المغاربة الفاطميون في ساحل الشام
المغاربة في ساحل الشام تاريخهم السياسي والحضاري ( في العصر الفاطمي ) الدكتور عمر عبد السلام تدمري الجامعة اللبنانية ، طرابلس وبيروت
يرتبط تاريخ " ساحل الشام " - اعتبارا من النصف الثاني في القرن الرابع الهجري / العاشر الميلادي - ارتباطا وثيقا بالمغاربة الذين ظهروا على مسرح الأحداث بقوة ، وذلك بعد دخول الفاطميين مصر مباشرة سنة 358 هـ/869 م وتأسيس قاهرة المعز . ويأتي " الكتاميون " في صدارة القوة المغاربية التي بسطت نفوذها في بلاد الشام عموما ، وفي ساحل الشام خصوصا ، وذلك بدءا من استيلاء قائد جيوش المغز لدين الله "جعفر بن فلاح الكتامي " على الرملة وطبرية بفلسطين . ويمكن القول إن الحكم الفاطمي في بلاد الشام قام على أكتافهم ، فمنذ أن تمكن " جعفر بن فلاح " من دخول دمشق سنة 360 هـ/971 م بدأ يقيم علاقات مع أمير التنوخيين في جبال لبنان المشرفة على بيروت ، والمعروفة في المصادر باسم " بلاد الغرب " نسبة لموقعها من دمشق حاضرة بلاد الشام ، حيث قدم " المنذر بن النعمان التنوخي " الطاعة للخليفة المعز فخلع عليه القائد " جعفر " وأقره على أعماله ( 1 ) أما بسط النفوذ والسيادة الفاطمية على كامل الساحل الشامي فقد تأخر لبعض سنين، إذ واجه القائد "جعفر " تحالفا مضادا تألف من : القرامطة والحمدانيين والعقيليين ، ولقي أمامهم مصرعه بالقرب من دمشق في أواخر سنة 360 هـ/971 م ( 2 ) إلى أن عين على دمشق ابنه " أبو محمود إبراهيم بن جعفر بن فلاح الكتامي " المعروف بالمغرب ، وتمكن من
دخولها سنة 363 هـ/974 م ( 3 ) وجرى في السنة نفسها تعيين " ريان الصقلبي " المعروف بخادم المغز ( 4 ) . كما دخل المغاربة مدينة صيدا وشحنوها بالجنود ، وإن كانت الولاية عليها بقيت في يد أسرة " ابن الشيخ " العربية المشرقية ( 5 ) إلا أن الحكم الفاطمي القائم على أساس مذهبي " ثيوقراطي " لم ينعم بالراحة بسبب الاختلاف في المذهب ، إذ أن أغلب أهل دمشق من السنة ، فلم يتقبلوا حكم الفاطميين وهم شيعة إسماعيلية . وزاد من تفاقم الأمور وصول مقدم العسكر الفاطمي " جيش بن الصمصامة " وهو ابن أخت القائد أبي محمود الكتاني المغربي ، فشبت الحرب بين الطائفتين، واضطرب البلد وخربت المنازل والدور ، وانقطعت المواد ، وبطل البيع والشراء ، وقطعت المياه ، وهلك الكثير من الجوع والبرد ، وانتشر الخوف في المسالك والطرقات ، مما دفع بالخليفة المعز أن يكلف والي طرابلس بالإشراف على تهدئة الأوضاع في دمشق ، وإخراج القائد المغربي منها ( 6 ) ولكن أهل دمشق لم يأنسوا لاستبدال قائد فاطمي بقائد فاطمي آخر ، وتطلعوا إلى قيادة سنية ، ولذلك سرعان ما خرج شيوخها وأشرافها لمقابلة القائد التركي " هفتكين " القادم من بغداد والترحيب به ، ودعوته ليقيم بينهم ويتولى أمر دمشق وإزالة الحكم الفاطمي المتعارض مع مذهبهم ( 7 ) . وبذلك انحسر النفوذ الفاطمي في المناطق الداخلية من بلاد الشام وتجمع المغاربة في فلسطين ، وفي المدن الساحلية .
