احتلال الموصل (1918)
احتلال الموصل، هو إحدى نزاعات حملة بلاد الرافدين، وقع عام 1918، وانتهى باحتلال القوات البريطانية للموصل.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
خلفية
تأخر المضي بالحملة في بلاد الرافدين قدماًَ في ربيع عام 1918 بسبب ضرورة حماية شمالي بلاد فارس من هجوم تركي محتمل، إلا أن هزيمة الترك في غزة في خريف 1917 أنهى خطر قيام الترك وحلفائهم الألمان بهجوم على بلاد الرافدين، ويسر على القوات البريطانية احتلال خانقين، أي استئناف الحملة في بلاد الرافدين، في ديسمبر 1917 وفي مطلع مايو 1918، تم تحقيق المزيد من التقدم.[1]
قد كان القائد العام السير وليم مارشال الذي أعقب السير ستانلي مود بعيد وفاته في نوفمبر 1917 [2]، يأمل أن يصل الزاب الأسفل قبل تصاعد حرارة الجو ثم يشرع من ذلك الموقع الممتاز بالتوجه الى الموصل في موسم الخريف. وهكذا فقد تم احتلال كفري والطوز (طوزخرماتو) وكركوك بنجاح، كما استقبلت القوات البريطانية بحفاوة من قبل الأهالي وهم باستثناء كركوك أكراد في معظمهم.
وقد عمل حميد بك طالباني في منطقة كفري بتكريس جهوده في صالح البريطانيين [3]، وسكان كركوك في أكثرهم من الدم التركي، وليس العثماني، كونهم يعودون بجذورهم الى المستوطنين التركمان، الذين وفدوا إلى العراق في عصر السلاجقة. مع ذلك فإن تأسيس الوجود البريطاني لم يمر بحالة أفضل وأكثر ارتياحا في أي مكان منه وسط هذه الأقوام [4] أما العنصر المسيحي المعتبر فقد رحبوا بالبريطانيين بحماس وتعاون المسلمون معنا بإخلاص في تنظيم المدينة[5].
وإلى الغرب في كردستان السورتي[6] فقد تم عقد اجتماع ضم الشيوخ (الأغوات) والأعيان في السليمانية واتخذ قرار بتشكيل حكومة كردية مؤقتة يترأسها الأغا المحلي المعروف الشيخ محمود البرزنجي[7] على ان تتخذ موقفا وديا تجاه البريطانيين.
وكان الشيخ محمود قد أرسل رسائلا زعم فيها أنه يمثل الأكراد الجنوبيين وعرض على البريطانيين زمام الحكومة أو أن يقوم بتمثيلهم في حكومة. وسيان بالنسبة للعسكريين أو للأطراف المدنية في القوة البريطانية فقد كانت خيبة أمل مرة عندما يكون من المستحيل الإستفادة من وضع واعد كهذا.[8] وقد بات تحويل وسائط النقل المتوفرة كلها إلى الطريق الفارسي [9] لا يحول دون أي تقدم للقوات البريطانية، بل أرغم البريطانيين على التخلي عن كركوك. وقد أعطى البريطانيون السكان المسيحيين في المدينة خيار مغادرة المدينة إلى ملاذ آمن في بغداد، فإختارت أعداد منهم مغادرة أراضيهم وبيوتهم في كركوك ليقوم الأتراك الذين قاموا باحتلال المدينة بنهبها بعد مغادرتنا لها، بينما زحفت قوة عثمانية صغيرة باتجاه السليمانية حيث قام البريطانيون بتعيين الشيخ محمود ممثلا لبريطانيا هناك. فقام الأتراك بوضع مدينة السليمانية تحت الأحكام العرفية وأرسال الشيخ محمود الى كركوك. لكن الأتراك، على أية حال، لم يغامروا في التسبب في إثارة القبائل التي يمثل الشيخ محمود رئيسا لبضع عوائل فيها ويمارس تأثيرا كبيرا عليها فعمدوا إلى اطلاق سراح الشيخ محمود فورا.
احتلال كركوك
وقد أدى انسحاب البريطانيين من كركوك إلى تغيير حتمي في التوازن في كردستان، ولكن الأتراك كانوا قد بلغوا دركا من الضعف لا يقدرون معه الإستفادة من الفرصة التي وفرها انسحاب البريطانيين لهم. غير أن انتصار الحلفاء في فرنسا، معركة برودسيندا في 4 أكتوبر 1917، وانتصار الجنرال اللنبي في سوريا في أكتوبر، معركة غزة الثالثة في 31 أكتوبر 1917، أعادا التوازن لصالح البريطانيين. مع ذلك فإن القوات البريطانية في بلاد الرافدين مازالت معرقلة بسبب النقص في وسائل المواصلات، وليس بمقدورها التقدم بقوات كبيرة الى الموصل بطريق كركوك..إلا ان وحدة صغيرة تم ارسالها صوب التون كوبري [10] لحماية جناح القوات الرئيسة المتقدمة شمالا بمحاذاة دجلة. فتم للقوات البريطانية احتلال كركوك مجدداً في 25 أكتوبر. وبعد مواجهة عنيفة أرغمت الأتراك على مغادرة مواقعهم المستحكمة في وادي دجلة أسفل قلعة الشرقاط وقد تم اعتراض قواتهم من الشمال فاستسلمت القوة بأكملها في 30 أكتوبر. وفي تلك الأثناء تمكنت القوة الشرقية المرسلة إلى التون كوبري من إرغام الأتراك على عبور الزاب الأسفل في الوقت الذي أضحت فيه قوة دجلة، القافلة الرئيسة، على بعد بضعة أميال من الموصل.
احتلال الموصل
وكان القائد العام التركي علي إحسان پاشا، قائد الجيش السادس التركي، الذي بقي في الموصل مع عدد قليل من القوات قد أمر بإخلاء المخازن والسجلات كلها، ولكن في الأول من نوفمبر تم الرجوع عن هذه الأوامر فأعيدت السجلات ورجع الموظفون إلى دوائرهم من نصيبين وزاخو ومن حيثما كانوا قد ارسلوا. وبعد عدة أيام من التفاوض حول ما اذا ترتب على علي احسان باشا الإستسلام وفق بنود الهدنة. وكانت اوامر قد وصلت من القسطنطينية حول إخلائه. فاحتلت الموصل من قبل القوات البريطانية ورفع العلم البريطاني فوق بناية السراي في 8 نوفمبر. [11] وفي العاشر من نوفمبر، غادر علي إحسان إلى نصيبين وتولى مهام ادارة الموصل اللفتنانت كولونيل جيرارد لجمن بصفته أول ضابط -حاكم سياسي لولاية الموصل.
غير أن المستقبل السياسي للولاية الموصل لم يتضح بعد، فوفق إتفاقية سايكس – بيكو لعام 1916، التي يعدها الفرنسيون ملزمة بغض النظر عن التحول الجوهري للأوضاع التي تم عقدها خلالها بسبب الثورة الروسية، تقع ولاية الموصل بأكملها ضمن مجال النفوذ الفرنسي. وعلى هذا الأساس صدرت من حكومة جلالة الملك تعليمات بضرورة عدم شمول الموصل بنظام الحكومة المركزية المعمول به في ولاية بغداد.
ويتوجب وضع [12] الموصل تحت إدارة عسكرية [13]. ولكن وبغضون أشهر ساد التفاهم ضمنا أن الإتفاقية، اتفاقية سايكس – بيكو، يجب أن تعدل بما يتعلق منها بولاية الموصل، على ذلك تم دمج الإدارة المدنية فيها بإدارة القسم الجنوبي من الأراضي العراقية المحتلة.
الوضع في الموصل
من الناحية الجغرافية، تطرح ولاية الموصل متناقضات معينة لولاية بغداد. فهي تقع شمالي جبل مكحول الذي يعد امتدادا لجبل حمرين والطريق إليها يمر عبر مسافات طويلة من الأراضي الحجرية وهو تغير محبب بعد الطمي الرسوبي الممثل لجنوبي بلاد الرافدين. ومن الجهة اليمنى لدجلة أي في الجزيرة، نجد ان الريف بأكمله ارض متموجة لاتقطعها سوى كتلة جبل سنجار. ومن الضفة اليسرى، الجانب الأيسر لدجلة، تمتد السهول على مسافات متنوعة بدءا من النهر حتى حافات الجبال الكردية. وتقدم السلاسل الأقرب الى المدينة من خلفية المشهد المنظور اليه عبر النهر من مدينة الموصل منظرا محببا لدى المشاهد الذي اعتاد على السهول الجنوبية لبلاد الرافدين. ولايرتفع اعلى جبال تلك المنطقة اكثر من 7000 قدم ولكنها شديدة الإنحدار وجرداء. وتشكل السلاسل المنفصلة وديان ضيقة ومتباعدة يترتب على الطرق فيما بينها اما ان تتسلق معابر عسيرة او تتبع طرقا وديانية متعرجة. وفي التلال تتوفر المياه في اكثرها على مدار السنة اما الوديان فمكتظة بأشجار الفاكهة كالكروم والجوز واللوز وشجر الحور والصنوبر.. وتكثر على جوانب الجبال اشجار البلوط المتناثرة متمعجة الاغصان. ولكن في الجزيرة نجد ان المياه الوحيدة توجد في تلعفر وفي العيون المتدفقة في سفح جبل سنجار وعدد قليل من الينابيع، ومعظمها، كبريتي، تنتشر في خط التلال الممتد من القيارة وحتى تلعفر..وهذه الينابيع هي السبب في ثروة تلعفر.وتجري المياه الباقية غير المستعملة بالزراعة من سنجار في منحدر الثرثار على نحو مواز لدجلة لتصب في المستنقعات المالحة شمال – غربي بغداد. ومياه وادي الثرثار وينابيع الصحراء كلها كانت منذ القدم وحتى الآن مالحة [14]. وفي الضفة اليمنى من وادي الثرثار تبرز آثار المدينة القديمة الحضر، وتعد الأراضي في تلك المنطقة أراض رعي شهيرة لقبيلة شمر الجربا حيث تكثر عيون المياه المالحة في انحائها، وفي سهول الضفة اليسرى لدجلة تنتشر قرى تحتضن عيون مياه عذبة تيسر الزراعة في موسم الصيف، ولكن ثروة الضفة اليسرى الزراعية تعود الى وفرة المياه التي يغدق بها عليها نهر دجلة فضلا عن نهري الزاب الأعظم والخابور. وتنمو أشجار الحور والصفصاف على ضفاف الأنهار..ولكن السهول المتبقية جرداء من الشجر، ولاوجود للنخلة في الأراضي الواقعة شمالي منخفض الفتحة[15]، ويوجد النفط والقير والفحم في المنطقة وكذلك نوع من المرمر الرمادي الناعم سهل القطع يستخدم كثيرا في المباني ويحفر بنماذج زخرفية تميز معمار المنطقة ويزين الجوامع والكنائس والبيوت الراقية.
النظام الاداري
ومن جانب آخر نجد ان اعادة تنظيم الإدارة اسهل في الموصل منه في أماكن أخرى..فبينما لم نجد في البصرة وبغداد سجلات مدنية سابقة وكان موظفوا الحكومة التركية قد انسحبوا منهما مع الجيش، وجدنا في الموصل السجلات المدنية كلها متوفرة وكذلك معظم الموظفين. وفي اواخر تشرين الثاني قام الكولونيل لجمن بزيارة تلعفر وسنجار وزاخو والعمادية ودهوك وقرية بيرة كبرا وعقرة، فرأى في كل تلك الأماكن العلم التركي مرفرفا وكان في معظمها جندرمة وموظفين أتراك..فعمل على صرف الموظفين والجندرمة الأتراك وأمر بإنزال الأعلام التركية ثم قام بتعيين ضباط سياسيين (اداريين) مساعدين في تلك المناطق الخاضعة لإحتلالنا. والمنطقة باستثناء سنجاق السليمانية كانت تشكل ولاية عثمانية، وسكانها أكثر تنوعا منهم في اي مكان آخر في العراق.
وسكان حوض دجلة وصحراء الجزيرة هم قبائل عربية منها المستقرة ومنها نصف المتبدية ممن اختار زراعة الأرض، أو حافظ على بداوته كما في قبيلتي شمر وطي. وفي الجبال، اخلى العنصر العربي، من سكنة السهول، مكانه للعنصر الكردي. أما في الصحراء الى الغرب، حيث يرتفع جبل سنجار الطويل وكأنه ظهر خنزير بري يبرز فجأة بما يتنافر مع عالم بلاد الرافدين بأرضها المستوية حيث يوطن اليزيدية الذين نجدهم في شمال – شرقي الموصل أيضا منحدرات هذا الجبل وشقوقه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
دور القبائل العربية
مع ذلك فإن التنافر بين اهتمامات البدوي والمزارع [الفلاح] او التاجر تتضح على افضل نحو من خلال وضع الشمر. فالشمر اشبه بالهوام (الشر العام الذي يعم الجميع) فهم يعيشون على النهب والإبتزاز. غير ان بعضهم أدرك في السنة الماضية الأرباح التي يمكن ان تجنى بتأجير جماله لأغراض النقل [استخدم الأنكليز الأبل في نقل الأعتدة وحمل المدافع والمؤن، وكانت الجمال تستخدم لأغراض نقل الميرة والسلاح والخيام منذ العهود القديمة وقد اعتمد عليها بشكل خاص الباشا محمد اينجة بيرقدار في حملاته في راوندوز والعمادية والجزيرة] وقد يكون في ذلك حلا جزئيا للمشكلة لأن وجود الكثير من المال في جيوبهم [جيوب الشمر] يعني دافع اضعف الى النهب والسلب، لكن في السنوات القليلة القادمة، على اية حال، ستعتمد قوتنا [تفوقنا عليهم] على قدرتنا على قطع طريق هجرتهم شمالا او جنوبا.
والقبيلة الرئيسة في الجزيرة بعد شمر هي قبيلة طي وشيخها هو محمد عبد الرحمن. وتنتشر هذه القبيلة بصورة رئيسة بين نصيبين وجبل سنجار، وباستثناء قرى قليلة في منطقة تلعفر توطنها طي، فالأكثرية منهم بدو رحل. وبأستناء عملية نهب يتيمة في طريق تلعفر، لم يتسببوا بأية مشكلات، وعلى ذلك تم حجز اعداد من حميرهم المسخرة في النقل بالقرب من الموصل ثم ارجاعها فورا لهم بعد ارجاع البضائع المسروقة.ويرتبط شيخهم بعلاقات طيبة مع يزيدية سنجار ولكن يبدو انهم ليسوا على علاقات جيدة مع العاصي.
