الجمعية التشريعية (فرنسا)
أثناء الثورة الفرنسية، الجمعية الوطنية التشريعية Assemblée nationale législative كانت السلطة التشريعية لفرنسا من 1 أكتوبر 1971 حتى 20 سبتمبر 1791. وقد أبرزت النقاش السياسي والتشريع الثوري للقوانين بين فترتي الجمعية الوطنية التأسيسية و المؤتمر الوطني.
وكانت الجمعية التشريعية تقودها جماعتان متعارضتان. أعضاء الجماعة الأولى كانوا في الأساس أعضاء معتدلين من الطبقة البورجوازية وكانوا يفضلون ملكية دستورية، يمثلهم الفويان، الذين شعروا أن الثورة قد حققت بالفعل هدفها.[1] الجماعة الثانية كانت الفصيل الديمقراطي، الذين اعتبروا أن الملك لا يمكن الوثوق به بعد اليوم، ويمثلهم الأعضاء الجدد في نادي اليعاقبة.[2] ادعت هذه الجماعة أن المزيد من الإجراءات الثورية واجبة.[3] · [note 1]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
شخصيات الأحداث
كانت انتخابات المؤسسة الثورية الثانية يراقبها الصحفيون بحماس وتشرف عليها الأندية بقوة فعالة. لقد أصبح للصحفيين تأثير جديد في السياسة العامة منذ كادت الرقابة على المطبوعات تختفي، فقد كان لكل من بريسو Brissot ولوزتالو Loustalot ومارا Marat وديمولان Desmoulins وفريرو Fréron ولاكلو Laclos ، دورية (صحيفة) كمنبر له يعبر من خلالها عن آرائه في الدفاع عن حقوق الشعب.
وفي سنة 0971 كان في باريس وحدها 331 صحيفة بالإضافة إلى مئات الصحف في الدوائر (المحافظات أو المديريات)، وكانت هذه الصحف كلها تقريبا تؤيد الخط الراديكالي. وكان ميرابو Mirabeau قد نصح الملك بضرورة شراء بعض الصحفيين ذوي الشعبية إن أراد الاحتفاظ بعرشه أو برأسه. ومما قاله نابليون إنه "كان من الممكن أن يبقى نظام النبالة القديم لو عرف النبلاء بقدر كاف أن يسيطروا على المطبوعات... لقد أدى ظهور المدافع إلى قتل النظام الإقطاعي، أما الحبر فسيقتل النظام الحديث"(1).
وكادت النوادي أن يكون لها تأثير الصحف نفسه، فنادي البريتون The Breton Club الذي تبع الملك والجمعية إلى باريس أعاد تسمية نفسه بجمعية أصدقاء الدستور Society of Friends the Constitution وأجرت حجرة في الدير اليعقوبي السابق بالقرب من التويلري Tuileries ليعقد الأعضاء فيها اجتماعاتهم، وفيما بعد توسعوا في المكان فضموا المكتبة بل وحتى المصلى(2). وكان اليعاقبة كما أطلق عليهم التاريخ في البداية يمثلون كل أعضاء هذا النادي أو الجمعية لكنهم سرعان ما أثروا جماعاتهم بضم أشخاص مبرزين في العلوم والآداب والسياسة أو إدارة الأعمال. وهنا وجد الأعضاء السابقون (في الجمعية الوطنية) مثل روبسپيير الذي نحى نفسه عن عضوية الجمعية التشريعية منطلقاً جديداً يمارسون منه السلطة. وكانـت الديون مرتفعة فحتى سنة 3971 كان معظم الأعضاء من أفراد الطبقة الوسطى(3).
وتضاعف تأثير اليعقوبيين بفعل منظمة النوادي المنتسبة إليهم في كثير من كومونات فرنسا (الكومون هنا تنظيم إداري أصغر من الدائرة أو المحافظة) والتي اتفقت جميعا على الاعتراف بالنادي الأم وبقيادته في مجالي الفكر والاستراتيجية. وفي سنة 4971 كان هناك نحو 008.6 ناد يعقوبي تضم جميعا نصف مليون عضو(4). وكان اليعاقبة يشكلون أقلية منظمة وسط جماهير (أغلبية) غير منظمة. وعندما أيدت الصحف سياساتهم أصبح تأثيرهم في المحل الثاني لا يسبقه سوى تأثير الكومونات (البلديات) التي تتحكم في التشكيلات المحلية للحرس ا لوطني من خلال مجالسها البلدية وأقسامها التأسيسية. وعندما كانت هذه القوى كلها تعمل بتناسق، كان على الجمعية أن تعمل حسابها أو تحسب أمر مواجهة جماهير غير مدركة لا يضبطها ضابط أو حتى مواجهة عصيان مسلح. لقد كتب رجل إنجليزي كان في باريس في سنة 1971 "إن النوادي متوفرة في كل شارع"(5). لقد كانت هناك جمعيات أدبية ورياضية ومحافل ماسونية وتجمعات عمالية. ولما وجد بعض الزعماء الراديكاليين أن اليعاقبة بورجوازيون غلاة أسسوا في سنة 0971 "جمعية أصدقاء الإنسان والمواطن" التي سرعان ما أطلق عليها أهل باريس نادى الرهبان الفرنسسْكان (نادي الكوردليير)(ü) Cordeliers Club لأن أعضاءه كانوا يجتمعون في مبنى كان فيما سبق ديراً للفرنْسِسْكان، وقد أتاح هذا النادى لكل من مارا Marat وهربير Herbert وديمولين Desmoulins ودانتون Danton عرض أفكارهم فيه. وقد أسس كل من لافاييت Lafayette وباييه Bailly وتاليران Talleyrand ولافوازيه Lavoisier وأندريه Andre ومارى جوزيف دى شينيه Marie Joseph de Che`nier ودو بونت دى نيمور Du pont de Nemours جمعية عرفت "بجمعية 9871" كان هدفها هو دعم الملكية المترنحة، وقد بدأت هذه الجمعية اجتماعاتها بشكل منتظم في القصر الملكي في سنة 0971، وكان تأسيسها بهدف الحد من غلواء اليعاقبة، إذ رأى مؤسسو هذه الجمعية (جمعية 9871) أن اليعاقبة راديكاليون مغالون (مفرطون في راديكاليتهم)، وظهرت جماعات أخرى ملكية (ذات توجه ملكي) بقيادة أنتوني بارنييف Antone` Barnave واسكندر دى لاميتAlexandre de Lameth اللذين كونا ناديا عرف في التاريخ باسمه المختصر الفويان(üü) Feuillants لأنهم كانوا يعقدون اجتماعاتهم في دير بندكتي عرف بهذا الاسم.
إن هذا كله علامة على علمنة الحياة الباريسية بسرعة فقد أصبح كثير من الأديرة السابقة الآن مراكز للإثارة السياسية.
وقد ظهرت التيارات (الاتجاهات) المختلفة للأندية في أثناء الانتخابات التي استوعبت ببطء أوراق الاقتراع السري على الجمعية الجديدة (التشريعية) إذ تم الاقتراع في شهري يونيه وسبتمبر سنة 1971، فالموالونLoyalists الذين هذبهم التسامح والتعليم عولوا على حث الناخبين وعلى تقديم الرشاوي لجمع الأصوات لصالحهم، أما اليعاقبة وأعضاء النادي الفرنسسكاني (الكوردلير) الذين عركتهم الأسواق والشوارع فقد زاوجوا في دعايتهم الانتخابية بين الرشوة واستخدام القوة (الإرغام) لقد فسروا القانون تفسيرا مفصلا إلى أبعد مدى ومنعوا أي شخص رفض أن يقسم يمين الولاء للدستور الجديد من الإدلاء بصوته، ومن هنا فإن غالب الكاثوليك المتدينين قد جرى استبعادهم تلقائيا. وتم تنظيم الجموع للإغارة على الاجتماعات التي يعقدها الموالون Loyalis ts وتشتيت المجتمعين فيها، كما حدث في جرينوبل Grenoble ، وفي بعض المدن مثل بوردو Bordeaux منعت السلطات البلدية كل اجتماعات النوادي ما عدا نادى اليعاقبة وحدث في مدينة واحدة أن أحرق اليعاقبة وأنصارهم صندوق اقتراع كانوا يشكون أنه يضم أصواتا غالبها محافظ(6).