وجاء خروج دمشق من أيدي الفاطميين ليشكل تهديدا خطيرا لسياستهم التي كانت أهم أهدافها الوصول إلى العراق - عبر بلاد الشام - وإسقاط الخلافة العباسية في بغداد ، ولذلك كان على الفاطميين أن يتشبثوا بمواقعهم على سواحل الشام حتى تتهيأ لهم الفرصة لاستعادة دمشق من جديد . غير أن الدولة الفاطمية ما لبثت أن واجهت خطرا آخر كاد يقضي على سيادتها على ساحل الشام أيضا ، وجاء الخطر ، هذه المرة من الدولة البيزنطية ، حيث قام الإمبراطور " تزيمسكيس " ( Tzimisces ) - المعروف في المصادر العربية " ابن الشمشقيق " ( 8 ) - في أواخر سنة 364 هـ وأوائل 365 هـ / 976 م . بجملة برية ضخمة استهدفت أولا المدن الداخلية حمص ، وبعلبك، وإقليم البقاع ، وصلت إلى " الزبداني " بالقرب من دمشق ، ثم إلى عين الجر ( حاليا عنجر ) في البقاع بين بيروت ودمشق ، ثم تولت إلى الساحل ، فهاجمت كلا من صيدا ، وبيروت، وجبيل ، وطرابلس ، وبلنياس، وجبلة ، وغيرها وقد تتبع المؤرخون من المسلمين والروم على السواء تفاصيل مسار الحملة البيزنطية وأحداثها ( 9 ) ، ولكنني سأركز - التزاما بعنوان البحث - على الوجود المغاربي في أثنائها على ساحل الشام ، حيث تشير المصادر إلى أن القائد الفاطمي " نصير الخادم الصقلبي " وصل إلى
بيروت بطريق البحر ومعه عسكر كثير من المغاربة للدفاع عنها ( 10 ) .كما أن " ريان الخادم " غادر دمشق بمن معه من المغاربة ليدافع عن طرابلس بعد أن جاءته الأخبار بنزول الإمبراطور لحصارها . وإلى ذلك ، فقد تحدث الإمبراطور نفسه ، في رسالة بعث بها إلى ملك الأرمن " أشوط شاهان " عن أن فرقة من المغاربة من حامية طرابلس ، تقدر بألفي رجل ، كانت تقوم بمهمة استطلاعية وترصد عند وجه الحجر ( 11 ) بين مدينتي طرابلس وجبيل ، وهو يدعو المغاربة بالإفريقيين ، ويضيف أن الجسارة والجرأة دفعت بهؤلاء المغاربة - الإفريقيين لمواجهة قواته ، وادعى أن قواته انقضت عليهم وأبادتهم عن آخرهم ( 12 ) . فيما أفادت مصادر المؤرخين المسلمين عن انهزام الروم ، ووقوع القتلى والأسرى والغنائم بيد " ريان " وجنده عند طرابلس ، وأنهم سيروا في البحر إلى القاهرة ، وأظهر الخليفة المعز السرور ، وتصدق ، ودخل الناس عليه فهنئوه ، وقال الشعراء في ذلك ، وطيف برؤوس قتلى الروم في أسواق القاهرة ( 13 ) . وقد عاد الإمبراطور فاعترف في ختام رسالته بأن طرابلس هي التي منعته من الوصول إلى القدس . وفي تلك الأثناء حاول القائد " أبو محمد المغربي " وهو في طبرية بشمال فلسطين - أن يعود لأخذ دمشق ومعه نحو الألفين من جنوده ، فسار إلى البقاع ولكنه وقع في قبضة " شبل بن معروف العقيلي " الذي قام بتسليمه إلى " هفتكين " صاحب دمشق ، فسلمه ، هذا بدوره إلى الإمبراطورية وهو في عين الجر ( 14 ) .
أما مدينة صيدا، فقد شحنها الفاطميون أيضا بآلاف الجند المغاربة ، يتقدمهم قائد يدعى " ابن كرامة المغربي " تفرد بذكره " ابن إيبك الدواداري " في تاريخه ، وهو يتحدث عن موقعة جرت عند أبوابها بين " هفتكين " صاحب دمشق ، من جهة ، و"أبي الفتح ابن الشيخ " صاحب صيدا ، و"المنذر بن النعمان " أمير بلاد الغرب التنوخي ، و" ظالم بن موهوب العقيلي " ، من جهة أخرى .
