الشركة المصرية العامة للتحايل على العقوبات
أغرقنا الإعلام المصري وبعض المواقع قليلة المصداقية في روسيا بأخبار عن صفقات أسلحة ومذكرة تفاهم حول إنشاء محطة نووية، هي نسخة طبق الأصل من مذكرتين سابقتين وقعهما حسني مبارك مع ليونيد بريجنيڤ في 1985، ثم مع فلاديمير بوتن في 2008.[1] ونؤكد للجميع عدم صحة كل ذلك. فالرئيسان كانا كمن وجدا نفسيهما في مباراة "طاولة محبوسة" "والدور قفل عليهم" - من طرف ثالث. فلا يستطيعان عرض شيء على الآخر أو حتى قبول شيء من الآخر. وقد ناقشت ذلك في مقال سابق.
فرصة التعاون الوحيدة الممكنة بين البلدين هي ما اقترحه الرئيس بوتن من التبادل التجاري بين البلدين باستخدم العملتين المحليتين، الجنيه والروبل. فالتبادل التجاري بين البلدين في 2014 بلغ 4.6 مليار دولار. 4.1 مليار منهم هي صادرات روسية و 500 مليون دولار صادرات مصرية. كما بلغ عدد السواح الروس لمصر في 2013 2.9 مليون سائح، أنفقوا نحو مليار دولار.[2]
للوهلة الأولى يبدو فارق الميزان التجاري كعائق أمام التبادل بالعملات المحلية، إذ سيتعين على المصدرين الروس قبول الروبل أو الجنيه مقابل سلعهم، وهو أمر غير مشجع بالنسبة لهم. إلا أن وجود العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا واحتمال تصاعدها يجعل التبادل التجاري بالعملات المحلية نافذة نجاة للاقتصاد الروسي. والواضح أن مصر قد تبنت مجموعة من آليات التحايل على العقوبات الدولية لمساعدة الدول الصديقة وللتربح (المؤسسي والشخصي) في ذات الوقت.
"علاء وجمال" ليسو أفراداً، بل هم عقيدة وأسلوب حياة Modus vivendi أفرزتها الدولة. مصر تلعب نفس الدور على الساحة العالمية من بعد حادث أكيلي لاورو في 1985، وبدون تغيير.
دعنا نتتبع تطور تلك الآليات بمصر منذ منتصف الثمانينيات، ونوضح أن روسيا وپوتن ليسوا بغرباء على تلك الآلية.
العقوبات على ليبيا وصندوق حورس
منذ وصوله إلى سدة الحكم في ليبيا عام 1969، انتهج الزعيم الليبي، معمر القذافي، خطاً مناوئاً للغرب. وقد اعتمد الغرب على السادات في محاولات ترويضه، والتي انتهت بالحرب الليبية المصرية في 1978. بعد غياب السادات، دخلت المواجهات الغربية الليبية فصلاً جديداً - هو فرض العقوبات على ليبيا بدأت في 1981 بوضع قيود على سفر بعض المسئولين، سرعان ما تطورت إلى غارات جوية في 1986. ثم بدأت العقوبات الاقتصادية التي ازدادت إيلاماً مع مرور الوقت. وكان لابد من فتح قناة خلفية لكي تستورد ليبيا احتياجاتها اليومية. وهنا بدأت احدى أولى فتوحات ابني مبارك، علاء وجمال في التكسب من العلاقات السياسية الخفية، بالتعاون مع أحمد قذاف الدم وبرعاية سيادية مصرية. فبدآ في الاستيراد سنوياً بمليارات الدولارات منتجات ليبية، منها النفط والحديد والصلب والأسمنت والتلفزيونات الكورية المجمعة بليبيا، ثم يقوما بإعادة تصديرها على أنها منتجات مصرية.
طلب تحويل عائدات تلك التجارة الليبية إلى حسابات خارج مصر، كان يتطلب نظاماً مصرفياً يغض الطرف عن القواعد المرعية، فأصبحت مصر في التسعينيات أكبر مركز لغسيل الأموال في المنطقة. للتوسع في غسيل الأموال، أفتـُتحت مشاريع استثمارية للحكومة الليبية في مصر، مثل سلسلة محطات بنزين، وقرى سياحية على طول سواحل مصر.