ورغم هذه المظاهر الديمقراطية فلم تؤد الانتخابات إلى وصول أقلية أساسية تسعى للحفاظ على الملكية إلى الجمعية التشريعية. وشغل الفويان Feuillants وعددهم 462 عضوا القسم الأيمن من القاعة، لذا فقد أعطوا اسمهم (المحافظون) في كل مكان لكل من اتخذ مجلسه إلى اليمين. و جلس اليعاقبة والكوردليير (جماعة أصدقاء الإنسان والمواطن) إلى اليسار في القسم المرتفع الذي أطلق عليه اسم الجبل وبالتالي فقد عرفوا باسم الجبليين Montagnards وفي الوسط جلس 553 عضوا رفضوا تصنيف أنفسهم ومن ثم فقد أطلق عليهم اسم أهل السهل Plain . ومن بين 557 عضواً كان هناك 004 قانوني كانوا ملائمين لطبيعة الجمعية التشريعية. والآن فقد خلف القانونيون رجال الدين في السيطرة على البلاد. وكان أعضاء الجمعية التشريعية كلهم تقريبا من الطبقة الوسطى، فلا زالت الثورة إذن عيدا للبرجوازية.
وحتى 02 يونية سنة 2971 كان أكثر الجماعات نشاطا في الجمعية التشريعية هم أولئك المنتمـون إلى دائـرة (محافظـة) جيروند Gironde . إنهم لم يكونوا حزبا منظما (ولم يكونوا من الجبليين(ü) Montagnards ) ولكنهـم كانوا جميعا تقريبا من مناطق ذوات نشاط صناعي وتجاري - كان Caen ونانت Nantes وليون Lyons وليموج Limoges ومرسيليا Marseilles وبوردو Bordeaux ، فسكان هذه المراكز النشيطة كانوا قد تعودوا على الحكم الذاتي Self-rule وكانوا يتحكمون في كثير من أموال المملكة وتجارتها الداخلية والخارجية، وكانت بوردو Bordeaux عاصمة الجيروند تتذكر بفخر أنها هي التي نشّأت مونتاني Montaigne ومنتسكيو Montesquieu ، وكان زعماء الجيرونديين كلهم تقريبا أعضاء في نادي اليعاقبة وكانوا متفقين مع معظم اليعاقبة الآخرين في معارضة الملكية والكنيسة لكنهم كانوا ممتعضين من أن تحكم باريس وجماهيرها بلاد فرنسا، واقترحوا بدلا من ذلك أن تكون فرنسا جمهورية فدرالية تتمتع دوائرها (محافظاتها) بقدر كبير من الحكم الذاتي.
وكان منظرّهم هو كوندرسيه Condorcet وكان فيلسوفا ومتخصصا في التربية والمالية واليوتوبيا Utopia (المدينة الفاضلة أو المثالية). لقد مضى وقت طويل قبل أن ندفع له ما علينا من دين. وكان خطيبهم المفوه هو بيير فيرجنيو Pierre Vergniaud الذي ولد في ليموج Limoges من رجل أعمال وقد ترك بيير المعهد اللاهوتي ودرس القانون ومارس المحاماة في بوردو وتم انتخا به فيها للجمعية التشريعية التي جعلته رئيسا لها أكثر من مرة. وكان جاك بيير بريسو Jacques- Pierro Brissot لا يزال من أكثر أعضاء الجمعية التشريعية تأثيرا وهو من مواطني شارتر Chartres وكان أقرب إلى المغامر، شغل عدة وظائف، وخبر مجموعات القوانين في أوروبا وأمريكا وعاش في مناخات مختلفة، وباختصار فقد تم سجنه في الباستيل في سنة 4871، وأسس في سنة 8871 جمعية الأصدقاء السود Societé de Noirs Amis وعمل بجد على تحرير العبيد.
وكان واحداً من مندوبي باريس في الجمعية التشريعية وأخذ على عاتقه مهمة السياسة الخارجية، وقد قاد الاتجاه المنادي بالحرب. وقدمه كوندرسيه Condercet مع فيرجينيو Vergniaud إلى مدام دى ستيل de Stael فأصبحا من المداومين بإخلاص على الحضور إلى صالونها وساعدا عشيقها الكونت دى ناربون لارا - Comte de Narbonne Lara كي يعينه لويس السادس عشر وزيرا للحرب(7). وظل الجيرونديون لفترة طويلة يطلق عليهم اسم البريسوتيين Brissotins نسبة إليه.
ويذكر التاريخ جيدا جان ماري رولاند دي لا بلاتيير Jean- Marie Roland de La Platiére لسبب رئيسي وهو أنه تزوج لامعة ألهمته الأفكار والأسلوب وخدعته واحتفت بذكراه، ومجد صعودها إلى المقصلة على وفق رواية شهيرة وقد تكون خرافية. وعندما كانت جين مانون فليبو Jeanne Manon Phlipon في الخامسة والعشرين من عمرها تقابلت مع جان ماري Jean- Marie الآنف ذكره في روان Rouen في سنة 9771، وكان وقتها في الخامسة والأربعين من عمره، برأسه بداية صلع وكانت الاهتمامات التجارية والتأملات الفلسفية قد أرهقته، وكان ذا ابتسامة أبوية جميلة، وكان يدعو لرواقية نبيلة فتنت مانون التي كانت بالفعل متآلفة مع الكلاسيكيات القديمة وأبطالها فقد قرأت بلوتارخ Plutarch وهي في الثامنة من عمرها، وكانت أحيانا تفضله على كتاب الصلوات عندما تكون في الكنيسة ومن أقوالها" إن بلوتارخ قد مهد الطريق لأكون جمهورية"(8).
وكانت ذات روح عالية وهي طفلة، فمن أقوالها " في مناسبتين أو ثلاث عندما ضربني أبي عضضت فخذه الذي كان يجلسني عليه"(9) ولم تفقد عضتها أبدا، لكنها قرأت أيضا حيوات القديسين، وتطلعت - وكأنها تتنبأ - إلى الاستشهاد (الموت في سبيل المبدأ) وشعرت بالجمال وأحست بجلال الطقوس الكاثوليكية واحتفظت باحترامها للدين وبعض الكتابات التي تناولت العقيدة المسيحية حتى بعد استمتاعها بكتابات فولتير Voltaire وديدرو Diderot ودلباش d`Holbach ودلمبير d`Ale mbert ولم تهتم كثيرا بروسو Rousseau وكانـت صـارمـة جـداً إزاء مشاعـره، وبـدلاً مـن ذلـك فقـد أضاعـت قلبهــا لبروتس Brutus (شخص آخر) ومن كليهما أصبحت هي والجيرونديون يؤمنون بالمثل السياسية نفسها(ü)، وقد قرأت أيضا خطابات مدام سيفني Sevigne` لأنها كانت تتطلع إلى كتابة نثر كامل الأوصاف.
وكان هناك من طلب يدها للزواج لكنها كانت واعية بمآثرها فلم تكن لتقبل أي عشيق عادي، وربما وجدت أنه من الأفضل أن تجد حلا وسطا، وكان هذا عندما بلغت الخامسة والعشرين من عمرها فوجدت في رولان Roland الآنف ذكره " عقلا قويا وأمانة واستقامة ومعلومات وكياسة.... فقد جعلني وقاره أنظر إليه بتقدير كما هـو بدون أي اعتبار للجنس"(01). وبعد زواجهما في سنة 0871 عاشا في ليون Lyons التي وصفتها بأنها " مدينة جرى تشييدها بفخامة بالإضافة إلى موقعها المهم، انتعشت فيها التجارة والصناعة... مشهورة بأثريائها الذين يحسدهم على ثرائهم حتى الإمبراطور جوزيف(11) Joseph " وفي فبراير سنة 1971 تم إرسال رولان Roland إلى باريس ليدافع عن مصالح تجارة ليون وأشغالها أمام لجان الجمعية التأسيسية، وحضر اجتماعات نادي اليعاقبة وكون صداقة قوية مع بريسو Brissot ، وفي سنة 1971 أقنع زوجته بالانتقال معه إلى باريس.
وفي باريس لم تعد سكرتيرته وإنما تحولت إلى مستشارة له. إنها لم تكن ترتب تقاريره بأناقة وإنما بدت توجه سياسته. وفي 01 مارس سنة 2971 عين وزيراً لداخلية الملك بوساطة بريسو Brissot . وفي هذه الأثناء أصبح لمانو Manon صالونا كان يلتقى فيه بانتظام بريسو Brissot وبيتيو Pe`tion وكوندرسيه Condorcet وبوزو Buzot وغيرهم من الجيرونديين، ليضعوا خططهم(21). وكانت تقدم لهم الطعام والمشورة، كما كانت تقدم لبوزو Buzot حبها بشكل سرى (كانت على علاقة عشق به)، وقد تبعتهم أو سبقتهم بشجاعة إلى الموت.
