التاريخ الديني للمملكة المتحدة
التاريخ الديني للمملكة المتحدة
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مرجل الديانة 1624-1649
إن الملك الجديد الذي ارتقى العرش في ظل النظام الإقطاعي والاجتماعي العتيق المعتمد على الأرض، والذي أحس باليأس والضياع في لندن بتجارها والبيوريتانيين فيها، نقول إن هذا الملك لقي من التعب والنصب فوق ما يحتمل من الصبر، من جراء تعدد المعتقدات الدينية وحدتها. إن عملية الاجتهاد أو تكوين الرأي الفردي التي دعا إليها كل رأي جديد حتى سادت وسيطرت، تضافرت مع انتشار الكتاب المقدس، على تشجيع اختلاف الشيع والطوائف، حتى لقد أحصى منها أحد المؤلفين 29 طائفة في 1641، وأحصى آخر منها في 1649. وفضلاً عن الانقسام بين الكاثوليك والبروتستانت، كان هناك الانقسام الحاد بين البروتستانت إلى أنجليكانيين ومسيحيين وبيوريتانيين، وانقسام البيوريتانيين إلى المستقلين الذين كانوا يحلمون بالجمهورية، والكويكرز الذين يعارضون الحرب والعنف وحلف الأيمان، والمؤمنين بالعصر الألفي السعيد-أو طائفة الملكية الخامسة-الذين كانوا يعتقدون أن السيد المسيح سوف يعود سريعاً ليقيم حكمه على الأرض، والأنتيوميين (طائفة تقول بأن الإيمان وحده-لا الامتثال للقانون الأخلاقي-ضروري للخلاص) الذين كانوا يحاجون بأن المصطفين من عند الله مستثنون من القوانين الإنسانية، والانفصاليين أتباع براون، والباحثين Seekers، والمشاغبين Ranters. وشكا أحد أعضاء البرلمان من أن "الرجال الميكانيكيين" (الحرفيين) كانوا يقيمون المنابر ويبشرون بألوان عقائدهم المتحمسة، وكان كثيرون منهم يكسون مطالبهم الاقتصادية أو السياسية بنصوص من الكتاب المقدس، وكان هناك الذين يقولون بتعميد البالغين فقط Anabaptists، والمعمدانيون الذين انشقوا عن الانفصاليين (1606) وانقسموا (1633) إلى معمدانيين عامين رفضوا النظرية الكلفنية في القضاء والقدر، ومعمدانيين خاصين قبلوها.
إن تعدد الطوائف والشيع، ومساجلاتها الحادة الجريئة، أدت بنفر من الناس إلى الشك في جميع صيغ المسيحية وأشكالها. ورثى الأسقف Fotherby، (1622) "لأن الكتب المقدسة فقدت سلطانها على كثير من الناس، وظن أنها لا تصلح إلا للجهلة والحمقى(5)"-وفي 1646 تحدث الحبر الجليل جيمس جرانفورد عن "الجماهير التي غيرت عقيدتها إما إلى التشكك... أو الإلحاد، ولم يؤمنوا بشيء(6)." وفي كتيب عنوانه Hell Broke Loose "انفتحت الجحيم على مصراعيها" :بيان بالأخطاء السائدة، والهرطقة والتجديف في هذا العصر، (1646) وكان على رأس قائمة الهرطقات، الرأي القائل بأن الكتاب المقدس سواء كان مخطوطاً حقيقياً (نصاً موثوقاً) أم لم يكن... فإنه لا يعدو أن يكون من صنع الإنسان، وأنه عجز عن أن يكشف عن إله في السماء(7)"، وجهرت هرطقة أخرى "بأن العقل السليم هو الحكم في العقيدة، أو قاعدة الإيمان... ويجدر ألا نصدق بالكتب المقدسة ونظريات التثليث والتجسد والبعث إلا بقدر موافقتها للعقل، وليس إلا(8)". وأنكر عدد كبير من المتشككين وجود الجحيم وألوهية المسيح. وسعى نفر متزايد من المفكرين الذين أطلق عليهم اسم "البوبيين" إلى التوفيق بين مذهب التشكك والدين باقتراح مسيحية تقتصر على الإيمان بالله والخلود. وهيأ إدوارد، لورد هربرت شربري لهذا "الطريق الوسط، أساساً فلسفياً في بحث رائع عن "الحقيقة 1624). قال هربرت إن الحقيقة مستقلة عن الكتب المقدسة، ولا يمكن أن تقررها كنيسة أو أية سلطة أخرى، وإن أفضل اختبار للحقيقة هو موافقة الناس جميعاً عليها، وتبعاً لذلك تكون أحكم ديانة هي ديانة "طبيعية"، ولا ديانة "موحى بها"، تحصر نفسها في النظريات التي تتقبلها كل المذاهب: وهي أن هناك "كائناً"، وأنه تجب عبادته بالحياة الفاضلة المستقيمة أساساً، وأن السلوك المستقيم، يثاب؟، وأن السلوك السيئ يعاقب عليه، إما عنا في الحياة الدنيا، أو هناك في الحياة الآخرة. ويقول أوبري إن هربرت مات "في هدوء" بعد أن أبوا عليه الأسرار المقدسة(9).