وفي التفاصيل ، إن " هفتكين " قصد عقب حملة الإمبراطور " تزيمسكس " في سنة 365 هـ/976 م . فتصدى له صاحبها " ابن الشيخ " ومع رؤساء ومشايخ من المغاربة ، و"ظالم العقيلي"و" رجاله من العرب " ولما عجز عن اقتحامها لجأ إلى الحيلة والخداع ، فأظهر أنه عجز عن مقاتلتهم وعاد كالمنهزم ، فتبادر المدافعون إلى الخروج من باب المدينة ليلتحقوا به ، ولكن « ظالم العقيلي " فطن بخبرته وتمرسه في الحروب لمكر " هفتكين " ونبه أصحابه إلى أن في الأمر مكيدة ، وإن هدف " هفتكين " هو استدراجهم إلى خارج صيدا ، ولكن تحذره لم يلق آذانا صاغية ، بل إن أحد رؤساء المغاربة وشيوخهم " ابن كرامة المغربي " اتهمه بأنه " دسيس على أمير المؤمنين " ( 15 ) . ووقع ما توقعه " ظالم " ، إذ استدرج " هفتكين " المدافيعن عن صيدا بعيدا عنها لعدة أميال ، حتى وصل إلى نهر في الجنوب منها ، وأمر ساقة العسكر أن يطلبوا طريق بانياس الداخلية ، فطمع عليهم وفاجئوهم بمن معه " فلقوهم بالصدور ، وأقبلوا باللتوت ( 16 ) عليهم، و داسوهم بالخيل عليها التجافيف ( 17 ) ، فانهزموا وأخذهم السيف ( 18 ) ولم يسلم منهم إلا المخف ، فقتل شيخ المغاربة " ابن كرامة " ، وانهزم " ابن الشيخ " و"ظالم " ، وأحصى القتلى بعد انتهاء الموقعة ، فبلغوا " أربعة آلاف من عساكر المغاربة " - على حد قول المقريزي " ( 19 ) .
ولم يستعد الفاطميون نفوذهم في بلاد الشام إلا بعد انتصار الخليفة " العزيز بالله " على القرامطة وحلفائهم من القبائل العربية في مدينة الرملة بفلسطين في آوائل سنة 368 هـ/978م ( 20 ) وبعد ذلك ، تولى أمر طرابلس قائد مغربي هو " نزال الغوربي الكتامي" حيث يرد اعتبارا من حوادث سنة 370 هـ/980 م . وكان تحت إمرته بها ( 6000 ) ستة آلاف رجل ( 21 ) . واكن له دور هام في مواجهة البزنطيين ، حيث نازل مدينة اللاذقية لتي كانت في أيديهم آنذاك ، ونجح هو وقائد فاطمي آخر يدعى " ابن شاكر " في أسر القائد البيزنطي المعين عليها من قبل الإمبراطور " باسيليوس الثاني " ( 22 ) ويورد " النويري " هذا الخبر في حوادث سنة 372 هـ/ 982 م . ويضيف أن " نزالا " دخل القاهرة ومعه 500 أسير من الروم مقيدين بالسلاسل ( 23 ) .
ومن جهة أخرى ، فقد أدى دورا آخر لايقل أهمية عما سبق ، وهو إعادة النفوذ الفاطمي وتثبيته في الشام ، ووضع دمشق ضمن دائرة نفوذه المباشر ، فجمع في وقت واحد بين ولايته على طرابلس ودمشق معا ، وذلك في سنة 381 هـ/991 م ( 24 ) وبعد وفاته في السنة نفسها خلفه ابنه " المظهر . بن نزال الكتامي " على ولاية طرابلس ( 25 ) ، إلا أنه لم يكن بمستوى أبيه في الشجاعة ، إذ أبدى تخاذلا مهينا أمام الإمبراطور " باسيليوس الثاني " عندما قام بحملة إلى طرابلس وحاصرها فيسنة 385 هـ/995 م . فخرج ‘ليه " المظهر بن نزال " ومعه جماعة من وجوه أهلها ، وطرحوا أنفسهم بين يديه ، وأعلموه أنهم في طاعته ، فخلع عليهم وأحسن إليهم ، وعادوا إلى البلد على أن يسلموه إليه . وكان في البلد قاض من أهله هو " علي بن عبد الواحد " ويعرف بحيدرة ، فأغلق هو والرعية الباب في وجوههم ، وأخرج عيال « المظهر بن نزال " من البلد ، فأخذهم وسار مع الإمبراطور ( 26 ) ويذكر " المقريزي " أن أهل طرابلس اجتمعوا على أن ينصبوا أخا " المظهر " مكانه ( 27 ) .