حرب 1792
- مقالة مفصلة: حملات 1792 في الحروب الثورية الفرنسية
لقد كانت فترة عصيبة للثورة، فالمهاجرون (الذين تركوا فرنسا بسبب الثورة) كانوا قد جمعوا بحلول عام 1791 عشرين ألف فرقة في كوبلنز Coblenz وراحوا يتقدمون مع منجديهم لتقديم العون. واستجاب فردريك ڤيلهلم الثاني Frederick William II فـي بروسيا لأنه وجد إمكانية انتهاز الفرصة لتوسيع مملكته على طول الراين، ويوزف الثاني، الامبراطور الروماني المقدس قد يكون السبب الوجيه بالنسبة له لخوض حرب ضد فرنسا هو مساعدة أخته لكن شعبه أيضا كان في حالة ثورة، وما لبث أن مات ولم يكن أخوه ليوبولد الثاني Leopold الذي خلفه على عرش الإمبراطورية في سنة 1790 ميالاً للحرب، ومع هذا فقد أصدر هو وملك بروسيا "إعلان پيلنتس Pillnitz " التحذيري في 27 أغسطس سنة 1791 دعيا فيه حكام أوروبا الآخرين للانضمام إليهما في جهودهما ليعيدوا إلى فرنسا "الشكل الملكي لحكومتها لتكون مرة أخرى متمشية مع ما للملوك من حقوق ولتحسين أوضاع الأمة الفرنسية وازدهارها".
ومن الغريب أن نقول إن كلا من أنصار الملكية وأنصار الجمهورية كانوا يفضلون الحرب، فمملكة فرنسا طالما حثت إخوتها على القدوم لإنقاذها، وكان الملك قد طلب صراحة من حكام پروسيا وروسيا وإسبانيا والسويد والإمبراطورية الثنائية (النمسا المجر) جمع قوات مسلحة لإعادة السلطان الملكي إلى ملك فرنسا. وفي 7 فبراير سنة 1792 وقعت النمسا وپروسيا حلفا عسكريا ضد فرنسا، فقد كانت النمسا في توق شديد للاستيلاء على الفلاندر Flanders ، وكانت پروسيا لا تقل عنها توقاً للاستيلاء على الألزاس Alsace.
وفي أول مارس توفي ليوپولد الثاني وخلفه ابنه فرانسيس الثاني Francis الذي كان متلهفاً لخوض الحرب بسبب تفويضه بخوضها، ولرغبته في تحقيق مجد شخصي. أما في فرنسا فقد كان لافاييت Lafayette يحبذ الحرب على أمل أن يكون هو القائد العام للقوات المسلحة الفرنسية وبذا يكون في وضع يمكنه من السيطرة على الجمعية والملك معا. أما الجنرال دومورييه Dumouriez وزير الشئون الخارجية فكان أيضا يفضل الحرب على أمل أن ترحب الأراضي المنخفضة (نذرلاند Netherlands ) به باعتباره محررا لها من النمسا وقد تكافئه بتاج صغير، ولم يكن هناك حديث عن التجنيد الإلزامي لكن الفلاحين والبروليتاريا قبلوا الحرب باعتبارها شرا لا بد منه فإن عاد المهاجرون بلا عوائق فإن هذا قد يؤدي إلى عودة الظلم الذي كان سائداً في ظل الحكم القديم Old Regime وربما كانت عودتهم مصحوبة بالرغبة في الانتقام. وكان الجيرونديون يفضلون الحرب لأنهم توقعوا أن تهاجم النمسا وبروسيا معا فرنسا وبالتالي فإن الهجوم المضاد من قبل فرنسا هو خير طريق للدفاع. وعارض روبسپيير الحرب خوفا من إراقة دم البروليتاريا الذي لن يحصد ثمنه سوى الطبقة الوسطى، ورد عليه بريسو Brissot قائلا "لقد أتى الوقت المناسب لحرب(ü) جديدة حرب لتحقيق الحرية للعالم". وفي 20 أبريل سنة 1792 أعلنت الجمعية التشريعية (ولم يعترض سوى سبعة) الحرب على النمسا وحدها أملاً في فك حلف الدولتين المتحالفتين ضد فرنسا. وهكذا بدأت الحرب الثورية والنابليونية التي استمرت ثلاثة وعشرين عاما. وفي 26 أبريل ألف روجيه ده ليل Rouget de Lisle في ستراسبورگ النشيد الوطني الفرنسي (المارسييز The Marseillaise ).
لكن الجيرونديين لم يكونوا قد حسبوا حساب أوضاع الجيش الفرنسي، فقد كان عدد أفراده في الجبهة الشرقية 100,000 رجل يواجهون 45,000 مقاتل نمساوي، لكن كان على رأس هذه القوات الفرنسية رجال تمرغوا في نعيم الحكم القديم Old Regime (العهد البائد)، فعندما أمر الجنرال دومورييه Dumouriez هؤلاء الضباط بقيادة جنودهم لخوض الحرب أجابوا بأن هؤلاء المتطوعين الغفل (غير المدربين) ليسوا مستعدين لخوض القتال ضد قوات مدربه، فأسلحتهم وتنظيمهم لا يؤهلانهم لذلك. ومع هذا فعندما تكرر صدور الأمر بالتقدم تخلى عدد من الضباط عن مناصبهم، واتخذت ثلاثة أفواج من الخيالة طريقها إلى العدو (لتكون في جانبه).
وأرسل لافاييت Lafayette للحاكم النمساوي في بروكسل Brussels عرضا بأن يقود حرسه الوطني إلى باريس ويعيد الصلاحيات للملك الفرنسي، إذا وافقت النمسا على عدم دخول الأراضي الفرنسية ولم ينتج عن اقتراح لافاييت هذا شيء سوى ما حدث بعد ذلك من اتهامه - أي لافاييت - بالخيانة (في 20 أغسطس 2971) وهروبه إلى العدو.
ووصلت الأمور إلى حد الأزمة عندما أرسلت الجمعية التشريعية لوزارة الجيرونديين المسيطرة طالبة توقيع الملك للموافقة على إنشاء معسكرات دفاعية مسلحة حول باريس ووقف الرواتب الحكومية للقسس والراهبات الذين لم يؤدوا اليمين للدستور. وفي قرار عجول غاضب لم يرفض الملك التوقيع فحسب بل وطرد الوزراء كلهم فيما عدا دومورييه Dumouriez الذي سرعان ما تخلى عن قيادة قوات الثورة على الجبهة البلجيكية. وعندما تناقل الناس في باريس أخبار هذا الاعتراض الملكي فسروا الأمر على أنه علامة على أن لويس كان يتوقع وصول جيش من الفرنسيين أو الأجانب إلى باريس في وقت قريب لوضع نهاية للثورة. فجرى وضع خطط غير متأنية لإخلاء العاصمة وتكوين جيش ثوري جديد في الجانب الأبعد للوار of the Loire ، ونشر الجيرونديون في أنحاء باريس الدعوة إلى مظاهرات جماهيرية حاشدة أمام قصر التوليري Tuileries .
وعلى هذا ففي 20 يونية سنة 1792 تجمعت الجموع المستثارة رجالا ونساء وطنيين منفعلين وغوغاء ومغامرين من الأتباع المتحمسين لروبيسبير، وبريسو، ومارا، وشقت هذه الجموع طريقها عنوة إلى ساحة قصر التوليري Tuileries وهي تصيح ساخرة مصرة على رؤية " السيد فيتو ومدام فيتو Monsieur et Madame Veto أي رؤية الملك والملكة اللذين اعترضا ((Veto) . وأمر الملك حرسه بإدخال عدد منهم، فتم إدخال خمسين شخصا وهم يلوحون بأسلحتهم المختلفة، وجلس لويس إزاء المنضدة وسمع التماسهم بسحب اعتراضاته، فأجاب أنه لا هذا المكان ولا هذه الظروف تسمح بالبت في هذه الأمور المعقدة، وظل طوال ساعات ثلاث يصغي إلى حجج وطلبات وتهديدات، وصاح واحد من الثوار قائلاً: "إنني أطالب بالتصديق على مرسوم ضد القسس.. إما أن تصدق وإما ستموت!" ووجه آخر سيفه تجاه لويس الذي ظل ثابتا بشكل واضح ولم يتحرك، وقدم له بعضهم غطاء رأس أحمر red cap فوضعه الملك بسرور فوق رأسه، فصاح هؤلاء "الغزاة": تحيا الأمة! تحيا الحرية ! وأخيراً "يحيا الملك". وغادر الملتمسون وذكروا أنهم أعطوا الملك درساً مفزعاً، وانسلت الجموع عائدة إلى المدينة مرهقة لكنها غير راضية، وتم فرض مرسوم على الإكليروس (رجال الدين) الذين لم يقسموا يمين الولاء للدستور الجديد رغم الاعتراضات، لكن الجمعية التشريعية رغبة منها في ألا تبدو متعاطفة مع التمرد الجماهيري الآنف ذكره استقبلت الملك استقبالاً حماسيا عندما أتى بناء على دعوتها لتلقي عهدها باستمرار الولاء.