وكان البرلمان أشد قلقاً وانشغالاً بالكاثوليكية منه بالهرطقة. ففي 1634 قارب الكاثوليك في إنجلترا أن يشكلوا ربع السكان(10)، على الرغم من كل القوانين والأهوال التي كان يقاسيها نحو 335 من الجزويت، واعتنق النبلاء البارزون المذهب القديم، وفي 1625 أعلن جورج كلفرت، لورد بلتيمور تحوله إلى الكثلكة، وفي 1632 منحه شارل مرسوماً بإنشاء المستعمرة التي عرفت باسم ماريلاند. وفي 1633 أرسلت الملكة الكاثوليكية هنريتا ماريا إلى روما مبعوثاً يستجدي منصب الكاردينال لأحد الرعايا البريطانيين. وعرض الملك الإنجليكاني أن يسمح بإقامة أسقف كاثوليكي في إنجلترا إذا أيد إربان الثامن خطة شارل في عقد بعض زيجات دبلوماسية (1634) ولكن البابا رفض. وطالب الكاثوليك بالتسامح الديني. ولكن البرلمان-الذي يعي في ذاكرته تعصب الكاثوليك، ومذبحة سانت برتلميو، ومؤامرة البارود، والاشمئزاز من إجراء تحقيق في مستندات ممتلكات بروتستانتية كانت يوماً كاثوليكية-طالب، بدلاً من ذلك، بالتطبيق الكامل للقوانين التي صدرت ضد الكاثوليكية. وساد شعور قوي شعاره "لا كثلكة"، وخاصة بين طبقة صغار الملاك والطبقة الوسطى، يعارض بالمثل، تدفق القساوسة الكاثوليك إلى إنجلترا، كما يقاوم ازدياد التقريب بين الفكر والطقوس الأنجليكانية والكاثوليكية.
وتمتعت الكنيسة الرسمية بحماية الدولة لها حماية كاملة. وكانت العقيدة والعبادة الأنجليكانية إجباريتين قانوناً، وجعلت المواد التسع والثلاثون قانوناً من قوانين البلاد 1628. وادعى الأساقفة الأنجليكانيون "الخلافة الرسولية"-أي أنهم كانوا قد رسموا بواسطة الرسول، ورفضوا توكيد المشيخيين والبيوريتانيين أن يرسموا الكاهن شرعاً، وكان كثير من رجال الدين الأنجليكانيين في ذاك العصر، رجالاً يتحلون بعلم واسع وشعور كريم. وكان جيمس أشر Usher رئيس أساقفة أرماج Armagh عالماً حقاً، برغم حسابه المشهور (في كتابه Annales Veteris Testamenti، 1650) أن الله خلق العالم في 22 أكتوبر سنة 4004 ق.م.-وهذه غلطة في الحساب الزمني جعلت شبه رسمية في طبعات الكتاب المقدس(12). ودعا جون هيلز، قسيس السفارة الإنجليزية في هولندا-إلى الشك والعقل والتسامح:
إن الطرق التي توصلنا إلى.... أي علم أو معرفة ليست إلا اثنتين، أولاهما الاختبار وثانيتهما الاستدلال المنطقي، إن الذين يأتونك ليلقوا إليك بم يجب أن تؤمن وماذا يجب أن تفعل، دون أن يذكروا لك السبب في هذا أو ذاك، ليسوا أطباء بل إنهم متطفلون دجالون... إن أهم مصدر وقوة للحكمة ليس من السهل التصديق بهما... إن تلك الأشياء التي نجلها لقدمها، ماذا كانت في بداية نشوئها؟ هل كانت زائفة؟ إن الزمن لا يستطيع أن يضفي عليها حقيقة وصدقاً. إن عامل الزمن... مجرد شيء خارج عن موضوع البحث... وليس تعدد الآراء، ولكن إرادتنا الفاسدة الشريرة-التي تظن أنه من الملائم أن نتخيل كل شيء (من نفس الفكر) كما نتصوره نحن نفسنا-هي التي أزعجت الكنيسة إلى هذا الحد. ألم نكن مستعدين لأن يلعن بعضنا بعضاً حين لم نكن متفقين في الرأي؟ ويمكن أن تكون قلوبنا متحدة... هناك شيئان يصنعان رجلاً مسيحياً كاملاً-إيمان صادق وسلوك قويم. ولو أن الثاني يبدو أجدر بالاعتبار، ويخلع علينا اسم المسيحيين، ولكن الثاني في النهاية، سيثبت أنه الأقوى والأرسخ، وليس ثمة رجل... حتى ولو كان همجياً أو وثنياً، لا تصل إليه أنسام الشفقة المسيحية(13).