وجاءت حملة الإمبراطورية إلى طرابلس ، وطرد واليها لتعجل بإيفاد القائد " جيش بن الصمصامة " فتولى إمرتها لفترة قصيرة من سنة 386 هـ/995 م . حيث صرفه عنها القائد "سليمان بن جعفر بن فلاح " ، إذ كان " جيش " من شيوخ كتامة المغربية ، إلا أن "سليمان" كان سيء الرأي فيه لعداوة بينهما ( 28 ) . غير أن التهديد الخطير الذي كانت بلاد الشام الشمالية تتعرض له من البزنطيين دفع الخليفة " العزيز بالله " أن يجهز حملة برية أعطى قيادتها ل" ابن الصمصامة " ، الذي ما لبث أن دخل طرابلس من جديد ، كما أمر الوزير "عيسى بن نسطوس " بإنشاء أسطول بحري ليتوجه إلى طرابلس أيضا ( 29) وبدا واضحا أنها أضحت أهم قاعدة متقدمة للدولة الفاطمية على ساحل الشام في وجه التوسع البيزنطي .
وعندما آلت الخلافة إلى " الحاكم بأمر الله " سنة 386 هـ/996 م . أعطى ولاية الشام للقائد " سليمان بن جعفر بن فلاح الكتامي " ، وأمره بالخروج لتمهيد البلاد وبسط سيادة الدولة الفاطمية عليها ، وقبل أن يتوجه إلى دمشق نظر في أمور السواحل ، فصرف بعض الولاة ، وعين آخرين ( 30 ) ، فأعطى ولاية طرابلس لأخيه " علي بن جعفر " وصرف عنها "جيش بن الصمصامة " ( 31 ) . ثم أجرى حركة مثاقلات في السنة التالية 387 هـ/997 م . تولى فيها مدينة صور الأمير " فحل الكتامي " ، فدخلها في جمع كبير من المغاربة بحيث زاحموا أهلها مزاحمة شديدة وضايقوهم ، مما دفع بالأهالي إلى إعلان الثورة ضدهم ، وضد الدولة الفاطمية ، وأمروا عليهم رجلا ملاحا من رجال البحر ، يعرف ب"العلاقة " وقتلوا أصحاب الخليفة وموظفيه ، وقام أمير الثائرين بضرب السكة باسمه ( 32) وانفرد المؤرخ "شمس الدين الذهبي" بتوضيح دوافع هذه الثورة فقال : "وكان الفاطميون قد أذاقوا المسلمين القتل والنهب، حتى أن أهل صور قاموا عليهم وقتلوا فيهم، فهربوا وحتى أن أهل صور استنجدوا بنصارى الروم وكان أهل صور قد لحقهم من المغاربة من الظلم والجور وأخذ الحريم من الحمامات والطرق أمر كبير" ( 33 ) .
وشهدت دمشق ثورة مماثلة ضد القائد "سليمان بن جعفر الكتامي" قام بها جماعة "الأحداث" برئاسة رجل منهم يعرف ب "الدهيقين" ( 34 ) . واستغل "ابن الصمصامة" تلك الأوضاع المتردية في بلاد الشام ، فأغرى "برجوان الخادم" وكان وصيا على "الحاكم بأمر الله" وأوغر صدره على القائد "سليمان" خصمه اللدود، وأطلعه على شدة بغض أهل الشام للمغاربة واستيحاشهم منهم( 35 ) ، فأعطاه تفويضا بتدبير أعمال دمشق وغيرها، وكانت أول خطوة اتخذها هي الخروج إلى الرملة والقبض على القائد "سليمان"، وتمكن فيما بعد من القضاء على الثورتين في صور ودمشق سنة 388 / 998 م. وأعطى ولاية صور للحمدانيين تهدئة لخواطر أهلها ( 36 ) ، وأعطى ولاية طرابلس للقاضي "علي بن عبد الواحد حيدرة الكتامي" الذي جمع بين منصبي الولاية السياسي، والقضاء والدعوة الدينية ( 37 ) ، فيما أبقى صيدا بيد الشيخ الشيبانيين، وبيروت تابعة لأمراء الجبل التنوخيين.