ولم يستطب الراديكاليون هذا التوافق الرسمي بين البرجوازية والملكية، فقد كانوا يشكون في إخلاص الملك وامتعضوا لاستعداد الجمعية التشريعية إيقاف الثورة الآن لأن الطبقة الوسطى قد ضمنت مكاسبها الاقتصادية والسياسية.
وتحول روبسپيير ومارا تدريجيا إلى نادي اليعاقبة تاركين مشاعرهم البورجوازية متعاطفين مع الجماهير العريضة. وتحركت البروليتاريا في المدن الصناعية لتتعاون مع عمال باريس. وعندما طلبت الجمعية التشريعية من كل دائرة (محافظة) من الدوائر إرسال فصيل من حرسها الوطني، ليشارك في الاحتفال بالذكرى السنوية الثالثة لسقوط الباستيل، تم اختيار هؤلاء الممثلين الفدراليين Fe`deres في غالبهم من قبل بلديات المدن (الكومونات) ممن يفضلون السياسات الراديكالية. وكان هناك فوج ثوري على نحو خاص مكون من 615 جندياً، وهو ذلك الفوج الذي خرج من مارســيليا في 5 يوليــو، وكان يطالب بعزل الملك، وراح هذا الفوج في أثناء مسيرته عبر فرنسا ينشد النشيد الجديد الذي وضعه روج دى ليسل Rouget de Lisle وقد أخذ هذا النشيد اسمه نسبة إلى أهل مارسيليا وهو أمر لم يكن مقصوداً عند تأليف النشيد الذي أصبح اسمه المارسييز (ü) The Marseilaise .
ووصل فوج مارسيليا وعدد آخر من أفواج الممثلين الفدراليين (الفيدير Fe`deres ) إلى باريس بعد 41 يوليو لكن كومون باريس طلب منهم تأخير عو دتهم إلى ديارهم فقد تتطلب مجريات الأمور وجودهم. وكان يسيطر على كومون باريس - وهو المكتب المركزي الذي يضم ممثلين من ثمانية وأربعين حيا Sections هي أحياء المدينة - زعماء راديكاليون - وكان يوما بعد يوم يحول الموظفين في دار البلدية إلى تشكيل حكومي لحكم المدينة، فجعل من دار البلدية تشكيلا حكوميا.
وفي 28 يوليو ارتعدت المدينة خوفا وغضبا عندما علمت بالبيان الرسمي الذي أصدره من كوبلنز دوق برونسفيك Duke of Brunswick:
عهد إليّ صاحبي الجلالة الإمبراطور وملك بروسيا بقيادة قواتهما المسلحة الموحدة التي جرى حشدها على حدود فرنسا. إنني راغب في أن أعلن لسكان هذه المملكة (فرنسا) الدوافع الكامنة وراء تصميم هذين العاهلين والأغراض التي يضعانها نصب عيونهما.
بعد الافتئات الصارخ على حقوق الأمراء الألمان في الألزاس-لورين Alsace Loraine والإطاحة بنظام طيب وحكومة شرعية في داخل المملكة (فرنسا).... فإن أولئك الذين اغتصبوا صلاحيات الحكومة قد وصل بهم الأمر في النهاية إلى إعلان حرب غير عادلة على جلالة الإمبراطور وهاجموا محافظاته (مديرياته أو دوائره) في الأراضي المنخفضة ....
وبالإضافة إلى هذه المصالح المهمة لا بد أن نضيف أمراً آخر مهما يسبب القلق... وأعني به ضرورة وضع نهاية لهذا الحكم الفوضوي في داخل فرنسا لوقف الاعتداء على العرش والمذبح Altar (المقصود الكنيسة)... ولنعيد.... للملك أمنه وحريته اللذين سُلِبَهما ولجعله يمارس مرة أخرى سلطته الشرعية. واقتناعا منا بأن العقلاء في الأمة ا لفرنسية يمقتون الزمرة النزاعة للشقاق التي تسيطر عليها وأن أغلب الفرنسيين يتطلع بصبر نافد إلى الوقت الذي يستطيعون فيه أن يعلنوا صراحة أنهم ضد المشروعات البغيضة التي يخطط لها أعداؤهم، فإن صاحب الجلالة الإمبراطور وصاحب الجلالة ملك بروسيا يدعوانهم إلى العودة بدون توانٍ إلى طريق العقل والعدل والسلام. وبناءً عليه فإنني أنا.... أعلن:
1- أن..... العاهلين المتحالفين ليس من هدفٍ لهما سوى ازدهار فرنسا، وهما - العاهلان المتحالفان - لا يبغيان الإثراء من وراء فتح البلاد الأخرى ....
7- كل من يجسر من سكان المدن والقرى على الدفاع ضد قوا ت صاحب الجلالة الإمبراطور وصاحب الجلالة الملك أو يطلق النار عليها.... سيعاقب على الفور وفقاً لأشد قوانين الحرب صرامة وسيتم تدمير بيته......
8- سيكون مطلوبا من مدينة باريس ـ وكل سكانها ـ أن تذعن فوراً وبلا إبطاء للملك.... والعاهلان المتحالفان يعلنان... أنه إذا تم اقتحام قصر التوليري أو مهاجمته أو جرى تعريض الملك والملكة والأسرة المالكة لأي إزعاج، وإذا لم يتم ضمان أمنهم على الفور، فسيتعرض أهل باريس لانتقام لا ينسى على مدى الدهر إذ سيتم إعدام أهلها على وفق القانون العسكري وسيتم تدميرها تماما.....
لكل هذه الأسباب فإنني أدعو وأحض بإلحاح سكان المملكة كلهم ألا يواجهوا تحركات القوات التي أقودها ولا عملياتها بل الأدعى أن يتيحوا لها مرورا آمنا وأن يساعدوها... بالنوايا الصادقة كلها.
كتب في مركز القيادة في كوبلنز Coblenz في 25 يوليو سنة 2971.
- شارلز وليم فرديناند
- Charles William Ferdinand
- دوق برونسفيك-لونبرگ
- Duke of Brunswick - Luneburg
وكانت الفقرة الثامنة الكئيبة (ربما قدمها للدوق المعروف بدماثته أحد المهاجرين الحاقدين _ التاركين فرنسا بسبب أحداث الثورة)(71) مثار تحد للجمعية التشريعية والكومون (حكومة باريس) ولأهل باريس، فإما أن يبطلوا الثورة أو يقاوموا الغزاة بالوسائل كلها ومهما كانت التكاليف.
وفي 29 يوليو خطب روبسپيير في نادي اليعاقبة مطالبا - تحدّياً لدوق برونسفيك Brunswick - بسرعة الإطاحة بالملكية وتأسيس الجمهورية بإتاحة حق التصويت لجميع الرجال. وفي 30 يوليو انضم الممثلون الفدراليون القادمون من مارسيليا إلى وفود من دوائر (محافظات) أخرى لتقديم العون لعزل الملك. وفي 4 أغسطس وما تلاه أرسلت أحياء باريس، الحي إثر الحي Section مذكرات للجمعية التشريعية تفيد أنهم لم يعودوا يعترفون بالملك، وفي 6 أغسطس تم تقديم ملتمس لأعضاء الجمعية بضرورة عزل لويس عن العرش، لكن الجمعية التشريعية لم تتخذ إجراء ما، وفي 9 أغسطس نشر مارا Marat مناشدة للشعب يطالبه باجتياح قصر التويلري Tuileries والقبض على الملك وأسرته والموظفين الملكيين الكبار كلهم باعتبارهم "خونة لا بد أن تضحي بهم الأمة أولا لتحقيق رفاهية الجماهير" وفي تلك الليلة قام الكومون (المجلس البلدي أو حكومة باريس) وكذلك مسئولو الأحياء بدق ناقوس الخطر لدعوة الجماهير إلى التجمع حول قصر التوليري في صباح اليوم التالي.