ولم يستجب بعض "عبدة الأصنام" لكرم هليز. وكتب جزويتي بتوقيع "إدوارد نوت نبذة عنوانها Charit Mistaken (1630) قال فيها إنه لن يكتب الخلاص لأي بروتستانتي، إلا بمحض الصدفة(14). ولكن أعاد الطمأنينة إلى قلوب البروتستانت الذين أدانهم المقال السابق، وليم تشلنجورث، Chillingworth الذي كان كتابه "العقيدة البروتستانتية هي الطريق المأمون للخلاص، 1637" أشهر بحث لاهوتي في ذاك، العصر، لقد عرف تشلنجورث الفريقين كليهما، فقد كان قد ارتد إلى الكاثوليكية، ثم عاد إلى البروتستانتية، وما زالت لديه تحفظاته، وقال عنه كلارندون "إنه تعود الشك حتى أصبح شيئاً فشيئاً لا يثق في شيء قط، ومتشككاً على الأقل في أعظم الأسرار الدينية(15)".
وكان جرمي تيلور أفصح الأنجليكانيين في عهد شارل، ولا تزال عظاته تقرأ؟، كما أنها أشد تأثيراً من عظات بوسويه، حتى أنها هزت مشاعر أحد الفرنسيين(16). وكان تيلور ملكياً متحمساً، وقسيساً في جيش شارل الأول. وعندما سيطر المشيخيون والبيوريتانيون على البرلمان، وأساءوا، في التعصب الشديد، معاملة الأنجليكانيين الذين كانوا يوماً متعصبين، أصدر تيلور كتاب "حرية الوعظ" (1646) وهو دعوة حذرة إلى التسامح: إن أي مسيحي قبل عقيدة الرسل يجب أن تتلقاه الكنيسة بين أحضانها، ويجب أن يترك الكاثوليك أحراراً، إلا إذا أصروا على سيادة إنجلترا وعلى الملوك ، وقبض حزب البرلمان على تيلور وأودع السجن في الحرب الأهلية، ولكن بعد عودة الملكية، انضم إلى حكومة الأساقفة في الكنيسة، وخف تحمسه للتسامح.
وظهر أثر الكاثوليكية المتزايد في الرجل الأنجليكاني البارز ذي النفوذ في عصره، وهو وليم لود، الذي كان رجل فكر وإرادة، ولد ليسيطر ويحكم أو يموت. وكان متمسكاً بأهداب الفضيلة أشد تمسك، متزمتاً أشد التزمت، وطيد العزم إلى حد العناد مع سرعة الغضب، ورأى لود-كأي رجل صالح من رجال الكنيسة، أنه من القضايا المسلم بها أن المعتقد الديني الموحد أمر لا غنى عنه للحكومة الناجحة وأن الشعائر المعقدة ضرورية لكل عقيدة مهدئة مؤثرة، وما كان أشد حزن المسيحيين والبيوريتانيين وأسفهم عندما اقترح لود إعادة الفنون إلى خدمة الكنيسة، لتجميل المذبح والمنبر وجرن التعميد، وإعادة الصليب المقدس، والمدرعة (الرداء الكهنوتي الأبيض) إلى الكهنة. وعلى هيئة جبل خاص للخطايا، أمر بوضع مائدة العشاء الرباني التي كانت توضع حتى الآن وسط الهيكل (وكانت تستخدم في بعض الأحيان لوضع القبعات عليها)، نقول أمر لود بوضع هذه المائدة خلف حاجز في الطرف الشرقي من كنيسة، وكانت هذه التغييرات في معظمها إحياء لأعراف إليزابث وقوانينها، ولكنها في نظر البيوريتانيين الذين أحبوا البساطة، كانت تمثل ارتداداً إلى الكاثوليكية، وتجديداً للفصل الطبقي بين القسيس وجمهور المصلين. ويبدو أن لود أحس بأن الكنيسة الكاثوليكية كانت على حق في إحاطة الديانة بالمراسم والشعائر، وإضفاء هالة من القداسة على القسيس(17). وقدرت الكنيسة الرومانية الكاثوليكية أراءه إلى حد أنها قدمت إليه منصب الكاردينال(18). ولكنه رفض رفضاً مهذباً. ولكن يبدو أن هذه العروض أيد لوم البيوريتانيين وتأنيبهم، وأطلقوا عليه النذير بقدوم المسيح. وعينه شارل 1633 رئيساً لأساقفة كنتربري وعضواً في وزارة الخزانة. وعين رئيس أساقفة آخر قاضياً للقضاة في إسكتلندة فشكا الناس من أن رجال الكنيسة يعودون إلى السلطة، كما كانت الكنيسة في أوج عظمتها في العصور الوسطى.