انهيار الاتحاد السوڤيتي وظهور الأوليگارك
في آخر عام 1991، انهار الاتحاد السوڤيتي، وقام بوريس يلتسن بعملية خصخصة واسعة النطاق، وزع بمقتضاها أسهم كل الشركات على الشعب في روسيا. وبرز عدد من الشباب الروسي مسلحين بأموال قليلة (مجهولة المصدر) وقاموا بشراء أسهم الشركات المخصخصة بأسعار زهيدة جداً. وفي أقل من عامين أصبح أولئك الشباب مليارديرات يتحكمون في مفاصل الاقتصاد الروسي. وصار يُطلق عليهم لقب "الأوليگارك"، أي القِلة المتحكمة. طرق حصول أولئك الشباب على التمويل الذي مكنهم من شراء الأسهم من عامة الشعب يشوبها غموض كبير حتى اليوم. ويُتهم البعض باعتماده على المافيا الروسية والبعض الآخر على تمويل خارجي. وبوصول ڤلاديمير پوتن للحكم بدأ تصنيف الأوليگارك إلى وطنيين وعملاء للخارج (مثل كبيرهم ميخائيل خودوركوڤسكي الذي حاول تهريب أوراق ملكيته لعملاق النفط يوكوس إلى إسرائيل ).
سارع المليارديرات الروس في شراء أملاك خارج روسيا في القارات الخمس، بحجة أن التصدير هو طوق النجاة للاقتصاد الروسي. إلا أن الهدف الفعلي كان البدء في ضخ الأموال خارج روسيا. ولذا بدأ بحثهم عن سبل غسيل الأموال التي تتيح لهم نقل أموالهم للخارج. وفي ظل العلاقات الحميمة بين الأوليگارك الباقين في روسيا وبين المخابرات الخارجية الروسية، أن تكون المخابرات الروسية قد بدأت في استخدام نفس قنوات غسيل الأموال لتمويل أنشطة لها بالخارج.
رُب بولدر خير من ألف ميعاد
شهد النصف الثاني من الثمانينيات في مصر انتهاء امتيازات الخمسين سنة لاستخراج البترول في مصر التي كانت قد مُنحت في الثلاثينيات. وكان الكثير من تلك الحقول محتفظاً ببعض النفط. فظهرت فرصة أمام النظام المصري للتربح الشخصي من خلال ترسية امتيازات نفس الحقول القديمة على شركات جديدة، معظمها غير قادر إلا على الضخ بدون دراية. وهي الفترة التي شهدت حصول لاعبي كرة قدم وراقصة ومخرج تلفزيوني على بعض تلك الامتيازات. وبرزت بين تلك الشركات "شركة فينكس ريسورسز"، وهي شركة نفط سابقة، توقفت عن النشاط لعشرين سنة. ومقرها مدينة بولدر، كولورادو. قامت شركة أوفشور بشراء اسم الشركة الخامدة، وعيّن مصري أمريكي ليرأس مجلس ادارتها. وبقدرة قادر حصلت تلك الشركة على العديد من امتيازات انتاج النفط من حقول قديمة في مصر. العقود المصرية جعلت للشركة قيمة كبيرة، فاشترتها شركة سي گل للنفط والغاز مقابل حصة كبيرة في أسهم سي جل. وتكررت اللعبة فحلت سي گل على المزيد من الامتيازات في مصر، مما أغرى شركة أپاتشي بشرائها مقابل حصة كبيرة في أسهم أپاتشي. وبالتالي أصحب الشريك المصري النافذ والمجهول شريكاً في أپاتشي للنفط. وتوسعت عمليات أپاتشي في مصر حتى أضحت أكبر شركة نفط في مصر.
بلدة بولدر في ولاية كولورادو الجبلية الأمريكية، مقر شركة فينكس ريسورسز المتمصرة، شهدت في التسعينيات ظاهرة فريدة. فمع حلول عام 1993، بدأت نسبة كبيرة من الأوليگارك الروس في الهبوط عليها، وشراء منازل فيها. ونشأ فيها مجتمع روسي كامل فاحش الثراء. وتفخر بولدر بأنها تضم مليارديرات روس ربما أكثر من موسكو.