وحضر بعض الجماهير مبكرا جدا في الساعة الثالثة صباحا، وقبل الساعة السابعة كان خمسة وعشرون حيا (قسما) قد أرسلت العدد الذي سبق تحديده لها من الرجال المسلحين بالبنادقيات (المسكت) والر ماح والسيوف، وأتى بعضهم بمدافع وانضم إليهم 800 من الممثلين الفدراليين Fédérés وسرعان ما وصل عدد المحتشدين إلى تسعة آلاف، وكان يدافع عن القصر تسعمائه سويسري ومائتين من الحراس الآخرين، ورغبة من لويس في تهدئة الهياج فإنه قاد أسرته من الغرف الملكية إلى مسرح القصر حيث كانت الجمعية التشريعية في دورة انعقاد مضطربة، وقال الملك: "لقد أتيت إلى هنا لأمنع جريمة كبرى"(91).
وسمح للمتمردين بدخول ساحة القصر، وعند بداية الدرج المؤدي إلى غرف النوم الملكية منع الحرس السويسري المتمردين من التقدم إلا أن الجماهير الحاشدة ضغطت، فأطلق السويسريون النار فقتلوا أكثر من مائة رجل وامرأة، فأرسل الملك أوامره إلى الحرس السويسري بوقف إطلاق النار والانسحاب، فنفذوا الأوامر لكن المحتشدين وعلى رأسهم الممثلون الفدراليون لمارسيليا اجتاحوهم وتم ذبح معظم أفراد هذا الحرس السويسري كما جرى القبض على كثيرين منهم تم اقتيادهم إلى دار البلدية حيث أعدموا.
وجرى ذبح الخدم - بمن فيهم العاملون في المطبخ - في مهرجان دموي مجنون. وأنشد أهل مرسيليا نشيد المرسييز بمصاحبة عزف على البيانو القيثاري (الهاربسكورد) الخاص بالملكة، واستراحت العاهرات اللائي اعتراهن التعب فوق سرير الملكة، وأحرق المتمردون الأثاث وأراقوا النبيذ، وبالقرب من ساحة الفروسية أشعل الجمهور السعيد النار في تسعمائة مبنى وأطلقوا النار على رجال الإطفاء الذين أتوا لإخماد النيران. واستعرض بعض المنتصرين بأعلامهم التي صنعوها من السترات الحمراء لأفراد الحرس السويسري المقتول - وبذلك كانت هذه أول حالة معروفة لاستخدام العلم الأحمر رمزاً للثورة (22).
وحاولت الجمعية التشريعية إنقاذ الأسرة المالكة، لكن مقتل عدد من أعضائها على أيدي الجماهير الغازية، أقنع الباقين بتسليم اللاجئين إليها من الأسرة المالكة لكومون باريس ليكونوا تحت تصرفه، فجرى التحفظ عليهم بعناية تحت حراسة صارمة في المعبد the Temple - وهو دير قديم حصين لجماعة الفرسان الداويين (رهبان وجنود في الوقت نفسه) واستسلم لويس بلا مقاومة حزينا على زوجته التي وخط الشيب - الآن - مفرقها، وعلى ابنه المريض، وراح ينتظر النهاية بصبر.
دانتـــون
خلال هذه الأسابيع المتشنجة امتنع غالب أعضاء الجمعية التشريعية (ممثلو الحقوق (Rights عن الحضور إلى مقر الجمعية فبعد العاشر من أغسطس لم يعد يحضر إلا 582 عضوا من مجموع الأعضاء البالغ عددهم 547. وصوت هذا المجلس التشريعي المبتور (الناقص) على أن يجعل الأمور في يد مجلس تنفيذي به ممثلون للدوائر (المحافظات) المختلفة ليحل محل الملك ومستشاريه، واختارت الأغلبية جورج دانتون Georges Danton ليرأس هذا المجلس وزيراً للعدل، وأن يكون رولان Roland وزيرا للداخلية وجوزيف سيرفان Joseph Servan وزيرا للحرب. وكان اختيار دانتون في جانب منه محاولة لتهدئة أهل باريس إذ كان له شعبية بينهم بالإضافة إلى أنه كان في ذلك الوقت أقوى شخصيات الحركة الثورية وأكثرهم قدرة.
وكان في الثالثة والثلاثين من عمره وسيموت في سن الخامسة والثلاثين، فالثورة امتياز للشباب. ولد دانتون في أرسي - سير - أوب Arcis - Sur-Aube في شامباني Champagne وحذا حذو أبيه في الاشتغال بالقانون، وازدهرت أحواله محامياً في باريس لكنه فضل أن يعيش في المبنى نفسه مع صديقه كاميل ديمولين Camille Desmoulins في حي الطبقة العاملة المنتمية لتنظيم الكوردليير (ü) (نادي الرهبان الفرنسسكان أو نادى جمعية أصدقاء الإنسان والمواطن) وسرعان ما أصبح هو وصديقه أعضاء بارزين في هذا النادي الآنف ذكره (الكوردليير). وكانت شفتاه وأنفه مشوهة بسبب حادثة وقعت له في مرحلة الطفولة، وكان بجلده آثار الجدري لكن قليلين كانوا يدركون ذلك نظراً لطوله الفارع ورأسه الكبير ولشعورهم بقوة أفكارة الحاسمة الحادة المتبصرة خاصة عند سماعهم خطبه العاصفة وهو يهدر كالرعد في الاجتماعات الثورية لنادي اليعاقبة أو الحشود البرولتيارية، وغالبا ما كان يتعرض في خطبه تلك لما يمس المقدسات.
ولم تكن شخصيته قاسية وحشية أو مستبدة كوجهه أو صوته. وكان قادراً على التجرد من مشاعره ليكون فظا غليظ القلب في أحكامه كما تدل على ذلك مذابح سبتمبر ومع هذا فقد كانت به بعض الرقة الكامنة ولم يكن حقودا كامن الحقد، فقد كان سريع العطاء سريع الصفح، وكان معاونوه يدهشون عندما يجدونه يتراجع عن أوامره الظالمة أو يحمي ضحايا تعليماته القاسية، وسرعان ما فقد حياته لأنه جسر على القول بأن الإرهاب قد أمعن وتطرف كثيرا وأنه قد حان وقت الرحمة. وكان على عكس روبيسبير الرزين، فقد كان يستطيب الفكاهات Rabelaisian humour ويحب المباهج الدنيوية، كا كان مقامراً عاشقا للنسوة الحسان وقد كون ثروة وأقرض واشترى منزلا جميلا في أرسي Arcis كما اشترى جزءاً كبيرا من ممتلكات الكنيسة، وقد تعجب أناس كثيرون كيف حصل مبالغ تفوق حاجاته الضرورية وشكوا في أنه تقاضى مبالغ مالية كرشوة لحماية الملك. وكانت البراهين التي تؤكد ذلك هي السائدة ولم تكن في غير صالحه(32). ومع هذا فقد كان ثوريا من الطراز الأول وبدا كأنه لم يخن أبداً أيا من مصالح الثورة الحيوية، لقد أخذ أموال الملك ومع هذا فقد عمل لصالح البرولتياريا، ومع هذا فقد كان يعلم أن دكتاتورية البرولتياريا أمر ينطوي على التناقض ولا يمكن أن يكون إلا للحظة في التاريخ السياسي (غير مستمر).
وقد تلقى تعليما كثيرا جعلته يوتوبيا (يوطوبيا - أي من أنصار المدن أو الحكومات المثالية)، وكانت مكتبته (التي كان يأمل أن يعود إليها بسرعة بعد خلاصه من مهامه السياسية) تضم 175 مجلدا باللغة الفرنسية و 27 بالإنجليزية و 25 بالإيطالية إذ كان يستطيع قراءة الإنجليزية والإيطالية بلا عناء، وكان لديه من مؤلفات فولتير 19 مجلدا و 61 لروسو، كما كان لديه موسوعة ديدرو كاملة(42) Diderot`s Encyclopedie وكان ملحدا(ü) لكنه كان متعاطفا على نحو ما مع فكرة أن الدين إنما هو للفقراء. فلنقرأه وهو يقول في سنة 0971 ما قاله موسى Musset (52) بعد ذلك بجيل:
"من ناحيتي، أعترف أنني لا أعرف إلا إلهاً واحدا - إلهاً لكل الكون والعدالة... لكن الرجل في الحقول يضيف إلى هذا أوهاما... لأنه في شبابه ومرحلة رجولته ومرحلة كهولته مدين للكاهن (القسيس) بلحظات السعادة القليلة التي تمر به.. لندعه لهذا الوهم.