وشرع كبير أساقفة إنجلترا، من قصره في لامبث Lambeth في إعادة تشكيل الطقوس والأخلاقيات الإنجليزية، وخلق مائة عدو جديد حين فرض عن طريق "محكمة اللجنة العليا" (وهي هيئة قضائية أقامتها إليزابث، وهي الآن كنيسة بشكل واضح): فرض غرامات فادحة على المتهمين بالزنى، ولم تطلب نفوس الضحايا باستخدامه الغرامات في إصلاح كاتدرائية سانت بول المتهدمة، وطرد المحامين والبائعين المتجولين والمثرثرين من أبهائها(19)وحرم الكهنة الذين رفضوا الطقوس الجديدة من رواتبهم، أما الكتاب والخطباء الذين نقدوها مراراً وتكراراً، أو ارتابوا في العقيدة المسيحية، أو الذين عارضوا نظام الأساقفة فكانوا يحرمون من الكنيسة ويوضعون في آلة تعذيب خشبية ذات ثقوب تقيد فيها رجلا المذنب ويداه، أو تقطع أذناه.
ويجب أن نتخيل بشاعة ووحشية العقوبات التي فرضت في عهد لود، حتى ندرك مصيره. فان الكاهن البيوريتاني اسكندر ليتون Leighton، حوكم أمام محكمة قاعة النجم لأنه المؤلف المعترف به لكتاب يقول بأن نظام الأساقفة، نظام شيطاني معاد للمسيحية. فقيد في الأغلال وسجن في مكان موحش لمدة خمسة أسابيع في زنزانة شديدة البرد "مليئة بالجرذان والفيران، معرضة للثلوج والأمطار"، فتساقط شعر رأسه، وتقشر جلده، وربط إلى خازوق، وتلقى ستاً وثلاثين جلدة بحبل سميك على ظهره العاري، ووضع في المشهرة (آلة تعذيب) لمدة ساعتين في صقيع نوفمبر وجليده، ودمغ بسمة العار في وجهه، وشق أنفه وقطعت أذناه، وحكم عليه بالسجن مدى الحياة(20). وفي 1633 فرضت على لودويك بوير Ludowyc Bowyer، الذي كان قد اتهم لود بأنه كاثوليكي في دخيلة نفسه، غرامة، ودمغ بسمة العار، وبترت أطرافه، وشوه جسمه، وحكم عليه بالسجن مدى الحياة(21). واتهم وليم برين، وهو من غلاة الدعاة البيوريتانيين في "أنباء من أبسوبك" (1636)، اتهم أساقفة لود بأنهم خدم للبابا وللشيطان(22)، وأوصى بشنق الأساقفة. فدمغ بسمة العار على خديه كليهما وقطعت أذناه، وأودع السجن حتى أفرج عنه البرلمان الطويل (1640)(23). وسجنت لمدة أحد عشر عاماً امرأة أصرت على اعتبار السبت يوم راحة وعبادة(24). واتفق ألد أعداء لود، وهم البيوريتانيون، ومعه على ضرورة التعصب أو عدم التسامح. وذهبوا إلى أنه حكم نهائي معقول من أصل السماوي للمسيحية والكتب المقدسة، فان أي فرد يعارض عقيدة قامت على هذا الأساس، لا بد أن يكون مجرماً أو معتوهاً، وتجب حماية المجتمع من كثير من الخطايا واللعنات التي قد تنصب على المجتمع من جراء تعاليمه. وناشد المشيخيون البرلمان-(1648) أن يشرع عقوبة السجن مدى الحياة لمن يستمرون على نشر تعاليم الكاثوليك والمعمدانيين والأرمينيين والكويكرز، وعقوبة الإعدام للذين ينكرون نظريات الثالوث الأقدس، أو التجسد. ولكن المستقلين أتباع كرومويل، على أية حال، عرضوا التسامح مع كل من يقبل أساسيات المسيحية، ولكنهم استبعدوا الكاثوليك والموحدين والمدافعين عن حكومة الأساقفة(25).
