الهبارية (سوريا)
الهبارية (خربة الأومباشي) هي مواقع أثرية في منطقة الصفا والكْراع، تبعد نحو 80 كم إلى الجنوب الشرقي من دمشق، بين الحدود الغربية للبادية السورية وشرقي جبل العرب ذات الصخور البازلتية البركانية. تعود بواكير الاستيطان الأول في هذه المنطقة إلى العصر الحجري القديم، ثم أصبح هذا الاستيطان أكثر وضوحاً في العصر الحجري الحديث والعصر الحجري-النحاسي. أثارت المنطقة اهتمام المستكشفين منذ منتصف القرن التاسع عشر لما احتوته من كتل بركانية امتزجت بكميات ضخمة من العظام الحيوانية، وانتشرت على مساحات واسعة واختلطت فيها آثار الأنشطة البشرية والاستيطان مع الأنشطة البركانية العنيفة، التي يبدو أنها تركت نتائجها السلبية على الحياة البشرية أكثر من مرة.
جرى العمل التنقيبي الأول في الصفا والكْراع منذ الثلاثينات من القرن الماضي من قبل بعثة فرنسية بإدارة الجيولوجي لويس دوبرتريه L.Dubertret ومشاركة الآثاري موريس دونان M.Dunand، وكانت هذه البعثة أول من قدم معلومات جيولوجية وتاريخية منهجية عن المنطقة سواء من حيث بنيتها الجيولوجية البركانية أم فيما يتعلق بطبيعة المستوطنات والبقايا الأثرية المنتشرة فيها، وخاصة تلك التي وجدت في موقع الهبارية، الذي يقوم على تلة بازلتية، وتبلغ مساحته نحو هكتار واحد، وهو محاط بسور حجري ضخم، وفيه أبنية كبيرة، للتخزين أو للعبادة، بعضها بطابقين. وقد سُكن في الفترة الواقعة بين نهاية الألف الثالث ومنتصف الألف الثاني ق.م. وهناك موقع خربة الدبب المجاور للهبارية شمالاً ومواقع أخرى مختلفة، ولكن إلى الشمال الغربي من الهبارية وعلى بعد نحو 6كم يقوم موقع خربة الأومباشي الأكبر والأهم البالغة مساحته نحو 20 هكتاراً، والذي كُشف فيه منذ ذلك الحين عن بقايا معمارية سكنية وصناعية، ومقابر وأفران وبقايا كتل رمادية وعظمية متفحمة وقد ظن خطأً أن هذين الموقعين يعودان إلى مرحلة حديثة، ربما إلى العصر الروماني، من دون أن يتوقف البحث والنقاش حول حقيقة هذه المواقع وعصرها.
في الخمسينات من القرن الماضي زار المنطقة الهولندي ڤيلم ڤان ليره W.van Liere، ودُهش لما شاهده من حمم بركانية ضمت كميات هائلة من العظام الحيوانية المتحجرة والمتفحمة، دفعت هذا الباحث إلى مقارنة خرائب الهبارية وخربة الأومباشي بخرائب مدينتي سدوم وعمورة الأسطوريتين، ولكن ڤـان ليره كان أول من قام بتحليل عينات متفحمة وتأريخها بوساطة الكربون المشع، وقد تبين أنها تعود إلى الألف الثالث ق.م، أي إلى عصر البرونز القديم. وفي التسعينات من القرن الماضي تشكلت بعثة أثرية سورية - فرنسية مشتركة، ضمت مختلف الاختصاصيين، وقامت بين عامي 1991- 1995 بمختلف أعمال المسح والتوثيق والتنقيب والدراسة الأثرية والتاريخية والبيئية القديمة، مع تركيز أعمالها في موقع خربة الأومباشي الذي أعطى معلومات غزيرة ومتنوعة عن طبيعة الاستيطان البشري في هذه المنطقة وعصوره. وهكذا فقد تبين أن المنطقة قد سكنت باستمرار على امتداد نحو ألفي سنة في عصري البرونز القديم والوسيط، فقد أحاط بخربة الأومباشي في بداية الألف الثالث ق.م سور ضخم، ونشأ فيها بناء كبير، ربما كان معبداً، ولكن البيوت السكنية كانت قليلة مما يطرح السؤال حول وظيفة المستوطنة في ذلك العصر.
وفي نهاية الألف الثالث ق.م نشأت في كل من الهبارية وخربة الأومباشي بيوت حجرية ضخمة ومسورة ومساكن، بعضها دائري وبعضها مستطيل، وهي أحياناً متلاصقة، وأحياناً متباعدة، تمثل أنماط حياة مختلفة ومتباينة من عصر إلى آخر، لكنها كانت قادرة على التكيف في بيئة صحراوية فقيرة على العموم، وقد دلت على أنها تعود إلى جماعات بشرية منظمة ومتطورة عملت في تربية المواشي، وخاصة الغنم والماعز والبقر، ولم يعثر على دلائل ممارسات زراعية مهمة في منطقة فقيرة بالأراضي الزراعية والمياه. كما كُشف عن مقابر جماعية، ربما كانت عائلية، وعن بقايا غنية من الأدوات الفخارية والأدوات الحجرية وأدوات الزينة وبعض الأدوات الزراعية وخزانات تجميع المياه وغير ذلك من المعطيات التي دلت على نشوء أول تجمع حضري مهم في المنطقة المذكورة، مثل المدن الأولى في جنوبي سورية وفلسطين.
وقد استمر الاستيطان البشري كثيفاً حتى منتصف الألف الثاني ق.م، والذي دلت عليه ليس فقط الأنماط المختلفة من البيوت السكنية الصغيرة، من الطين والحجر، أو البيوت الحجرية الكبيرة، ولكن الأبنية الضخمة جداً Mégalithiques التي ما زال النقاش قائماً حولها، وفيما إذا كانت معابد أو مستودعات أو قلاعاً أو بيوت سكن جماعي أو مكان إقامة مراسم وشعائر، أو غير ذلك من أنشطة مجتمع مركب ومنظم على كل صعيد.
ومع بداية عصر البرونز الحديث - نحو منتصف الألف الثاني ق.م- حصل تراجع ملموس في مستوى استيطان هذه المنطقة، وهُجرت الهبارية وخربة الأومباشي لأسباب مجهولة، ونشأت بجوارهما مواقع لمجموعات صغيرة ومتنقلة مارست رعي الحيوانات. وهي لم تترك آثاراً معمارية تذكر، مما يدل على تحول كبير وتراجع عن المستوى الذي عرفته هذه المستوطنات المدنية في عصري البرونز القديم والوسيط. ومهما يكن فإن مواقع الهبارية وخربة الأومباشي تعد بما قدمته من صروح عمرانية ضخمة وأبراج وأبنية سكنية منتظمة، بعضها بطابقين، وأنشطة اقتصادية متطورة في الرعي وتخزين المياه واستخدامها، وإقامة الأقنية والسدود، تعد النموذج الأفضل لعملية نشوء المدن وتقدم الظواهر العمرانية والحرفية والاقتصادية والاجتماعية التي ميزت المدن الأولى في المشرق العربي القديم في الألفين الثالث والثاني ق.م.، وخاصة في المنطقة الواقعة بين جنوبي سورية والأردن وفلسطين.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المصادر
- سلطان محيـسن. "الهبارية (خربة الأومباشي)". الموسوعة العربية.
انظر أيضاً
للاستزادة
- مجلة الحوليات الأثرية السورية، المجلدان الرابع والخامس، 1954- 1955