علمه أيها القس إن شئت... لكن لا تجعل الفقير يخشى فقدان الشيء الوحيد الذي يربطه بالحياة"(62).
وهو - دانتون - كزعيم ضحى بكل شىء حتى النهاية لحماية الثورة من الهجوم الأجنبي ومن الفوضى الداخلية. ولهذه الأغراض كان مستعداً للتعاون مع أي شخص - مع روبيسبير، ومارا Marat والملك، والجيرونديين، لكن روبيسبير كان يحقد عليه، وكان مارا Mara يتهمه، وكان الملك لا يثق به وكان الجيرونديون حذرين منه بسبب وجهه وصوته وكانوا يرتجفون من تعبيراته المنطوية على الازدراء. ومع هذا فلم يكن أي من هؤلاء بقادر على أن يتجاهل وجوده فقد نظم أمور الحرب وتفاوض من أجل السلم وكان يزأر كالأسد وهو يتحدث عن الرحمة وحارب من أجل الثورة وساعد بعض الملكيين على الهرب خارج فرنسا(72). وكوزير للعدل عمل على توحيد كل الفصائل الثورية كلها لرد الغزاة، وتحمل مسئولية إثارة الجماهير في 01 أغسطس فالحرب في حاجة لدعم هذه الأرواح المثمرة فمنهم يمكن تجنيد جنود متوقدين حماسة، لكنه لم يشجع المحاولات غير الناضجة لدعم الثورات على الملوك الأجانب (الملوك خارج فرنسا) فهذا قد يؤدي إلى اتحاد الملكيات في عدائها ضد فرنسا. وقاوم اقتراح الجيرونديين بانسحاب الحكومة والجمعية إلى ما وراء اللوار The Loire فمثل هذا التراجع لا بد أن يحطم معنويات الشعب. لقد انقضى وقت المناقشات وحان وقت العمل لبناء قوات مسلحة جديدة وتحصين أفرادها بالروح العالية والثقة، وفي 2 سبتمبر سنة 2971 ألقى خطابا مشحونا بالعواطف والأنفعالات وردت فيه فقرة حركت المشاعر في فرنسا ودوت في هذا القرن العامر بالاضطرابات. ودخلت القوات البروسية النمساوية فرنسا وحققت نصرا تلو نصر، واضطربت باريس وترددت بين الاستجابة العازمة المصممة والخوف المربك. وتحدث دانتون للمجلس التنفيذي وذهب إلى الجمعية لبث الحماس في أعضائها وفي الأمة كلها كي يتشجعوا ويتحركوا :
"إنه لأمر مرض لوزير في دولة حرة أن يعلن لهم أن بلادهم قد نجت فالكل مستثار والكل متحمس، والكل تواق للنضال... فجانب من شعبنا سيحرس حدودنا وجانب آخر سيقيم الحصون ويسلحها، وجانب سيدافع عن داخل مدننا بالرماح... إنني أطالبكم بإعدام أي شخص يرفض تقديم ما يقدر عليه سواء خدماته الشخصية أم تزويد القوات المسلحة بما يحتاجه....
إن ناقوس الإنذار الذي سنسمعه ليس إشارة إلى الخطر وإنما هو يأمر بالهجوم على أعداء فرنسا. لا بد أن نكون قادرين على التصدي للهجوم... لا بد أن نجسر على ذلك، لا بد دائما أن نجسر على ذلك - عندها يكون قد تم إنقاذ فرنسا".
— دانتون
لقد كان خطابا قويا وتاريخيا لكن في اليوم نفسه بدأت أكثر الأحداث مأسوية في فرنسا بشكل غير متوقع.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المـذبـحـة - من 2 إلى 6 سبتمبر 1792
يعود الهياج العاطفي الذي بلغ ذروته في 2 سبتمبر في بعض أصوله البعيدة التي أعطته حرارته إلى الصراع المتزايد بين الدين والدولة والجهود التي بذلت لإحلال عبادة الدولة بديلاً للدين أو بتعبير آخر إزاحة الدين لتكون عبادة الدولة عوضاً عنه. وكانت الجمعية التشريعية قد قبلت الكاثوليكية ديناً رسمياً، وتعهدت بدفع رواتب للقسس كموظفي الدولة، لكن الراديكاليين الذين كانت لهم السيادة في كمون باريس لم يجدوا سببا لتمويل الحكومة أفكاراً يعتبرونها من خرافات الشرق (يقصدون المسيحية) طالما تحالفت مع الإقطاع والملكية. ووجدت وجهات نظر هؤلاء الراديكاليين قبولاً في النوادي كما وجدت قبولاً آخر الأمر في الجمعية التشريعية. وكان نتيجة ذلك سلسلة من الإجراءات جعلت العداوة بين الكنيسة والدولة تمثل تهديدا متكررا للثورة.
فبعد ساعات قليلة من عزل الملك عن عرشه أرسل كمون باريس إلى الأحياء المختلفة فيها Sections قائمة بالقسس المشكوك في أهدافهم والمشكوك في أن لديهم مشاعر معادية للثورة، وكان عدد كبير منهم - كما يفهم - قد أرسلوا إلى السجون المختلفة لذا فقد كانوا ضحية أساسية في أثناء المذبحة.
وفي 11 أغسطس أنهت الجمعية التشريعية أي إشراف للكنيسة على التعليم، وفي 21 أغسطس منع الكومون ارتداء الثياب الكنسية علناً، وفي 81 أغسطس جددت الجمعية التشريعية هذا الأمر بإصدار مرسوم لمنع ارتداء هذه الملابس الدينية على مستوى فرنسا كلها، وحلت التنظيمات الدينية الباقية كلها، وفي 82 أغسطس دعت لترحيل كل القسس الذين لم يقسموا يمين الولاء للدستور المدني للإكليروس على أن يمنحوا مهلة أسبوعين لمغادرة فرنسا، وبالفعل فقد هرب 000.52 قسيس إلى بلاد أخرى وراحوا يساندون هناك دعايات المهاجرين (الذين تركوا فرنسا بسبب وقائع الثورة)، ولأن الإكليروس كانوا حتى الآن يحتفظون بسجلات المواليد وحالات الزواج والوفيات في الدوائر المختلفة، فقد كان على الجمعية أن تنقل هذه المهمة إلى سلطات علمانية (غير إكليريكية). ولأن معظم السكان كان يؤمن بارتباط حالات الولادة والزواج والوفيات بطقوس دينية، فإن محاولة استبعاد هذه الطقوس القديمة قد وسعت الخرق (الثغرة) بين إيمان الناس من ناحية، وعلمانية الدولة من ناحية أخرى(82). وقد اتفق الكوميون واليعاقبة والجيرونديون والجبليون Montagnards) بالمعنى السياسي السابق الإشارة إليه) على أنهم يأملون أن يكون الإخلاص للجمهورية الشابة سيصبح هو دين الشعب، فستحل مبادىء : الحرية والمساواة والإخاء محل الآب والابن والروح القدس وأن تعزيز هذا الثالوث الجديد يمكن أن يكون هو الهدف المهيمن للنظام الاجتماعي والمعيار النهائي للأخلاق.
وأجل الافتتاح الرسمي للجمهورية الجديدة إلى 22 سبتمبر أول يوم من العام الجديد. وفي هذه الأثناء التمس بعض المستقبليين المتطلعين من الجمعية أن تمنح الجمعية لقب "مواطن فرنسي" لكل الفلاسفة غير الفرنسيين الذين أيدوا بشجاعة قضية الحرية فاستحقوا عن جدارة "رضا البشرية" وذلك كإيماءة إلى أحلامهم في تحقيق الديمقراطية العالمية. وفي 62 أغسطس استجابت الجمعية فأعطت المواطنة الفرنسية لكل من جوزيف بريستلي Joseph Priestley وجيرمي بنثام Jeremy Bentham، ووليم ولبرفورس William Wilberforce وأنا كارسيس كلوتس Anachasis Cloots وجوهان بيستالوزي Johann Pestalozzi وثاديوس كوسكيوسكو Thaddeus Kosciusko وفريدريش شيلر Friedrich Schiller وجورج واشنطن George Washington، وتوماس بين Thomas Paine وجيمس ماديسون James Madison وألكسندر هاميلتون(92) Alexander Hamilton. وقدم الكسندر فون همبولدت Alexander Von Humboldt إلى فرنسا، وكان من بين ما قاله: "لقد أتيت إلى فرنسا لأتنسّم نسيم الحرية ولأعاون في طعن الحكم المطلق الاستبدادي"(03) وبدا أن الدين الجديد ينشر فروعه بمجرد وضع جذوره.