وبلغ نفوذ قاضي طرابلس "ابن حيدرة الكتامي" أقصى اتساع حازه أي قاض أو وال، قبله أو بعده، حيث وصل نفوذه إلى ما وراء مدينة حلب شمالا، وإلى مدينة صور جنوبا، وكانت حلب بحكم موقعها المتوسط لدائرة النفوذ البيزنطي في الشمال، والنفوذ الفاطمي في الجنوب، تعاني من حالة عدم التوازن في الحكم، وزاد من ذلك الخلافات والمنازعات التي كانت لا تفتأ مستمرة بين أمرائها الحمدانيين، وكان على طرابلس بحكم موقعها المتقدم كقاعدة فاطمية على ساحل الشام أن تقوم بمواصلة دورها السياسي في تثبيت السيادة الفاطمية، وبسط النفوذ الفاطمي إلى أقصى حدود بلاد الشام الشمالية، بعد أن مارست هذا الدور في دمشق وما حولها من قبل على عهد القائدين "ريان" ثم "نزال" وعادت في سنة 400 هـ/ 1009 م. تمارس هذا الدور على حلب وما حولها، في عهد قاضيها "ابن حيدرة الكتامي"، وقائد جندها "أبي سعادة المغربي"، حيث استنجد "مرتضى الدولة ابن لؤلؤ" الوصي على "أبي الهيجاء الحمداني" أمير حلب بالخليفة الفاطمي "الحاكم بأمر الله" ليساعده ضد صاجب ديار بكر الذي كان يطمع في الاستيلاء على حلب، وأرسل إليه يشترط على نفسه أن يقيم على المدينة واليا فاطميا من قبله ( 38 ) . فرأى "الحاكم" في ذلك فرصة ليخرج بعسكر كثيف، وضم معه القاضي "ابن حيدرة" ونجح القاضي - بشكل خاص - في إنزال الهزيمة بحلفاء الروم، وتحييد القبائل العربية عن الصراع بين الأمراء، وسجل الشاعر "التهامي" الذي صادف وجوده بطرابلس آنذاك خروج القاضي "ابن حيدرة" مشيدا بدوره في قصيدة مطلعها :
شاء المهيمن أن تسير مشـــــرقا "حلب فقيض ما جــــرى وأتــاحا واردت إصلاح الأمور فأفسدت فنهضت حتى استحكمت إصلاحا كانوا يرونـــك مفردا في جحفل ووراء ســـور إن نزلـــــت براجـا ( 39 ) وكان في قلعة "عزاز" شمالي حلب غلام من غلمان "مرتضى الدولة" متهم بأنه كان يميل إلى الأمير الحمداني "أبي الهيجاء" فطلب منه "مرتضى الدولة" أن يتنازل عن القلعة، فلم يجبه الغلام إلى ذلك، وتملكه الخوف منه، ولما شدد "مرتضى الدولة" طلبه، أجابه الغلام بأنه لا يسلم القلعة إلا لقاضي طرابلس "ابن حيدرة" المستولي على النظر في طرابلس وفي سائر الحصون" ( 40 ) . ولما كان "ابن حيدرة" ما يزال عند حلب، فقد ذهب إلى "عزاز" وتسلم قلعتها، وسلمها بدوره إلى "مرتضى الدولة" ، وكتب إلى الخليفة يخبره بذلك ( 41 ) . ويذكر "الأنطاكي" عقب هذا الخبر أن بني كلاب طالبوا "مرتضى الدولة" بالوفاء بما شرطه على نفسه من منحهم الإقطاع إن نصروه، وعندما دافعهم عنه تسلطوا على حلب، وحاصروه في القلعة وضيقوا عليه حتى احتال عليهم وقبض على زهاء سبعمائة من أمرائهم ورؤسائهم وذوي الشجاعة فيهم، وقتل جماعة منهم، وأسر الباقين ( 42 ) . أما الشاعر "التهامي" الذي كان بطرابلس في ذلك الوقت، فقد ضمن ديوانه قصيدتين يفهم منهما أن بني كلاب تحركوا في جنوب "لبنان" أيضا، ودخلوا صور فنتزعوها من يد الدولة الفاطمية، فخرج "ابن حيدرة الكتامي" لقتالهم وهزمهم بعد معركة طاحنة، فقتل من قتل من رجالهم، وفر الباقون تاركين نساءهم وراء ظهورهم، فقال "التهامي" من