وينتشر المتيوت والجحيش في السفوح الجنوبية لسنجار باتجاه تلعفر ولكنهما ليستا من القبائل ثقيلة الأهمية. اما الحديديين فهم رعاة [رعيان] الموصل، ويقومون برعي قطعان الأغنام بصفة اجيرين لملاك القطعان الكبيرة. ويشتهرون بعوزهم للشجاعة، وينظر اليهم البدو باحتقار ويمتنعون عن التزاوج معهم. وكانت هناك مشكلات حول منصب الشيخ [الشيخية] في البو حمد الذين يتمركزون في انحاء الشورة، وبليبل أغا هو أكبر شيوخهم وهو من العبيد [الرق] في أصله ويعد من الأشقياء المتمرسين بالإحتيال [ربما خلطت السيدة بيل بين العبيد "قبيلة كريمة معروفة" والعبيد [الرقيق] لأن البوحمد من العبيد ولعلها فسرت "من العبيد" التي سمعتها في استفسارها عن شيخ البوحمد فتصورت انه "من العبيد" اي "من الرقيق"]. والجماعة المنافسة لهم [اي لألبو حمد] يرأسها العاكوب الذي ينتسب الى الشيوخ الحقيقيين نحن ارغمنا على الأعتراف بزعامته على بعض الجماعات [ يرجح وجود خطأ آخرهنا أيضا لأن العاكوب يعدون فخدا من أفخاد البوحمد وكلاهما ينتميان لقبيلة العبيد..اما مسألة الأعتراف فتمثل سياسة بريطانية لإحتواء زعماء العشائر]. وتجدر الإشارة الى أن البوحمد كانوا في نزاع مع الجبور الذين يتخذون مزارعهم على ضفاف دجلة.
التقسيمات الادارية
وقد حافظت الإدارة البريطانية على التقسيمات الإدارية التركية للولايات فأخذ الضابط السياسي أو الإداري المساعد للمقاطعة مكان قائمقام القضاء. وبما ينسجم مع ممارساتنا في أماكن أخرى [الهند] تم دمج الشؤون الإدارية بالشؤون الإقتصادية: فتم تقسيم كل مقاطعة [قضاء] الى نواح حسب الأيرادات [الدخل الوارد من كل ناحية]، وأنيطت الإدارات في النواحي لمامورين عرب يكونون مسؤولين أمام مدير الناحية في رئاسة القضاء.. وفي عام 1919 تم تعيين السيد حسن بيك [العمري]، رئيسا لقسم [الأراضي ]السنية في العهد العثماني، مفتشا للدخول [الشؤون المالية] في الموصل، وهي وظيفة اوكلت مؤقتا مرتين ولمدد قصيرة لضابط اداري مساعد [كان حسن بيك العمري فيما يذكر الدكتور ابراهيم العلاف مديرا لبلدية الموصل في عام 1919].
وكان مركز إدارة الأراضي السنية [وهي اراض زراعية وضع السلطان عبد الحميد يده عليها وخصص لها ادارة خاصة] لعموم العراق في الموصل. ولهذه الأراضي تنظيما خاصا بها وترتبط مباشرة باسطنبول ولذلك فهي مستقلة عن الإدارة الإقليمية. ولكي نيسر للمأمورين التعامل مع القضايا الصغيرة في الموصل وتلعفر في وقت ومكان حدوثها او طرحها، تم منحهم صلاحيات قضاة من الدرجة الثالثة. وهي تجربة حققت اجمالا قدرا من النجاح. وفي منطقة الموصل وبخاصة في السهول، حيث تكون الوحدة الإجتماعية هي القرية وليس القبيلة، يلعب المختارية او رؤساء القرى ادوارا مهمة، فهم مسؤولون عن حفظ النظام والنظافة في قراهم فضلا عن حسم النزاعات وفق العرف والعدل، وعن توقيف المخالفين في الجرائم الخطرة، ومتابعة تنفيذ أوامر الحكومة، وتوفير السكن لموظفي الحكومة وسلامة المسافرين والقوافل التي تمضي الليلة في القرية. كما انهم ملزمون بمساعدة المدراء في الشؤون الزراعية كتقدير المحاصيل. وبالمقابل من الممكن لهم استلام ايرادات معينة على سبيل المثال، نسبة مئوية على السلع التي يبيعها التجار في قراهم، كما تعطيهم الحكومة، كل في قريته، نسبة مئوية لاتزيد عن 3% من المحاصيل الشتوية ومن محصول العنب في الموصل. والموصل كبغداد والبصرة أعادت أربعة أعضاء الى غرفة [التجارة] التركية. وكان أحد هؤلاء مسيحي شهير في المدينة [الموصل] كان قد عين ملحقا سياسيا فيها. [وهو نمرود رسام الأخ الأصغر للآثاري هرمز رسام والقنصل السابق كريستيان رسام، عين ممثلا لبريطانيا في الموصل عام 1893 حتى عام 1908]..
الاقتصاد
وعند وصول البريطانيين وجدوا أن أوضاع الموصل كانت سيئة جدا. فالمدينة مكتظة باللاجئين وتنتشر فيها المزابل..والسبب الرئيس في ذلك الإستملاك والمصادرة والسخرة من قبل العسكر [لم تحدد بيل اي عسكر والأرجح انها تقصد الترك] فضلا عن قيام الجنود والمراتب الألمان والنمساويين بإرسال طرودا الى اوطانهم [لم تذكربيل محتوى الطرود]. وتدور الروايات عن موت 10.000 شخص بسبب الجوع خلال شتاء 1917 – 1918. وفي الولاية خارج الموصل غادر السكان قراهم باستثناء القرى المسيحية بسبب التجنيد الإلزامي. اما النقل والزراعة فقد تجمدا نتيجة مصادرة اعداد كبيرة من الحيوانات. وبلغت نسبة الأراضي غير المزروعة 50% والغلتان الرئيستان في [ولاية ]الموصل هما الحنطة والشعير حيث يتجاوز انتاج القمح في الموصل ماتنتجه ولايات الجنوب مجتمعة بكثير مما جعل بغداد تتطلع الى الموصل لتزودها بالقمح فضلا عن الفاكهة والمكسرات والخضراوات التي تتميز بنوعيتها الجيدة. بل وحتى تلك التي تنتج عند سفوح التلال..على ذلك تسبب اغلاق طريق الموصل من مارس 1917 وحتى نوفمبر 1918 بصعوبة ملموسة واسهمت الى نقص التجهيزات الغذائية عن بغداد خلال عام 1917. [تسببت العمليات العسكرية بإغلاق الطريق بين الموصل وبغداد].
وتعتمد الغلال الشتوية في ولاية الموصل كليا على مياه الأمطار، ولكن نظرا للحاجة الماسة لمياه الصيف في السهول، فإن المحاصيل الصيفية في السهول لاتكاد تذكر، ربما بإستناء حافات الأنهار حيث تسقى البساتين بواسطة النواعير وغيرها وكذلك الحال في القرى التي تمتلك ينابيع دائمية على مدار السنة.. ويكون الري على افضل حال في حوض الزاب الكبير..اما في الجبال، من جهة أخرى، فتعد الغلال الصيفية المتمثلة بالرز [رز عقرة] والتبغ والفواكه أكثر أهمية من غلال الحبوب الشتوية..وتعد طرائق الزراعة بدائية حيث يستخدم المحراث الخشبي تجره الثيران المزاوجة بنيراو البغال او الحمير..وجرت العادة ان يزرع الفلاح نصف ارضه ويترك النصف الاخر مجذوما لحراثته لموسم آخر.ومع بذر بذور السنة الماضية، تتم حراثة المساحات المجذومة بعكس اتجاه حراثتها الماضية وتترك بدون بذار خلال الصيف. وفي الخريف وبعد بواكير المطر، تحرث طوليا وتصبح جاهزة لنشر البذور. ويستعمل افضل الفلاحين السماد. ويبلغ عطاء البذور للأكر [الفدان] الواحد حوالي 120 ليبرة [قرابة 39 كيلوغرام]. ويبلغ معدل المحصول سبعة الى ثمانية اضعاف الكمية المبذورة. وبعد الإحتلال، اتخذت خطوات فورية لأسترجاع الإزدهار الزراعي. وفي السنة الاولى تم توزيع 550 من مواشي الحراثة [المواشي التي تستخدم في الحراثة] و150.000 روبية على شكل قروض زراعية للفلاحين. بالاضافة الى كميات كبيرة من الحبوب التركية قمنا بمصادرتها وتوزيعها.
وهنالك مؤشرات الى ان القسم الأكبر من الأراضي في الولاية هو في ايدي مزارعين محليين حيث يقوم كل شخص بحراثة ارضه، ولكن ماوجدناه في الوقت الحاضر ان معظم الأراضي انتقل الى ايدي الملاكين الكبار الين يسكنون في غالبيتهم في الموصل. ويمتلكون الأراضي بطريق سندات طابو. ولكن هناك الكثير من الشكاوي حول تطبيق هذه الطريقة في انتزاع الاراضي واستملاكها. فهناك من يقول ان الفلاح يعطى 25% فقط من قيمة ارضه وإذا رفض بيعها تلفق له تهمة قتل احدهم ويرمى في السجن، ويبقى في السجن لسنوات حتى يغير رأيه. لقد اعطى استقدام الطابو وجهاء المدينة فرصا لنهب الفلاحين وانتزاع مساحات هائلة من اراضيهم بطريق وثائق مزورة هي نتيجة معاملات بيع قسرية وما الى ذلك.
والسلاح المفضل الآخر الذي يلجأ اليه الملاكين الكبار هو القرض والرهن العقاري. فملاك [اراضي] الطابو غالبا مايكونون ملاكا غائبين ممن لم يلقوا نظرة واحدة على الأراضي التي يمتلكونها. اما حقوقهم فتتنوع حسب خصوبة الأرض وطبيعة الإتفاق مع الفلاحين..وتتراوح النسبة بين ربع الإنتاج الى جزء من 16 جزء منه..إلا ان النسبة الجارية على الأغلب هي الثمن [اي جزء واحد من ثمانية أجزاء]. ويأخذ ملاك الطابو نصف المنتوج من الغلال الصيفية، كما هو الحال في لوردات حقوق المياه [احتكار موارد المياه وفق نظام الإقطاع الأوربي]. وغالبا مايكون وضع الفلاح غامضا.
وهناك روايات بان السبب وراء عدم قدرة الناس على بناء بيوت جيدة واقتصار ذلك على القلة هو خوف الناس من طردهم من بيوتهم في اية لحظة. فمن الناحية النظرية لانجد سببا لغموض وضع الفلاح. [والسبب هو عدم وجود أحكام وقوانين تحدد حقوقه وواجباته وارتباطه بمزاجية ملاك الطابو ومصالحهم الذاتية] فإن طالب أحد ملاك الطابو باتفاقية يرفع فيها كمية حصته ورفض الفلاحون الرضوخ يتوجب عليه عدم طردهم من الأرض وجلب فلاحين آخرين بدلا منهم [لم تذكر بيل حالات مماثلة والسبب هو رضوخ الفلاحين لمطالب ملاك الطابو خوفا من خسارة مسكنهم ومصدر رزقهم]. والشخص الذي يمتلك اراض اكبر مما يقدر على زراعتها بنفسه . ويرغب بزراعتها على نحو مباشر، يقوم باستخدام "مربعجي" وقد سمي كذلك لأنه اعتاد على اخذ ربع حصاد الأراضي التي قام بزراعتها. اما في الوقت الحاضر فالفلاح لايأخذ سوى الثمن وغالبا مايكون علاوة على ذلك مديونا لمالك الأرض مما يحوله الى قن من اقنان ألأرض قلبا وقالبا.
وعلى نحو مماثل في الجبال قام أغوات الأكراد بالإستيلاء على اراضي الفلاحين متذرعين بذرائع تختلف قليلا عن ذرائع أقرانهم ملاك الطابو. فالفلاح هناك [في الجبال] يتعرض لكل انواع الإعتداءات والهجمات من قبل اولئك الذين يفظلون العيش [الإعتياش] على جهود الاخرين وليس على جهودهم. فالفلاح الكردي لايقدر ان يعيش بدون حماية [الأغوات من الأغوات] وهو يحصل على الحماية من البيك المحلي [الأغا] بمبلغ عشر منتوج ارضه ..ويقوم اللورد [الأغا] بجباية تلك المبالغ ليخصص نسبة قليلة منها كضريبة بمقدوره ان يقنع الأتراك بقبولها..
ويبدو أن مساحات كبيرة من الأراضي حول الموصل كانت في وقت ما تمتلك في مضمار ذلك النوع من التمليك الإقطاعي للأرض المعروف بالتيمار، الذي يسمح للشخص بالإحتفاظ بأرضه شريطة ان يوفر اكبر عدد يقدر على جمعه من الرجال للخدمة العسكرية عندما يتم استدعائهم للخدمة [نظام تخصيص الأراضي الزراعية للخيالة في الجيش العثماني ولقاء خدمات عسكرية يقوم بها السباهي او الأنكشاري استمر من القرن الرابع عشر وحتى القرن السادس عشر..وهو اسلوب لفرض هيمنة الدولة على الأراضي بإدارتها مباشرة من قبل الموالين للدولة.]. وعندما استقدم مدحت باشا نظام الطابو، تم الغاء نظام التيمار اجباريا واعتمد تسجيل الأرض بإسم الشخص الذي يزرعها.وتضمن القانون تعويض مالك الأرض بنسبة سنوية تفرض على الأرض [يعطيها المزارع لمالك الأرض] على ان تتقلص مع تتابع السنين لحين يتم اطفائها. [غير ان ما حدث هو التفاف الملاك على هذا القانون وتحويله في خدمة مصالحهم بما حول الفلاحين الى اقنان مسخرين في اراضيهم].
وفي تلعفر ينقسم السكان الى قبائل يرأسها أغوات..ويحدث عنهم انهم يمتلكون الأرض..ومن الناحية العملية لايدفع الفلاحون لهؤلاء الملاك طابو، مع ذلك يوفر الفلاحون للملاك مبالغ صغيرة لأغراض الحفلات والمناسبات وماشاكل..وتعد الحاجة الى تسوية مشكلات الأرض احدى الحاجات الملحة جدا في ولاية الموصل. والطابو في الموصل ربما ليس اسوء منه في أماكن اخرى. إلا انه في الموصل سيء على نحو فائق للعادة. وفي منطقتي تلعفر وسنجار هنالك عدد كبير من المعاملات المزورة [بأسماء وهمية ] تعارضها وعلى نحومضطرد شكاوي ضحايا عمليات الخداع. وفي حالات عديدة وبخاصة في المناطق اليزيدية في الضفة اليسرى لدجلة نجد قرى مقسمة الى 271 حصة، 193 منها تعود الى احد ملاك الطابو والبقية يملكها سكان القرية. اما حدود الحصص فليست مسجلة بأي مكان أو بأية طريقة فضلا عن كونها غير معلومة بتاتا. لذلك فإن النزاعات التي تبرز عن هذا النوع [من الأراضي] قد تكون متخيلة [لا أساس لها من الصحة].
ومن الجدير بالملاحظة ومما يدهش حقا ان نجد في السهول [سهول ولاية الموصل] ان المسيحيين فقط قد نجحوا في الحفاظ على اراضيهم من كلاليب ملاك الأراضي في الموصل.والسبب المرجح لذلك انه في الوقت الذي تفتقر فيه القرى [المحمدية] [قرى المسلمين] الى وسائل تمكنهم من الحصول على من يستمع اليهم في الحكومة باستناء تلك الحالات التي يلحقون بها انفسهم كعملاء [ولقاء ثمن] لأحد وجهاء المدينة، بمقدور المسيحيين اللجوء الى مطارنتهم وقساوستهم الذين يمثلون حمايتهم الطبيعية والجاهزة والناطقين بإسمهم، وفي حال الكنائس الكاثولوكية، بمقدور المسيحيين اللجوء الى قوة اجنبية ايضا.