وكان في البيوريتانيين شيع كثيرة إلى حد يصعب معه جمعهم في تعميم واحد ينطبق عليهم جميعاً. وتمسك معظمهم بكلفنية صارمة، وبحرية سياسية فردية، ويحق جمهور كل كنيسة في إدارة شئونها دون إشراف الأساقفة، وبعبادة غير موسومة بالمراسم والشعائر، متسمة بالمساواة، وتخلوا عن الفن الديني الذي يلهي المصلين ويشتت أفكارهم، واتفقوا مع المشيخيين في اللاهوت ولكنهم رفضوا مجامعهم الكنسية، لأنها تنزع إلى ممارسة سلطة الأساقفة، وأصروا على تفسير حرفي للكتب المقدسة، واستنكروا القول بحكم العقل على الحق الموحى به، وكانوا يجلون العهد الجديد والعهد القديم بقدر سواء، وطبقوا على أنفسهم الفكرة اليهودية "شعب الله المختار"، وعمدوا أطفالهم بأسماء بطارقة "العهد القديم" وأبطاله، وفكروا في الرب على أساس "يهوه" الصارم القاسي، وأضافوا إلى ذلك إيمان الكلفنية بأن معظم الناس هم "أبناء العقاب الإلهي" قضت عليهم الإرادة المتحكمة من لدن إله لا يرحم بالخلود في الجحيم، وعزوا خلاص القلة "المختارة"، لا إلى صالح الأعمال، بل إلى نعمة إلهية ينعم الله بها على من يشاء متى شاء. وذهب بعضهم إلى أنه كلم الله، وظن بعضهم أنهم ملعونون فهاموا في الشوارع يئنون ويتأوهون، استباقاً لخلودهم في العذاب. وبدا أن الله يسلط الصواعق دوماً على رؤوس الناس.
وفي وسط هذا "الإرهاب" الذي فرضته البلاد على نفسها كادت "إنجلترا المرحة" أن يتقلص ظلها واستسلمت "إنسانية عصر النهضة" و "طبيعية" عصر إليزابث المفعمة بالحيوية إلى شعور بالذنب وخوف من الانتقام الإلهي. وبهذا الخوف وذلك الشعور نظر الناس إلى مسرات الحياة وكأنها أرجاس من عمل الشيطان أو تحديات للإله. وعاودت قسماً أكبر من الناس لم يعهد له مثيل من قبل في التاريخ المعروف، نقو عاودتهم المخاوف من الطبيعة البشرية والجسد، التي كانت سائدة بين الرهبان في الديار. وأعلن بريم Pryme أن كل عناق "دعارة"، وكل رقص مشترك "فسق وفجور(26)". وفي نظر معظم البيوريتانيين كانت الموسيقى والزجاج الملون والصور الزيتية والأردية الكهنوتية البيضاء والكهنة الممسوحون بالزيت-كلها أمور تحول دون الاتصال بالله والاتجاه إليه. ودرسوا الكتاب المقدس بعناية فائقة، واقتبسوا عباراته في كل حديث وفي كل فقرة تقريباً، وطرز بعض المتحمسين المتعصبين ثيابهم بنصوص مقدسة، وأضاف المغالون في التقى والورع لفظة "حقاً" إشهاد على إخلاصهم أو صدقهم. وحرم البيوريتانيون الصالحون استخدام مستحضرات التجميل وترتيب الشعر، على أنهما ضرب من الزهو والغرور والتفاهة. وحظوا بالاسم المستعار "ذوي الرءوس المستديرة Roundheads لأنهم قصوا شعورهم بشكل قصير جداً. ونددوا بالمسرح على أنه مخز (وهكذا كان)، وبمطاردة الدببة والثيران على أنها عمل وحشي، وبأخلاق البلاط على أنها وثنية. كما استنكروا الاحتفالات والأعياد الصاخبة، ودق النواقيس، والتجمع حول عمود أول مايو المزدان بالأشرطة والأزهار والرقص حوله، وشرب الأنخاب، ولعب الورق. وحرموا كل الألعاب أياً كانت في يوم الراحة، وقالوا أنه يوم الرب، ويجب ألا يسمى بعد الآن بالاسم الوثني "الأحد". ورددوا صيحات الغضب-ومن بينهم ملتون-حين أصدر شارل الأول ولود-تجديداً لمرسوم جيمس الأول-"إعلان الألعاب" 1633، أجاز فيه الألعاب في يوم الأحد بعد تأدية الصلوات. ومد البيوريتانيون تشددهم في تحريم الألعاب والملاهي وفي الانقطاع إلى العبادة والراحة في أيام الآحاد (قوانين الأحد الزرقاء)، إلى يوم عيد الميلاد، ورثوا لأسلوب الاحتفال بمولد المسيح بالمرح والرقص والألعاب، وكانوا على حق في أنهم نسبوا معظم تقاليد عيد الميلاد إلى أصول وثنية، وطالبوا بأن يكون عيد الميلاد يوماً مهيباً للصوم والكفارة، وفي 1644 أقنعوا البرلمان بعد لأي، بإقرار هذه الفكرة بمقتضى القانون.