قصيدة : غادرت أســد بني كـــلاب أكــلبـــا إذ زرتهــم، وزئيرهـــن نــبــــاحا فنسوا النساء، ودمـــروت ما دبــروا ورأوا بقا أرواحهــم أربـــاحـــــا يتلو هزيمهــــــم الــــسنـــان كـــأنه حر ان يطلب في قراه قــــراحـــا والسمر قد لفتـــهــــم أطـــرافــــها لفا كما اكتنف البنان الــــراحــا فمعفر حســـــد الحـــياة، وهـــارب حسد الرفات العبر والصــفـــاحا حتى إذا افتنت القنا أواحــــــــهــم قتلا، وقدمت الصفـاح صـــفاحا رفعوا أصابعهم إلــــيك ونكســـــوا أرماحــهم فثنـــين مــــنك جماحا وتركت أعينهم ب"صور" في الوغى صورا، وقد جاح الورى ما جاجا ( 43 ) ووضع "ابن حيدرة" عاملا على صور من قبله، وصفح عن أهلها فقال "التهامي" : أغدى ندى كـــفيـــه "صور وأهلها والبدر يقلــــب طبع كل ظلام ولو أن "صورا جنة مااستــــكثرت وأبيـــك مـــن غـــلمانه لقلام يعفـــو، فيـــفعـــل حلـــمه بعدوه ما تفعل الأسيـاف بالأجســـام ( 44 )
وهكذا نرى أن قاضي طرابلس كان يبسط نفوذه إلى أقصى بلاد الشام في الشمال، وأقصى مدن "لبنان" في الجنوب. وقد أعاد "ابن حيدرة" إلى "مرتضى الدولة" يطلب منه إنجاز وعده الذي قطعه له وللخليفة بإقامة وال على حلب، ولكن "مرتضى الدولة" دافعه ولم يبر بوعده، فعاد إلى طرابلس بمن ورد معه ( 45 ) ، دون أ ن يحقق ما كان يرغب به الخليفة، فنقم عليه "الحاكم بأمر الله" لكونه سلم قلعة عزاز إلى "مرتضى الدولة" ، وبعث إلى طرابلس قائدا وخادمين معه، فقطوا رأس القاضي في شهر ذي الحجة سنة 401 هـ. وحملوه إلى مصر ( 46 ) ، وخسرت طرابلس قاضيا من أعظم قضاتها، و تعاقب على القضاء بعده إبناه : القاضي "الحسين بن علي حيدرة" ( 47 ) ، والقاضي "هبة الله بن علي حيدرة " ( 48 ) .
فيما بقي "أبو سعادة" يتولى قيادة عسكرها ومعظمهم من المغاربة، واستنجد به والي "المعرة" لدفع المحاصرين لبلده، فوافاه في ثلاثة آلاف رجل، وذلك في سنة 402 هـ/1011 م( 49 ).
ونرى في بعض النواحي من "لبنان" ابن ثعبان الكتامي "وهو يرسل عشرة أحمال تفاح إلى الخليفة "الظاهر" ( 50 ) . ولما استولى "بنو أبي الفتح" على طرابلس حول منتصف القرن الخامس الهجري الحادي عشر الميلادي، جاءهم الأمير "حيدرة بن منزو الكتامي" وتمكن من القضاء على حركتهم بمساعدة ابن قبيلته أيضا "أمين الدولة ابن عمار" ( 51 ) . بل إن "ابن منزو" مات وهو على صور، يتعقب "بدرا الجمالي" سنة 462 هـ/ 1070م. وكان "جلال الملك ابن عمار" صاحب طرابلس قد تزوج ابنة "حيدرة بن منزو" وأوى أخاها "معلى الكتامي" إلى صور، ثم إلى طرابلس قبل أن يحمل إلى مصر ويقتل هناك ( 52 ) .
وظل بنو عمار الكتاميون يقبضون على زام الإمارة في طرابلس إلى مطلع القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي، مما يدل على الحضور القوي للجالية المغاربية في ساحل الشام، وبشكل خاص في الولايات الساحلية ب «لبنان» . وتجدر الإشارة أيضا إلى أن المغاربة لم يكونوا كلهم إسماعليين على مذهب الدولة الفاطمية، بل كانوا في الغالب من الشيعة الأمامية، وبعضهم من السنة على المذهب المالكي.