وكقاعدة عامة تأتي حصة الحكومة من غلال الأعلاف في ولاية الموصل بمقدار العشر، تضاف اليها نسب الضرائب المحلية المختلفة التي تفرض بين الحين والآخر مما جعل نسبة الطلب الكلي 12.5 %. والسبب في تخفيض نسب الضرائب على لاراضي المزروعة المروية بالمطر في ولاية الموصل مقارنة بالأراضي المروية بمياه الأنهار في ولاية بغداد يعود الى كون معدل المحصول السنوي فيها أقل، كما ان هناك درجة اكبر من عدم التيقن في حالة الغلال التي يعتمد في ريها على المطر، كما تنتزع الهوام من الضروب كلها حصتها، ويمثل الجراد بشكل خاص مصدر ذعر، وفي ريف تكسوه الأعشاب كريف الولاية [الموصل] غالبا مانجد مساحات واسعة من الحقول الصفراء اليابسة بفعل حرارة الشمس مما يتسبب في انتشار النار بسرعة مجنونة وغالبا ميتكرر مشهد اميال من الحقول المعشبة تأكلها السنة اللهيب في موسم الصيف [وقد يكون حرق الحقول مقصودا بسبب العداوات والضغائن وبدافع التخريب او اللهو احيانا].
وكانت الحكومة العثمانية قد اجرت العديد من التجارب في جباية الضرائب. وكان النهج الذي تتبعه هو الجباية بطريق [المشاركة في ]الزراعة حيث كانت حصة الحكومة من كل قرية تعرض للمزاد وتباع لمن يعرض اعلى مبلغ. اما كبار الملاك فكانوا يجلبون حصص قراهم ويعرضونها للبيع باسعار باهضة بهدف تحقيق اكبر نسبة من الأرباح.كما كان هناك طبقة من الملتزمين المحترفين وسيلتهم الوحيدة في تحصيل معاشهم شراء ضرائب القرى الصغيرة سنويا [كان الالتزام يتم بطريق المزايدة العلنية حيث يقوم أحد الأغنياء بدفع مبالغ مالية مقدماً للدولة مقابل تحصيله للضرائب من المواطنين.. وكان الملتزم يبتز المزارعين بأخذ مبالغ تفوق مادفعه او يدفعه للدولة..وقد تم الغاء الإلتزام في 1839 ضمن قانون الإصلاح المعروف بكلخانة..ولكن ذكر بيل له في سياق حديثها عن الموصل قبيل الإحتلال ربما يشير الى امكانية استمرار العمل به في ولاية الموصل كاسلوب آخر من أساليب ابتزاز الناس والأعتياش على جهودهم]..
ولكن الطرق التي تبنيناها [في جباية الضرائب] اخضعت لدراسات جادة ومعمقة. فقد رأينا ان نقدر بطريقة المعاينة ثم نجبي بصورة مباشرة. إلا اننا وجدنا، على اية حال، بالإضافة الى جملة من الصعوبات، ان ليس بمقدورنا ايجاد العدد المطلوب من المقيمين ممن يمكن الاعتماد على تقاريرهم. كما لم نفكر بقياس [مساحات الأرض] بسبب الإتساع الهائل للأراضي الزراعية [في الولاية]. فقررنا مواصلة طريقة الإلتزام مع اخذ الحيطة من خلال اعتماد تقدير اولي للأكوام غير المدروسة [المخلصة من سنابلها او عرانيسها] من الغلال. وهي طريقة تقويم معتمدة في تقدير ضرائب غلال الأراضي السنية في الولاية. وقد تمكنا بذلك من وضع مبلغ احتياطي لكل قرية [اي مبلغ ضريبي لمنتوج كل قرية من الغلال] مما يسمح لنا بأن نجبي بحرية فيما إذا لم يتحقق ذلك المبلغ. كما تركنا لأهل كل قرية خيارالشراء بضرائبهم بأعلى العروض الممكنة ان هم شاءوا ذلك.وكانت النتائج مقبولة فهنالك اسباب تدعونا للإفتراض ان الحكومة لم تأخذ أكثر أو أقل من حصتها الصحيحة. وقد مارسنا اختيارنا في الجباية المباشرة في حالة واحدة او حالتين ..وكان ذلك يتسبب في إغاظة مالك الطابو [الإقطاعي] الذي كان يعرض ابخس الأثمان بأمل ان نضعف ونقبل عرضه [البخس]. وفي حالات عديدة على الرغم من قلتها على خلاف ما كنا نأمل، قام الفلاحون انفسهم بالشراء بضرائبهم. وقد أظهرت نتائج التقديرات [التخمينات الضريبية] انها على الأغلب دقيقة على نحو مقبول، ,ان الضرائب في المستقبل وفي بعض المناطق على اية حال، ستتم جبايتها مباشرة وبتخمين من هذا النوع تماما كما عمل به عام 1910 للجزء الأكبر من الغلال الصيفية.
وتعد الكودة وهي الأموال المستحقة على الأغنام والمواشي، ضريبة مهمة في ولاية الموصل [تستخدم بيل كلمة "ديفيشن" وتعني قسم أو مقاطعة في وصفها للموصل كوحدة إدارية أو كمحافظة أرتأيت ترجمتها بكلمة ولاية اعتمادا على التقسيم التقليدي القديم لعدم تطابق كلمة سنجاق العثمانية وكلمة محافظة جغرافيا مع تصور البريطانيين لمساحة وحجم الموصل منظورا اليها كوحدة ادارية وبشرية واقتصادية وحضارية متميزة ومتكاملة ]. وفي الأزمنة التركية كانت الضريبة المفروضة تقدر ب 9.5 بياستر[ البياستر "القرش" وحدة نقدية فضية ايطالية وفرنسية كانت تستخدم في دول الهلال الخصيب ومصر والسودان في القرن التاسع عشر تعادل واحد بالمئة "بنسا"من الباون الأنكليزي]. للرأس الواحد. وقد قمنا بتحديد الكودة بمقدار ثمانية عانات للغنم [لرأس الغنم] وروبية واحدة للجاموس [لرأس الجاموس]. ويقوم بحساب الضريبة مأموريين بدون موظفين اضافيين. وقد جرت العادة بنقل الأغنام من الجانب ألأيمن الى الجانب الأيسر في شهري آذار ونيسان. وكما هو الحال في الأزمنة التركية، تتم الإستفادة من ذلك بطريق عد الأغنام في اثناء عبورها الجسر [يرجح ان الأغنام تساق ارتالا نظرا للحفاظ على الجزء الذي تحمله القوارب من الجسر مما ييسر عدها]..وبلغ عدد الأغنام التي تم عدّها731 803 .[ لم تحدد بيل في اية سنة]..وهذا أعلى كثيرا من الأرقام التركية [بما يعني ان الأتراك كانوا يتلاعبون بالأرقام لمصالح شخصية]. وقد عمدنا في حالات عديدة الى تعيين شيوخ القبائل كمساعدين في احصاء اعداد الأغنام [العابرة للجسر] لقاء 3% من اغنام قبائلهم التي يعدوها. [يرجح ان الأغنام كانت تنقل الى الجانب الأيسر لكي يتم جز أصوافها في منطقة السكلا الحالية القريبة من الفيصلية في الموصل للإستفادة من الأصواف تجاريا بعد غسلها في ضفة النهر القريبة من موقع الجز] أما أغنام قبيلة شمر فلم تعد ولايمكننا عدّها لأنها تسرح في أراض تتجاوز حدودنا [حدود العراق]. وهناك عدد من كبار ملاك الموصل ممن يودعون اغنامهم لقبائل شمر لرعايتها وبذلك تفلت تلك القطعان من الضريبة أيضا.
وتعد الأراضي السنية في الولاية واسعة. وكانت أدارتها على عهد عبد الحميد جيدة [أوكلت إدارتها على عهد عبد الحميد الى السيد حسن العمري ويعرف العمرية منذ اوائل العهد الجليلي بمهاراتهم الإدارية والكتابية فيما يؤكد بيرسي كمب في اطروحته عن الموصل في العهد الجليلي التي قام المترجم بمراجعة ترجمتها].. وهي اراض اشتهرت بكونها تزرع على افضل الوجوه بسبب حصانتها من تجاوزات الجندرمة والإجراءات الأخرى [كونها ملكا للسلطان ولايمكن اخراجها الى التيمار او بيعها أو غير ذلك]. ولكن إدارتها، نظرا للنظام [الأتحادي] الجديد تدهورت، وعند أحتلالنا اضحت أكثر ترديا كما هو الحال في بقية انحاء الولاية.
اما فيما يتعلق بصعوبة المواصلات فان امكن حلحلتها في ولاية الموصل ستكون هناك فرصا افضل فيها من بقية انحاء العراق وبخاصة فيما يتعلق بالمكائن الزراعية. فقبل الحرب كان العديد من كبار الملاك يمتلكون حواصيد آلية. وبما أن الأراضي الكبيرة التي تعتمد على المطر في أروائها لاتحتوي على قنوات ارواء، فإنها لاتحتوي العوائق الموجودة في أماكن أخرى لأستخدام المكائن. وحصة الطابو على الأراضي السنية هي على الدوام تقريبا 7.5%، باستثناء قرى قليلة في منطقة زاخو يوجد مقترح لضمها في نسق واحد مع القرى الأخرى. وهناك على جانب الجزيرة بشكل خاص مساحات كبيرة من الأراضي يقال أنها أراض محلولة [اي محولة الى ملكية الدولة]. ولكن ظهر من البحث في هذه المسألة أن وراء القرار في كل قضية من القضايا [اي احالة الملكية الى الدولة] ، أستئناف [شكوى] لم يعرها أحد اذنا..وعندما يتم حسم القضية يبدو ان من المشكوك به ان يقضى بحق الأحتفاظ بالأرض للحكومة..
وكنا قد بدأنا في تطوير الغابات الحكومية وإعادة تاهيلها [يعود الفضل للأنكليز في اعادة تأهيل غابات الموصل في الجانب الأيسر للمدينة بينما قام بعض من يعدون انفسهم وجهاء ببيع بيوتهم في مناطق سكنية مقبولة للغرباء في ظروف الفوضى العارمة التي اجتاحت البلاد ليشتروا اراض وسط الغابات ليبنوا فيها بيوتا ويقضموا بذلك جزءا من الغابات على حساب المصلحة العامة]..بعد ان طالتها يد التخريب بلا رحمة لتجهيز الجيش العثماني [ كما استخدم العثمانيون الأخشاب لعمل عوارض سكة حديد بغداد – برلين في اجزائها في ولاية الموصل فضلا عن استخدامها في عمل الخوازيق والفلقات وفي عمل السليقة وللطهي في القرى وغير ذلك]. ولابد ان تكون الغابات في آخر المطاف على قدر كبير من الأهمية والفائدة.
وتعتمد بغداد كليا تقريبا في الأوقات الإعتيادية على مناطق الجبال الشمالية لتزويدها بالإخشاب. كما ان الطوافات المعروفة بالأكلاك تعمل من قضبان من الخشب تحمل على جلود منفوخة [يستخدم جلد المعيز الذي يعتنى في قطعه وتحويله الى جرب كبيرة تنفخ بالهواء المزفور وتوضع تحت القضبان المشدودة بالحبال احدها الى جانب الاخر لعمل الأكلاك] التي نشاهدها مصورة في الجداريات الآشورية في المتحف البريطاني [لم يقلد أهل الموصل أسلافهم الآشوريين في عمل الأكلاك بل انتقلت اليهم بحكم التوارث الحضاري كون الموصل هي نينوى الغربية] وهي عائمة في نهر دجلة محملة بالحطب او بضائع أخرى. وعندما تصل الأكلاك الى بغداد تفكك فيباع الخشب. وتحمل القرب الجلدية بعد تغريغها من الهواء على ظهور الحمير الى الموصل لكي تستخدم من جديد. وتعد ضرائب الأخشاب والفحم أحدى مصادر الدخل في ميزانية الموصل.
وقد تم تعيين ضابط بريطاني [إداري] في يونيو عام 1919 لتولي شؤون الجمارك وفرض رسوم على السلع المستوردة من سورية وتركيا أما إدارة انحصار التبغ القديمة [تسمى اختصارا بالريجي وتعني شركة استثمارية حكومية واهلية مشتركة تشكلت في العقود الأخيرة من الأمبراطورية العثمانية تسندها مجموعة من المصارف الأوربية تقوم بإحتكار انتاج التبغ بهدف دعم الإقتصاد التركي.. اسست لها فروع في العراق ولبنان وأماكن أخرى. يقوم موظفوها في العراق بفحص التبوغ بسبب امكانية خلطها باوراق نباتات مماثلة ..وكان مبنى دائرة انحصار التبغ في الموصل في شارع الدواسة المتصل بقصر المطران] فقد تم تحويلها في أواخر عام 1918، الى دائرة الكمارك حيث يقوم الضابط الإداري [البريطاني] المسؤول عن الكمارك بجباية رسوم التبغ ايضا. وكانت الضريبة المفروضة على التبغ نسبة ثابتة مقدارها 8 عانات للكيلوغرام الواحد من التبغ لتؤمن في مخازن تخليص كمركي. وعلى الرغم من السمعة السيئة للموصل، فإن من ألأمور الملفتة أن الجرائم فيها نزرة جدا [ لبيل موقف سلبي من الموصل سنعرج عليه في ترجمة وجهة نظرها الخاصة بالموصل].
والمخالفات المتكررة في المقاطعات [الأقضية والنواحي والريف عموما] فتشمل السطو على المسافرين وسرقة الأغنام والمواشي. وكنا قد طوقنا [اعتقلنا] العديد من عصابات السراق. اما إغارات القبائل البدوية على القوافل فتعد من الحوادث المتكررة خلال الأزمنة التركية، ومن الصعوبة بمكان معالجتها. ولكن بصورة عامة يمكننا التأكيد المدعوم بالبراهين ان الأمن العام في ولاية الموصل قد شهد تحسنا كبيرا خلال السنة الماضية. وقد تم تشكيل قوة الشرطة محليا من هل المدينة. وهي قوة نشطة وفعالة. وكان هناك نسبة كبيرة من الجندرمة التركية عند احتلالنا [الموصل]. وقد عمدنا الى الحفاظ عليها للحاجات التي قد تطرأ وكان عملها ناجحا جدا في الحفاظ على امن المقاطعات [المحافظة باستثناء الموصل] ولكنها لاتصلح للقيام باية واجبات عسكرية لذلك قرر تشكيل قوة من الشرطة العسكرية [الإنضباط]. لأن قوة ضاربة صغيرة كهذه تعد ضرورية على الحدود الكردية المضطربة.
اما الشؤون البلدية في الموصل فقد كانت تدار من قبل مجلس بلدي منتخب. ولم تكن الإيرادات البلدية بذات شأن يذكر. كما كان الفساد منتشرا، وكانت المدينة في حال لايوصف من الوساخة، مما جعل اعادة التنظيم مسألة ملحة، فبات امرا حتميا ان يصبح العمدة والمجلس [البلدي] مجرد مسميات تغيب تدريجيا من المشهد لحين ان تختفي تماما. والآن تمت اعادة التنظيم بنجاح، فقمنا بدراسة الخطط لمجلس بلدي معدل على نحو طفيف..ولعلنا نعقد الأمل على ان يكون لدى اعضاء المجلس الجديد روحا تقدمية لأن مثل هذه الروح لم تكن تنقصه حتى في الفترة السابقة للحرب. وكان الأتراك قد شرعوا خلال الحرب بفتح شوارع رئيسة في المدينة، كما في بغداد [شارع خليل باشا الذي سمي بالشارع الجديد ثم بشارع الرشيد]. وفي بغداد تم انجاز العمل وبرهن على ان فيه خير لايقدر بثمن لأن بغداد قبل الحرب كانت تخلو من شارع عريض بما يكفي للسماح بمرور عدد محدود من العربات التي تسير على عجلات.
وفي الموصل يتقابل الشارعان الجديدان في زاويتين قائمتين احدهما مع الآخرغير انهما في باكورة التنفيذ لأنهما لم يكونا قد اكتملا قبل الإحتلال فعمدنا الى اكمالهما عام 1919. وسيكونان جديران بالأموال المنفقة عليهما سواء في التعويض [اي تعويض الناس الذين هدمت بيوتهم ومحلاتهم في مواقع قطع الشارعين] والإنشاء، على الرغم من ان ذلك تضمن منحا مساعدة كبيرة قدمناها للبلدية.
والجسر القديم في الموصل مايزال قائما. ولكن فيه خصوصية تكونه من جزء من القوارب يبدأ من وسط النهر.ويصار الى رفع هذا الجزء [المرتكز على القوارب] فيترك ها الجزء من النهر مفتوحا تماما في اوقات الفيضان خوفا من ان تجرفه مياه النهر. وعندما يحصل الفيضان فإن الأراضي في النهاية الشرقية للجسر [الجانب ألأيسر] تنغمر بالمياه بينما تبقى دعامات الجسر [الحجري] شاخصة للعيان مهجورة ولكن على نحو ملفت للنظر في وسط النهرالفائض بالمياه. لكن جسرا جديدا هو الان قيد الإنشاء وننظر في وضع خطط لتجهيز المدينة بمياه الشرب . فالمدينة اليوم نظيفة وأولئك الذين يحتفظون بصور ذهنية عن المسالخ عند نهاية الجسر القديم [كما وردت في رحلات مارك سايكس ورحلات أخرى] في العهود التركية سيجدون صعوبة في التعرف على موصل اليوم وسيتساءلون إن كانت هي نفسها موصل الأمس. ويساعد الضابط السياسي المساعد [الحاكم البريطاني] في تلعفر مجلس استشاري من اغوات المدينة لمساعدته في الشؤون البلدية. وهنالك بلديات اخرى في عقرة ودهوك وزاخو وتلكيف. ولكن العمل فيها يقع على عاتق الضابط السياسي المساعد في كل منها.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
التعليم
وبعيد وصول البريطانيين الموصل، اولينا أهتماما بمسالة التربية والتعليم مباشرة. ففي الوقت الحاضر يوجد سبعة مدارس حكومية في الموصل، ثلاثة للمسلمين للبنين منهم وأربعة مخصصة للكلدان فالسريان فاليعقوبيين فاليهود. وهناك مدرستين للبنات المسلمات. وارقام الحضور إشارية جدا [تنطوي على دلالات] فبينما يشكل المسلمون سبعة اثمان سكان المدينة، يبلغ عدد الحضور في المدارس المسيحية 791 تلميذ بينما لايتجاوز عدد الحضور من التلاميذ المدارس 259 تلميذ. وتكتظ شوارع [ازقة] المدينة بالأطفال العاطلين والمتسيبين في وقت تتكرر فيه الروايات عن السلوكيات الرديئة والأخلاق الفاسدة للصبيان في المدينة. ويعترف وجهاء المسلمين بأسف مفتعل بهذه الحقائق، ولكنهم يعجزون عن التقدم بغي مقترح حول معالجات مناسبة...ويتفقون كلهم بأن الخطأ ليس في نهج المدارس او في اداراتها. وتبدو المدارس المسيحية حيوية وتقدمية. وكان الحضور في مدرستي البنات المسلمات 149 تلميذة فقط..وهو ليس رقما كبيرا ولكنه جيد بالمقارنة، مع اخذ الأمور كلها في نظر الإعتبار، بمدارس البنين.
كما افتتحت 5 مدارس في القرى المختلفة للمسلمين و11 مدرسة في قرى المسيحيين. كما وتوجد ايضا 5 مدارس حكومية أكبرها في تلعفر يحضرها 80 تلميذ. وقد لاحظنا ان هناك ترددا عظيما لدى الناس في ارسال اولادهم الى المدرسة في تلعفر خشية من ان يصبحوا افندية أي اعضاء في طبقة الموظفين المخنثين الأتراك [تبرز هنا طبيعة نظرة الناس في منطقة مثل تلعفر الى الموظفين الترك من طبقة الأفندية حيث يعدهم الناس من المخانيث ممن تعوزهم الشخصية الرجولية].
ويعد تعليم اليزيدية أمرا معقدا بسبب معتقداتهم الدينية التي تمنع القراءة والكتابة على اليزيدية باستثناء اسرة واحدة من ألشيوخ تعرف ببيت البصري [نسبة الى الحسن البصري. وهو انتساب وهمي لأن علاقة لاتوجد بين الحسن البصري واليزيدية]. وعندما افتتحت المدرسة في بلد سنجار [قضاء سنجار]، قرر اليزيدية الأكثر تقدمية [انفتاحا] ارسال اولادهم اليها. ولسوء الحظ تسببت الأمطار الغزيرة بسيل عارم في الوادي جرف معه أربعة من الأطفال ممن يدرسون في تلك المدرسة مما تسبب بردة فعل لدى المحافظين [من اليزيدية] لذا لايوجد في الوقت الحالي سوى اربعة تلاميذ يزيدية في المدرسة [لاحظ ان اربعة أطفال كان مصيرهم الغرق، ولعل سبب الإبقاء على أربعة آخرين نوع من التقية الطقوسية غامضة الجذور عند اليزيدية].
الخدمات الطبية
ومن بين الإيجابيات التي قدمتها الحكومة، ربما لم ينل أيها شهرة أو يتمخض عن نتائج سياسية افضل كما هو الحال مع الخدمات الطبية. فقد تحقق تقدم كبير في هذا الإتجاه. فقد تم توسيع مستشفى الهلال الأحمر القديمة لتصبح مستشفى مدنية بردهات مخصصى للنساء الى جانب ردهات الرجال. وكان الجراحون المدنيون [المحليون] يساعدهم طبيب بريطاني مساعد ورئيسة ممرضات وممرضتين بريطانيتين كما استقدمنا عددا من الممرضات الأرمنيات بالإضافة الى طبيبين او ثلاثة من الموصل : [هنا نقتبس ماذكره الدكتور محمود الحاج قاسم حول الطبيب سليمان غزالة (1853 ــ 1929) "الذي كان أديبا وشاعرا فضلا عن دراسته الطب في جامعة باريس، والدكتور حنا خياط مدير مستشفى الهلال الأحمر في الموصل، وكذلك الدكتور عبد الله قصير(1877ــ 1987) والدكتور كريكور استارجيان الذي تخرج في جامعة اسطنبول عام 1907 م وكان لهُ مؤلفات وكتابات وبنى قصراً فخماً في الموصل قبالة جامع النبي يونس"، وننوه بالدكتور داؤد جلبي والدكتور آكوب جوبانيان وغيرهم..ويرجح ان بيل قد اشارت اليهم في معرض حديثها عن الأطباء المحليين..وقد قدم هؤلاء الأطباء الرواد خدماتهم للموصل في العقود الأولى من القرن العشرين..مما وضع اللبنات الأولى لهذه المهنة الجليلة في الموصل التي ماتزال من أفضل مدن العالم وأكثرها عراقة في تقاليدها الطبية..وكان الدكتور البريطاني باترسون رئيس صحة الموصل عام 1919، قد دعى الى تشكيل "الجمعية الطبية في الموصل"، وقد إنظم إليها 25 عضواً منهم 3 بريطانيون و19 طبيبا عراقيا و3 صيادلة..و تألفت اللجنة الإدارية للجمعية من كل من د. باترسون رئيساً ود. داؤد الجلبي نائباً للرئيس ود. عبدالله قصير سكرتيراً .وكان من مهام الجمعية نشر الوعي الصحي وإلقاء المحاضرات التي تولت الصحافة المحلية نشرها كما يعود الفضل في تأسيس جمعية الهلال الأحمر العراقية الى الموصلي أمبن عاصمة بغداد عام 1932 أرشد العمري الذي دعا 150 شخصا من وجهاء الدولة العراقية واعيانها ومفكريها الى اجتماع في مكتبة الاوقاف العامة حيث عرض عليهم فكرة تشكيل جمعية للهلال الاحمر العراقية فتم تشكيل الجمعية وبمساندة كبيرة من البريطانيين ومن الملك فيصل الأول قبيل وفاته بسنة]. وقد قدمت الممرضات الأرمنيات خدماتهن على أحسن مايرام فكن على قدر عظيم من الفائدة..وكان الأطباء المحليين [الموصليين] على درجة عالية من القدرة وكانوا مدربين في مهنتم على افضل وجه وكان أحدهم قد تلقى تعليمه [في الطب] بالتمام في باريس [الأرجح ان المقصود هو الطبيب سليمان غزالة].
كما تم فتح المستوصفات في كل مراكز الأقضية والنواحي [تتبع الموصل ستة أقضية، هـي الموصل المركز، العمادية، زاخو، دهوك، عقرة، سنجار، ويتبع هذه الاقضية احدى عشرة ناحيـة] وكان الأطباء العسكريين يقدمون في بعض الحالات خدماتهم فور نشوء الحاجة اليها في تلك المناطق. وتعد الملاريا أكثر المشكلات الصحية خطورة وبخاصة في مناطق التلال [تقصد المناطق التي تتخللها منخفضات ارضية تشكل مستنقعات ملائمة لأنتشار البعوض]. وهناك أماكن يعاني سكانها بشدة من انتشار الملاريا وتعد الوفيات بين ألأطفال بسبب الإصابة بالملاريا عالية بشكل ملحوظ. وكانت الحكومة العثمانية توزع الكنين مجانا كإجراء صحي. وتعد خطورة الملاريا وحدها كافية لتبرير تجهيز المساعدات الصحية في الريف كلما تتاح الفرصة لمثل هذه المساعدات.
وقد تيسرت المواصلات كثيرا مع بغداد بواسطة سكك الحديد الممتدة حتى قلعة الشرقاط التي تبعد 70 ميلا عن الموصل..وقد تم تمهيد جوانب كبيرة بين الشرقاط وبغداد وتزويدها بالمعدات الضرورية لإكمال الخط. ويبدي الناس رغبة كبيرة بإكمال خط سكك حديد الموصل ..فقد يكون فيه اشارة لجعل الولايتين [بغداد والموصل] أقرب الى بعضهما كثيرا مما سبق).
الموصل عام 1909 من منظور گرترود بل
تتميز مدينة الموصل بتاريخ مضطرب لم يتغير اي شيء من مواصفاته خلال السنوات القليلة الماضية، فهي تقع على الحدود بين العرب والأكراد، والتقابل بين هاتين المجموعتين نادرا ما تصاحبه مشاعر الأخوة او النوايا الحسنة من قبل كلا الجانبين. وتجثم على ولاية الموصل الكئيبة الكراهية والتولع بالمذابح كشرين متوارثين ينتقلان (إن جاز القول؟) عبر الأجيال المختلفة من الغزاة منذ أن تركت بواكير الجبروت الوحشي للإمبراطورية الآشورية بصماتها على الأرض.
وقد توازعت المدينة صروف طموحات أسر عربية طموحة استمر حكمها حتى اقل من قرن مضى وكان لكل اسرة عقارها التي لا ينافس سيادتها عليه أحد. هؤلاء (صغار) اللوردات [ استخدمت بيل كلمة "لوردينكز" التي تعني اشباه او صغار اللوردات تصغيرا منها لوجهاء الموصل] كانوا يعاينون، بعدوانية بادية، لايشعرون ما يدعو لإخفائها، اليد التركية وهي تشدد قبضتها تدريجيا على الولاية [الموصل]. وليس ثمة مكان ستجد فيه الحركة القومية العربية، ان هي وصلت مرحلة إزدهارها، ارضا خصبة لتنهل من جداول الكبرياء [القومي] الذي لايعرف الحدود، كالموصل [وهنا تصيب بل قلب الحقيقة فأهل الموصل هم ورثة الأمبراطوريات العسكرية العظيمة ولاغبار على صدق مشاعرهم القومية ومشروعيتها]. وعلى الرغم من قسوة الحكم العثماني ودمويته في هذه الأطراف النائية من ألإمبراطورية ، فإنه افضل من الهيمنة المطلقة للبيكوات العرب او الأغوات الأكراد . وإن كان للطوائف المسيحية المضطهدة في أكثريتها، او اليزيدية المظلومين أو الفلاحين البائسين من مختلف العقائد ممن يزرعون بذعر مالايجنون ، أن تحصل على الحماية والإزدهار، فإن عليهم أن ينظروا الى التركي. [ ترى بيل ان علاج المجتمعات المنقسمة طائفيا وقوميا و"طبقيا؟" لايتحقق الا بنظام حكم استبدادي يضمن جانبا من العدالة وهو اعتقاد يذكرنا بمقولة جمال الدين الأفغاني: لايصلح الشرق إلا مستبد عادل]. فالتركي والتركي وحده يقدر من السيطرة على العناصر المتحاربة في امبراطوريته، وعندما يتعلم [التركي] كيف يستعمل قوته على نحو غير متحيز وباستقامة، فإن ذلك سيتمخض عن السلم. لكن هذا مستبعد حدوثه في الموصل. ولا يبدو أنه بمنأى عن الموصل في أي وقت كما هو الحال في بداية سنة 1909. [سنة زيارة بيل للموصل].
وباستثناء المقارنة القائلة بأن بعد المسافة بين القسطنطينية وسالونيكا يعني مساراً أضيق لتدفق الأفكار الغربية [أي من سالونيكا، مقر جمعية الإتحاد والترقي، إلى اسطنبول]، لا أعتقد ان هناك في الموصل معارضة محددة المعالم للنظام الجديد [الإتحادي في تركيا] منها في اماكن أخرى، هذا على الرغم من أن القوى الرجعية فيها [الموصل] كما هو الحال في أماكن أخرى في تركيا ألآسيوية [العربية في آسيا] متنوعة وقوية. إلا أن الموصل كانت ومابرحت ضد الحكومة دائما مهما كانت الأشكال التي تتخذها [وهنا تصيب بيل في رأيها ايضا فأهل الموصل قادة في طبعهم تجري في جوانحهم دماء أسلاف حكموا العالم وأسسوا الأمبراطوريات وشيدوا القلاع وعمروا المدن]، وبكواتها [أي وجهاء الموصل وقادتها] كانوا يلعبون [يتعاملون] مع السلطات [الحكومات] كما تلعب انت مع سمكة علقت بالصنارة. [ يتمتع أهل الموصل بمهارات قيادية فائقة للعادة، ولهذا لايمكن أطلاقا فرض اي حكم عليهم ان لم يكن هذا الحكم منبثقا من اوساطهم أو برضاهم..ففي التاريخ القديم نسجل عددا من الثورات على السلطة المركزية، تكررت في التاريخ الحديث مع سلسلة الأنقلابات العسكرية التي قادها ضباط أشاوس من الموصل وأبرزها انقلاب عبد الوهاب الشواف]. كما أن كون الحكومات [المشرقية] ليست دستورية، مايفضي الى حماس أكبر ويجعل من الصنارة أكثر حدة [وإيلاما] . [تتابع بيل المجاز الذي وظفته في وصف تعامل اهل الموصل مع الحكومات].
وكانت شؤون اللجنة (جمعية الإتحاد والترقي- فرع الموصل) تدار على نحو سيء للغاية [تأسس فرع الجمعية في الموصل بعد اعلان الدستور الإتحادي عام 1908، والإنقلاب الذي سبقه على السلطان العثماني عبد الحميد الثاني واختير رئيسا او معتمدا لها السيد محمد الفخري]. وقد استقبلت هذه الجمعية الوفد المرسل اليها من سالونيكا بهدف تحديد مهماتها بالأحضان، وفي الحقيقة ان المدينة بأسرها خرجت في استقبال الموفدين وفي مقدمة الناس الوالي [مصطفى يحيى بك العابد] ووجهاء المدينة [خدع اهل الموصل بشعارات الجمعية الداعية الى الحرية و الاخاء والمساواة ولكنهم مالبثوا ان انتبهوا الى سياسات التتريك والإقصاء التي انتهجها ألإتحاديون فسعوا الى مقاومتها]. ولكن اختيار المبعوثين [من سالونيكا] الى الموصل لم يكن موفقا لأنهما كانا جاهلين يفتقران الى اللياقة أحدهما من اهالي [تركمان] كركوك المنافسة اللدود للموصل وكان يتصف بكل شيء باستثناء سمعة لاتشوبها الشوائب. فكانت النتيجة ان اللجنة المحلية [فرع الجمعية في الموصل]، لم تربح شيئا بل خسرت من جراء مجيء هذا الوفد الى الموصل. وعندما غادر هذان الموفدان الموصل عبرا الجسر بمفرديهما ومن دون ان يصاحبهما او يودعهما أحد أو حتى أن يلاحظ احد رحيلهما. فتلاشت مع مغادرة هذين الموفدين الامال الواهنة بتحسن الأوضاع الذي اثاره اعلان مباديء الحرية و الاخاء والمساواة، وتركت الساحة خالية امام البيكوات الذين فعلت تلك الكلمات فعل جرص عنيف في آذانهم: فالحرية العامة ليست منحة يثمنها الطغاة والمساواة تنفث روائح كريهة في مناخير رجال اعتادوا على مرأى شركائهم في الوطن من المسيحيين وهم يلوذون منذعرين الى اقرب مدخل بيت [ باب او مجاز يؤدي الى بيت] عندما يمرون راكبين عجلاتهم او خيولهم في الشوارع [الأزقة]..كما لايجد هؤلاء البيكوات عناءا في جعل الآخرين يشعرون بسخطهم او عدم رضاهم. وغالبا ما يتم تنظيم الإضطرابات [الفوضى والهيجان الإجتماعي] ليبلغ ذروة الإكتمال في الموصل. فالمدينة مليئة بالأشقياء ممن يعيشون على خرق القانون ، ويعيشون على افضل نحو. فمتى شاء وجهاء المدينة [بدافع الغضب] اثارة الفوضى، لايترتب عليهم سوى توصيل كلمة وعربون لهؤلاء الأشقياء فيحدث الشغب، ومن ترى يقع عليه اللوم في ذلك؟
فالبيكوات كلهم قد غادروا الى قراهم وليس لديهم يد في القضية. فقد كان ابو القاسم ذلك الشقي الشهير [أبو القاسم أو أبو جاسم هو غير أبو جاسم لر الذي ظهر على عهد اينجة بيرقدار محمد باشا وكان فتوة يمنع الجندرمة من احصاء الناس والدخول الى بيوتهم حرصا منه على عدم الإطلاع على النساء] ومعه ابن هذا وابن ذاك.. أما حول سبب حوادث [الشغب]، فليس من الصعب ايجاده، وفي هذه المرة حدث شيء في آخر ايام العيد الموافق الأول من كانون الثاني 1909. فقد خرج الناس الى الشوارع وهم في ابهى الملابس للإحتفال بالعيد عندما اقدم رجل [ثمل] من سرية البغالة في كركوك [الصوار اوالاسترسوار ] الكردية [ أنشأ محمد باشا بيرقداري منذ قرابة قرن سرية بغال مقرها كركوك تعرف بالصوارية، ولم تكن كردية على الأرجح.. واستمرت تلك القوة حتى العقد الأخير من ألأمبراطورية العثمانية] على التحرش "كما يقال" بإمرأة مسلمة من الموصل وبلحظة برزت الأسلحة وهاجم الجنود العرب الصوارية الكركوكلية، فنشب عراك استمر بضع ساعات.. وفي خضم الفوضى قتل وجرح العديد من النساء المسلمات كن قد خرجن للمشاركة في العيد ولم تتح لهن فرصة اللجوء الى بيوتهن. وتلك حادثة نادرة لم تشهد الموصل مثيلا لها. في تلك الأثناء كان الوالي جالسا يرتجف في السراي ولم يحرك ساكنا لإسترجاع النظام. وفي وقت متاخر من الليل عاد الكركوكلية الى ثكناتهم بعد استسلامهم نزولا عند نصح الحكومة وتسليمهم اسلحتهم.
وتلك حادثة كان من الممكن ان تطوى تحت طائلة التعبير الطبيعي عن العداء العنصري، غير ان حوادث اليوم التالي لايمكن ان تفسر باستثناء الذهاب الى الإفتراض القائل انها بسبب تحريض البيكوات. ففي الصباح احتشد لفيف من الناس أمام مبنى السراي وبدءوا بالهتاف مطالبين بالثأر من الصوارية الكركوكلية ممن [زعم انهم] كانوا ينتظرون المحاكمة من قبل الحكومة. فتردد الوالي بينما طالب زعماء الحشد الغاضب الناس بحمل السلاح..فلم يتأخر الناس بتنفيذ الطلب بسرعة الخائف المهدد بالخطر. فأغلق اصحاب المحلات والبيوت ابوابهم واضحت المدينة في حال من الحرب الأهلية. في تلك الأوقات كان يعيش في الموصل شخص من السادة ألأكراد من أهل السليمانية الواقعة على الحدود الفارسية..ومنذ سنوات نشب خلاف بين الشيخ سعيد [البرزنجي] والسلطات العثمانية الإتحادية. وقد تنامى تأثير الشيخ سعيد فحصل على قوة كبيرة [في السليمانية] فأرسلت السلطة العثمانية في طلب حضوره الى القسطنطينية [اسطنبول]..فعد الدعوة نذير شؤم اسود ..مع ذلك سافر الشيخ سعيد الى العاصمة العثمانية. وعند وصوله كان أحد أولاد السلطان عبد الحميد الثاني المفضلين مصابا بمرض عضال، ولما يتمتع به الشيخ من شهرة [على شفاء المرضى]، أرجئت معاقبته لكي يدعو الله بشفاء الطفل المريض. فتماثل الطفل للشفاء فرجع الشيخ مكرما الى مدينته [السليمانية] وحول عنقه مسبحة من اللؤلؤ لاتقدر بثمن وباتت شهرته اوسع. وكان الشيخ سعيد مسنا ومسالما، غير ان اولاده استغلوا مكانته فتاجروا بها وحولوا السليمانية الى بؤرة ساخنة لاتطيق احتوائهم فيها. ولما كانت الأسرة كلها [اسرة سعيد البرزنجي] في حماية السلطان عبد الحميد، تبين ان من الأفضل نقل الأسرة الى مكان تكون فيه تحت عين ممثل السلطان مباشرة اي الوالي، على ذلك وفدوا الى الموصل كأمراء في موكب نصر. فاكتظت شوارع الموصل بالبغال التي تحمل ممتلكاتهم ، وخصص البيت المقابل للسراي مسكنا لهم.[ الدار العائدة لمحمد باشا الصابونجي مقابل الأعدادية الشرقية والمجاورة لجامع الخضر [ع].
وسرعان ماتجمع الغوغاء مجددا مصطحبين اسلحة هذه المرة في الثاني من كانون الثاني [اليوم الثاني للعيد] حتى أعيد توجيههم [ لم تذكر بيل من الذي وجههم واستخدمت صيغة المبني للمجهول] الى بيت الأسرة الكردية. وكان الشيخ سعيد في ال 85 من عمره ولكنه يمتلك شجاعة قومه. عندما سمع الغوغاء يهرجون على باب بيته، أمسك بالقرآن وكان يرتدي ثوبين العمر والولاية [اي المكانة الروحية المميزة للسادة] وخرج الى الشارع في نيته اللجوء الى السراي الذي يقابل بابه باب داره. وكان الوالي يراقب المشهد من نافذة في السراي. ففسح الغوغاء الطريق امام الرجل الصالح حاملا القرآن في طريقه الى السراي، ولكنهم وقبل ان يصل باب السراي إنقضوا عليه وقطعوه اربا اربا ثم نهبوا بيته وقتلوا 17 من اولاده واقربائه..وإذا كان قادة الحزب الرجعي يريدون إحراج الحكومة وإبداء ضعفها، فإنهم حققوا بذلك [اي بتدبير مقتل الشيخ سعيد واسرته] نجاحا ساحقا. [يعد تحريك الغوغاء عبر التاريخ اسلوبا يختفي وراءه المحرض الحقيقي الذي يفلت من العقاب بينما لاسبيل الى معاقبة الغوغاء كونهم مجموعة غير معرفة من الناس تحركهم غرائز القطيع..والمشهد الذي حدث للشيخ سعيد البرزنجي ونجله الشيخ احمد وذويه، تكرر في اماكن عديدة في العالم عندما تسود الفوضى ويختلط الحابل بالنابل وقد تناول مؤرخو الموصل وبخاصة عبد المنعم الغلامي وأحمد الصوفي هذه الحادثة ووصفوا تفاصيلها وملابساتها غير ان بيل ترتكز في تحليلها للحادثة الى نظرية المؤامرة فتلمح الى ان الوالي كان من المتواطئين في قتله]..
وكانت الموصل خلال الأسابيع الستة التي انقضت [على الحادثة] قبل وصول القوات من دياربكر واماكن أخرى في فوضى عارمة. فقد كانت الاهانات [الشتائم] توجه للمسيحيين علنا في الشوارع بينما تقف السلطات المدنية والعسكرية مكتوفة الأيدي. كما لم تحرك جمعية الإتحاد والترقي [بفرعها في الموصل] ساكنا للحد من تلك التجاوزات. وعندما وصلت القوات تم استرجاع شيء من النظام إلا أن الحركة الرجعية مابرحت ماضية بلا كباح، فقد كان تنظيم [الجمعية المحمدية] التي اسست كنقيض ضدي لجمعية الإتحاد والترقي يحقق تقدما هائلا [تأسست الجمعية المحمدية فرع الموصل على غرار الجمعية المحمدية الأم في أسطنبول، عام 1908 وكان مقرها المدرسة الاحمدية في محلة باب السراي بالقرب من شارع النجفي وشرعت الجمعية بالتصدي للأتحاديين بعقد الاجتماعات والقاء الخطب والمحاضرات التي تؤكد على الشريعة الاسلامية ..لكن الاتحاديين عمدوا الى اغلاق الجمعية فتوقفت عن نشاطاتها في نيسان 1909]..وكانت تستقطب المسلمين من المدرسة القديمة [السلفيين] ممن يشعرون بالذعر من تأثيرات الروح الجديدة [العلمانية] على الشريعة ونهجها، وكانت تجذب الجهلة [ تنظر بيل الى المسلمين نظرة متدنية فتعدهم جهلة لمجرد اهتمامهم بالمحافظة على شريعتهم وموروثهم القيمي] ممن لايقدرون على استيعاب فكرة المساواة بين المسلمين والمسيحيين [تبنى الإتحاديون مباديء الثورة الفرنسية والحركات الماسونية في آيديولوجيتهم على الرغم من وجود ميول طورانية وعنصرية قوية لدى عدد من قيادييهم]..كما جذبت بقوة كل اولئك المعترضين على حكومة دستورية ولأسباب شخصية تتصل بقناعاتهم.
وقد ذهب احد كبار اعيان الموصل الى الأسواق ليجمع التواقيع من الموالين للمحمدية وكان الوضع احيانا خطرا للغاية وحساسا ..ولكن من الجدير بالذكر والملاحظة أن نقيب الموصل [حسن افندي النقيب]، والمفتي الأول [محمد حبيب العبيدي] رفضا بشدة التوقيع على اوراق الولاء للجمعية المحمدية أو التعامل معها بأي شكل من الأشكال [أعتقد ان سبب الرفض هو في كونهما يتمتعان بمكانة رمزية تجعلهما يمثلان جماعة اكبر على الصعيدين المدني والديني، ولما يمكن ان يتصل بالجمعية من سياسة واعمال عنف محتملة فضلا عن أن تأييد جماعة ما يعني استعداء خصومها].
وفي تلك الأثناء، تم تعيين وال جديد ومقتدر على ولاية الموصل [محمد فاضل باشا الداغستاني]، غير ان الوالي الجديد ذهب الى كركوك فورا حيث كانت الأمور على حال من التوتر وبيل العواقب بينما كان خرق القانون يسير صراحا في شوارع الموصل بدونما رادع او ضابط.. مما جعل الوالي يدرك المخاطر التي تهدد الولاية في العاصمة [عاصمتها الموصل] فاسرع سرعة ساعي البريد متجها الى الموصل ليبدأ عملية استرداد الأمن والنظام، فاعتقل وسجن عددا من الأشخاص ووجه توبيخات قاسية لعدد من الزعامات الإسلامية مع تأكيدات أن الحكومة ستعمل على حماية حقوق المسيحيين..وقد تكررت تلك التحذيرات وبلهجة متشددة بعد يوم من تنصيب محمد رشاد [هو محمد الخامس تولى الحكم بعد خلع اخيه عبد الحميد الثاني]، عندما انتشرت في الأسواق اولى أشاعات مذابح الأرمن في أدنة [شرع الترك بسلسلة مذابح راح ضحيتها الأرمن على مدى ثلاثة ايام بدءا من يوم 14 نيسان 1909، ثم استأنف الترك عملية قتل الأرمن في أواخر الشهر وكان مركز المذابح في مدينة أدنة وفي اماكن تواجد الأرمن في الأناضول وسورية وأماكن أخرى]..