وكما أكدت البروتستانتية على العظة أكثر مما فعلت الكثلكة، فان البيوريتانيين كذلك توسعوا فيها حتى إلى أبعد مما جرى عليه البروتستانت. ومزق التعطش إلى المواعظ بعض القلوب، وانتقل عمدة نوروك إلى لندن ليستمع إلى مزيد من الوعظ، واستقال بزاز من الأبرشية لأنها لا تقدم إلا عظة واحدة كل يوم أحد، وقام "محاضرون" خاصون لإطفاء هذا الظمأ-وهؤلاء عبارة عن رجال عاديين تستأجرهم الأبرشية لإلقاء عظة يوم الأحد، بالإضافة إلى ما يلقيه الكاهن المعتاد. ونهض معظم الوعاظ البيوريتانيين بمهمتهم في جدية بالغة فأرهبوا مستمعيهم بأوصاف الجحيم، واتهم بعضهم الآثمين علناً بالاسم، وأفصح واحد منهم عن مدمني الخمر في شعب الكنيسة، وضرب، وهو يتحدث عن البغايا، مثلاً بزوجة أحد أهالي الأبرشية المشهورين، وقال آخر لمستمعيه إنه إذا كان الزنى والحلف والغش وإغفال طقوس يوم الراحة، إذا كانت هذه كلها تؤدي بالإنسان إلى الجنة، فسيكتب الخلاص للأبرشية بأسرها(17). وأحس القساوسة البيوريتانيون أن من واجبهم أن يصفوا الناس-أو يحرموا عليهم-قواعد السلوك، وأنواع اللباس ووسائل التسلية، فحرموا الاحتفال بأيام العطلة أو الأعياد في الأعراف الوثنية أو الكنيسة الكاثوليكية، وبذلك أضافوا نحو خمسين يوم عمل إلى السنة(28). ودوت صيحة الواجب في الخلق البيوريتاني، مقترنة بغرس الشجاعة والاعتماد على النفس والحزم والاقتصاد والعمل في النفوس، وكان هذا نظاماً أخلاقياً يلتئم مع الطبقة الوسطى، فأنه حث على العمل الجاد النشيط، وأجاز من الوجهة الدينية المشروعات والمغامرات التجارية والملكية الخاصة. وكان الفقر، لا الغنى، في نظرهم، هو الخطيئة، لأنه ينم على الافتقار إلى الخلق الشخصي وإلى نعمة الله(29).
وكان البيوريتانيون، من الناحية السياسية، يتوقون إلى حكومة دينية ديمقراطية، لا يكون فيها بين الناس إلا فروق أخلاقية ودينية، ولا يكون فيها حاكم غير المسيح. ولا قانون سوى كلمة الله. وكرهوا الضرائب الباهظة التي تعول الكنيسة الأنجليكانية. وشعر رجال الأعمال منهم أن هذه الكنيسة الرسمية العليا الباهظة النفقات تحلبهم وتستنزف أموالهم. وقال أحد المؤلفين "إن هذه الهاوية الأسقفية تلتهم تجارة الأمة"(30). ودافع البيوريتانيون عن الثراء، ولكنهم احتقروا الترف الخامل الذي كان يرفل فيه النبلاء، وتمسكوا بالأخلاقيات إلى حد التطرف، كما فعلت الأجيال التالية بالحرية. ولكن ربما كانت مبادئهم القاسية تصحيحاً ضرورياً للانحلال الخلقي في عصر إليزابث. وأنجبوا بعضاً من أقوى الشخصيات في التاريخ-كرومل وملتون، والرجال الذين فتحوا الفيافي والقفار الأمريكية.
ودافعوا عن الحكومة البريطانية ونظام المحلفين ونقلوهما إلينا، وإن إنجلترا لمدينة لهم، بشكل جزئي، بالرصانة الحقة في الخلق الإنجليزي، واستقرار الأسرة البريطانية، ونزاهة الحياة الرسمية في بريطانيا. ولم تفقد شيئاً.