وتستحوذ إمارة بني عمار الكتاميين المستقلة في طرابلس الشام الكثير من الأخبار في المصادر التاريخية لمدة تنيف على الخمسين عاما، هي مدة قيام إماراتهم التي امتدت من جبلة شمالا إلى جنوبية جنوبا. ووقفت على الحياد بين الدولة الفاطمية الإسماعيلية في مصر، والدولة السلجوقية السنية في العراق، وواجهت الحملات الصليبية حتى سقطت سنة 502 هـ/ 1109م. ودمر الصليبيون دار العلم بطرابلس وأحرقوا مكتبتها الرائعة التي قيل إنها كانت أكبر مكتبة في الدينا، وتضم نحو ثلاثة ملايين مخطوط ( 53 ) . وإن الحديث عن إمارة بني عمار سياسيا وعسكريا وإداريا واقتصاديا واجتماعيا يتطلب كتبا قائما بذاته. كذلك الأمر فيما يتعلق بدار العلم وتأسيسها، وتطور بنائها، ونظارها، ومعلميها، وتلامذتها، والمؤلفات التي تحتويها...وبما أن المقام لا يتسع لذلك، أكتفي بهذه الإلماعية السريعة، محيلا الباحثين الكرام إلى بعض ما كتب عن بني عمار، وعن المكتبة ( 54 ) . ولما كان ساحل الشام قد خضع لاحتلال الصليبيين ما يقرب من القرنين من الزمان ( 6 و 7 هـ/ 12 و 13 م )، فإن أخبار المغاربة في المنطقة انحسرت بشكل شبه كامل، ليعود ذكر المغاربة من جديد عند حملات المسلمين التحريرية لساحل الشام الصليبية، وفي عصر المماليك. وقبل الانتقال إلى مرحلة ما بعد الحروب الصليبية، أتوقف قليلا للتعرف على بعض المغاربة الذين نزلوا سواحل الشام وشاركوا في حركتها الثقافية، وأبدأ بأحد أعلامهم في القرن الثاني الهجري الثامن الميلادي وهو :
° عقبة بن علقمة الفهري المعافري، أبو سعيد البيروتي أصله من المغرب، سكن الشام، ونزل ببيروت وأقام فيها فنسب إليها. وتتلمذ على إمام أهل الشام وفقيهم "عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي" الذي انتشر مذهبه في بلاد المغرب والأندلس في القرنين الثاني والثالث الهجريين، وكان "عقبة" يلازم "الأوزاعي" حتى عد واحدا من أصحابه العشرة الذين اختصوا بصحبته. وتفرد هو بأحاديث عن "الأوزاعي" لا يرويها غيره. وهو الذي حكى سبب موته. روى عنه : انبه محمد بن عقبة ، والعباس بن الوليد البيروتي، وشيبة بن أبي ملك البيروتي، وعبد الحميد بن بكار البيروتي، وتمام بن كثير الجبيلي ( من جيبل بين بيروت وطرابلس) ، وغيرهم وهو توفي سنة 204 هـ ( 55 ) . وفي العصر الفاطمي نتعرف على شاعر كتامي الأصل، وهو : ° جعفر بن علي بن دواس الكتامي، أبو طاهر، المعروف بقمر الدولة وهو من أهل مصر، ولكنه نشأ بطرابلس الشام ودرس فيها، ثم رحل إلى بغداد وأقام بها مدة في خدمة "قسيم الدولة البرسقي" وكان نديما له. وكان شاعرا رقيق الألفاظ، عذب الإيراد، لطيف المعاني، وله في الغناء وضرب العود والتطريب طريقة حسنة بديعة. ذكره "العماد الأصفهاني" في " الجريدة " وأفاض في وصف براعته بالعزف على العود، والغناء ولعب الشطرنج، والنظم والنثر، وحكاية النوادر. ومن شعره : تعجبت "در" من شيبي فقلت لها : لا تعجبني، فطلوع البدر في السلف وزادها عجبا أن رحــــت في سمل وما درت "در" أن الدر في الصدف ولم تؤرخ المصادر لوفاته ( 56 ) وبعدها، ونزل في رحلته بساحل الشام، فقرأ علي ابن رجاء بعسقلان، وإسماعيل بن عليان بارسوف، وجامع بن الخضر بصيدا، والخضر بن أحمد بصيدا أيضا، وسليم بن أيوب الرازي الفقيه بصور، ومحمد بن إسماعيل الجوهري ببيروت، وسمع وقرأ في بلاد كثيرة إلى أن قال : فجملة من لقيت في هذا العلم ثلاث مائة وخسمة وستين شيخا من آخر المغرب إلى باب فرغانة يمينا وشمالا وجبلا وبحرا، ولو عملت أحدا يقدم علي في هذه الطريقة، في جميع الإسلام لقصدته. وله كتاب "الوجيز" وكتاب " الهادي" ،ثم ألف كتاب "الكامل» وجعله جامعا للطرق المتلوة، والقراءات المعروفة، ونسخ به مصنفاته، وذكر فيه الشيوخ الذين قرأ عليهم، وعدتهم مائة واثنان وعشرون شيخا ( 60 ) .