وفي 2 سبتمبر ارتدت فرنسا أبهى حللها (وكأنها في يوم أحد (Sunday Clothes وعبرت عن ولائها (للدين الجديد) بطرق مختلفة، فقد تجمع الشباب ومن هم في منتصف العمر في نقاط التجنيد ليتطوعوا للخدمة في الجيش، وراحت النسوة يخطن لهم عباءات تدفئهم، ويعددن الضمادات لمن قد يصاب بجروح منهم في المعارك، وأقبل الرجال والنساء والأطفال إلى مراكز أحيائهم لتقديم الأسلحة والجواهر والنقود لإنفاقها لأغراض الحرب. وتبنت الأمهات الأطفال الذين يعولهم جنود أو ممرضات سيغادرون إلى جبهة القتال، وذهب بعض الرجال إلى السجون لقتل القسس وغيرهم من أعداء العقيدة الجديدة.
ومنذ إعلان الدوق برونسفيك Brunswick (52 يوليو سنة 2971) كان القادة الثوريون يعملون كرجال يميلون إلى العمل عندما تكون حياتهم مهددة. ففي 11 أغسطس أرسل أعضاء اللجنة العامة في دار البلدية ملاحظة غريبة إلى أنطوني سانتير Antonie Santerre الذي كان وقتئذ هو القائد العسكري لقوات أحياء باريس : "لقد علمنا أن خطة توضع للمرور على سجون باريس لنقل السجناء كلهم لتنفيذ حكم العدالة فورا فيهم. إننا نرجوك أن يشمل إشرافك الحصون الصغيرة والبوابات وقوات الشرطة "- والمقصود مراكز الحجز الثلاثة الرئيسية في باريس(13). ولا ندري كيف فسر سانتير Santerre هذه الرسالة، ففي 41 أغسطس عينت الجمعية أعضاء "محكمة استثنائية " لمحاكمة أعداء الثورة كلهم لكن ما ورد في المرسوم كان أقل بكثير من أن يرضي مارا Marat، ففي جريدته "صديق الشعب" في عددها الصادر في 91 أغسطس قال لقرائه: "إن أفضل طريق ننهجه وأحكمه هو أن نذهب مسلحين إلى الأباى Abbaye (الكلمة تعني الدير، وقد استخدم كسجن فالمقصود إذن هو التوجه لهذا السجن) لنجرجر الخونة خاصة الضباط السويسريين [من أفراد الحرس الملكي] وشركاءهم ونعمل السيف في رقابهم فما أغبى أن نحاكمهم !"(23) وانجرافا مع هذا الحماس جعل الكومون من مارا Marat المحرر الرسمي لنشراته وجعل له مكانا في غرفة اجتماعاته وضمه إلى لجنة الرقابة التابعة له (للكومون)(33).
وإذا أصاخت الجماهير السمع إلى مارا Marat وأطاعته بكل طاقاتها فما ذلك إلا لأنها كانت بدورها مرتجفة مرعوبة ممتلئة كرها وخوفا. وفي 91 أغسطس عبر البروس الحدود بقيادة الملك فريدريك وليم الثاني Frederick William ودوق برونسفيك Brunswick بصحبة قوات صغيرة من المهاجرين (الفرنسيين الذين تركوا فرنسا بسبب أحداث الثورة) الذين يطالبون بالانتقام من الثوار. وفي 32 أغسطس استولى الغزاة على حصن لونجواى Longway ، وكان هناك ادعاء أن ذلك ما كان ليحدث لولا ضلوع ضباط الحصن الأرستقراطيين في هذا الأمر. وفي 2 سبتمبر وصلوا إلى فيردو Verdun ووصل إلى باريس خبر مبتسر (قبل الأوان) بسقوط هذا الحصن المنيع في الصباح لكنه في الحقيقة لم يسقط إلا بعد الظهر، والآن لقد أصبح الطريق إلى باريس مفتوحا للعدو فلم يكن هناك أي جيش فرنسي في هذا الطريق لإيقافه، وبدت العاصمة تحت رحمة الغزاة وتوقع الدوق برنسفيك Brunswick أن يتناول عشاءه بعد قليل في باريس(43).
وفي هذه الأثناء اندلعت ثورة مضادة (ثورة على الثورة) في المناطق النائية في فرنسا مثل الفيندى Vendee` والدوفينى Dauphine`، وكانت باريس نفسها تضم آلاف البشر المتعاطفين مع الملك المخلوع؛ ومنذ أول سبتمبر كانت توزع نشرة تحذر من مؤامرة لإطلاق سراح السجناء وقتلهم على يد الثوريين(53). ودعت الجمعية والكومون كل الرجال القادرين للالتحاق بالجيش لملاقاة قوات العدو المتقدمة، لكن كيف يستطيع هؤلاء الرجال أن يخرجوا للقتال تاركين نساءهم وأطفالهم تحت رحمة الملكيين والقسس ومعتادي الإجرام ممن هم في سجون باريس، فقد يتمكنون من الخروج بأعداد كبيرة؟ فصوتت بعض أحياء باريس على حل مؤداة ضرورة قتل كل القسس والأشخاص المشكوك في ولائهم للثورة قبل خروج المتطوعين لقتال العدو(63).
وفي الساعة الثانية بعد ظهر يوم الأحد الموافق 2 سبتمبر اقتربت ست عربات حاملة القسس الذين لم يؤدوا يمين الولاء للدستور الجديد من سجن أباى Abbaye (الكلمة تعنى دير، ذلك أن هذا السجن كان في أصله ديرا)، فصاحت بهم الجموع مستهزئة وقفز رجل من الجموع إلى سلم العربة فضربه قس بعصا فسبت الجموع القس وتزاحمت وتضاعف عددها وراحت تهاجم السجناء عند توقف العربات عند البوابة بل وانضم حراس السجناء إلى المهاجمين، فتم قتل ثلاثين سجينا، واندفعت الحشود - منتشية بمنظر الدماء ونشوة القتل غير المنسوب إلى أحد بعينه - إلى مبنى دير الكرمل وقتلوا القسس المحتجزين هناك، وفي المساء، بعد قضاء فترة راحة، كانت الحشود قد تزايد عددها الآن فانضم إليها كثير من المجرمين وغلاظ الأكباد وجنود الأفواج الفدرالية القادمة من مارسيليا وأفينون Avignon وبريتاني Brittany وعادوا إلى أباى Abbaye (الكلمة تعني ديرا لكن المقصود سجن يحمل هذا الاسم لأنه كان في الأصل ديرا) وأجبروا السجناء كلهم على الخروج والجلوس لسماع الحكم عليهم، وأسلموا الغالبية العظمى منهم، - أي سويسري أو قس أو ملكي أو أي شخص كان في خدمة الملك أو الملكة - إلى رجال متعطشين لقتلهم، فقتلوهم بالسيوف والسكاكين والرماح والهراوات.
وفي البداية كان القتلة مثاليين فكانوا يكتفون بالقتل ولا يسرقون المقتولين فقد كانوا يجردون الضحايا من مقتنياتهم القيمة لنقلها إلى السلطات الثورية في الكمون لكن في آخر الأمر راح هؤلاء القتلة الذين اعتراهم التعب يحتفظون من قتلاهم بتذكارات، وكان كل قاتل يتلقى ستة فرنكات في اليوم لقاء عمله بالإضافة إلى ثلاث وجبات وكل ما يريده من النبيذ، وأظهر بعضهم شيئا مـن الرحمة فهنأوا أولئك الذين تمت تبرئتهم واستضافوا المميزين منهم في بيوتهم(73)، وكان بعضهم متوحشا قاسيا فأطالوا من معاناة المتهمين بتعريضهم للسخرية أمام المشاهدين، وقام واحد من المتحمسين بعد أن نزع السيف من صدر الجنرال لالو General Laleu بدس يده في الجرح وانتزع القلب ووضعه في فمه كما لو كان يريد أن يأكله(83) - وهي عادة كانت شائعة وفي وقت من الأوقات في أيام الهجمية-.