القرن التاسع عشر
كانت الحكومة وأهل الفكر في إنگلترا قد وصلوا إلى اتفاق شرف (اتفاق يسري بمراعاة الشرف لا بقوة القانون) بخصوص الدين. فالهجوم الذي شنه الربوبيون على العقيدة التقليدية لابد أن تخف وطأته مادام المتشككون في الدين (المسيحي) ليس لديهم ما يحل محل الدين لتحقيق السلام بين الناس وضبط سلوك الأفراد. لقد كان وليام گودون، وروبرت أوِن Owen، وجرمي بنثام وجيمس مل أمثلة حية لعدم الإيمان (بالمسيحية) لكنهم لم يقوموا بدعاية ضد الدين. وكان توم پين Paine استثناء منهم. وكانت الأرستقراطية الإنجليزية - التي وجدت في ڤولتير الشاب ما يجذبها - تراعي الآن حرمة السبت بوضوح. لقد لاحظ مؤرخ حوليّ في سنة 8971 دهشة الطبقات الدنيا في كل أنحاء إنجلترا لرؤيتها الطرق إلى الكنائس غاصّة بالعربات التي تجرها الخيول في أيام الآحاد(51). وفي سنة 8381 لاحظ جون ستيوارت مِلْ: يوجد في العقل الإنجليزي سواء من ناحية التفكير والتأمل أو الممارسة بُعد صحّي على درجة عالية من البُعد عن التطرّف... لا تزعج الهدوء أو بتعبير آخر لا تغير ما هو مستقر Quieta non movere وكانت هذه هي العقيدة الأثيرة في تلك الأيام... وعلى هذا، ففي حالة عدم إثارة ضوضاء كثيرة حول الدين أو عدم تناوله بجدية شديدة فلم يكن لدى الناس حتى الفلاسفة مانع من تأييد الكنيسة باعتبارها حصناً ضد التعصّب ومسكناً للروح الدينية لمنعها من إفساد هارمونية المجتمع (اتساقه) أو تعكير صَفْو الدولة. ووجد الإكيروس أنهم حققوا صفقة طيبة بهذا الاتفاق والتزموا بشروطه بإخلاص(61).
لقد كانت الكنيسة من الناحية الرسمية هي الكنيسة المتحدة لإنجلترا وأيرلندا. ورغم أنها قبلت تسعاً وثلاثين مادة من العقيدة الكلفنيّة إلاّ أنها احتفظت بكثير من ملامح الطقوس الكاثوليكية. لقد كانت تضم رؤساء أساقفة وأساقفة لكنهم عادة ما كانوا يتزوجون، وكان تعيينهم يتم عن طريق التاج. وبشكل عام كان كبار ملاك الأراضي المحليون هم الذين يختارون الكهنة والقسس البروتستنط، وكان هؤلاء الكهنة والقسس يساعدونهم في حفظ النظام الاجتماعي. واعترف الإكليروس الإنجليكان بالملك باعتباره رأس كنيستهم وباعتباره حاكماً، واعتمدوا على الدولة في جمع العشور للكنيسة من أسر إنجلترا. وقد وصف برك Burke بريطانيا بأنها كومنولث مسيحي كانت فيه الكنيسة والدولة كياناً واحداً بل إنهما الشيء نفسه. إن كلاً منهما جزء مختلف عن الآخر لكنّه مكمّل له ووصف جون ولسون كروكر كنيسة وستمنستر بأنها جزء من الكومنولث البريطاني(81). لقد كانت العلاقة بينهما تشبه العلاقة التي بين الكنيسة الكاثوليكية وحكومة فرنسا في أثناء حكم لويس الرابع عشر مع فارق وهو أن إنجلترا لم تشهد - غالباً - اضطهادات أو مضايقات بسبب تهمة الهرطقة (الإلحاد). [1]
وسُمِح للفِرَق (أصحاب المذاهب) المنشقة - الميتوديين (المنهجيين) والمشيخيِّين Persbyterians والمعمدانيين Baptists والإندبندنت (المستقلّين) والابرشيين congregationalists والكويكر Quakers والموحّدين (المناهضين للتثليث) Unitarians - بالدعوة لعقائدهم بشرط واحد: أن يُعلنوا أنهم مسيحيون(91) وكان هناك بعض من هؤلاء المنشقّين في مجلس اللوردات. وتحلّق عدد كبير من المستمعين حول المبشِّرين (الدعاة) الميتوديِّين لما عُرفوا به من بلاغة رائعة. ولجأ عمال المدن المعارضون بعد أن يئسوا من تحقيق آمالهم في الدنيا إلى عقيدتهم البسيطة (عقيدة الطفولة) وبهذه العقيدة البسيطة قاوموا كل الجهود لتحريضهم على الثورة عندما تسلّلت الأفكار الثورية عَبْر القنال الإنجليزي من فرنسا. وفي سنة 1792 طلب القادة الدينيون لجماعة الوِزليان الميتوديّين من كل عضو من أعضائهم أن يقسم يمين الولاء والطاعة للملك(02).