هذا، عدا عشرت الأندلسيين الذين نزلوا سواحل الشام وشاركوا في الحياة العلمية، وهم يستحقون أن نفرد لهم بحثا آخر. أما من أعلام المغاربة الذين نزلوا سواحل الشام في فترة الاحتلال الصليبي، فنذكر : ° عبد الوهاب بن عيسى بن محمد، أبو محمد البسكري المغربي الفقيه المالكي، قدم دمشق وهو شاب سنة 525 هـ، وكان يختلف إلى مدرسة الفقيه أبي البركات بن عيد، ثم رزق عناية من الأمير فتحلق تحت النسر بالجامع الأموي، واجتمع في الوعظ، وفتح عليه، ودرسهم مذهب مالك في حياة الفقيه الفندلاوي، ثم شرع في الوعظ، وفتح عليه، فلما استشهد الفندلاوي جلس في حلقة المالكية، فلما مات "أنر" قصده ابن الصوفي رئيس دمشق، فخرج إلى بعلبك فأحسن إليه أميرها عطاء بن حفاظ السلمي الحصني. فلما جاء عطاء إلى دمشق أعاده إلى الحلقة، وعزل عنها الفقيه عيسى بن هارون. مات ليلة الخميس 6 رجب سنة 554 هـ ( 61 ).
°عبد الله بن محمد بن عبد الله بن علي، أبو محمد الأشيري الصنهاجي الشيخ الحافظ مجد الدين الأشيري، نسبة إلى أشير حصن بالمغرب الفقيه المالكي.
روى عن أبي الحسن الجذامي، والقاضي عياض، وكان عالما بالحديث وطرقه وبالنحو واللغة والنسب، كثير الفضائل. أجاز للمؤرخ أبي المحاسن يوسف ب رافع المعروف بابن شداد صاحب "السيرة" جميع ما يرويه عن اختلاف أنواعه. قال "ابن شداد" : في فهرستي خطه بذلك مؤرخا بشهر رمضان سنة 559 وفهرسته عندي بذلك. توفي في شوال سنة 561 بالشام ودفن ببعلبك ظاهر باب حمص شمالي البلد، وقبره ظاهر ببعلبك ( 62 ) .
° محمد بن سليمان بن معالي بن أبي سعيد المغربي الشافعي له سماع للحديث، حضر مجلس الشيخة الصالحة أم الفضل كريمة حفيدة محمد بن أبي ذر الصوري من مدينة صور بساحل الشام، وسمع عليها "مسند عبد الله بن عمر" بقراءة أحمد بن إسماعيل بن فلوس، وذلك بالميطور بالبقاع، في 7 ربيع الآخر سنة 641 هـ واسمه مذكور في سماعات المسند ( 63 ) .
° مروان بن عثمان، أبو الحسن الصقلي المغربي فقيه، له شعر لابأس به. قدم دمشق سنة 478 هـ، ونزل صور بساحل الشام وأنشده شيئا من شعره. ذكره "ابن عساكر" وقال : وهو رجل صدر إمام، زاهد، فقيه، عالم، أحسن الناس خطا، وأكثر في العلم حظا. وصل إلى دمشق فأنزله الشيخ الأمين أبو محمد بن الأكفاني بمنزله وتكفل بجميع حوائجه مدة مقامه عنده، ولم يكن يقبل الهدية ولا له في التكسب نية، ولم يدرس أحدا، وكان يكاد يظهر، ولم أجتمع به إلا بعد أن استأذنه الشيخ، ففسح في حضوري فحضرت ومعي " الجمل" ( للزجاجي) وقرأت عليه منه كراسة واحدة. وسار إلى بغداد واتصل بالخليفة وعزم عليه في تعليم ولده، فدخل داره وهناك توفي، ولم يذكر ابن عساكر تاريخ وفاته.
وهو القائل : هــل من لواعج البين من جــــار لمتسهام غريب دمعه جـــــاري حـــيران مغـــــترب مـــكتئــــب ذي دمع سرب كالسيل خـرار وكلـما نسمت بخديه نظمت ريح الجنوب بتاريــخي وأفــــكاري فيض الدموع ونيران الضلوع معا يا قوم كيف اجتمع الماء و النار؟( 64 ) وكان للمغاربة دور واضح في ساحل الشام على عهد المماليك، سياسيا وحضاريا، ولا تزال آثارهم قائمة حتى الآن في عدة معالم عمرانية، وخاصة في مدينة طرابلس الشام، آمل أن أتناوله في بحث قادم إن شاء الله.