وقد وضع سقوط عبد الحميد حدا عاجلا لحالة الهيجان [في الموصل]. ومن المرجح تماما ان الثورة المضادة في 13 نيسان [ حراك عدد من المؤيدين للسلطان عبد الحميد يؤيدهم رجال الدين ضد الإتحاديين في اسطنبول بهدف تثبيت السلطان في الحكم] لم تكن مفاجأة لمنظمي الجمعية المحمدية، غير ان التحرك السريع من قبل الجمعية في سالونيكا [جمعية الإتحاد والترقي]، [تحرك قوة ضاربة بقيادة مصطفى كمال اتاتورك من مدينة سالونيكا الى اسطنبول] لم يكن متوقعا. وكانت مجريات الحوادث كالاتي: بعد هرب النواب من القسطنطينية [اسطنبول] [حدث هروب النواب اثر الأنقلاب الحميدي المضاد في 13 نيسان 1909 او في 31 آذار حسب التوقيت الرومي المتبع في الأمبراطورية العثمانية في ذلك الوقت..وقام بالإنقلاب عدد من الوحدات العسكرية الموالية لعبد الحميد وطلبة الشريعة والدراويش والجماعات الصوفية واعضاء الجمعية المحمدية، وهدف الأنقلاب المضاد الى انهاء المرحلة الدستورية الثانية وإلغاء جمعية الإتحاد والترقي . وتأسيس حكم الشريعة وارجاع السلطان عبد الحميد الى السلطة الاوتوقراطية، مما دفع جمعية الإتحاد والترقي ومقرها سالونيكا الى ارسال جيش بقيادة مصطفى كمال الى اسطنبول]، استلم الوالي [والي الموصل] برقية تطالبه عدم تلبية أية أوامر ترد اليه من العاصمة [اسطنبول] - ولا أقدر ان أجزم بصحة هذه الرواية ولكني لا ارى انها غير محتملة- وكان الوالي مدعوما بقوة غير اعتيادية من القوات "التي كانت قد ارسلت لإخماد الإضطرابات التي اعقبت مقتل الشيخ سعيد"، وكانت القوات الموجودة في تركيا كلها موالية للدستور.
وكانت مدينة الموصل تنتظر بقلق متنام مع تواتر وصول البرقيات يوما إثر آخر حول تقدم الجيش من سالونيكا الى القسطنطينية .. كما لم يكن سرا وصول برقية من بغداد يعرض فيها والي بغداد تقديم المساعدة الفورية للحزب الدستوري [الإتحادي]. ثم وعلى حين غرة، وصلت انباء خلع [السلطان]عبد الحميد..وبإستثناء السكان العاديين وبإستثنائي في الطريق العالي [أو الشرفة العالية، تقصد انها مطلعة على معلومات استخبارية من الدرجة الأولى بحكم مركزها في المخابرات البريطانية]، فإن الحدث [خلع السلطان] كان نصف متوقع...وهكذا كان الحال عندما وصلت الى الموصل وجدت المدينة، وهي أحدى أسوء المدن إدارة في الإمبراطورية العثمانية، مستكينة وهادئة.
وفي اسبوع من بقائي في الموصل، لم تصلنا معلومات باستثناء اشاعات غير واضحة حول حادثة ادنة [مذابح الأرمن]، وحتى انباء تنصيب محمد الخامس في محل اخيه وردتنا من مصادر تركية رسمية ، ونحن لانقدر ان نتأكد فيما ذا كانت القوى الأوربية او اية منها قد اعترفت به من عدم ذلك . والمصادر الرسمية التركية لاتصدق احيانا، فالمناطق الواقعة في منأى عن نبع الحقيقة النقي قليلة جدا ولا نستثني منها شرقي تركيا [يبدو ان بيل تعد الموصل التي كانت جزءا من تركيا الآسيوية جانبا من شرقي تركيا وانها تستخدم تركيا والدولة العثمانية كوحدة جغرافية واحدة]، بل ربما كانت هي الأبعد [عن نبع الحقيقة النقي]. مع ذلك فإن السفارة البريطانية في القسطنطينية ترى ان من غير الملائم ابلاغ وكلاء قنصلياتها في تركيا الآسيوية بتولي سلطان جديد الحكم في القسطنطينية. [ وارجح ان السفارة البريطانية كانت مطلعة على مخططات استخبارية تتجاوز الحوادث التكتيكية الى التحولات الكبرى نظرا لنشاط اللورد كرزون ولقاءاته بأتاتورك في تلك الأثناء وهي محاورات مهدت لخطط تشكيل تركيا الكمالية و اقتسام الشرق الأوسط لاحقا]. وبودي ان اترك هذه الملاحظة بدون تعقيب. [اي لعدم اهمية الجزء الظاهر من جبل الجليد مما جعل السفارة البريطانية تنتظر وتفضل عدم اطلاع نواب سفاراتها المحليين بتطورات لم تنته بعد].. ولكن اذا ما كنا نحن في الموصل غير مطلعين على مجريات الحوادث في اوربا، فلدينا مع ذلك، فرصا ثمينة في تقويم الأوضاع المحلية. ففي الموصل لم يرفع احد صوته ضد الإنتصار الثاني للنظام الجديد [دخول الإتحاديين اسطنبول وخلع عبد الحميد الثاني]. وفي الغياب المطلق للمبادرة المميز للمقاطعات ألآسيوية، لجأ الناس الى عزو مايحدث للقضاء والقدر وقد عزز الجيش هذا الإعتقاد عند الناس. أما بخصوص احتمالات ما إذا سيكون هذا الإنتصار الثاني اطول عمرا واكثر حسما من الأول فتلك مسألة مفتوحة [على الإحتمالات كلها].
وادت الأوضاع بالناس الى البقاء في بيوتهم محاكين بذلك بعض البيكوات الاقوياء ممن يريد ان يتمتعون بثرواتهم الهائلة بسلام ويكونون على استعداد على دعم السلطان الجديد بكل قلوبهم، ولكنهم تراجعوا خوفا من احتمال الا تكون الحكومة الجديدة قوية بما يكفي لحمايتهم ضد اخوانهم الفقراء [تقصد الطبقات الفقيرة والجائعة التي قد تثور وتعمد الى نهب الأغنياء كما حدث في اعقاب ثورة الشواف في الموصل]. وعبثا ماقام به الوالي بملئه السجون بالأشقياء [الشقاوات والفتوات] لأنه يعرف مسبقا بانه إذا ما قدمهم للمحاكمة ، فإن أحدا لايجرؤ على الشهادة ضدهم. بينما اضحت السجون مكتظة على نحو خطير.
ومن غير شك كان هناك بعض المشاعر المؤيدة لعبد الحميد، إلا انها نادرة. وكنت قد تعرفت على مواطن من اهل الموصل وهو نموذج ممتاز للمدرسة القديمة [ الطبقة المحافظة والملتزمة في الموصل] يبدو ان من المستحيل بالنسبة لمثله الا يشعر بالتعاطف [مع عبد الحميد] على الرغم من معرفتي به بأنه كان احد المحرضين على قتل الشيخ سعيد: كان هذا الرجل يتابع من غرفة في السراي اعلان محمد الخامس [سلطانا جديدا للأمبراطورية].وعندما شاهد الجندرمة وهم يمزقون ويسحقون تحت اقدامهم الفرمانات التي تحمل توقيع عبد الحميد، ولم يكن بصحبته سوى الشخص الذي اوصل الي هذه المعلومات، القى نفسه على الأرض [ارضية السراي] وبكى وقال: "الكلاب..البارحة كانوا سيتفاخرون لو ان اسمائهم مكتوبة بالنفس نفسه الى جانب اسمه". وبالنسبة لي أرى انه اليوم أفضل تحصينا ولديه الوقت لأسترجاع توازنه [السياسي] غير أنه كان يتنبأ الخراب والدمار والثورة والشرور كلها لبلاده [لم تحدد بيل مقصدها من بلاده في حديثها عن هذا الشخص الذي قد يكون الوالي او شخص آخر بمنزلته، ولاندري ان كان المقصود الدولة العثمانية ام العراق ام الموصل].
فسألته [اي الموصلي الذي قالت انها تعرفت عليه]:
- ألا يوجد هناك علاج [حل]؟ - إذا كان المنبع "راس العين" نقي، يكون النبع "المجرى" او "الجدول" نقي. رد بانفعال. سألته: - وهل كان المنبع نقيا؟ فتردد قليلا وقال: - لاوالله والنبي، حتى الملك يجب أن [لازم] يطلع على اوضاع الرعية يراهم [يغشعم] ويسمعهم [ويسمعم]. يجب عليه [لازم] ألا [ما] يجلس مسجونا [يقعد محبوس] في منزله [اببيتو] يستمع [يسمع] لأحاديث الجواسيس [كلام الجويسيس].
كما أعرف موصليا آخر يختلف اختلافا جذريا عن الشخص الأول، وهو احد اكبر اغنياء المدينة واكثرهم شرا، كان عبدا بالولادة. ولعله لايجلس في صحبة سيده السابق، على الرغم من ان سيده هذا لايمكن له باي حال ان يضاهي بالثراء عبده المعتوق. سألته ان كانت هناك اية قوة تسند الحركة العربية [كانت المشاعر القومية العربية في الموصل قوية كما تبين من المضاهرات المناهضة للإستعمار الإيطالي لليبيا والكتابات الصحفية شديدة اللهجة المؤيدة لوحدة العرب واستقلالهم]. فرد بحماس:
- على الخليفة ان يكون من قبيلة قريش! - فمن سيكون الخليفة الذي سيتم اختياره من قريش؟ فجاء رده: - شريف مكة نسبه من قريش والعرب يجب ان يحكموا انفسهم!
ثم تركني لأتفكر بكلماته لأني كنت عارفة تماما بإنه [لم تحدد الشخص بالضمير الذي يشير اليه هل هو شريف مكة ام الشخص الذي كانت تحدثه] اذا اختار ان يساندهم بالقوة [لم تحدد ضمير المفعول به من "يساندهم" وأرجح ان المقصود هو القوميين العرب في الموصل] ، فإن كل الأشقياء الذين تضج بهم المدينة سيكونون تحت امرته ولاسيما وانه يعرف المكائد والمكائد المضادة كلها في الولاية.
وجلست وقتا طويلا في غرفة ضيوف شخص ثالث من معارفي، وهو رئيس أعظم عوائل الموصل. وهو من نسب رفيع لاشائبة عليه بحيث بقيت شقيقاته عازبات لأن الموصل لاتقدر ان تقدم زوجا يرقى الى مقام العائلة رفعة ونسبا. وكان اسلاف هذا الشخص مسيحيين هاجروا من دياربكر منذ قرنين..وتجري الروايات على ان جده المسيحي حالما جاء الى الموصل ذهب في الصباح الى حلاق ولكنه عندما وصل دكان الحلاق وجده مكتظا بالزبائن من عامة المسلمين ..فلم يعر له الحلاق اهتماما خاصا وابقاه منتظرا حتى يكمل رؤوس المسلمين: فهتف قائلا: " هل على رجل في مقامي ان ينتظر لمثل هؤلاء؟" فاعلن فورا رفضه لعقيدة العبيد [لم تحدد بيل ماهي عقيدة العبيد ولعلها تقصد المسيحية لأن المقصود كان مسيحيا ثم اعتنق الإسلام ]. وكان حفيده احد اولئك الذين سيشعرون بابتهاج ازاء رؤية النظام الجديد ينتصر ويوفر السلام للبلاد..فدعى بالنقمة على رأس احمد عزت باشا [أحمد عزت باشا (1864-1937م) هو قائد عسكري عثماني، كان من اواخر من حمل الصدارة العظمى للدولة العثمانية وهو غير أحمد عزت باشا العمري الموصلي.]، أحد اسوء بطانة السلطان [عبد الحميد] ثم صب لعناته على شقيقه مصطفى الذي كان في وقت مضى واليا للموصل [تولى مصطفى باشا ولاية الموصل للفترة 1905- 1908ويعود الفضل في تعيينه واليا للموصل الى نفوذ اخيه في البلاط العثماني]. ثم قال " لو بقي سنتين اكثر في الولاية لخرب المدينة، غير ان كراهيته لعزت باشا لم تعمه عن متطلبات الإحترام الواجبة فقد تمكن [أحمد] عزت [باشا] بمهاراته الفائقة على الإقناع باغواء صديقي ليقدم له قطعة ارض ثمينة. وبعد شهرين هرب [أحمد] عزت باشا بعد سقوطه في عين السلطان خوفا من الإعدام من القسطنطينية إلا أن البيك لم يرجع في كلمته [بخصوص الأرض التي منحها لأحمد عزت باشا] عندما اصبح عزيز القوم ذليلا يعجز عن ارغام البيك على تنفيذ كلمته [منحه الأرض التي تعهد له بمنحها] وبذلك يتصرف البيك حسب تقاليد النبل التي تصف اسرته [استخدمت بيل عبارة فرنسية مفادها أفعال من تلد الكرام كريمة]. [تضمنت حاشية عبد الحميد العديد من العرب عام 1908، وبدلا من توجيه اللوم بالمشكلات التي تعصف بالبلاد الى عبد الحميد نفسه وجهت الإتهامات الى كبير مستشاريه أحمد عزت باشا العابد الذي وجهت اليه تهم كثيرة بينها تسهيله أو عدم منعه لعدد من اعضاء الأتحاد والترقي من الهرب خارج البلاد، مما ارغم احمد عزت باشا على الهرب ومعه عدد كبير من العرب في القصر والولايات فاتجه احمد عزت باشا الى الموصل].
كما غنمت فرصة المحادثة مع العديد من القساوسة. وهم في الموصل كثرة لايمكن معها تشكيل انطباع منفرد عن كل منهم. ويتناسب عدد القساوسة مع الطوائف المسيحية المختلفة التي يمثلونها فهي مثل رمال ساحل البحر، ولكن فيما افكر بالسفر في مناطق تقيم فيها هذه الطوائف فلابد من استيعاب الأسماء التي تميز هذه الطوائف أحدها عن الخرى على الأقل. اما فيما يتعلق بالفروق الجوهرية [المذهبية او العقيدية] فتلك تتصل بالمفاهيم والافتراضات الميتافيزيقية التي ليس في امكاني الخوض في تفاصيلها. واكثر تلك الطوائف اثارة للإهتمام من الناحية التاريخية جماعة مار شمعون، الذين كنت قد التقيت بعدد منهم في الطريق. ويعرفون في الوقت الحاضر بالنسطوريين على الرغم من ان هذه التسمية لاتصفهم، كما لاحظ لايرد، بصورة صحيحة. فاتباع المار شمعون هم اعضاء الكنيسة الكلدانية القديمة. وعنصرهم على الارجح هو الأقرب للعنصر الاشوري النقي كما لنا ان نتوقع في منطقة تعرضت للعديد من الغزوات والخراب والتوطين والهجرات.[ تعد المناطق الآشورية في شمالي العراق وشماله وفي شرقي العراق وشرقه من اكثر المناطق تعرضا للإختراقات الإثنية والغزوات والهجرات من قبل الشعوب الآرية والتركمانية عبر التاريخ، مع ذلك حافظ الاشوريين على خصائصهم الإثنية والعرقية والحضارية على الرغم من زوال امبراطوريتهم في 612 ق.م.] اما كنيستهم فقد تأسست قبل ولادة نسطوريوس ولا صلة لتعاليمها به.[تشير بيل الى كتاب ادجار توماس ويغرام الكنيسة الآشورية، وللكاتب ايضا " آلاشوريين وجيرانهم"، و"مهد الإنسانية: الحياة في شرقي كردستان"].ومباديء الكنيسة الآشورية هي مباديء المسيحية القديمة التي لم تخالطها تاثيرات روما. وعقيدتها مع فروق تعبيرية غير مهمة مستمدة من نيقيا حيث نأى الكلدان بانفسهم بعد مؤتمر افسوس الكنسي عن الطوائف المرتبطة بالبابا والخاضعة لسلطته. وهم من الناحية السياسية لا يعيشون تحت السيطرة البيزنطية بل في الامبراطورية الساسانية. وحملت بعثاتهم التبشيرية المسيحية عبر آسيا من بلاد الرافدين وحتى المحيط الهادي. ويطلق على البطريارك عندهم وحتى الوقت الحاضر اسم كاثوليكوس الكنيسة الشرقية [الجاثليق] وكان مقره في البداية المدائن عندما اصبحت بغداد عاصمة للخلافة وعند سقوط بغداد، انتقل مقر البطريرك او الكاثوليكوس الى الموصل. وفي القرن السادس عشر حدث انشقاق ادى الى وجود بطرياركين بدلا من واحد. احدهما يقيم في رابان هرمزد بالقرب من القوش، والآخر يقيم في كوشانيس في الجبال جنوبي بحيرة وان.. وقد خضع الأول منذ قرنين لسلطة البابا، ويعرف اتباعه بالكلدان. ويقال انهم حملوا النير الروماني على الرغم من ارادتهم. والثاني هو البطريرك الوحيد الممثل للكنيسة الشرقية المستقلة التي يطلق عليها [على سبيل الخطأ] اسم الكنيسة النسطورية. ومركز البطريرك في هذه الكنيسة ينتقل بالوراثة من الخال الى ابن الأخت في الأسرة نفسها لأن البطريرك يحرم عليه الزواج. وتطلق على حامل المنصب دائما تسمية المار شمعون [مما يتسبب في خلط الروايات التي تنسب الى مار شمعون لعدم تحديد التسمية بمار شمعون الأول فالثاني وهكذا دواليك]. ويسود الإعتقاد القائل بأنه اذا ترتب على حكومة جديدة ان تنجح في فرض النظام، بحيث يتم الإستغناء كليا عن حماية دولة اجنبية، يتوجب على المسيحيين الكلدان [ممن يتبعون روما] هجر ولائهم للبابا واعلان ولائهم لكاثوليكوس الشرق).
ثم تتطرق جرترود بيل للحديث عن تفاصيل تتصل بعمارة الكنائس والجوامع في الموصل فالجماعات التي توطن ولاية الموصل كاليزيدية والشبك وغيرهم ثم الى نينوى وتلقوينجق فزيارتها للقرى في شرقي نينوى والقرى المسيحية واليزيدية في سهل نينوى ثم بافيان والشيخ عادي وحتى زاخو التي يعرفها الجغرافيون العرب بإسم الحسنية ..فوادي الخابور ..وكل ذلك يقصينا عن قلب موضوعنا وهو راي جرترود بيل في الموصل لذا اخترنا التوقف عن مواصلة ترجمة مواضيع متنوعة لاتخلو من فائدة الا ان لاصلة لها بعنوان الدراسة التي اسهبنا في تفاصيلها..
ملاحظة حول الترجمة والصور
يتضمن النص مقدمة بقلمي وترجمتين تاتي االثانية تاريخيا قبل الأولى كونها ظهرت في كتاب جرترود بيل من (اموراث الى اموراث) الذي طبع ونشر عام 1911 بينما كانت الأولى وعنوانها احتلال الموصل ترجمة للفصل الخامس من كتاب المندوب السامي البريطاني في بغداد آرنولد تالبوت ولسون (دراسة في الإدارة المدنية لبلاد الرافدين). وهو بقلم جرترود بيل ايضا يغطي الإدارة البريطانية بعد احتلال الموصل عام 1918.وكانت جرترود بيل قد بدأت جولتها في الشرق الأدنى عام 1892 بعد تعيين خالها فرانك كافنديش ليسلي سفيرا في طهران . وبيل بالإضافة الى كونها رحالة كانت تهتم بالآثار والسياسة والفنون التشكيلية والعمارة والتاريخ وفي رحلاتها تفاصيل كثيرة عن حياة الناس في الشرق الأدنى وتاريخهم وآثارهم وعمارتهم مما لفت انتباه المخابرات البريطانية لها فسعت الى تجنيدها بمنصب مستشارة لشؤون المشرق للمندوب السامي البريطاني في بغداد. وقد لعبت دورا في تكوين الدولة العراقية واصبحت مديرة شرفية لمديرية الآثار في بغداد فعملت على تاسيس المتحف العراقي ونادي العلوية..اطلق عليها لقب ملكة العراق للدور الذي لعبته مع لورنس العرب في تعيين الأمير فيصل بن الحسين ملكا على العراق..الفت العديد من الكتب منها البادية والحاضرة ويغطي رحلتها الى بلاد الشام، وصور فارسية من الجبال الى البحر، وأقوال حافظ ويتناول الشاعر حافظ الشيرازي واخيرا كتاب من اموراث الى اموراث الذي قدمت له ببيت من لبيد على طريقة المستشرقين، فتغطي فيه رحلتها الى العراق..وقد علمت الترجمة بين هلالين اما ملاحظاتي التوضيحية فجاءت بين قوسين مضلعين واستخدمت الفوارز المقلوبة لتوضيحات اضافية في مقتضى السياق.وتغطي الصور المنتخبة صورا لبيل ورموز الاحتلال البريطاني وصورة نادرة للشيخ فرحان الجربا مع عدد من الصور تمثل بغداد في اثناء الاحتلال البريطاني والموصل في العقود المبكرة من القرن العشرين.
كنائس الموصل
ويوجد في الريف الخصب حول المدينة [الموصل] والى الشرق من دجلة اعداد من المسيحيين اكثرهم من الكلدان على الرغم من وجود جماعات صغيرة من اليعاقبة والنسطوريين ايضا. ويقيم البطريرك الكلداني [مار يوسف عمانوئيل الثاني] في الموصل حيث يشكل الكلدان اكثرية الحرفيين المهرة في المدينة.. بينما يعمل الكلدان الذين يقيمون خارج المدينة بالزراعة ويشتهرون بمهاراتهم اذ تعد قراهم أكبر القرى في الولايات [العثمانية] واكثرها ازدهارا. وهنالك رسول بابوي معين في الموصل لرعاية مصالح الكلدان والسريان الكاثوليك فضلا عن اعتناء الآباء الدونوميكان بمدرسة ومستشفى في الموصل وهناك الكثير من مرتادي المدرسة والكنيسة الدونوميكانيتان.كما تحتضن الموصل قساوسة سريان كاثوليك ونسطوريين ويعقوبيين..كما تعزز التنوع المسيحي في المدينة ليشمل جماعات من الرومان الكاثوليك والبروتستانت والأرثودوكس التابعين للكنيسة اليونانية. وكان الرومان الكاثوليك والكنائس الوحدوية البابوية (الكلدان والسريان الكاثوليك)..تحت الحماية الفرنسية كما هو الحال في الأنحاء الأخرى في الأمبراطورية العثمانية. ولايوجد أدنى شك ان امكانية ضمان محام اوربي [عن مصالح الطوائف المسيحية الشرقية] لدى الدولة العثمانية، كان محفزا قويا للتوحد [الإنضواء تحت ] مع كنيسة روما [الكاثولوكية]. وكانت سياستنا قبل الحرب تتسم بالميل لحماية الكنيسة النسطورية [الآشورية] أزاء الكنائس المتفرعة عنها كالكنيسة الكلدانية الكاثولوكية.ودافعنا لذلك كان وجود هيئة تبشيرية صغيرة ولكنها مثيرة للإعجاب بين النسطوريين تعرف ببعثة اسقف كنتربري التبشيرية للنسطوريين. [بذل الأنكليز ومعهم الأميركان ومنذ بداية القرن التاسع عشر جهودا جبارة في نشر المذهب البروتستانتي بدون تحقيق نجاح يذكر نظرا لتمسك المسيحيين المشارقة بكنائسهم والنجاح النسبي للكاثوليك والدونوميكان في تحقيق بعض المكتسبات للكنيسة الكاثوليكية]. ومن جهة أخرى عزز وجود البعثة التبشيرية الدونوميكانية بمدرستهم الجيدة ومستشفاهم في الموصل الميل للتطلع الى فرنسا.. فالعلاقة مع روما قوية ويرجح ان تبقى كذلك لأن الكنيسة الكلدانية لا اموال [أو أوقاف] لها وتعتمد في تمويلها على روما.[في الواقع تتمتع الكنيسة الكلدانية بأموال تردها بطريق الهدايا العينية لأتباعها وأكثرهم أغنياء كما توجد في الكنائس الكلدانية مكتبات ثرية بالمصادر النادرة]
سبب احتلال الموصل
ويختلف الغزو الأجنبي في العصر الحديث عنه في العصور القديمة والوسطى، في كون الغزو الحديث غالبا مايكون لتحقيق اهداف ستراتيجية تتجاوز المدينة بذاتها الى المنطقة بأسرها أي تكون المنطقة المستهدفة أوسع والأهداف تتجاوز منطقة العمليات الى اقاليم ودول أخرى. وغالبا ماتكون الأهداف المتوخاة من الغزو مركبة اقتصادية وستراتيجية ووجودية في الوقت نفسه..كما في غزو العراق من قبل قوات التحالف...وفي مطالعتنا التاريخ الحديث نجد ان الغزو البريطاني للموصل يعد نموذجا للغزو ذو الأهداف المتعددة ..اذ هدفت بريطانيا من غزوها الموصل عام 1918 التوسع الى الحدود الفارسية التركية لحماية مصالحها في بلاد فارس والقفقاس من اي هجوم قد تشنه تركيا ضمن دول الحلف [المانيا والنمسا والمجر] عليها، وضمان استقرار الاوضاع في العراق الذي كان محمية بريطانية مهمة في الطريق الى الهند فضلا عن حماية آبار النفط في ايران والعراق وتأمين خط سكك حديد باطوم - باكو..ولكي ترضي كل من تركيا وفرنسا في ضمها، بمساعدة عصبة الامم، الموصل الى العراق، وعدت الجانبين بربع انتاج حقول عين زالة من النفط بمقدار 25% لكل منهما..وبخاصة أزاء التزام بريطانيا بإتفاقية سايكس - بيكو التي قضت بجعل الموصل تحت الإدارة الفرنسية..وتلك فقرة لم تأت في مصلحة بريطانيا لأكتشاف النفط في نينوى بعد التوقيع على تلك الإتفاقية بمشاركة روسيا..مما جعل بريطانيا تمضي قدما في سبيل احتلال الموصل..وكانت سياسة وزير خارجية بريطانيا آنذاك اللورد كورزون تهدف الى السيطرة على منابع النفط من عبادان الى باكو مرورا بالعراق لتأمين المصالح البريطانية في بلاد فارس وبلاد الرافدين ووسط آسيا والقفقاس أزاء التطلعات الروسية – البلشفية في وسط آسيا وبلاد فارس والطموحات الألمانية بالوصول الى المياه الدافئة.. ولاسيما في أثناء الحرب العالمية الأولى..وكانت بريطانيا قد عقدت اتفاقية مع روسيا عام 1907 قسمت مناطق نفوذ الطرفين في بلاد فارس وبينما كانت روسيا تتطلع الى مكتسبات على الأرض، كانت بريطانيا تريد الحفاظ على مصالحها التجارية والنفطية منذ 1910 في بلاد فارس التي سمتها لاحقا أيران وبلاد الرافدين التي سمتها العراق..وكان اكتشاف النفط جعل بريطانيا تبدل وقود سفنها الى الهند من الفحم الحجري الى النفط..مما اعطى النفط اهمية ستراتيجية وحيوية اولى بالنسبة للأنكليز وتبعا لذلك تغيرت توجهاتهم السياسية جملة وتفصيلا..فاشترت بريطانيا 51 % من حصص شركة النفط الأنكلو- فارسية فضلا عن حصول الشركة نفسها على امتيازات البحث عن النفط واستثماره في عموم بلاد فارس..