وفي نطاق الكنيسة الرسمية نفسها وجدنا تأثير الميتودية الحركة الإنجيلية Evangelical؛ كثير من رجال الدين صغار السن وكذلك كثير من جمهور المؤمنين (بالمذهب) قرروا إحياء العقيدة الإنجليكانية بتناول الإنجيل بحماسة وعاطفة (وضعه في القلب)، وتكريس أنفسهم لحياة البساطة والتقوى والإحسان وإصلاح الكنيسة. وكان أحدهم هو وليم ولبرفورس هو الذي قاد معركة الإنجليز ضد الرق، وهناك أيضاً حنا مور Hannah More التي نشرت حماساً مسيحياً جديداً بمحاضراتها وكتبها ومدارس الأحد التي أسستها.
وظلت جماعتان دينيتان خارج دائرة التسامح الكامل: الكاثوليك واليهود. لم يكن البروتستنط الإنجليز قد نسوا گاي فوكس Guy Fowkes ومحاولته نسف البرلمان (1605) ولا مغازلات ملوك ستيوارت Stuwart - شارلز الأول وشارلز الثاني وجيمس الثاني - للقوى الكاثوليكية والأفكار الكاثوليكية والخليلات الكاثوليكيات، ومال الإنجليز إلى النظر للكاثوليكي كشخص يُوالي حاكما أجنبياً (كان الباباوات يمثلون سلطة زمنية كحكام للولايات الباباوية)، وكان الإنجليز يندهشون كيف سيتصرف الكاثوليكي في حالة حدوث صراع بين الحَبْر الروحاني (البابا) والملك البريطاني.
وكان في إنجلترا في سنة 0081 نحو ستين ألف كاثوليكي. كان معظمهم من أصول أيرلندية لكن بعضهم كان ينحدر من سلالة كاثوليكية متوطنة قبل حركة الإصلاح الكاثوليكية في بريطانيا Pre. Reformation British Catholics. وفي الفترة الزمنية التي نتناولها كانت القوانين المناهضة لهم قد خفَّت وطأتها، فثمة مراسيم مختلفة صدرت فيما بين 1774 و 1793 أعادت لهم حق تملّك الأراضي وحق العمل في مجال الخدمة المدنية وحق الدعوة لعقيدتهم من خلال مدارسهم الخاصة بهم، وحقهم - على نحو خاص في ترديد قسم الولاء للملك والحكومة دون التبرؤ من البابا أو جحده. إلاّ أنه لم يكن لهم - على أية حال - حق التصويت، ولم يكن لهم حق ترشيح أنفسهم لعضوية البرلمان.
وفي نحو نهاية القرن الثامن عشر بدت حركة إعطاء الكاثوليك كل حقوق المواطنة على وشك النجاح، وأيدها بروتستنط بارزون - وزلي، وكاننگ، وولبرفورس، ولورد گراي Grey. وقد أدّت الثورة الفرنسيّة إلى موقف مضاد لفولتير في إنجلترا بل وموقف مضاد لحركة التنوير، كما أدّت إلى شيء من التعاطف مع الدين (المسيحي) الذي تعارضه الحكومة الثورية (الفرنسية)، وبعد سنة 1892 تلَّقى المهاجرون الفرنسيون (الذين تركوا فرنسا إثر أحداث الثورة الفرنسية) استقبالاً حاراً ومساعدات مالية من الدولة البريطانية وكان بينهم رجال دين كاثوليك. وسمحت الدولة البريطانية لهؤلاء المهاجرين بإقامة أديرة، وحلقات بحثية. إن إنجلترا تبدو الآن في موقف سخيف (منافٍ للعقل) فقد كان الاتجاه أن الكنيسة الكاثوليكية يمكن أن تكون حليفاً ذا قيمة في حربها ضد فرنسا. وفي سنة 1800 قدَّم بِتْ Pitt مشروع قانون لمنح كاثوليك إنجلترا حقوقهم كاملة. وعارض التوري (المحافظون) والكنائس والإنجليكانية العليا هذا القانون وأيدهم جورج الثالث بعزم، فسحب بِتْ مشروع قانونه واستقال، وكان على تحقيق الكاثوليك للمساواة الكاملة في إنجلترا أن ينتظر حتى سنة 1829.
الهامش
ديورانت, ول; ديورانت, أرييل. قصة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود.
- ^ ديورانت, ول; ديورانت, أرييل. قصة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود.