مدحت باشا بحيث تتناسب وأهداف المهام الموكلة اليها، فعهد مثلا الى أسعد أفندي – مرافق مدحت باشا في المنفى – بكتابة قسمها التركي لرسوخ قدمه في قواعد اللغة العثمانية، ولتبحره في ميدان السياسة الداخلية . وقد اشتهر أسعد أفندي بهجومه مع علي سعاوي على قصر "جراغان" في 20 آثار (مايو) 1878 لانقاذ السلطان مراد الخامس من السجن ومن المشاركين في المؤامرة الدموية. وللعلم نقول أن أسعد أفندي هذا بقى محررا في الجريدة حتى رحيل مدحت باشا ، ثم صار مديرا للريجي في دمشق، ونفي في آخر أيامه الى فزان بطرابلس الغرب، حيث مات في ظروف غامضة.
أما القسم العربي من جريدة "دمشق" فقد استلم تحريره النصراني سليم بك عنجوري الذي كان يومذاك محرر مقالات مركز الولاية. وهو صحافي عمل سابقا في مصر وكان من المدافعين الأشداء عن الخديوي اسماعيل. وبعد ارتقاء الخديوي توفيق العرش، احتل مكانه واحد من أنصار الأفغاني في ادارة تحرير جريدة "مرآة الأحوال". ومن الجلي أن المقالات المشبعة بروح الدستور، التي كان يحبرها كل من أسعد أفندي وسليم عنحوير، لم تكن تروق للرجعي أحمد عارف باك ابن الملا نور الله قاضي دمشق ، الذي انضم الى صاحب الامتياز والذي نقل تحريرها الى أديب نظمي ومصطفى واصف اللذين أنشأها زهاء سنتين. فصارت تصدر بلا انتظام حتى آخر عهدها سنة 1887. وفيما يخص سليم عنحوري المبعد عن ادارة تحرير "دمشق"، فقد اشترك مع أخيه حنا عنحوري في اصدار مجلة "مرآة الأخلاق" وهي نصف شهرية ظهرت في غرة كانون الثاني (يناير) 1866 على شكل كتاب مؤلف من 24 صفحة صغيرة، بدون امتياز من الحكومة. وبعد صدور العدد الأول حجزتها الحكومة بحجة أن سليم عنحوري تحدى القرآن، ورغم أن المحكمة برأت ساحته" فقد حالت شدة المراقبة على المطبوعات دون استئناف صدورها".
ومن ذلك التاريخ حتى انقلاب "العثمانيين الجدد" لم تشهد دمشق سوى ولادة جريدة واحدة "الشام" التي أنشأها مصطفى الواصفي في 22 تموز (يوليو) 1896، ومجلة واحدة "المقتبس" التي أسسها محمد كرد علي بتاريخ 25 شباط (فبراير) 1906, رغم أن عدد المطابع كان في ازدياد مستمر بعد السبعينيات. فقد نقل حنا حداد سنة 1874 من بيروت الى دمشق المطبعة الثالثة التي كان قد أسسها سنة 1864. وكانت "جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية" المؤسسة عام 1878 قد أنشأت "المطبعة الخيرية" سنة 1880. وفي العام ذاته اقتدى بها حبيب الخالدي فأسس مطبعة "نهج الثواب". وقد أسس تباعا كل من خالد خطار الحسيني مطبعة "روضة دمشق" (1893)، ومحمد هاشم الكتبي "مطبعة العالمي" (1898).
علاوة على ذلك ، كانت تعمل في دمشق بالاضافة الى "جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية" ، جمعية "رابطة المحبة" (1874) فرعا لجمعية "شمس البر" البروتستانتية في بيروت، و"الجمعية التاريخية" (1875) أسسها علماء الدين المسلمون للبحث في علم التاريخ، "جمعية الفنون الطبية" (1887) الخاصة بالأبحاث الطبية.
ولاعطاء فكرة عامة عن الأوضاع السائدة في المدن السورية الأخرى نقول: ان مدينة حمص مثلا ، لم يكن فيها أية دورية من الدوريات، ولا أية جمعية خيرية إسلامية، بينما كان المسيحيون متقدمين بالقياس الى المسلمين، اذ كان الروم الأرثوذكس قد أسسوا سنة 1892 "جمعية دفن الموتى" و"جمعية المدارسة الأرثوذكسية".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المصادر
- يغيا نجاريان (1986). "الجمعية العلمية السورية". النهضة القومية – الثقافية العربية. يريڤان، أرمنيا: أكاديمية العلوم الأرمنية.