ووجه سقوط روسيا القيصرية وقيام روسيا الشيوعية ضربة الى الوفاق الثلاثي بين بريطانيا وفرنسا وروسيا في وقت كان تحالف تركيا والمانيا يهدد المصالح البريطانية في منطقة القفقاس مما دعى بريطانيا الى تشكيل قوة بقيادة دنسترفيل سميت بقوة دنستر اوكلت اليها مهمة احتلال حقول نفط باكو وتم لها ذلك مؤقتا في أيار عام 1918 غير ان القوات التركية ارغمت الأنكليز على الإنسحاب الى بلاد فارس، وبعد توقيع تركيا على اتفاقية هدنة مدروس في 30 تشرين الثاني عام 1918 سيطرت بريطانيا على حقول باكو وكرست فرقة عسكرية كاملة لحماية خط سكك وانبوب نفط باطوم – باكو خوفا من سيطرة البلاشفة على نفط باكو وهذا ماحدث بالفعل بعد سنتين عندما غزا الجيش الأحمر باكو..وكان انشغال البريطانيين في أئربيجان والقفقاس في رأي جرترود بيل سببا في تأخير غزو الموصل واحتلالها ويبدو ان قرب باكو من الجبهات الألمانية – التركية وضعها على سلم اولويات الخارجية البريطانية..هذا يؤشر الى ان المخطط البريطاني يعتمد على ستراتيجية شمولية في تحركاته مقرنا السياسة بالدبلوماسية والدبلوماسية بالحرب مع اخضاع الخطة للمتغيرات الاقليمية والمحلية كما في حال الثورة الشيوعية وعرض لينين للسلام وانسحاب الجنود الروس من جبهات القتال..وفيما ياتي ترجمة للفصل الخامس من كتاب المندوب السامي البريطاني آرنولد تالبوت ولسون (دراسة في الإدارة المدنية لبلاد الرافدين) والمعنون "احتلال الموصل" ..ونترجمه رغبة بتوضيح قرائن تاريخية محددة تميط اللثام عن ثوابت اجتماعية وحضارية واثنية مهمة تتعلق بسكان الموصل وبطبيعة تعامل المحتل مع اهالي المدينة العزل ولاسيما في ضوء ماتسقطه هذه المعلومات من ضوء على طبيعة الإحتلال الأميركي الغاشم وماحدث بعده من اختراقات محلية ماتزال الموصل تعيش في غمارها...ويبدو ان المندوب السامي كلف جرترود بيل بتأليف هذا الفصل لمعرفتها الجيدة بالموصل وبمنطقة نينوى وشمالي العراق التي زارتها عدة مرات وعرفت بحبها للعراق مما دعاها الى تاسيس مكتبة السلام [المكتبة الوطنية في بغداد] ، والمتحف العراقي والنادي المعروف بإسمها [نادي العلوية] وكانت قد زارت الموصل عام 1909 وصورت معالمها التراثية والحضارية وتشكل تلك الصوراحدى مجموعات ارشيفها المصور عن الموصل عام 1909 .وفيما يأتي ترجمة لوصفها احتلال الموصل، بتمامها:
(تتميز مدينة الموصل بتاريخ مضطرب لم يتغير اي شيء من مواصفاته خلال السنوات القليلة الماضية، فهي تقع على الحدود بين العرب والأكراد، والتقابل بين هاتين المجموعتين نادرا ما تصاحبه مشاعر الأخوة او النوايا الحسنة من قبل كلا الجانبين. وتجثم على ولاية الموصل الكئيبة الكراهية والتولع بالمذابح كشرين متوارثين ينتقلان (إن جاز القول؟) عبر الأجيال المختلفة من الغزاة منذ أن تركت بواكير الجبروت الوحشي للإمبراطورية الآشورية بصماتها على الأرض. وقد توازعت المدينة صروف طموحات اسر عربية طموحة استمر حكمها حتى اقل من قرن مضى وكان لكل اسرة عقارها التي لاينافس سيادتها عليه احد. هؤلاء (صغار) اللوردات [ استخدمت بيل كلمة "لوردينكز" التي تعني اشباه او صغار اللوردات تصغيرا منها لوجهاء الموصل] كانوا يعاينون، بعدوانية بادية، لايشعرون ما يدعو لإخفائها، اليد التركية وهي تشدد قبضتها تدريجيا على الولاية [الموصل]. وليس ثمة مكان ستجد فيه الحركة القومية العربية، ان هي وصلت مرحلة إزدهارها، ارضا خصبة لتنهل من جداول الكبرياء [القومي] الذي لايعرف الحدود، كالموصل [وهنا تصيب بيل قلب الحقيقة فأهل الموصل هم ورثة الأمبراطوريات العسكرية العظيمة ولاغبار على صدق مشاعرهم القومية ومشروعيتها]. وعلى الرغم من قسوة الحكم العثماني ودمويته في هذه الأطراف النائية من ألإمبراطورية ، فإنه افضل من الهيمنة المطلقة للبيكوات العرب او الأغوات الأكراد . وإن كان للطوائف المسيحية المضطهدة في أكثريتها، او اليزيدية المظلومين أو الفلاحين البائسين من مختلف العقائد ممن يزرعون بذعر مالايجنون ، أن تحصل على الحماية والإزدهار، فإن عليهم أن ينظروا الى التركي. [ ترى بيل ان علاج المجتمعات المنقسمة طائفيا وقوميا و"طبقيا؟" لايتحقق الا بنظام حكم استبدادي يضمن جانبا من العدالة وهو اعتقاد يذكرنا بمقولة جمال الدين الأفغاني: لايصلح الشرق الا مستبد عادل]. فالتركي والتركي وحده يقدر من السيطرة على العناصر المتحاربة في امبراطوريته، وعندما يتعلم [التركي] كيف يستعمل قوته على نحو غير متحيز وباستقامة، فإن ذلك سيتمخض عن السلم..لكن هذا مستبعد حدوثه في الموصل..ولا يبدو انه بمنأى عن الموصل في اي وقت كما هو الحال في بداية سنة 1909. [سنة زيارة بيل للموصل].
عن العنصر الآشوري النقي
جاء المقتبس الاتي
كما غنمت فرصة المحادثة مع العديد من القساوسة. وهم في الموصل كثرة لايمكن معها تشكيل انطباع منفرد عن كل منهم. ويتناسب عدد القساوسة مع الطوائف المسيحية المختلفة التي يمثلونها فهي مثل رمال ساحل البحر، ولكن فيما افكر بالسفر في مناطق تقيم فيها هذه الطوائف فلابد من استيعاب الأسماء التي تميز هذه الطوائف أحدها عن الخرى على الأقل. اما فيما يتعلق بالفروق الجوهرية [المذهبية او العقيدية] فتلك تتصل بالمفاهيم والافتراضات الميتافيزيقية التي ليس في امكاني الخوض في تفاصيلها. واكثر تلك الطوائف اثارة للإهتمام من الناحية التاريخية جماعة مار شمعون، الذين كنت قد التقيت بعدد منهم في الطريق. ويعرفون في الوقت الحاضر بالنسطوريين على الرغم من ان هذه التسمية لاتصفهم، كما لاحظ لايرد، بصورة صحيحة. فاتباع المار شمعون هم اعضاء الكنيسة الكلدانية القديمة. وعنصرهم على الارجح هو الأقرب للعنصر الاشوري النقي كما لنا ان نتوقع في منطقة تعرضت للعديد من الغزوات والخراب والتوطين والهجرات.[ تعد المناطق الآشورية في شمالي العراق وشماله وفي شرقي العراق وشرقه من اكثر المناطق تعرضا للإختراقات الإثنية والغزوات والهجرات من قبل الشعوب الآرية والتركمانية عبر التاريخ، مع ذلك حافظ الاشوريين على خصائصهم الإثنية والعرقية والحضارية على الرغم من زوال امبراطوريتهم في 612 ق.م.] اما كنيستهم فقد تأسست قبل ولادة نسطوريوس ولا صلة لتعاليمها به.[تشير بيل الى كتاب ادجار توماس ويغرام الكنيسة الآشورية، وللكاتب ايضا " آلاشوريين وجيرانهم"، و"مهد الإنسانية: الحياة في شرقي كردستان"].ومباديء الكنيسة الآشورية هي مباديء المسيحية القديمة التي لم تخالطها تاثيرات روما. وعقيدتها مع فروق تعبيرية غير مهمة مستمدة من نيقيا حيث نأى الكلدان بانفسهم بعد مؤتمر افسوس الكنسي عن الطوائف المرتبطة بالبابا والخاضعة لسلطته. وهم من الناحية السياسية لا يعيشون تحت السيطرة البيزنطية بل في الامبراطورية الساسانية. وحملت بعثاتهم التبشيرية المسيحية عبر آسيا من بلاد الرافدين وحتى المحيط الهادي. ويطلق على البطريارك عندهم وحتى الوقت الحاضر اسم كاثوليكوس الكنيسة الشرقية [الجاثليق] وكان مقره في البداية المدائن عندما اصبحت بغداد عاصمة للخلافة وعند سقوط بغداد، انتقل مقر البطريرك او الكاثوليكوس الى الموصل. وفي القرن السادس عشر حدث انشقاق ادى الى وجود بطرياركين بدلا من واحد. احدهما يقيم في رابان هرمزد بالقرب من القوش، والآخر يقيم في كوشانيس في الجبال جنوبي بحيرة وان.. وقد خضع الأول منذ قرنين لسلطة البابا، ويعرف اتباعه بالكلدان. ويقال انهم حملوا النير الروماني على الرغم من ارادتهم. والثاني هو البطريرك الوحيد الممثل للكنيسة الشرقية المستقلة التي يطلق عليها [على سبيل الخطأ] اسم الكنيسة النسطورية. ومركز البطريرك في هذه الكنيسة ينتقل بالوراثة من الخال الى ابن الأخت في الأسرة نفسها لأن البطريرك يحرم عليه الزواج. وتطلق على حامل المنصب دائما تسمية المار شمعون [مما يتسبب في خلط الروايات التي تنسب الى مار شمعون لعدم تحديد التسمية بمار شمعون الأول فالثاني وهكذا دواليك]. ويسود الإعتقاد القائل بأنه اذا ترتب على حكومة جديدة ان تنجح في فرض النظام، بحيث يتم الإستغناء كليا عن حماية دولة اجنبية، يتوجب على المسيحيين الكلدان [ممن يتبعون روما] هجر ولائهم للبابا واعلان ولائهم لكاثوليكوس الشرق).
قلب المثلث الاشوري
وكان الشيخ محمود قد ارسل رسائلا زعم فيها انه يمثل الأكراد الجنوبيين وعرض علينا زمام الحكومة او ان يقوم بتمثيلنا في حكومة. وسيان بالنسبة للعسكريين او للأطراف المدنية في القوة [البريطانية] فقد كانت خيبة امل مرة عندما يكون من المستحيل الإستفادة من وضع واعد كهذا.[لايوجد مصدر آخر يوثق موقف الشيخ محمود الحفيد هذا او يؤكد مصداقية ماذهبت اليه بيل وقد شارك الشيخ الحفيد في مقاومة الإنكليز فكيف يطلب ان يكون ممثلا لهم في حكومة كردية! ] وقد بات تحويل وسائط النقل المتوفرة كلها الى الطريق الفارسي [لحماية بلاد فارس من هجوم تركي الماني او تمدد روسي] لايحول دون اي تقدم [لقواتنا] بل ارغمنا على التخلي عن كركوك. وقد اعطينا السكان المسيحيين في المدينة خيار مغادرة المدينة الى ملاذ آمن في بغداد، فأختارت اعداد منهم مغادرة أراضيهم وبيوتهم في كركوك ليقوم الأتراك الذين قاموا باحتلال المدينة بنهبها بعد مغادرتنا لها ، بينما زحفت قوة عثمانية صغيرة باتجاه السليمانية حيث قمنا بتعيين الشيخ محمود ممثلا لبريطانيا هناك. فقام الأتراك بوضع المدينة [السليمانية] تحت الأحكام العرفية وأرسال الشيخ محمود الى كركوك..لكن الأتراك، على اية حال، لم يغامروا في التسبب في إثارة القبائل التي يمثل الشيخ محمود رئيسا لبضع عوائل فيها ويمارس تأثيرا كبيرا عليها فعمدوا الى اطلاق سراح الشيخ محمود فورا..وقد أدى انسحابنا [من كركوك] الى تغيير حتمي في التوازن في كردستان، ولكن الأتراك كانوا قد بلغوا دركا من الضعف لايقدرون معه الإستفادة من الفرصة التي وفرها [انسحابنا ] لهم.غير ان انتصار الحلفاء في فرنسا [معركة برودسيندا في 4 -10-1917] وانتصارالجنرال اللنبي في سورية في تشرين الأول [معركة غزة الثالثة في 31-10-1917]، اعادا التوازن لصالحنا. مع ذلك فإن قواتنا في بلاد الرافدين مازالت معرقلة بسبب النقص في وسائل المواصلات، وليس بمقدورنا التقدم بقوات كبيرة الى الموصل بطريق كركوك..إلا ان وحدة صغيرة تم ارسالها صوب التون كوبري [أي "جسر الذهب" وهي مدينة تركمانية صغيرة تقع على الزاب وتعد همزة وصل بين بغداد وكركوك والموصل وأربيل في قلب المثلث الآشوري] لحماية جناح القوات الرئيسة المتقدمة شمالا بمحاذاة دجلة.. فتم لقواتنا [البريطانية] أحتلال كركوك مجددا في 25 تشرين الأول..وبعد مواجهة عنيفة ارغمت الأتراك على مغادرة مواقعهم المستحكمة في وادي دجلة اسفل قلعة الشرقاط وقد تم اعتراض قواتهم من الشمال فاستسلمت القوة بأكملها في 30 تشرين الأول.وفي تلك الأثناء تمكنت القوة الشرقية [المرسلة الى التون كوبري]من ارغام العدو [التركي] على عبور الزاب الأسفل في الوقت الذي أضحت فيه قوة دجلة [القافلة الرئيسة] على بعد بضعة اميال من الموصل.
انظر أيضاً
المصادر
- ^ صلاح سليم علي (2014-07-12). "احتلال الموصل عام 1918 جرترود بيل". عنكاوا.
- ^ توفي مود بسبب اصابته بالكوليرا اثر شربه لحليب ملوث في بغداد في 18 نوفمبر 1917، ودفن بمقبرة الانكليز في الوزيرية وفي مكان قريب من قبر جرترود بيل التي ماتت بعده بتسع سنوات عام 1926
- ^ هو الشيخ حميد بن الشيخ عزيز طالباني غادروا مع قبيلتهم كركوك الى خانقين تفاديا للتصادم مع التركمان الذين يشكلون الأكثرية التالية للعرب والمسيحيين في المدينة ويبدو ان اسرة الشيخ حميد الطالباني فضلت البقاء في كفري
- ^ غالبا ما تناصب الأقليات العداء لنظم الحكم القائمة في مواطنها وترحب بالأجنبي كمحرر لها
- ^ لم تحدد أية مدينة بالإسم وأرجح انها تقصد كركوك
- ^ [لعلها تقصد أكراد السوران أو أكراد الجنوب تمييزا لهم عن البهدينان او اكراد الشمال في حكاري وسيرت
- ^ [هو محمود الحفيد ابن الشيخ سعيد نصب نفسه ملكا على كردستان وشارك في التصدي للإنكليز في جنوبي العراق وقصة منديله الذي وضعه في يده لتفادي لمس يد الضابط الإنكليزي الذي مدها لمصافحته مشهورة في الأدب الشعبي
- ^ لايوجد مصدر آخر يوثق موقف الشيخ محمود الحفيد هذا او يؤكد مصداقية ماذهبت اليه بيل وقد شارك الشيخ الحفيد في مقاومة الإنكليز فكيف يطلب ان يكون ممثلا لهم في حكومة كردية!
- ^ [لحماية بلاد فارس من هجوم تركي الماني او تمدد روسي
- ^ أي "جسر الذهب" وهي مدينة تركمانية صغيرة تقع على الزاب وتعد همزة وصل بين بغداد وكركوك والموصل وأربيل في قلب المثلث الآشوري
- ^ للإطلاع على مزيد من المعلومات ينظر "التشكيلات العسكرية في الموصل منذ أواخر العهد العثماني الى 1958" بقلم الدكتور ابراهيم خليل العلاف
- ^ الكلمة التي استخدمتها بيل هي "ربط"
- ^ يؤكد الأنكليز في تقاريرهم على ان للموصل هوية عسكرية ولأهلها ميل قوي للأستقلال والقيادة مما جعلهم عصيون على الأنقياد أقوياء الشكيمة ليس من السهل بأي حال إرضائهم، كما في تقرير كرسته بيل لوصف الموصل حصريا، وهي تشاطر في رأيها في الموصل واهل الموصل موقف مارك سايكس الذي كان وراء تخلي بريطانيا عن الموصل لفرنسا ولعله وراء اقتراح وضعها تحت ادارة عسكرية صارمة كونه المسؤول الأول في حلقات صنع القرار الخاص بالشرق الأوسط في ذلك الوقت
- ^ خضمة، أجة أو مجة: وقد تكون مرة
- ^ وهو منخفض يقع بين بيجي والشرقاط يتجه شرقا ويقع من الناحية الجيولوجية في المنطقة الانتقالية بين السهل الرسوبي ومنطقة الجزيرة وقد دارت فيها مواجهات بين الجيش العثماني وجيش الاحتلال البريطاني. ويبدو ان بيل اعتبرتها بداية الأراضي المتموجة أو شبه الجبلية حيث لاتنمو النخيل. ولا ادري اين كانت بيل قد شاهدت نخيلا بين شمال سامراء وحتى الفتحة ان لم تعتبر منطقة طوز خورماتو ضمن المناطق الصخرية