وكان كل قاتل، عندما يعترية التعب يأخذ قسطا من الراحة ويتجرع خمرا ثم يواصل عمله حتى تم القضاء في أمر سجناء الأباى كلهم The Abbaye إما إلى الموت وإما إلى الأمان.
وفي 3 سبتمبر انتقل الجلادون (منفذو القتل) والقضاة إلى سجون أخرى - سجن ثكنات الشرطة La Force وسجن البوابة Conciergerie. حيث استمرت المذبحة في ضحايا جدد وبجلادين جدد.
وهنا كانت توجد سيدة مشهورة، إنها الأميرة دى لامبل de Lamballe التي كانت ذات يوم ثرية ورائعة الجمال وكانت محبوبة لمارى أنطوانيت Marie Antoinette وأثيرة لديها، وكانت قد اشتركت في مؤامرة لإنقاذ الأسرة الملكية. إنها الآن في الثالثة والأربعين من عمرها عندما قطعت رأسها وبترت أطرافها ونزع قلبها من جسدها وأكله الجمهوريون المتحمسون(93)، ورفعوا رأسها على رمح ولوحوا به عارضين إياه من نافذة زنزانة الملكة في سجن تمبل(04) (المعبد The Temple). وفي 4 سبتمبر تحرك القتلة إلى سجون تور سانت بيرنار Tour St.- Bernard، وسانت فيرمي St.- Firmin والحصن الصغير the Chalelet سجن مخزن ملح البارود the Salpetriere وهناك كانت النسوة الشابات يخيرن بين إتيانهن أو قتلهن، فكن يؤتين. وكان من بين نزلاء سجن بيستر Bicetre ملجأ للمجانين والمختلين علقيا تتراوح أعمارهم بين سبعة عشر عاما وتسعة عشر عاما، وعددهم ثلاثة وأربعون شابا أنزلهم - في غالبهم - آباؤهم في هذا المكان لتلقى العلاج، وقد قتلهم الثوار جميعاً(14).
واستمرت المذبحة يومين آخرين في باريس حتى وصل عدد الضحايا بين 1247.(24) و 1368 (34)، وانقسم الناس في الحكم على الأحداث : فالكاثوليك والملكيون اعتراهم رعب شديد لكن الثوريين حاجّوا بأنه كان لا بد من هذه الاستجابة العنيفة بسبب تهديدات برونسفيك Brunswick ولضرورات الحرب، واستقبل بيتيو Petion رئيس بلدية باريس الجديد الجلادين كوطنيين بذلوا جهدا كبيرا وأنعشهم بتقديم النبيذ لهم (44). وأرسلت الجمعية التشريعية بعض الأعضاء إلى سجن الإباى (سجن الدير) Abbaye ليوصوا بالتزام القانون وعادوا ليقرروا أن المذبحة لا يمكن إيقافها، وأخيرا وافق زعماء الجمعية - من الجيرونديين والجبليين(ü) Montagnards ـ أن هذا الاتجاه الأكثر أمنا واحتياطا (المذبحة) أصبح محل موافقة(54). وأرسل كميون باريس ممثلين عنه للمشاركة في منح الحصانة للقضاة، وكان بيلو - فارين - Billaud Varenne المحامي المندوب عن الكوميون ممن شهدوا ما حدث في سجن أباى Abbaye وقد هنأ القتلة: "إنكم مواطنون زملاء، إنكم تدمرون أعداءكم، إنكم تؤدون واجبكم"(64) وبارك مارا Marat بفخر العملية برمتها. وعند محاكمة شارلوت كورداى Charlotte Corday بعد ذلك بعام، سئلت: "لماذا قتلت مارا؟" فأجابت "لأنه كان هو السبب في مذبحة سبتمبر" ولما طالبوها بالدليل أجابت: "ليس لدي دليل، انه رأي فرنسا كلها"(74).
وعندما طلب من دانتون Danton أن يوقف المذبحة هز كتفية: "سيكون هذا مستحيلاً ثم أردف معللا" ثم لماذا نوقفها؟ هل أزعج نفسي بسبب هؤلاء الملكيين والقسس الذين كانوا لا ينتظرون سوى اقتراب الأجانب الغزاة لذبحنا؟... لا بد أن نرعب أعداءنا."(84) ومع هذا فقد سحب دانتون سراً أكثر من واحد من أصدقائه وأخرجهم من السجون، بل إنه أخرج حتى بعض أعدائه الشخصيين(94). وعندما اعترض عضو من زملاء دانتون في المجلس التنفيذي على عمليات القتل، قال له دانتون: "إجلس، فهذا أمر ضروري"(05). وعندما سأله شاب: "كيف تستطيع أن تساعد ما يسمى إرهابا؟" أجابه: "إنك أصغر من أن تفهم هذه الامور... انه لا بد أن يفيض نهر الدم بين أهل باريس والمهاجرين (الذين تركوا فرنسا بسبب أحداث الثورة)"(15).
فقد كان يعتبر أن أهل باريس قد أصبحوا الآن عاهدوا الثورة، وأن المتطوعين للحرب الذين كانوا يغادرون لملاقاة الغزاة يعرفون الآن أنهم لن يرحمهم العدو إن هم استسلموا، إنهم سيحاربون دفاعا عن حياتهم بكل ما في الكلمة من معنى.
وكان يوم 2 سبتمبر أيضا هو اليوم الذي صوتت الجمعية التشريعية للدعوة إلى انتخاب عام لمؤتمر وطني Convention لتضع دستورا جديدا يتلاءم مع ظروف فرنسا الجديدة ومع متطلبات الحرب، ذلك لأن الجمعية أحست أن مسيرة الأحداث قد أحدثت دمارا في الدستور الحالي الذي جرى اختيار أعضائها لتنفيذه، ولأنه منذ دعي الفلاحون والبرولتياريا والبورجوازية - على سواء - للدفاع عن وطنهم فقد بدا من غير المقبول أن أيا مهما كان سواء أَكان دافع ضرائب أم لا يحق منعه من حق الانتخاب (إبعاده عن صناديق الاقتراع).
وهكذا حقق روبيسبير أول انتصار كبير له، فالمؤتمر الوطني الذي سيلعب فيه دورا كبيرا جرى انتخابه من الراشدين الرجال كلهم أي أنه كان انتخابا عاماً. وفي 20 سبتمبر أنهت الجمعية التشريعية دورتها الأخيرة ولم يكن أعضاؤها يعلمون أنه في اليوم نفسه التقى الجيش الفرنسي بقيادة دومورييه Dumouriez وفرنسوا - كريستوف كلرمان Francois-Christophe Kellermann بالجيوش المحترفة البروسية والنمساوية بقيادة دوق برونسفيك Brunswick ، عند قرية يقال لها فالمي Valmey بين فردو Verdun وباريس، وأن الجيش الفرنسي أرغم أعداءه على الانسحاب - لقد كان نصرا مؤثرا حتى إن ملك بروسيا أمر قواته المهاجمة بعد المعركة بالتراجع وتخلى عن فردو Verdun ولونجواي Longway وترك الحدود الفرنسية. أما فريدريك وليام الثاني Frederick William فلم يكن يتحمل الإزعاج الذي تسببه له فرنسا البعيدة الآن فقد كان يتنافس مع جارتيه ؛ روسيا والنمسا للاستيلاء على أكبر جزء عند تقسيم بولندا، وأكثر من هذا فقد كان جنوده يعانون من الإسهال الذي أصابهم نتيجة تناولهم أعناب شامباني(25) Champagne .
وكان حاضرا في هذه المعركة جوته Goethe ضمن العاملين مع دوق ساكسه-فايمار Saxe-Weimar فقال (كما أخبرت) ملاحظة شهيرة: "منذ الآن ومن هذا المكان تبدأ مرحلة جديدة في تاريخ العالم"(35).
الهامش والمصادر
- ديورانت, ول; ديورانت, أرييل. قصة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود.
- ^ على الفور، كان هناك رفضاً واسع النطاق بين الفويان والفصيل الديمقراطي بسبب التعديلات التي تمت في الدستور والفرار إلى ڤارن. شعر الديمقراطيون أن تأثير أغلبية الشعب همشه التصويت حسب الإحصاء.[4]
- ^ Albert Mathiez, La Révolution française, Librairie Armand Colin 1922, p. 170
- ^ Bernardine Melchior-Bonnet, Les Girondins, Tallandier 1989, p. 52
- ^ Jean-Paul Bertaud, La Révolution française, Perrin 1989 « rééd. coll. Tempus », 2004, p. 81-133
- ^ Jean-Paul Bertaud, La Révolutions française, p. 81