ولا نعرف على وجه التحديد، إن كان الأوليگارك الروس قد عرفوا شرم الشيخ وفرص غسيل الأموال في مصر من خلال مجتمعهم المخملي في بولدر، كولورادو، أو عن طريق آخر. إلا أننا نلاحظ أن صندوق حورس الاستثماري الذي أنشأه علاء وجمال مبارك، في منتصف التسعينيات، يضع ضمن لوجو الصندوق ثلاث مدن رئيسية لمكاتبه: موسكو، بولدر، سانتا باربرا. وكأن اللوجو يطمئن العملاء: "لا تخافوا، عملنا يجري برضا أمريكا".
حورس يفرد جناحيه إلى روسيا وإيطاليا
بحلول منتصف التسعينيات، كانت مصر قد اجتذبت قدراً معتبراً من الأوليگارك الروس، ومعهم المخابرات الروسية لغسيل الأموال. فبدأ تعامل علاء وجمال مع الأوليگارك الروس، الذين كانت أعمالهم تتداخل حيناً مع الدولة الروسية وأحياناً مع المافيا الروسية.
ولعل أكبر تلك الصفقات، كان في أكتوبر 2010، حين اشترى ميخائيل فريدمان (عبر شركته ڤيمپلكوم) شركة اوراسكوم للاتصالات، بمبلغ 6.5 بليون دولار.[3]
ثم تعدى الأمر ذلك إلى ما يبدو أنه المافيا الإيطالية. ولا أنسى منظر شائع في شرم الشيخ، حيث تجد طاولات بالشارع عليها ماكيتات لمشاريع إسكانية ويقف عليها مروجون إيطاليون لا يتحدثون إلا الإيطالية.
- انتقاء الزبائن
يجدر ذكر أن الخدمات المصرية للتحايل على العقوبات الدولية تمتعت بها ليبيا وروسيا. ولكن لم تمنحها مصر للعراق أو السودان أو سوريا - مجرد ملاحظة.
روسيا تحت العقوبات
تسببت الأزمة الأوكرانية وضم روسيا للقرم في 2014، إلى فرض ثلاث جولات متصاعدة من العقوبات الدولية على روسيا. مما أدى إلى ارتفاع التبادل التجاري بين روسيا ومصر من 3.65 بليون دولار (2013) إلى 4.61 بليون دولار (2014). ومن المتوقع أن يرتفع التبادل التجاري بشكل كبير لو استمرت العقوبات الدولية المفروضة على روسيا - وفي تلك الحالة يمكن توقع أن يشهد صندوق حورس (أو شبيه له) نشاطاً هائلاً في الفترة القادمة، وهو ما أشار إلي وزير روسي أثناء زيارة بوتن للقاهرة.[4] كما صرح وزير التجارة المصري، منير فخري عبد النور أن "مصر ستكسر الحصار الاوروبي لروسيا".[5]
والخلاصة
الأزمة الأوكرانية لن تـُحل في شهور قليلة. وهذا يعني أن العقوبات على روسيا ستظل كما هي، بل وقد تزداد. وهذا سيؤدي إلى اعتماد روسيا على شركاء تجاريين غير تقليديين كمنفذ للتصدير والاستيراد، مثل مصر. مصائب قوم عند قوم فوائد.
الهامش
- ^ "مصر و روسيا توقعان اتفاقا للتعاون النووي". بي بي سي. 2008-03-25.
- ^ مؤمن حسانين (2015-02-11). "وزير التنمية الاقتصادية الروسي: البنك المركزي الروسي والمصري يبدآن مناقشة التعامل بالعملة الوطنية قريبا". سبوتنيك (موقع إخباري).
- ^ Googlenews
- ^ مؤمن حسانين (2015-02-11). "صندوق الاستثمار الروسي: موسكو ستقدم الدعم لمصر في إنشاء صندوق استثماري بالقاهرة". سبوتنيك (موقع إخباري).
- ^ عبد الرحمن العارف (2015-02-10). "وزير التجارة: مصر ستكسر الحصار الأوروبي لروسيا". صحيفة الدستور المصرية.
<comments />